بسم الله الرحمن الرحيم.الحمد لله رب العالمين.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه. نستأنف شرح القواعد المباركة من خريطة السلوك العرفاني لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،وقاعدتنا تقول: [لا نسبة بين الخالق والمخلوقين،نسبتهم مع نور النبوة،وللنبوة مَراتب وحضرات لا تُحصى ولا تُعدّ (ما عَرفني حقيقة غير ربّي)].مبدئياً هناك خيط رفيع يربط بين هذه القواعد العرفانية لأستاذنا حفظه الله،يمكننا أن نُجمل جوانبه وقواعده في مبدأين أساسيين،وهما: المبدأ الأول: كلامنا حول الحق عز وجل ينحصر في (مرتبة الألوهية)،ولا كلام لنا مع (الذات الإلهية)..
والمبدأ الثاني: وَساطة الحقيقة المحمدية بين الحق والخلق،ونيابتها عن الحق تعالى في التصرّف في الوجود.. تنزيل هذين المبدأين على قاعدتنا المباركة،يتمثّل فيما يلي: وصف الحق عز وجل نفسه في كتابه العزيز بأنه(غني عن العالمين)،فهو سبحانه المطلق والواجب الوجود بذاته،ومخلوقاته مقيّدة وممكنة الوجود من حيث وجودها العيني،وواجبة الوجود بغيرها من حيث وجودها العلمي..هذا يعني أنه لا علاقة بين الحق والخلق، إذ لا مناسبة بينهما ولامجانسة ولا مناسبة،فلا وجه للإشتراك بينهما.. ولما شاء الحق سبحانه،من حيث أسمائه التي لا يبلُغها الإحصاء،أن يَرى أعيانها، وأن تَنْفعل في الكون الإلهي،وأن تظهر مقتضياتها ــ بعبارة أخرى: قُل أن يَرى مرتبة الألوهية ــ في كون جامع،ويظهر به سرّه: أبْرَز بَرزخاً نورانياً عظيماً،ألْبَسه حُلَل أسمائه وصفاته،فكان هو الفيض وواسطة للفَيْض بين الله وعالم الإمكان..فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو البرزخ الأحدي النوراني الحقّاني.. هذا ما أشار إليه صاحب صلاة (جوهرة الكمال) في قوله (إفاضتك منك إليك)،أي دون واسطة أحد..لأن الصفة الأحدية،وهي حضرة سحق ومحق، وليس لها مُقتضى في الكون الإلهي مطلقاً ولا تَجلّي بها بإجماع المحقّقين،هي مصدر النقطة النورانية النبوية ومصدر الفيضة القرآنية..وفي بساط الألوهية وقع الإصطحاب بين الفيضة القرآنية ونور النبوة،وهو بداية الظهور.. الإفاضة كانت من بساط دائرة الألوهية،أي أفاضت النبوة المحمدية الرحمة على الوجود..وهذا ما يُفسّره قول المصطفى الكريم سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلم (أنا من نور الله،والمومنون من نوري)،وهذا ما تُعبّر عنه القاعدة ب(النّسبة)،لأن الحق عز وجل أوجد الوجود لمعرفته،فأوجد النّسبة من نوره،ثمّ أوجد الموجودات من تلك النّسبة..
فالتجليات الإلهية،الحاكمة في الوجود،تمُرّ عبر وساطة حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،لإضفاء اللطف ونشر الرحمة (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، فكان حاجزاً بين الكون وبين حرارة التجليات الإلهية، فالإبتداء منه والإنتهاء إليه.. وقد لخّص الشيخ الأكبر إبن عربي ما أشرنا إليه في المبدأ الأول،في نصّين بديعين في الفتوحات المكية:
النص الأول يقول فيه: [ فأقول بما أعطاه الكشف الإعتصامي: (أن الله كان ولا شيء معه)،إلى هنا إنتهى لفظه صلى الله عليه وسلم،وما أتى بعد هذا فهو مُندرج فيه،وهو قولهم (وهو الآن على ما عليه كان)،يُريدون في الحُكم. ف(الآن وكان): أمران عائدان علينا،إذ بنا ظهرا وأمثالهما،وقد إنتفت المناسبة. والمَقول عليه (كان الله ولا شيء معه) إنما هو الألوهةلا الذات،وكل حُكم يثبُت في باب العلم الإلهي للذات إنما هو للألوهية،وهي أحكام ونِسَب وإضافات وسُلوب،فالكثرة في النّسب لا في العين. وهنا زَلّت أقدام من شرّك بين من يَقبل التشبيه وبين من لا يقبله عند كلامهم في الصفات،وإعتمدوا في ذلك على الأمور الجامعة التي هي الدليل والحقيقة والعلّة والشّرط ،وحكموا بها غائباً وشاهداً ،فأما شاهداً فقد يُسَلّم،وأما غائباً فغير مُسلّم..]..
والنص الثاني هو إجابة عن سؤال: (أيّة مناسبة بين الحق الواجب الوجود بذاته، وبين الممكن،وإن كان واجباً به،عند من يقول بذلك؟) ،ويُجيب بقوله: [.. لا يَصحّ أن يجتمع الخلق والحق في وجه أبداً من حيث الذات،لكن من حيث أن هذه الذات منعوتة الألوهة فهذا حكم آخرتستقلّ العقول بإدراكه،وكل ما يستقلّ العقل بإدراكه عندنا يُمكن أن يتقدّم العلم به على شهوده. وذات الحق تعالى بائنة عن هذا الحكم، فإن شُهودها يتقدّم على العلم بها،بل (تُشهَد ولا تُعلم)،كما ان الألوهة (تُعلم ولا تُشهد)..وكم من عاقل ممن يدّعي العقل الرصين من العلماء النظّار يقول أنه (حَصل على معرفة الذات من حيث النّظر الفكري)وهو غالط في ذلك،وذلك لأنه مُتردّد بفكره بين السّلب والإثبات.فالإثبات راجع إليه،فإنه ما أثبت للحق الناظر إلا ما هو الناظر عليه من كونه (عالماً قادراً مُريداً) إلى جميع الأسماء. والسّلب راجع إلى العدم والنّفي،لا يكون صفة ذاتية،لأن الصفات الذاتية للموجودات إنما هي ثُبوتية. فما حَصل لهذا المفكّر المُتردّد بين الإثبات والسّلب من العلم بالله شيء.. فما أعطته الحقائق هو أن (الحق موجود بذاته،والعالم موجود به)..فإياك أن تحجُبك أدوات التوصيل عن تحقيق هذه المعاني في نفسك وتحصيلها،فلم يَبق إلا: وجود صرف خالص لا عن عدم،وهو وجود الحق تعالى.ووجود عن عدم عين الموجود نفسه،وهو وجود العالم. ولا بينية بين الوجودين ولاإمتداد إلا التوهّم المقدّر الذي يُحيله العلم ولا يَبقى منه شيئاً. ولكن وجود مطلق ومقيّد،وجود فاعل ووجود مُنفعل..]..اهــ
ولما كان تفصيل وتمييز الحقائق الرقيقة مرتبط بالتجليات التي لها الترقّي والإستمرار،في وجود مقتضياتها العلمية والعينية،فلكل زمان معارفه وتصحيحاته وإستدراكاته..
وقد شاء الحق تعالى،فضلاًوكرماً،أن تظهر تحقيقات عرفانية فيما يخصّ مراتب الوجود وعلاقتها بالحقيقة المحمدية على يد رجال مشربنا..ومن خلال هذه التحقيقات المعرفية والعرفانية،يمكن أن نفهم عبارة الشيخ الأكبر(العالم موجود به)،إلى جانب إشارة (به) إلى مرتبة الألوهية،تُشير أيضاً إلى وساطة النبوة المحمدية المُصطحبة مع الأسماء الإلهية كلها والمتحقّقة بها ظاهراً وباطناً.. فمفهوم الإصطحاب لم يظهر الكلام عنه والتحقيق فيه إلا مع الشيخ سيدي محمد الكتاني رضي الله عنه،وزاده تحقيقاً وتعميقاً ودقّة مشربنا المبارك من خلال مولاي عبد السلام قدس الله سره وأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله..
بالنسبة للمبدأ الثاني الذي يُشير إلى (وساطة النبوة المحمدية بين الحق والخلق)، فيمكننا إجمال القول حوله بما يلي: النبوة المحمدية هي المُمدّة لجميع الموجودات، وهي الواسطة في كل العطاءات،وهي سماء الجميع،وهي عين المعارف التي تُمدّ كل عارف حسب إستعداده وما قُدّر له..هي ماء الوجود الساري في كل الوجود.. الكل إرتشف من نور النبوة،فصارت كل الكائنات تَعرف خالقها وتعبُده وتُسبّح بحمده (وإن من شيء إلا يُسبّح بحمده)..
وللنور المحمدي مراتب وحضرات لا حصر لها،والمراتب الرئيسية هي: (النور،العبدية،النبوة،الرسالة،الأمية)،أي خمسة على عدد حروف (محممد). وتأتي بعدها المراتب الأخرى (العقل الأول،القلم الأعلى، الروح الكلية، الواحدية،الرحمانية..).. فمفهوم (الحضرة) يُشير إلى: الأسماء الإلهية وحُضور النبوة في تجلياتها،فمع كل تجلّ لإسم من الأسماء الإلهية تحضُر النبوة،ولكل مرتبة وجودية إسم إلهي مُدبّر وحضرة محمدية تُراقب سَيرها وِفْقَ مُراد الله وتُضفي الرحمة على التجليات..
ولما كان لكل زمان تجليات تخُصّه،ومراتب وحضرات تخصّع..ففي كل زمان تَظهر مراتب محمدية لم تكن في الزمان الذي قبله،لأن الفَتْق تدريجي،فتُظهر علوماً دنيوية ولدُنية،وفتوحات ربانية،ومقتضيات حسية ومعنوية،في كل المجالات.. فكل الحقائق،ظاهرة وباطنة،مَحتدّها نور النبوة المحمدية،فكانت (منه وبه وله).. وترقّي الحقائق بالنبوة المحمدية هو ظهورها حين يصل إبّان التجلّي الذي سيُخرجها للوجود..فالوجود كان مرتوقاً بنبوته صلى الله عليه وسلم،لأن الحقيقة المحمدية هي الوحدة التي بوركت وتَكثّرت،كما جاء في صلاة المتردي (المُتأحد في عين الكثرة والمُتكثّر في عين الوحدة)..وإصطحب النبوة بالرسالة فَتق الوجود وميّز العابد من المعبود وظهر ما كان مُندرجاً في حقيقته صلى الله عليه وسلم.. القرآن صفة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،فهو مُحيط بخَبايا وخفايا القرآن، الظاهرة والباطنة..وكل شيء في الوجود هو من مقتضى القرآن (ما فرّطنا في الكتاب من شيء)..
فسيدنا محمد هو المُمدّ لكل الحضرات،والكل به منوط..فهو مجموع العالم،من حيث أن النور المحمدي هو الهيولى الكلي التي خلق الله بها العالم بأسره..وهو ما يُشير إليه العارفون ب(حقيقة الحقائق)..وقد جمعت الدكتورة سعاد الحكيم كل التعاريف حول (حقيقة الحقائق)،فقالت: [ (حقيقة الحقائق): هي عبارة عن حقيقة معقولة تجمع في ذاتها جميع ماهيات الحق والخلق المعقولة..فهي بذلك (أصل العالم) ]..وقد أورد الشيخ الأكبر إبن عربي والأمير عبد القادر الجزائري أسماء هذه الحقيقة الكبرى،منها: [ المادة الأولى،وجنس الأجناس، وأصل الجوهر، وفلك الحياة،والحق المخلوق به،والفلك المُحيط المعقول،والهباء،والهيولى الكل،والبرزخ الجامع..]..
قال الله تعالى (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين): الخطاب مُوجّه إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،والدخان المذكور في الآية هو من أشراط الساعة.. فالآية تُعنون عن مُراقبة النبوة المحمدية لسَيْر المُلك الإلهي..فهي متحقّقة بكل الأسماء الإلهية (هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم).. الوجهة الحقيّة أظهرت الحقيقة المحمدية بصورة لاهوتية،فهي نائبة عن الحق في الكون (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله)،وهي الظاهرة في المظاهر (فأينما تولوا فثم وجه الله)..ولما كانت النبوة المحمدية مطلقة،فأنا للمقيّد أن يُحيط به علماً،لهذا قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (ما عرفني حقيقة غير ربي).. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.
الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي