شرح القاعدة الثانية والثلاثون

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى سيدتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلى آله وصحبه أجمعين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نواصل شرحنا للقواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،ومع القاعدة الثانية والثلاثين التي تقول: [سُئل الجنيد عن العارف فقال:(لون الماء لون إنائه)،أي لا يكون التجلّى في مرتبة من مراتب النبوة المحمدية إلا بحسب المُتجلّى له، لأن الماء لا لون له،ويتلوّن بلون الأوعية الشفافة،أي يتعيّن له بحسب إستعداده ومقامه، لهذا ربما تجد تناقضاً بين كلام بعض العارفين. ]. تداول العارفون مقولة الإمام الجنيد التي يقول فيها: “لون الماء لون إنائه”،وتلقّوها بالقبول لما لها من سمة جامعة تلخص العديد من المسائل العرفانية الرقيقة وتبيّنها وتقربها إلى الأفهام..

يقول الشيخ الأكبر في فتوحاته: [ سئل الجنيد عن المعرفة والعارف فقال: “لون الماء لون إنائه” فأثبت الماء والإناء،فأثبت الحرف والمعنى، والإدراك ونفي الإدراك،ففرّق وجمع،فنِعم ما قال.. ].. الماء يُشير إلى المعاني والحقائق والعلوم اللدنية،والإناء هو بواطن السالكين.. ومن أسماء الحقيقة المحمدية: ماء الوجود الذي جُعل منه كل موجود(وجعلنا من الماء كل شيء حي). فالماء مرتبة من مراتب الحقيقة المحمدية،ماء الوجود الساري في ذرات الوجود.. قال الشيخ محمد الكتاني في “صلاة فتوح الجوارح”: [.. وأنت عرشُه الغيبي قبل أن يكون على الماء،لأن لك خُلوة بالحق جلّ اسمه لم تكُن لغيرك من أفراد الكائنات،وأنت عرشه الذي كان على الماء،وأنت المُضطرب من أجل الإشتياق لكتابة إسمك عليه..].. فبساط الإصطحاب، حيث الأسماء الإلهية ومراتب الحقيقة المحمدية،هو الفاعل في الكون الإلهي،والله من حيث أحديته غني عن أسمائه وصفاته وحتى عن نبيه.. فصارت التجليات الإلهي تتطلّب وساطة النبوة المحمدية لظهور مقتضياتها وسريان اللطف فيها..وقد أجمع العارفون أن التجليات لا تتكرر للوُسع الإلهي،فكل عارف يسلك طريقاً لايسلكه الآخر،والطرق إلى الخالق على عدد أنفاس الخلق.فلا ينطق العارف إلا بمقتضى تجليات عصره، وبمقتضى مقامه وقامته.. فشهود العارفين للحقيقة المحمدية،سدرة منتهى الجميع، مُتباين، فاختلفت لذلك معارفهم. والعارف لا ينطق إلا بما وصل إليه ذوقه وأحاط به كشفه.لذلك جعل الإمام الجنيد الأثر للكأس في الماء، وللظرف في المظروف،فالماء يظهر للناظر بحسب لون الإناء. فما حَكم العارف على مَعْروفه (أي: حقائق الألوهية) إلا به،لا بما يَسْتحقّه الحق تعالى من المعرفة ومن التنزيه،إذ من لا يُحاط بعلمه كيف يُعْرَف،قال تعالى:(ولا يُحيطون بعلمه)،فلا سبيل إلى معرفة الذات الإلهية.. فما اجتمع اثنان قط على علم واحد في الله تعالى من جميع الجهات، لأنه ما اجتمع في اثنين مزاج واحد،ولا يصحّ. فالماء في الإناء على صورة الإناء،شكلاً ولوناً،والعلم بالله ــ في المرآة المحمدية ــ على قدر نظرك واستعدادك وما أنت عليه في نفسك.. قال الله تعالى: (وإنا لمُوَفّوهم نَصيبهم غير منقوص). فنَصيب كل مخلوق هومُقتضى حقيقته وإستعداده،الذي لا يُزاد عليه ولا يَنقص منه،وهو معنى:(أعطى كل شيء خلقه ثمّ هدى).ولكل مخلوق إستعداد،هونَصيبه من الحق تعالى،ولا يُشبه إستعداداً آخر من كل وجه أبداً. وسبب هذا الإختلاف هو الوجه الخاص الذي لكل مخلوق من الحق تعالى،فلا تكرار في الوجود أبداً. وسيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم مرتبة ظُهور الحق تعالى،وهذه المرتبة واسطة لجميع الظّهورات،ومنها تَفرّعت،فهي يَنبوعها وهَيولاها. يقول سيدي محمد الكتاني:[هذه الحقيقة الأحمدية تتطوّر وتتقلّب في كل وقت وحين على لون الماء،في نار الطور وفي السؤال والجواب،وفي نار الخليل،وفي بحر ظلمات بحر يونس،وفي كل شيء شيء هي عنوان صورة مادة حقيقته.. إلى أن آن وقت البُروز لعالَم الظهور وإدراج الحقيقة في الحقيقة،راج ريح القدرة بين والديه حتى تزوّجا.إنبسطت منها (أي: الحقيقة المحمدية) خيوط من نور على قابلية كل فرد من أفراد أهل الدائرة السُفلى على إختلاف طبقاتها،وعلى أهل الدائرة العُليا على إختلاف مُكَنها. فأعطت قوابلها أولاً للإنقياد حتى أقرّت بربوبية الحق جل أمره، ضرورة أنه “أرسل رحمة للعالمين”..هذه المقابلة الأكملية للعالم العلوي بدوائره والعالم السفلي بمراتبه وطبقاته،هي في الحقيقة معنى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). فجعل نفسه رحمة، وجعل الرحمة عينه.. ]. فلما اختلفت التجليات الأسمائية،اختلفت الأحوال،فلكل حال إسم يخصّه. فيتنوع السلوك بحسب قصد السالك ورتبته في العلم بالله. ولا يصل شيء من الحضرة الإلهية إلا بوساطة الحضرة المحمدية وعلى يديها،فالكل تحت حيطته صلى الله عليه وسلم،وما خرج عن الدائرة أحد،كما يقول أبو الفيض الكتاني. يقول العارف محمد وفا في “العروش الإنسانية”:[سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم حضرة الحق ومرآة تجلّي الجمال والجلال والكمال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)،وهذه حقائق استغراق مثله عن مُماثلة الأمثال وإنفصاله عن مُشاكلة الأشكال والإتصال بحضرة الجلال والجمال في القول والحال،فإذا أخبر صلى الله عليه وسلم خَبراً أو فعل فعلاً كان القابل له باليمين أو بالشمال،فهذا يوجد فيه منه حميماً وغَساقاً وسعيراً،وهذا يوجد فيه منه عطاء ونعيماً ومُلكاً كبيراً: (يُضلّ به كثيراً ويهدي به كثيراً)،(كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً).. ]. فعلوم العارف وفتوحاته،بحسب درجة استغراقه في محبة مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفته به،فتختلف الإفاضة تبعاً لذلك.من هنا اختلاف كلام العارفين،حتى أنه قد يُظن التناقض في كلام بعضهم.والأمر ليس كذلك،بل المقامات التي ينطقون منها تختلف من عارف لآخر،بل نجد الشيخ الأكبر مثلاً يفرق بين هذه المراتب: المحقق والعارف والصوفي والزاهد والفقير،إلى غير ذلك. بينما نجد أكثر المنتمين إلى المشارب الصوفية يخلطون بينها.. جاء في كتاب “عوارف المعارف”: [ وأقوال الصوفية تتنوّع معانيها،لأنهم أشاروا فيها إلى أحوال في أوقات دون أوقات. ونحتاج في تفصيل بعضها من البعض إلى الضوابط،فقد تذكر أشياء في معنى التصوف ذكر مثلها في معنى الفقر.. فالتصوف غير الفقر،والزهد غير الفقر،والتصوف غير الزهد. فالتصوف اسم جامع لمعاني الفقر ومعاني الزهد،مع مزيد أوصاف وإضافات لا يكون بدونها الرجل صوفياً وإن كان زاهداً وفقيراً.. ]. ويقول العارف محمد الكتاني في سياق حديثه عن مقامات الولاية: [ومن هاهنا تَعلم أن لكل من أهل الكمال دوائر وحَضرات وعلامات وعلوماً ومعارف وفوائد وأسراراً ومقامات وتجليات وبِشارات،تُناسب مقامَهم الذي طُنِبَ عليهم وخَيّموا فيه،فإن التجلّي لا يَقبل في نفسه التكرار ولا يتكرّر،فما في العالَم تكرار بوجه..].. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله.
موقعنا على تلغرام : https://t.me/+CFOyG6yoR_M4ZWU0

حصل المقال على : 609 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد