شرح القاعدة الثلاثون

[ (الآحاديون) هم الذين وَقفوا مع الوحدة في الوجود،ولم يَقفوا مع الكثرة،أي مع الأسماء الإلهية. ومن وقف مع الوحدة عرَف أن الحق تعالى غني حتى عن أسمائه وصفاته. ].
الآحاديون هم أصحاب وحدة الشهود،أصحاب الوحدة المطلقة،أي وحدة التجليات الإلهية،لا وحدة الوجود الفلسفية..
وتوحيد الأحدية هو توحيد المقربين الذين لا يرون في الكون إلا (أحد أحمد)،أصحاب مقام جمع الجمع،فمنهم من يعود إلى الفرق ومنهم من لا يعود. والعارف لا بد أن يرجع من الجمع إلى الفرق،ومن الفناء إلى البقاء،ومن شهود التجلي إلى شهود المقتضى،ومن المُكوّن إلى الأكوان،ومن الحقيقة إلى الشريعة.. فمقام الفرق الثاني أعلى وأرقى وأرسخ وأمكن من مقام الجمع..
فالآحاديون هم الذين يرون حقيقة النبوة في التجلي وفي المقتضى (فأينما تُولوا فثمّ وجه الله)،اكتفوا بالصفة الخالدة بين الناس. فيرون الكثرة شريعة والوحدة حقيقة،فالكثرة موجودة والوحدة مشهودة. والوحدة راجعة أصلاً وفصلاً إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،فهو عينُها لأنه أصل الكون ومبدأه وقائده،من حيث حقيقته لا من حيث صورته..
فغاية السّالك أن يَغْرَق في بحر عين الوحدة.. وعين الوحدة هو حقيقته المحمدية،والغارق في بحرها لا يَرى الكثرة الوجودية،بل هو فانٍ في الوحدة الشهودية.. قال الشيخ الكتاني: [ المُتأحّد في عين الكثرة،والمُتكثّر في عين الوحدة ].. وهو ما أشار إليه العارف القطب مولاي عبد السلام المشيشي في صلاته: (وأغرقني في عين بحر الوحدة)،حيث ينتفي السّوى والغَيْر،فلا يرى فاعلاً ولا موجوداً سوى الله تعالى،متحققاً بقوله تعالى في الحديث القدسي: (كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به) الحديث،فلا يشاهد إلا أفعال الحق وصفاته (فأينما تولوا فثم وجه الله).. النبوة المحمدية من مُقتضى الأحدية،ولا تأثير للأسماء الإلهية عليها،بل هي طرف في تفاعُلهم.الحقيقة المحمدية هي وجه الله المشهود لأهل وحدة الشهود.. فأهل الشهود يُبصرون ببَصر الله ويسمعون بسمع الله.. وفي حقيقة الأمر ظاهره الناسوتي صلى الله عليه وسلم،الذي من مقتضى الأسماء،تأثّر بلَطافة الباطن اللاّهوتي.. ارْتَسم نور النبوة الباطن في الظاهر من يوم ولادته،أي زيدَ نبياً،فالظاهر كذلك لاهوتي،وإلى ذلك أشار مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إني لست كهيئتكم،إني أبيت عند ربي يُطعمني ويسقين)..ولكي لا يُعبد من دون الله كان يتظاهر بمقتضيات البشرية.. يقول الشيخ الأكبر في بعض أشعاره: [ قد صار قلبي قابلاً كل صورة.. ]. ومن سمع هذا الكلام ظنّ أنه يقول بوحدة الأديان، وليس الأمر كذلك،إنما هي إشارة إلى وحدة التجليات الإلهية،أي أن التجليات راجعة إلى عين واحدة وهي إسم الجلالة (الله)،وهو بساط الإصطحاب،فحيثما دارت التجليات دار معها لكمال معرفته،لذا عبّر بالقلب الذي له التقلّب.. فمن لم يشهد التجليات بقلبه يُنكرها بعقله،فالعقل يُقيّده، فهيوحدة شهود.. فالعين واحدة،وهذا هو توحيد المقربين.. وهذا المقام أول من تكلّم عنه الحكيم الترمذي،وسمّاه مقام القُربة . فكلام العارفين المحققين الكُمّل حول وحدة الشهود،أي دوام مشاهدة حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم سارية في كل جزئيات الوجود،سَريان الماء في الأشجار، فالحقيقة المحمدية هي ماء الوجود.. ولا محلّ لوحدة الوجود في كلامهم،إلا بالمعنى الذي يعود إلى مفهوم وحدة الشهود. وفي هذا السياق قال الشيخ أبو العباس المرسي: [ لو احتجب عنّي رسول الله طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين ]،والمُراد بعَدم الإحتجاب دَوام شهود سَريان حقيقته صلى الله عليه وسلم في العالَم،لا شخصه الشريف. وأكبر منه مقاماً من يَرى أنه أصبح مَحلّ إستقرارالصّفة،فلنستمع لهذا الختم الأحمدي الكبير قدّس الله سره يقول: أراه في نفسي وهَيكلي وقالَبي == مُتمثّلاً فكِدْتُ أقول أنا هو. وقد قدّم العارفون أمثلة تُقرّب المعنى لوحدة الشهود،منها ما أورده أستاذنا حفظه الله في شرحه لصلاة المتردي،يقول: [ الشخص الواحد على عدد ما يقابله من الأنوار تظهر له ظلال متعددة،وعلى عدد المرايا تظهر له صور. وهو واحد،وإن تعدّدت صوره وظلاله. فهو واحد من حيث ذاته،متكثر من حيث تجلّيه في الصور وظلاله في الأنوار. فهي المتعددة لا هو،وليست الصور غيره. فمن أين للمرآة معرفة حقيقة ذي الصورة المتجلية في المرآة؟ ومن أين للظلّ معرفة صاحب الظل الذي إمتدّ عنه؟ هيهات هيهات. فأمواج البحر من البحر،لا هي هو،ولا هي غيره،هي في نفس تكثّرها عين البحر. فبلسان الحقيقة هي كثرة مشهودة لا موجود،وإن تكثرت أحكامها ومظاهرها (فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللًّهِ)،وبلسان الشريعة هي وحدة موجودة لا مشهودة. فمن وقف مع الكثرة كان مع الأسماء الإلهية ومع الكون،ومن وقف مع الوحدة كان مع الحق في غناه عن العالمين حتى عن أسمائه وصفاته ومقتضياتها،فافهم واحذر من أن تنفش غنمك في حرث القوم،وأن تنسبهم إلى القول بوحدة الوجود الفلسفية،فهنا زلّت أقدام كثيرة. فما ثم في حقيقة الأمر إلا شؤونه كيفما تعدّدت وتنوّعت وظهرت،أي تجليات الأسماء الإلهية،والكثرة الصورية الحاصلة بها هي المُسماة بالخلق. فالتجليات هي المتعدّدة لا هو،وهي المعبّر عنها ب(الوحدة في عين الكثرة،والكثرة في عين الوحدة).فأسماء الله غير متناهية لأنها تُعلم بمقتضياتها،والمقتضيات غير متناهية،وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي الأسماء الحسنى. فحالات الرحمة لا تتناهى إن حاولنا إحصائها،لأن الكائنات المرحومة لا متناهية. فالكثرة في الوجود شرط لا بد منه..]. ومن مسميات هذه الوحدة الشهودية،عند العارفين،الإتّحاد: وهو مرتبة شهود الحق في قلب السالك،فتنمحي الكثرة وتتجلى الوحدة، ويفنى المتناهي في اللامتناهي.. يقول الشيخ الأكبر: [لا معنى للاتحاد إلا صحة النسبة لكل واحد من المتحدين،مع تميّز كل واحد عن الآخر في عين الإتحاد،فهو هو وما هو هو]،ويقول أيضاً: [إذا كان الإتحاد بمنزلة ظهور الواحد في مراتب العدد فيظهر العدد،فقد يصح الإتحاد من هذا الوجه،ويكون الدليل مخالفاً للحس،فيكون له وجهاً: كالكناية عن حركة يد الكاتب حساً،وبالدليل أن الله خالقها وأنها أثر القدرة القديمة لا المحدثة. فالوقوف على هذا القدر من المعرفة بطريق الكشف والشهود، لا من طريق الفكر،يُسمى إتحاداً].. فالإتحاد عند أهل الله المراد به هو: فناء مُراد العبد في مُراد الحق،فلا يصير للعبد مراد مع الحق أبداً إلا بحكم التبعية.. يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني: [ قال لي الحق تعالى: الإتحاد حال لا يُعبّر بلسان المقال،فمن آمن به قبل وجود الحال فقد كفر].. والتوحيد عند أهل الله على ثلاث مراتب،يقول الشيخ إسماعيل البروسوي: [قسّم الصوفية التوحيد إلى ثلاث مراتب: توحيد المبتدئين (لا إله إلا الله). وتوحيد المتوسطين (لا إله إلا أنت)،لأنهم في مقام الشهود،فمُقتضاه الخطاب. وتوحيد الكُمّل (لا إله إلا أنا) فيسمعون التوحيد من المُوحد،لأنهم في مقام الفناء الكُلّي..]. ويقول فريد الدين العطار: [من أدرك التوحيد فَقَد العالَم وفقد نفسه]،مُشيراً بذلك إلى توحيد أصحاب الفناء والجمع.. ومن أقوال الحلاج المشكلة،قوله: [إعلم أن العبد إذا وَحّد ربه تعالى فقد أثبت نفسه،ومن أثبت نفسه أتى بالشرك الخفي]،ومقصوده يُبيّنه قول الشبلي لرجل: [أتدري لم لا يصح توحيدك؟ فقال: لا. فقال: لأنك تطلبه بك].. وهو ما أشار إليه ابن مشيش في صلاته ب”أوحال التوحيد”. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله. ذ شيد موعشي

حصل المقال على : 409 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد