بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.
نستأنف شرح القواعد المباركة من (خريطة السلوك العرفاني) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله تعالى،ونحُطّ الرحال في القاعدة الثانية عشر التي تقول: النبوة المحمدية لها ثلاثة وظائف رئيسية:
الأولى: التّلطيف من حرارة التجليّات الإلهية ،إذ هي رحمة للعالمين.فلا يَصل إلى الكون إلا ما قُدّر له وما تَقبلُه ذاتُه،فكل شخص عنده قابليّة للتجلّي الذي يَصلُه خَلق كل شيء فقدّره تقديراً .
الثانية: تعريف الخلائق بالخالق،وتعليمهم عبادة ربّهم
الثالثة: ترتيب المقامات،والشفاعة في المحشر ..
سنتناول بالشرح مفهوم النبوة المحمدية ،ووظائفها الثلاثة التي تتحدّد في: التّلطيف من حرارة التجليات الإلهية وتعريف الخلائق بالخالق،وتعليمهم عبادة ربّهم وترتيب المقامات والشفاعة يوم المحشر
نبدأ بتوطئة توضيحية تحُلّ الإشكالات وتفتح المُستغلقات في كلام العارفين،أهل الله وخاصته،العلماء بالله حقاً وحقيقة..كما أنها تسُد الباب عن الذين قال فيهم الحق عز وجل ” بل كذّبوا بما لم يُحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله”.. مبدئياً يُفرّق العارفون بين (الذات الإلهية) و(مرتبة الألوهية)..فمفهوم (الذات) في الإصطلاح الصوفي له عدّة معان،ولا يقصدون به (الذات الإلهية) تعالت عن ذلك علواً كبيراً..
يقول الشيخ عبد الكريم الجيلي:[ إعلم أن (مطلق الذات) هو (الأمر الذي تستند عليه الأسماء والصفات في تَعيّنها لا في وُجودها)،فكل إسم أو صفة إسْتَند إلى شيء، فذلك الشئ هو الذات. ].
ويقول الشيخ الأكبرإبن عربي في فتوحاته : [ العلم ب(ذات الحق) مُحال حُصوله لغير الله،والإنسان المُدْرك لا يعرف إلا ما يُشابهه ويُشاكله،والباري تعالى لا يُشبه شيئاً ولا هو في شيء مثله،فلا يُعرف أبداً. فلا يعرفه أحد من نفسه وفكره..فاعلم أن الكون لا تعلّق له بعلم الذات أصلاً،وإنما مُتعلّقه العلم بالمرتبة وهو مسمى (الله). (الذات مجهولة العين والكيف)،وعندنا لا خلاف في أنها (لا تُعلم)،بل يُطلق عليها نُعوت تنزيه. ].
فعندما يقولون (الذات ) فإنما يُشيرون إلى الأحدية أو إلى (مرتبة الألوهية) أو إلى الأسماء الإلهية أو إلى القرآن أو إلى الحقيقة المحمدية نفسها. الإنسان لا يعرف إلا ما يُشابهه ويُشاكله ،لهذا كان مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الخلفية الكلي والمُصطفى من طرف الحق للقيام بدور الوساطة بين الحق والخلق، لأنه صلى الله عليه وسلم من مقتضى الأحدية وإصطحب مع الفيضة القرآنية ولَبس حُلل الأسماء الإلهية “إن الذين يُبايعونك إنما يبايعون الله”،فهو الوحيد القادر على مهمة التّبليغ والتّعريف،يستمدّ من الحق ويُمدّ الخلق.. فسيدنا محمد واسطة بيننا وبين خالقنا وهو البرزخ الفاصل بين حقائق الألوهية وحقائق العبودية..
1_ النبوة المحمدية : هي أول ما خلق الحق عز وجل،وقد بَزَغت من الصفة الأحدية ،ولها وِجهتان: وجهة حَقيّة من مقتضى الأحدية ،تنظُر إلى الألوهية ،ولَبست حُلَل الأسماء الإلهية،قال الله تعالى “إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله”،وقال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (من رآني فقد رآى الحق)،ولا يقوم مقام الحق إلا الحق..وهذه الوجهة الحقية أظهرت الحقيقة المحمدية بصورة لاهوتية،لأنها نائبة عن الحق في الكون وهي الظاهرة في المظاهر..
ووجهة خَلقيّة من مقتضى (الأسماء التشاجُرية،قال تعالى “قل إنما أنا بشر مثلكم” “يأكل الطعام ويمشي في الأسواق”..
النبوة المحمدية هي بداية الخلق وفاتحته،إلتحفت بالإستمدادات النورانية الأحدية وإلتَحفت بميازيب الذات العليّة،فصَحّت لها الخلافة الكليّة،والنيّابة القولية والفعلية .. قال الله تعالى “ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجُدوا”: “خلقناكم” راجعة على النبوة،والتصويرراجع على سيدنا آدم عليه السلام..
قال مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم (أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر)..فأبرز الحق تعالى من نوره برزخاً عظيماً جامعاً، وأفاض عليه جميع كمالاته،وحَلاّه بأسمائه وصفاته.. فمعاملة الخلق كلها مع هذا الوسيط البرزخي”فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما” ، لأن الله تعالى اصطفاه الخليفة الكلي،للغنى المطلق للحق عز وجل عن المخلوقات وحتى عن أسمائه وصفاته..ومن خاصية البرزخ أن لا ينزل شيء إلا عليه ولا يصعد شيء إلا بواسطته،له على كل ذرة من ذرات الوجود نعمة الإستمداد من برزخيته،فليس في الوجود من له خاصية الحلّ والرّبط إلا مولانا رسول الله..
الخلافة الكلية،والنيابة القولية والفعلية خَوّلت لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم القيام بالمهمات الثلاث التي ذكرتها القاعدة المباركة،وهي:
أ_ التلطيف من حرارة التجليات الإلهية : التجلّي بصفة عامة هو ظهور مقتضى الآية القرآنية أو الصفة الإلهية أو الإسم الإلهي في الوجود..فالتجليات الإلهية هي التي تُسيّر الكون الإلهي وتضمن إستمراريته.. ولما كان الكون الإلهي لا مُناسبة ولا مُجانسة بينه وبين التجليات الإلهية،وللغنى المطلق للحق تعالى عن العالمين،إقتضى الأمر الإلهي أن يكون هناك برزخ نوراني يشترك مع الكون في صفة الخَلقيّة ليكون الإستئناس والإيلاف والمجانسة والمناسبة..وبالتالي فالتجليات الإلهية عند إظهارها للمقتضيات تتطلّب وَساطة الحقيقة المحمدية ليكون اللطف في الكون الإلهي،وليَسير وِفق ما سُطّر في بساط الرحمانية ..
سيدنا محمد هو الرحمة المهداة،قال الله تعالى “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”، لا حقيقة إلا منه بَرزت ولا معرفة إلا عنه صدرت..فالمظاهر الكونية لا تخرُج من الوجود العلمي إلى الوجود العيني إلا بوساطته،ففي كل تجلّ إلهي توجد مرتبة محمدية،فهو وجه الله في كل شيء “فأينما تولوا فثم وجه الله”.. ب_ (تعريف الخلائق بالخالق،وتعليمهم عبادة ربّهم): المعارف كلها مصدرها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهوعين المعرفة ومصدرها،وهو مركزالفهوم والمعاني،لأنه مُتحقّق ومُحيط بخبايا وخفايا القرآن، الظاهرةوالباطنة..فالقرآن صفة مولانا رسول الله،ومن المعلوم أنه ما من شيء في الوجود إلا وهو من مُقتضى القرآن الكريم “ما فرّطنا في الكتاب من شيء”..وسيدنا محمد طَرف في تفاعُل وظهور المقتضيات القرآنية،الكل به مَنوط،وهو الواسطة في كل شيء،فالخزائن لله والتصرّف للخليفة..
سيدنا محمد هو النائب القولي والفعلي عن الألوهية،لأن سرّ الألوهية ظهر فيه وبه،إذ الإصطحاب مع الأسماء الإلهية ومع الفيضة القرآنية خَوّل له ذلك وأهّله لهذه المهمة الجليلة.. فسيدنا محمد يستمدّ من الله،ويُمدّ الكون..
قال الله تعالى “يؤمن بالله ويُؤمن للمؤمنين”: فهو صلى الله عليه وسلم تَخلّق بإسمه تعالى “المؤمن”،يستمدّ منه ويُمدّ، يُزوّدنا بالأنوار ويُمدّنا بالإيمان..فالنبوة لها القيّومية والخلافة والمُراقبة،هي المُعرّفة بالله،فأصبح كل شيء يُسبّح ويَسجُد، وهي القائمة على إيصال نور الإيمان إلى كل قلب مومن..
جاء في الحديث القُدسي: (كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف،فخلقت الخلق،فبي عرفوني): (فبي) بحساب الجمل تُساوي (92)،وهو عدد جُمل إسم (محمد)،أي بمحمد عُرفت مَيازب الذات العليّة.. كلمة (قُلْ) في القرآن وردت (334) مرة،بعدد (بسط وكسر) كلمة (أحمد)، أعطيت كلها لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم..
قال الله تعالى: “قل يا عبادي”: عبادة إمتنان،فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو مُربّينا ومُعرّفنا بخالقنا..فمن أسماء سيدنا محمد “الحق”،وهو مُتحقّق بهذا الإسم ومُتّصف به،قال الله تعالى: “والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد وهو الحق من ربهم” “وشهدوا أن الرسول حق” “فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى” “بل كذّبوا بالحق لما جاءهم”..لهذا كان من أوصافه وأسمائه (طَلْعة الحق بالحق): (بالحقّ) أي أن الله تعالى هو الذي أقامه مَقامه وأنابه مَنابه،وهو (عبد محض) لا نُؤلّهُه ولا يقبل من أحد أن يُؤلّهه..
قال الحق عز وجل (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله): النور هو نور النبوة ،والكتاب المبين هو القرآن الكريم ،فقال تعالى (يهدي به) بضمير المفرد إشارة إلى أن (النور والكتاب المبين) حقيقة واحدة،فالهداية مرتبطة بنور النبوة،لأن سيدنا محمد مُتحقّق بالإسم الإلهي (الهادي)..ولولا نور النبوة ما كان هناك ظهور،ولم يكن لنا لنعرف الكتاب ولا الإيمان لولا وساطة مولانا رسول الله وإصطحابه مع الأسماء الإلهية والفيضة القرآنية،فنور النبوة هو (العارف والمُعَرِّف والمُعَرَّف)..
سيدنا محمد (أول المُخاطَبين)،قال تعالى (أتلُ عليهم نبأ (نبّئهم أن الماء قسمة بينهم)..فكان صلى الله عليه وسلم مُخبراً عن الله بدون وسائط،وله الإخبار بالأصالة،وغيره بالتبعيّة والوصاية والنيابة..قال تعالى “وقل إني أنا النذير المبين”،فكان له الأولية في الإنذار والإخبار عن الله،ولم يُرسل قبله رسول ولا نبي إلا نُوّابا يُبلّغون عنه،فهو المُمدّ لبرازيخ الوحي (الرّسل والأنبياء)،من فيض نبوته إستمدّوا ومن سراج رسالته إقتبسوا “هذا ذكر من معي وذكر من قبلي”..
ج_ ترتيب المقامات والشفاعة يوم المحشر: مراتب وحضرات (النور المحمدي) لا حصر لها،والمراتب الرئيسية هي :النور، والعبدية،والنبوة، والرسالة،والأميّة،على عدد حروف إسم (محمد) بفك الإدغام وإظهار الميم الباطنة (محممد)..
أما الحضرات المحمدية بعدد التجليات الإلهية،لأن حضور النبوة (الرحمة) ضروري في التجليات ليكون اللطف والإستمرارية للكون الإلهي..ولكل زمان تجليات تخُصّه، وبالتالي ففي كل زمان تظهر حضرات محمدية لم تكن في الزمان الذي قبله،لأن التجليات الإلهية في ترقّ دائم، فتُظهرعلوماً دنيوية ولدُنية،وفتوحات ربانية،ومقتضيات حسية ومعنوية في كل المجالات.
قال الله تعالى “النبي أولى بالمومنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم”: كلمة (أزواجه) في التفسير الإشاري العرفاني يُقصد بها (الحقائق والأسرار)،فهناك من يستمدّ من (النبوة)، وهناك من يغترف من (الرسالة)،وهناك من يتغذّى على ألبان (الأمية)..وهي كلها من (مَوارد الفضل)..والذي يستمد من (الأحمدية) أكثر مدداً وأوْسَع معرفة..
الإستمداد لا يكون إلا من برزخية مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكل إرتشف من نور النبوة،وهو المُمدّ لكل الحضرات ومَطيّة السّير لأهل القُربات.. فهو مجموع العالم و(هيولى الفيض) و(قطب الكمالات)..
يقول الشيخ أحمد التيجاني: [ جميع الرسل والأنبياء (نُوّاب) عنه صلى الله عليه وسلم في (الرسالة)،و(خُلفاء له) في مراتبه صلى الله عليه وسلم. ف(الرسول المُحَقّق) لجميع الوجود هو صلى الله عليه وسلم،إلا أنه حيث كان في حجاب الغيب بحقيقته المحمدية ،أقامهم نُوّاباً عنه في الرسالة في ظاهر الوجود، فظهروا برسالته نواباًعنه،وأمَدّهُم بأسراره وصفاته القدسية، فإنطبعت فيهم بسرّ المقابلة كما تنطبع النجوم في الماء.. ]..
سرّ المقابلة هو المُعبّر عنه بالمرآة الجامعة صلى الله عليه وسلم.. وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو (صاحب الشفاعة العظمى)،وهي من حقوقه الربانية (صاحب الحق الرباني)،فهو شفيع الأنبياء والمرسلين ومن دونهم،قال صلى الله عليه وسلم (حتى أن إبراهيم خليل الرحمن يحتاج إليّ في ذلك اليوم).. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى آله وصحبه.