بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلى آله وصحبه أجمعين. نواصل شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،ومع القاعدة الثامنة والثلاثون التي تقول: [ قال الله تعالى:(لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم) فما بالك بمن يعتقد أن الله عَيْن الأشياء،أصحاب وحدة الوجود؟ فلا أحد من العارفين قال بوحدة الوجود،بل هي وحدة الشهود (فأينما تولوا فثم وجه الله). ]. اختلف الباحثون حول مفهومي وحدة الوجود ووحدة الشهود اختلافاً كبيراً،وتضاربت حولهما الآراء والمقدمات والاستنتاجات.. أما العارفون فقد توحّدت كشوفاتهم حول المقصود الحقيقي من كلا الوحدتين، فبعضهم أخذ بالوحدة الوجودية في معناها العرفاني الصحيح،والجمهور منهم قال بالوحدة الشهودية وخرجوا بذلك من سوء الظن والانتقاد سداً للذريعة..وقضية تحديد المصطلح من القضايا المهمّة لدى العلماء والباحثين،حتى يكون حُكمهم على مدلوله صائباً.. مبدئياً نلاحظ إجماعاً نسبياً على أن وحدة الوجود مرتبطة بالحلول والاتحاد بالمعنى الفاسد، وعدم التفريق بين الحق والخلق.. ووحدة الشهود مرتبطة بالفناء والتوحيد الخالص.. ومنهم من جعل المفهومين بمعنى واحد،ولامشاحدة في الاصطلاح.. وسنقوم بشرح مفصل من خلال أقوال العارفين وتحليلات الباحثين لهذين المصطلحين ومعناهما التقريبي،وبالله التوفيق.. موضوع القاعدة المباركة يتقاسمه كل من الفلسفة والتصوف.. ومن الأخطاء التي كرّستها المدرسة الإستشراقية (كما ذكر الشيخ عبد الباقي مفتاح في كتابه “بحوث حول كتب ومفاهيم الشيخ الأكبر”): تلك الفروق المصطنعة التي يُقيمها بعض الباحثين في التصوف، وحتى ممّن يدّعون الإنتماء إلى التصوف،بين ما يسمّونه التصوف السني والتصوف الفلسفي،موهمين أن هناك تصوفاً سُنيّاً وآخر فلسفياً،الأول شرعي والآخر ليس كذلك،وبالتالي محاولة ضرب المدرسة العرفانية للشيخ الأكبر ابن عربي،ومن سار على نهجه من العارفين أمثال: ابن الفارض والقونوي وابن سبعين والجيلي والتلمساني،وغيرهم كثير.. يقول الشيخ أحمد زروق في القاعدة التاسعة والخمسون من قواعده: [ تعدد وجوه الحسن،يقضي بتعدد الإستحسان، وحصول الحسن لكل مستحسن.فمن ثَمّ كان لكل فريق طريق:فللعامي تصوف،حوته كتب المحاسبي،ومن نحا نحوه.وللفقيه تصوف،رامه ابن الحاج في مدخله.وللمحدّث تصوف،حام حوله ابن العربي المعافري في سراجه.وللعابد تصوف،دار عليه الغزالي في منهاجه. وللمتريض تصوف،نبّه عليه القشيري في رسالته.وللناسك تصوف،حواه “القوت” و”الإحياء”.وللحكيم تصوف،أدخله الحاتمي في كتبه.وللمنطق تصوف،نحا إليه ابن سبعين في تآليفه.وللطبائعي تصوف،جاء به البوني في أسراره. وللأصولي تصوف،قام الشاذلي بتحقيقه.فليعتبر كل بأصله من محله،وبالله التوفيق. ].. وهناك شبهة أخرى في هذا التقسيم،مُؤدّاها: أن التصوف السني مبني على التربية والسلوك،وأن التصوف الفلسفي مبني على الأفكار المجردة والتأمل الفكري والعقلي بدون سلوك..ونحن نُسائل من زعم هذا الزعم،هاتوا الدليل على أن ابن عربي وابن سبعين والحلاج والسهروردي لم يكونوا أهل سلوك؟..فابن عربي مثلاً بدأ موسوعته العرفانية الفتوحات بإيراد عقيدته السنية في مستهل هذا الكتاب، وختمه بالباب (560): “في وصية حكمية ينتفع بها المريد السالك والواصل ومن وقف عليها إن شاء الله تعالى”،وهذا الباب كله وصايا مبناها على السلوك وتحقيق العلم الشرعي.. اهـ. وكلمة “وجود” في العربية غنية جداً.. والمعنى العام الذي يُفيده الجذر اللغوي “وجد” هو أنه: “يدلّ على أصل واحد،وهو الشيء يُلفيه” (ابن فارس،مقاييس اللغة). وعلى هذا الأصل الحقيقي تُبنى دلالات مجازية متعلّقة بالعلم،أو دلالات نفسية وشعورية (التواجُد).. فالكلمة تجمع بين الوجود والتواجد،بين الظاهر والباطن.. والوجود يُطلق على معنيين: الأول: الوجود المطلق الحقيقي،وهو الحق عز وجل. والعارفون يقصدون وجود الحق تعالى من حيث المرتبة،أيالألوهية،وليس الذات.. فالمرتبة حجاب عن الذات،وكذلك الحقيقة المحمدية حجاب عن المرتبة،ودونها حُجُب لا تُحصى.. هذا الوجود المطلق هو المُسمّى بواجب الوجود،ولا يجوز عليه الماهية،كما لا يجوز عليه الكيفية،ولا يُعلم له صفة نفسية من باب الإثبات،وهو الله عز وجل..
الثاني: الوجود الإضافي المجازي،وهو وجود الخلق.. وهذا الوجود أقسام: منها: موجود مجرّد عن المادّة،وهي العقول المفارقة الروحانية.. ومنها: موجود يقبل التحيّز والمكان،وهي الأجرام والأجسام والجواهر.. ومنها: موجود لا يقبل التحيّز بذاته ولكن يقبله بالتبعيّة،ولا يقوم بنفسه لكن يحُلّ في غيره،وهي الأعراض.. ومنها: موجودات النّسب،وهي ما يحدُث بين هذه الذوات وبين الأعراض ، كالأيْن والكيف والزمان والعدد والمقدار والوضع..
كما أن مصطلحي وحدة الوجود ووحدة الشهود،يستدعيان مصطلحات أخرى كالحلول والاتحاد والفناء.. وقد كتب أستاذنا حفظه الله موضوعاً جامعاً حول هذه المصطلحات بعنوان “الحلول،الاتّحاد،الوحدة” تجدونه في مدونة المعهد،وهو موضوع جامع للمسألة،مع عرض النصوص على براءة العارفين من القول بالوحدة الوجودية على فهم الفلاسفة.. ومما قاله: [ تجربة الصوفي هي تجربة روحية صادرة عن الكشف،ومن عالم الذوق والمعنى. وألفاظ اللغة موضوعة أصلاً للمحسوسات ومسبوكة في قوالب العقل،ولذلك لم يستخدموا الكلمات للغرض المألوف،ومن هنا بدا كلامهم غريباً. وقد قال النّفري: “كلما اتّسعت الرؤيا ضاقت العبارة”،وقال ابن خلدون: “وقصُرت مدارك من لم يُشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم”.. ].
مسألة وحدة الوجود أكْثَر فيها العلماء الكلام قديماً وحديثاً،وردّها المتكلمون لعدم فهمهم لها على الوجه الموافق للشريعة،كما ردّها بعض أهل الله،منهم الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي والشيخ علاء الدين المسناني،سدّاً للذّريعة لِما في ظاهرها من الإشكال ولما تؤدّي إليه من تخبّط الجهّال ووقوعهم في الضّلال والمُحال. كما أنها من أغمض المسائل،مثل مسألة الخلق الجديد ومسألة الأعيان الثابتة،لأن ظاهرها ــ وهو أنه لا وجود إلا الله ــ مُشكل جداً،لما يؤدّي إليه من اللوازم الصعبة التي منها اتّصاف المخلوق بصفة الألوهية أو الحُكم عليه بالعدم،وكلاهما باطل وموجب لسقوط التكليف وإبطال الشرائع.. فما ينفيه أستاذنا حفظه الله هو هذا المعنى الفاسد في المسألة،وقد حصره في الاعتقاد بأن الله تعالى عين الأشياء.. أما المعنى الصحيح المقصود ممّن قال بهذه المسألة من العارفين ــ كالعارف عبد الكريم الجيلي وابن الفارض وعفيف التلمساني وابن سبعين،والشيخ عبد الغني النابلسي في رسالته (إيضاح المقصود عن معنى وحدة الوجود)،والشيخ المُلاّ الكوراني الذي ألّف رسالة هي من أجمع ما ألّف في المسألة بعنوان (مرقاة الصعود إلى صحة القول بوحدة الوجود)، وغيرهم ــ فلا تنفيه القاعدة،وهو المقصود بمفهوم وحدة الشهود الموافق للشريعة،ظاهراًوباطناً،أحكاماً وعقيدة.. ولا مشاحة في الاصطلاح كما يُقال.. __ الاتّحاد عند العارفين : الاتحاد لغة: امتزاج شيئين أو أكثر في كُلّ متّصل الأجزاء،ومنهاتّحتد النفس بالبدن. والاتحاد هو مرتبة روحية،وهو مرتبة شهود الحق في قلب السالك فتنمحي الكثرة وتتجلّى الوحدة،ويفنى المتناهي في اللامتناهي. يقول الشيخ الأكبر: [ لا معنى للاتّحاد إلا صحة النّسبة لكل واحد من المتحدين،مع تميّز كل واحد عن الآخر في عين الاتحاد،فهو هو وما هو هو ].. وقد عدّد الشيخ كمال الدين القاشاني عشرة معانٍ لمفهوم الاتحاد: [ منها: تصيير الذاتين ذاتاً واحدة،وذلك مُحال.. وأما أنه حال،فكما يَعرض لأصحاب المواجيد حالة الاستغراق في حضرة المحبوب بحيث لا يجد غير محبوبه،كما قد جرّب ذلك من وجده فقال: “أنا من أهوى // ومن أهوى أنا”.. ].. ويقول ابن عربي في عقيدته الوسطى: [ اعلم أن الله تعالى واحد بإجماع، وقيام الواحد تعالى يتعالى أن يحُلّ فيه شيء أو يحلّ هو في شيء أو يتّحد بشيء ]،ويقول في الفتوحات: [ لا حلول ولا اتحاد،فإن القول بالحلول والاتحاد مرض لا يزول،وما قال بالاتحاد إلا أهل الإلحاد،كما أن القائل بالحلول من أهل الجهل والفضول ومن دينه معلول.. ولو صحّ أن يرقى الإنسان عن إنسانيته والمَلاك عن ملكيته،ويتّحد بخالقه تعالى،لصحّ انقلاب الحقائق وخرج الإله عن كونه إلهاً،وصار الحق خلقاً؟.. ]، ويقول أيضاً: [ إياكم أن تظنّوا اتّصالي بحضرة (أوحى) اتّصال إنيّة،فلا تنسبوني إلى الاتحاد الفرد،فإنه السيّد وأنا العبد. وإنما هي رموز وأسرار لا تلحقُها الخواطر والأفكار،إن هي إلا مواهب من الجبار جلّت أن تُنال إلا ذوقاً ولا تصل إلا لمن هامَ فيها مثلي عشقاً وشوقاً ]. ويقول الشيخ عبد الوهاب الشعراني: [ الاتحاد عند أصحاب النظر العقلي: أن يصير الذاتان ذاتاً واحدة، وذلك مُحال في العقل.. وأما أصحاب الكشف فإنما قالوا به،لأنهم يرون ذاتاً واحدة لا ذاتين،ويجعلون الاختلاف في النّسب والوجوه،والعين واحدة في الوجود والنّسب عدمية.. والمراد بالاتحاد في لسان القوم: هو فناء مُراد العبد في مُراد الحق،فلا يصير للعبد مراد مع الحق أبداً إلا بحكم التبعية.. ].. يقول الشيخ أبو الفيض الكتاني في صلاته الأنموذجية: [ الذي جعلت اسمه متحداً باسمك ونعتك ]،يقول في كتابه (خبيئة الكون): [ فليت شعري من اطّلع على هذا الارتباط المعنوي بين الحضرتين،كيف يفصل بينهما في الرسوم اللفظية.. وهل تقدر على التلقّي من الحضرة الربانية بدون المظهر المحمدي.. فلا يصحّ التلقّي،في الحقيقة،إلا عن البرزخ المحمدي.. هذا الاتحاد لم يقع لنبي ولا لرسول سواه صلى الله عليه وسلم.. وقد أشار الإمام أحمد إلى هذا المعنى فقال: “من أقسم بالنبيّ ينعقد إيمانه وتجب الكفارة عليه بالحنث”، وقال القرطبي: “يجوز الحلف بسيدنا محمد وحياته”.. ].. ويقول في كتابه (الديوانة): [ قال الله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) في هذه الآية تصريح بمقام الخلافة العظمى وتنبيه على مرتبة النيابة الكبرى،ليتوجّه الكلّ إليه ويتمسّكوا به ويلزموا طريقه.. فقد أعطي مفاتيح خزائن أجناس العالَم،فيُخرج لهم بقدر ما يطلبون.. ].. ويقول في معنى الاتحاد: [ فمقام الاتحاد في اصطلاح القوم هو: الغيبة عن الأكوان شُهوداً بالاستغراق في شُهود أسرار الذات وأنوار الصفات. ويُطلق على: الفناء عند التدبير والاختيار،لأنه لازم الغيبة المذكورة.. فحيث وقع الاتحاد من محقّقي الصوفية فإنما يُريدون به: الفناء الذي هو محو النفس وإثبات الأمر كلّه لله سبحانه،لا المعنى المذموم.. ].. قال العلامة ابن زكري في “شرح همزيته”،نقلاً عن الحافظ السيوطي: [ إن لفظ الاتحاد اصطلاح لهم،ولا مُشاحة في الاصطلاح،كما اصطلح المحدثون والفقهاء والنحاة على استعماله في معانٍ حديثية وفقهية ونحوية،كقول المحدثين: اتّحد مخرج الحديث،وقول الفقهاء: اتحد نوع الماء،وقول النحويين: اتحد العامل لفظاً ومعنى ]،وقال أيضاً: [ والجمع،عند أرباب الطريق،هو: الفناء في الله تعالى بشهوده دون الأغيار. وجمع الجمع هو: البقاء بالله.. قال الحسين بن منصور: لم يُظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخصّ نَسمه وأشرفه،فقال: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)،وقال القشيري: أي عقدُك عليهم هو عقد الله. وفي هذه الآية تصريح بعين الجمع كما قال: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). وقال الورتجبي: فجعل نبيّه مرآةً لظهور ذاته وصفاته ].. ذكر الشيخ محمد بن جعفر الكتاني في كتابه (جلاء القلوب من الأصداء الغينية) مَبحثاً قيّماً لخّص فيه مسألة وحدة الوجود كما تناولها العلماء والعارفون،وممّا جاء فيه ملخصاً: ذكر المتكلمون على وحدة الوجود أن هاهنا وَحداتٍ ثلاثاً: الوحدة الأولى: وحدة كل موجود على انفراده،ومعناها: أن كل فرد من أفراد الموجودات،الظاهرة والباطنة،حيث هو،له من الله تعالى وجه خاص يلقى إليه منه ما يشاء،لا يُشاركه فيه أحد. وله منه أيضاً وجهة معينة وصفة مخصوصة لا تكون لغيره،بها يتميّز عن غيره من سائر المخلوقات. وهذه الوجهة هي حقيقته المختصة به وصفته المخصوصة. يقول الشيخ الأكبر في (الباب 198) من فتوحاته ما نصه: [ وأماالله تعالى فهو مع كل شيء،فلا يتقدّمه شيء ولا يتأخّر عنه شيء،وليس هذا الحكم لغير الله تعالى. ولهذا له إلى كل موجود وجه خاص،لأنه سبب كل موجود،وكل موجود لا يصحّ أن يكون اثنين.. ]. فما من عين مخلوقة إلا ولها من الله خاصية وعلامة تُميّزها عن غيرها من كل ما خلقه الله من الأعْيُن،من ابتداء الوجود إلى انتهائه،كما أن لها مادة مخصوصة لا يشاركها فيها عين أخرى.. فهذه هي “وحدة كل موجود”. الوحدة الثانية: وحدة جميع الموجودات الكونية من حيث جملتها،وهي وحدته صلى الله عليه وسلم. ومعناها: أن العالم كله،من أوله إلى ما لا نهاية له،منه شيء واحد بالذات،أعني نورانيته واحدة وحقيقة متحدة متضمنة لجميع الحقائق،وهي نورانيته صلى الله عليه وسلم وحقيقته المُفاضة من الذات العليّة فيضاناً متحداً بالفيض الأقدس أولاً في العلم،ثمّ بالفيض المقدس ثانياً في العين والخارج وما لها من التفاصيل والوجوه والقيود والاعتبارات والخيالات العارضة،لا يُعدّدها ولا يُكثّرها،كالذات الواحدة الإنسانية فإنها واحدة لا يكثرها ويُعدّدها ما لها من الأعضاء والحواس.. فالأكوان كلها إنما هي مظاهره صلى الله عليه وسلم وأنواره المتحدة بالذات،وإن تعدّدت بالاعتبارات.. يقول أبو عبد الله محمد بن المشرى في “الجامع” نَقلاً عن شيخه التيجاني: [ الحقيقة المحمدية هي الكون بأسره،فلو رفع الحجاب لم تَر إلا الحقيقة المحمدية بارزة وحدها.. ]. وإلى هذه الوحدة يُشير الشيخ الأكبر بقوله: [ وهو واحد فما صدر عنه إلا واحد،فإنه في أحدية كل واحد،وإن وجدت الكثرة فبالنظر إلى أحدية الزمان الذي هو الظرف،فإن وجود الحق في هذه الكثرة في أحدية كل واحد،فما ظهر عنه إلا واحد. فهذا معنى: “لا يصدُر عن الواحد إلا واحد”،ولو صدر عنه جميع العالَم لم يصدُر عنه إلا واحد،فهومع كل واحد من حيث أحديته،وهذا لا يدركه إلا أهل الله.. ]. وهو ما ذهب إليه القونوي في “رسالة مفتاح الغيب”،ومما قاله: [ والحق سبحانه،من حيث وحدة وجوده،لم يصدُر عنه إلا واحد، لاستحالة إظهار الواحد غير الواحد.. وذلك الواحد عندنا هو: الوجود العام المُفاض على أعيان الممكنات،ما وُجد منها وما لم يوجد،ممّا سبق العلم بوجوده.. والعالم ليس بشيء زائد على حقائق معلومة لله تعالى أولاً،مُتّصفة بالوجود ثانياً. فالحقائق،من حيث معلوميتها وعدميتها،لا توصف بالجَعْل عند المحققين من أهل الكشف والنظر،إذالمجعول هو الموجود.. فلو قيل بجَعلها لزم: إما مُساواتها للعالِم بها في الوجود،أو أن يكون العالِم بها محلاً لقبول الأثر من نفسه في نفسه وظرفاً لغيره أيضاً،وكل ذلك باطل لأنه قادح في صرافة وحدته سبحانه.. ]. وفي “لطائف الأعلام” يقول القاشاني في الكلام على الأمر الوحداني،ما نصه: [ وهو المشار إليه بقوله تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) وأمره الواحد عبارة عن تأثيره الوحداني بإفاضة الوجود المنبسط على الممكنات القابلة الظاهرة به والمُظهرة إيّاه،متعدّداً متنوعاً بحسب ما اقتضته حقائقها المتعينة في العلم الأزلي.. إلا أن أرباب النظر العقلي من الفلاسفة يرون أن ذلك الواحد هو العقل الأول،وعلى قاعدة الكشف هو الوجود العام.. والمراد بالعموم: اشتراك جميع الممكنات في أنه هو المفاض عليها المضاف إليها،ما وجد منها وما لم يوجد ممّا سبق العلم بوجوده. وهذا الوجود مشترك بين القلم الأعلى،الذي هو العقل الأول،وبين سائر الموجودات،إذ ليس ثَمّ إلا الحق والعالَم. والعالَم ليس بأمر زائد على حقائق معلومة للحق أولاً،متّصفة بالوجود ثانياً.. ].. والوحدة الثالثة: وحدة الوجود الذي به يتحقّق حقيقة كل موجود،وهي وحدة الحق سبحانه. ومعناها: أن الوجود من حيث هو حقيقة واحدة،وهي لله تعالى وحده لا مشارك له فيها،فهو الموجود على الإطلاق. ووجود هذه الكائنات إنما كان باستنادها إليه واستمدادها منه،واستنشاقها لروائح الوجود من وجوده وإشراق شعاع وجوده عليها. فهي موجودة بهذا الوجود الذي له تعالى،لا بوجود آخر ثانٍ. فلم تكن غَيْراً من كل وجه،لأن الغير في عُرفهم هو الذي يكون له الوجود من ذاته ويتصوّر أن يكون له بنفسه قوام.. فهذا المعنى هو مراد أهل الله بوحدة الوجود وبالوحدة المطلقة وغير ذلك من العبارات التي يذكرها العارفون من أهل التحقيق،وليس مرادهم المعنى الفاسد الذي عند أهل الزندقة والإلحاد،وقد أنكرته عليهم علماء الأمة وكشف عن هذا الشيخ النابلسي في رسالة “إيضاح المقصود من معنى وحدة الوجود”. وقد أجاب القائلون بوحدة الوجود بجوابين: الجواب الأول: العوالم كلها من جهة نفسها معدومة بعدمها الأصلي،ومن جهة وجود الله تعالى موجودة بوجوده تعالى.. وليس المراد بوجودها،الذي هو وجود الله،عين ذواتها وصورها،بل المراد به ما به ذواتها وصورها ثابتة في أعيانها،وما ذاك إلا وجوده تعالى بإجماع العقلاء..والقائلون من علماء الرسوم والكلام: أن الوجود اثنان،وجودقديم ووجود حادث،مُرادهم بالوجود الحادث نفس أعيان الذوات والصور فقط. ولهذا كان مذهب الأشعري أن وجود كل شيء عين ذات ذلك الشيء،لا زائد عليه. وأما الوجود الذي به تلك الذوات والصور موجودة،فلا شك أنه وجود الله تعالى عند جميع العقلاء.. والاختلاف لفظي بحسب تفسير مفهوم الوجود،فكلام المحققين من أهل الله ليس في الوجود الذي هو عين ذات الموجود،بل في الوجود الذي به كل موجود موجود.. فالقديم موجود بوجود هو عين ذاته،وهو وجود واحد لا ينقسم ولا يتبعّض ولا يتجزّأ ولا ينتقل ولا يتغير ولا يتبدل أصلاً،وهو مطلق عن الكيفيات والكميات والأماكن والأزمان والجهات،ولا يُتصوّر فيه الحلول في شيء ولا الاتحاد مع شيء. الجواب الثاني: أن مرادهم بها وحدة الشهود،وذلك أن العارف لَمّا بدَت له أنوار الذات العليّة من غير تشبيه ولا تكييف،وغلب على قلبه شهودها،وتمكّن من بصيرته وجودها: غاب عنه،عندشهودها،شهود كل ما سواها من جميع الكائنات،مع وجودها. نظير النجوم، فإنها ثابتة ولكنها تغيب عند بُدوّ الشمس. قال بعضهم: [ من زعم أن وحدة الوجود غير وحدة الشهود لم يشمّ رائحة معنى الوحدة ].. يقول الشيخ الجيلي في كتابه “شرح الخلوة”: [ يا أخي رحمك الله: شهودهم للحق بحسبها إلى ثلاثة أقسام: فأهل الحجاب انحجبوا بصورة العالم عن رؤية معناه المُقيم لها،وهو الوجود الحقّ. وأهل الشهود الحالي المستهلكون في الله،نفوا وجود العالم ولم يُقرّوا بوجود شيء سوى الحق تعالى. وأهل كمال الشهود شَهدوا الحق في مَجاليه. فصارت مراتب رؤية الحق،بحسبمظاهره،منحصرة في هذه المراتب الثلاث. والثانية منها،وهي مرتبة شهود حقّ بلا خلق،حال أهل وحدة الشهود. والثالثة،وهيشهود خلق قائم بحقّ،حال أهل وحدة الوجود عند من يقول بمغايرتها لوحدة الشهود.. ]..اهـ،بتصرف..
وقد درج الباحثون على نسبة القول بوحدة الوجود للشيخ الأكبر ابن عربي،وليس الأمر كذلك.. تقول الدكتورة سعاد الحكيم في كتابها المخصص لدراسة مصطلحات وعرفان الشيخ الأكبر (الحكمة في حدود الكلمة): [ إن عبارة حدة الوجود ابتدعها دارسو ابن عربي،أو بالأحرى صنّفوه في زُمرة القائلين بها.. وهذه العبارة لا تدخُل ضمن مصطلحات ابن عربي،إن إنها ــ من ناحية ــ لم ترد عنده،ومن ناحية ثانية هي تُشكّل تياراً فكرياً له جدوره البعيدة في تاريخ النظريات الفلسفية.. ].. فما أنكرته القاعدة المباركة من مسألة وحدة الوجود هو البُعد الفلسفي الفاسد في المسألة.. والشيخ الأكبر يرُدّ على الذين يزعمون أن هذه العلوم الكشفية الحاصلة لأولياء الله مُقتبسة من النظريات الفلسفية،فيقول في مقدمة الفتوحات: [ ولا يحجُبنّك أيها الناظر في هذا الصنف من العلم الذي هو “العلم النبوي” الموروث منهم،إذا وقفت على مسألة من مسائلهم قد ذكرها فيلسوف أو متكلم أو صاحب نظر في أي علم كان،فتقول في هذا القائل الذي هو الصوفي المحقّق: “إنه فيلسوف”،لكون ذلك الفيلسوف ذكر تلك المسألة وقال بها واعتقدها،وإنه نقلها منهم أو إنه لا دين له،فإن الفيلسوف قد قال بها ولا دين له.فلا تفعل يا أخي،فهذا القول قول من لا تحصيل له.إذ الفيلسوف ليس كل علمه باطلاً،فعسى أن تكون تلك المسألة فيما عنده من الحق،ولا سيما إن وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم قد قال بها،ولا سيما فيما وضعوه من الحِكَم والتبرّي من الشهوات ومكايد النفوس وما تنطوي عليه من سوء الضمائر.. ]،ويقول في كتاب (لواقح الأسرار ولوائح الأنوار): [ .. وأما أصحاب التفكّر فهُم الذين شغلوا المحلّ، وصَرفوه عن القبول الإلهي بالفكر فيما لا يصحّ اقتناصه بالفكر.. ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن الله خلق الخلق ثمّ رشّ عليهم من نوره”: ذلك النور الذي رشّه عليهم هو الذي أعطى هذه الإدراكات الضرورية والقوى الروحانية التي قام بها قوام الحسّ. فمن اهتدى بصحة النّظر والهداية، ومن أخطأه ذلك النور ضلّ بزَيغه عن سلوك الطريق المستقيم. وقد نَظر العاقل في ورود ذلك النور،فرأى أن المحلّ الذي قَبله إنما قَبله بالفراغ والتّهييء والاستعداد،فعَلم الأصل فبنى عليه.. ]. ويقول أيضاً: [ الفلاسفة منّا بالضدّ.. فنحن سَلكنا الطريق بالفقر والإفلاس وتَفريغ المَحلّ،وهم سَلكوا بالفكر،والفكر يستدعي مُتفكّراً فيه،والتفكّر لا يتعدّى الكون،فما بَرحوا من الكون،فما عندهم غيرهم.. ].. الاتحاد أحاله أصحاب النظر العقلي،لأن عندهم تَصير الذاتين ذاتاً واحدة،وذلك مُحال في العقل. وأما أصحاب الكشف فإنما قالوا به لأنهم يرون ذاتاً واحدة لا ذاتين، ويجعلون الاختلاف في النّسب والوجوه. والعين واحدة في الوجود،والنّسب عدميّة. وفي النّسب وقع الاختلاف،فإن الذات الواحدة تقبل الضدّين من نسبتين مختلفتين،كما قال تعالى: (فأجره حتى يسمع كلام الله).. فالوجود واحد،وهو وجود الواحد الحق،وما عداه وَهْم وخيال وظِلال ومرايا.. فالتعدّد هو ظلّ الأسماء والصفات،يقولالقونوي: [ فنحن من حيث حقائقنا، التي هي عبارة عن صور معلوميتنا الثابتة في علم الحق،مرآة لوجوده المطلق الذاتي الوحداني. فإنه سبحانه عين الوجود،لا وجود لسواه،فهو يستجلي فينا نفسه،وحضرته مرآة لأحوالنا المتكثرة وتِعداداتنا ].. وذكر العارف سيدي علي وفا في كتابه (الوصايا) أنه قيل له: ما معنى قول هؤلاء الصوفية: “إن الحق ذات كل شيء،وإن المحدثات أسماؤه”؟. فقال: [ معنى قولهم “الحق ذات كل شيء” أن كل شيء لا يُقيمه ويوجده إلا الحق،لأن الذات هي المقوّمة والمحقّقة للعرض،ولما كان الحق من المحدثات بهذه المنزلة ــ هو قَيّومها الذي لا قيّام لها دونه ــ أطلقوا عليها الذات. وأما أنها “أسماؤه”: فلأنها دالّة عليه دلالة لازمة ذاتية لها،كما هو دلالة المفعول على فاعله والأثر على مؤثّره،والاسم ما دلّ بذاته على ما وُضع له،فمن ثَمّ سَمّوا المحدثات أسماءً لقيومِها الذي أوجدها.. ]. وعند تناول الباحث إبراهيم ياسين لوحدة الوجود عند القونوي في كتابه (مدخل إلى التصوف الفلسفي) يقول: [ وسوف نلاحظ أن القونوي يُعالج مذهبه في الوحدة من ثلاث زوايا،هي: الذات والصفات وفعل الإيجاد. فإذا نظرنا إلى الحقيقة الوجودية من خلال الذات،قُلنا إنها الوجود المطلق الذي لا يتقيّد بقيد ولو كان قيد الإطلاق. وإذا نظرنا إليها من خلال أسماء الذات وصفاتها،قُلنا إنها كانت غيباً في باطن الذات المحجوبة بحُجب الغيب،ثمّ أظهرها الحق بنور تجلّيه فصارت مشهودة موجودة بعد أن كانت باطنة مفقودة. وأما الوحدة من حيث فعل الإيجاد فهي وحدة الوجود العام الذي بفيض على الكون فيضاً واحداً بفعل أمر الإيجاد “كنْ”،وهو الأمر الذي ينقل الموجودات من حال ثبوتها في العلم إلى حال وجودها في العين.. ]. العالم مجرد ارتسام (أي تصوير المعقول بالمحسوس) أو نقش في الموجد،موجوداً بالنسبة لموجده،معدوماً بالنسبة لنفسه ولنا.. ومرتبتي الأحدية والواحدية هما المحوران اللذان يعتمد عليهما مذهب وحدة الوجود عند العارفين القائلين بها. فأحدية الذات هي عندما تتجرّد عن صفاتها وعوارضها ولواحقها،وهي ليست وصفاً للواحد،بل هي ذاته. أما الواحدية فهي منبع الكثرة،وفيها تظهر الأسماء والصفات والشئون الكونية.. وكلاهما مُنطويان في المرتبة الذاتية التي هي مرتبة أحدية الجمع التي لا يتميّز فيها خلق عن حق ولا وجود واجب عن وجود ممكن.. والذات هنا،بإجماعالعارفين،بمعنى مرتبة الألوهية،لا الذات الإلهية في إطلاقها.. فكانت الإشارة عند القونوي مثلاً إلى الوحدة بالأحدية،وإلى الكثرة بالواحدية.. لأن الأحدية لا تجلّي بها بإجماع العارفين،والواحدية هي منبع الكثرة ومصدر الأسماء والصفات والشئون الكونية يقول التبريزي في شرحه نصوص القونوي: [ الحق من حيث إطلاقه لا يصلُح أن يُحكَم عليه بحُكم بأنه عليم أو قدير أو واحد،لأنه يُنافي إطلاقه الذاتي،ولأن الصفات والأحكام تعيّنات،وهو التعيّن السابق على كل تعيّن.. ]. __ وحدة الشهود : وحدة الشهود هي الشقّ الصحيح والفهم السديد الذي قدمناه لوحدة الوجود،والذي ارتضاه العارفون وقالوا به،وليس كما يتعقّله العوام أو يقول به الفلاسفة.. ترتبط وحدة الشهود بحال الفناء،وهو عبارة عن ظهور العظمة والجلال،ويعبرون عنه بالاضمحلال،وفيه تَكلّ العبارات وتضيع الإشارات وتخشع الأصوات.. لأنه إذا فني العبد عن الخلق والهوى والنفس،والإرادةوالأماني،دنياوآخرة،ولم يبق إلا الله عز وجل كما كان.. فيصير العبد بالله،وقد فني العبد وبقي الرب.. يقول أحد العارفين: [ من لا وجود لذاته من ذاته // فوجوده لولاه عين مُحال ]،والمعنى: (كل شيء هالك إلا وجهه)،والهالك اسم فاعل شامل غير مختص بزمان دون آخر،والضمير في قوله “وجهه” يحتمل رجوعه إلى “الشيء”،ووجه الشيء وجه من وجوهه تعالى بدليل (أينما تولّوا فثمّ وجه الله)،هذا هو المعوّل عليه على ما يقتضيه التوحيد الخاص الخالص.. فالوحدة تُشير إلى التوحيد،ووحدة الشهود هي توحيد الكمّل العارفين،الذي يعرّفه الدكتور أبو العلا عفيفي بقوله: [ هو التوحيد الناشئ عن إدراك مباشر لما يتجلّى في قلب الصوفي من معاني الوحدة الإلهية في حالٍ تَجِلّ عن الوصف وتستعصي على العبارة،وهي الحال التي يستغرق فيها الصوفي ويفنى عن نفسه وعن كلّ مَيْل سوى الحق.. وهذا هو الفناء الصوفي بعينه،وهو أيضاً مقام المعرفة الصوفية التي ينكشف فيها للعارف معنى التوحيد الذي أشار إليه ذو النون المصري إذ يقول: “إنه بمقدار ما يعرف العبد ربّه يكون إنكاره لنفسه،وتمام المعرفة بالله تمام إنكار الذات”.. ].. يقول العارف علي وفا في حديث: “فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به” الحديث: [ المراد به أن ذلك الكون الشهودي مُرتّب على ذلك الشرط الذي هو حصول المحبة،فمن حيث الترتيب الشهودي جاء الحدوث،لا من حيث التقرير الوجودي. وهذا نظير قوله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر من ربهم مُحدث) فإن المراد به أنه مُحدث النزول،لا مُحدث الوجود،كما يُقال: حدَث الليلة عندنا ضيف،مع أن عُمره قد يكون مائة سنة وأكثر.. ].. وتحقيق كمّل العارفين،خصوصاً أهل زماننا القريب،وكما سبق تبيينه في شروحات سابقة،أن الحقيقة المحمدية هي الواسطة بين الحق والخلق،وهي الحجاب الأعظم الذي يقع عليه الشهود: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله) فجعل نبيّه مرآة لظهور ذاته وصفاته،فهو المجلى الأعظم والمظهر الأكبر لجمال الله وجلاله.. “من رآني فقد رآىالحق”،”الله المعطي وإنما أنا قاسم”.. وكما يقول العارف أبو الفيض الكتاني: [ لا يقدر أحد،كائناً ما كان،على مُكافحة تلك الحضرات ولا الأخذ عنها مع مُقاساة تلك الصدمات إلا هو. فمنه تخرُج الإمدادات،وعلى يديه تنبعث أشعّة التقييدات والإطلاقات.. ].. يقول العارف أحمد العلاوي في كتابه القيّم (الأنموذج الفريد المُشير لخالص التوحيد): [ ونعني بالصفات ظهور الحق لنفسه عند تجلّيه الأول،وبالأسماء ظهور الصفات لنفسه عند التجلّي الثاني،والأول هو عين الثاني. وهذان رُتبتان هما المعبّر عنهما بالأولية والآخرية، والظهور والبطون. فظهوره في بطونه،وأوّله في آخره.. فهو ذات في ذات،وهاته الذات هي المعبّر عنها في لسان القوم بوحدة الشّهود،المُشار إليها في الأثر الشريف بالنقطة وهي التي تدفّقت منها سائر الكائنات حسبما تقتضيه الأسماء والصفات.. فالكلّ مُندرج تحت وحدة الشهود المعبّر عنها بالنقطة..]،والحقيقة المحمدية هي النقطة،نقطة الأمر والتنفيذ لما سيظهر في عالم التقييد.. ويقول أيضاً عند كلامه عن الحقيقة المحمدية وكونها حجاب الله الأعظم الذي بين يديه: [.. عندما عرفت الباء منزلتها عند الألف قامت بما وجب عليها،تعريفاً وتكليفاً. فمن التعريف التصاقها ببقيّة الحروف لأنها من جنسها،بخلاف الألف فإنه لا يتّصل بالحروف إذا كان في أولها.. وكانت الباء في البسملة قبل الألف،وحُذف الألف لدلالتها عليه،فبقيت الباء بدون ألف.. وكل ما أضمرته الباب فهو من لوازم الشّكر، قال صلى الله عليه وسلم: “من كرامتي على ربّي قعودي على العرش”،مع أنه مستوى الرحمن. ولا يكون التصاق الباء بالاسم الأعظم من حيث كونها باءاً،بل يكون ذلك من حيث كونها ألفاً في صورة باء،لأن التقدير في البسملة: اسم الله مبدوء به،فلا باء حينئذ،إنما هو ألف.. ].. والآحاديون هم أصحاب وحدة الشهود،وتوحيد الأحدية هو توحيد المقرّبين الذين لا يرون في الكون إلا “أحد أحمد”.. وهي وحدة التجليات الإلهية،لا وحدة الوجود الفلسفية.. هي الوحدة المطلقة ومقام جمع الجمع.. هذا التوحيد للذين يرون حقيقة النبوة في التجلّي وفي المقتضى،قال الله تعالى: (فأينما تولوا فثمّ وجه الله).. فعين الوحدة هو الحقيقة المحمدية،الذي لا دخول إلا من بابه ولا شهود إلا فيه ولا تجلّ إلا منه.. ومن يطّلع على الدليل المبارك لأستاذنا حفظه الله (أسرار وحقائق بين معشوق وعاشق)،الفريد في بابه،يرى هذا التوحيد مبثوثاً في صلواته المباركة،فجزاه الله عنّا وعن الأمة الإسلامية خير الجزاء،ونفعنا الله بأنفاسه ومدده.. فالموضوع متشعب وكثيرة آراؤه ونقولاته،ونكتفي بما ذكرنا،ومن أحبّ التفصيل فعليه بكتابات كبار العارفين فهي موجودة ومُتاحة.. ونختم هذا الشرح بالصلاة السادسة والأربعون من الدليل المبارك (أسرار وحقائق بين معشوق وعاشق)،يقول فيها العارف المحقق: [ اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا ومولانا محمد،بصر وبصيرة الوجود،سرّ وحدة الشهود،صاحب المقام المحمود، الذي فتقت به رتق الوجود،المُمدّ لجميع حقائق الوجود. باء البسملة الجامعة لما هو كائن وكان،ونقطتها التي تناسلت منها دوائر الأكوان. بها رُحم الوجود وميّزت العابد من المعبود،ولو زالت عن الوجود لصار محض عدم (فإما نذهبن بك فإنا منهم منتقمون)،وصحبه وسلّم ]. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله. الاستاذ رشيد موعشي