بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى سيدتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلىآله وصحبه أجمعين.
[ التنزيه بالنسبة للجَناب الحقّاني هو: تنزيه الحق عن الشريك والمِثْل والصاحبة والولد،وتنزيهه عن صفات المحدثات وعن الأوصاف البشرية. فالحق تعالى منزه عن كل وصف ونعت وإسم،ولا يَصحّ في حقّه إلا صفات النّفْي،أي ليس كذا وكذا. الصفات الثبوتية تُشَبّهه بالمخلوقات،فلا يَصحّأن يُحكم عليه بحُكم ولا بوصف،لأن كل ذلك يقتضي التّشبيه ويُنافي التّنزيه (ليس كمثله شيء). ]. التنزيه مصدر نَزّه،وهو لغة يدل على بُعد في المكان وغيره.. قال الأزهري: “التنزه: أن يرفع نفسه عن الشيء تكرّماً ورغبة عنه”.والتنزيه،اصطلاحاً،كما يقول الجرجاني،هو عبارة عن تَبعيد الربّ عن أوصاف البشر.. مبدئياً،كما يقول الشيخ الأكبر ابن عربي: [ الكون لا تعلّق له بعلم الذات أصلاً،وإنمامتعلّقه العلم بالمرتبة وهو مسمّى “الله”. فالعلم بالمرتبة هو الدليل المحفوظ الأركان،السادّن على معرفة الإله،وما يَجب أن يكون عليه تعالى من أسماء الأفعال ونُعوت الجلال،وبأيّة حقيقة يَصدُر من هذه الذات المَنعوتة بهذه المرتبة،المجهولة العَيْن والكَيْف؟.. ]. ويكفي دليلاً على ذلك قوله تعالى: (ليس كمثله شيء). فإذا ورد التشبيه في آية أو خبر،فله وجه من وجوه التنزيه.. وكل لفظ تجده عند العرب يحتمل وجوهاً: منها ما يؤدّي إلى التشبيه،ومنها ما يؤدّي إلى التنزيه.وحَمْل المتأوّل ذلك اللفظ على الوجه الذي يؤدّي إلى التشبيه جور منه على ذلك اللفظ،إذ لم يُوفّ حقّه بما يعطيه وضعه في اللسان.. وعند العارفين لا خلاف في أن الذات لا تُعلم،بل يُطلق عليها نعوت تنزيه.. والصفات التي تُطلق عليها إنما هي تدلّ على سُلوب،فمثلاً “الأزل” هو نفي الأولية وما يليق بالحدوث.. فعند أهل الله ليس هناك صفة نفسية ثبوتية للحق،إلا واحدة وهي الوجود أو الوجوب.فلا يجوز أن يكون له إثنتان فصاعداً،إذ لو كان،لكانت ذاتُه مُركّبة منهما أو منهم،والتركيب في حَقّه تعالى مُحال.. من هنا،واستناداً على ما يُشعر بالتشبيه في الآيات والأخبار،ورد عند العارفين مصطلح “تنزيه التنزيه”،وهو ما يشير إليه العارف عبد الكريم الجيلي بقوله: [ التنزيه: عبارة عن انفراد القديم بأوصافه وأسمائه وذاته،كما يستحقه من نفسه لنفسه بطريق الأصالة،لا باعتبار أن المُحدث ماثَله أو شابَهه،فانفرد الحق سبحانه وتعالى عن ذلك. فليس بأيدينا من التنزيه إلا التنزيه المحدث،والتحق به التنزيه القديم. لأن التنزيه المحدث ما بإزائه نسبة من جنسه ليس بإزاء التنزيه القديم نسبة من جنسه،لأن الحق لا يقبل الضد ولا يُعلَم كيف تنزيهه،فلأجل ذا نقول: تنزيهه عن التنزيه.. ].
وقد أومأ الشيخ الأكبر إلى هذا التنزيه عن التنزيه،في تأويله العرفاني لسورة الإخلاص،وهو قوله: [ .. فسمّى هذه السورة: “سورة الإخلاص” أي خَلّص الحقّ للعالَم من التنزيه الذي يُبرهن عليه العقل،وخَلّصه من العالَم بمجموع هذه الصفات في عين واحدة. وهذه الصفات مفرّقة في العالَم،لا يجمعها عين واحد. فإن آدم أكمل صورة ظهرت في العالَم،ومع هذا: (لم يلد) فإنه أحد صمد،(لم يولد) ولم تكن له حوّاء كفؤاً. فخلّصت هذه السورة الحقّ من التشبيه،كما خلّصته من التنزيه.. ].
من هنا قال أهل الله بأن الإطلاق تقييد،فإن التقييد إنما أصله وسَببه: التّمييز،حتى لا تختلط الحقائق. فالإطلاق تقييد،فإنه قد تميّز عن المقيّد وتقيّد بالإطلاق.. وذكر علماء اللغة أن الألفاظ عند العرب،على أربعة أقسام: ألفاظ متباينة،وألفاظ مُتواطئة، وألفاظ مشتركة، وألفاظ مُترادفة. هذه هي الأمهات في عالَم الألفاظ.. والمحقّق العارف،بماتَقتضيه الحضرة الإلهية من التّقديس والتنزيه،ونَفي المُماثلة والتّشبيه،لا يَحجُبه ما نَطقت به الآيات والأخبار في حق الحق تعالى من أدوات التّقييد بالزمان والجهة والمكان.. فيعرف أن الأدوات اللفظية التشبيهية،إذا أطلقت على الحق،فهي مصروفة إلى غير الوجه الذي يُعطيه التشبيه والتمثيل.. بل حتى علماء الكلام تقرّر عندهم أن الحق تعالى لا تدخل عليه تلك الأدوات المقيّدة بالتحديدثوالتشبيه،على حدّ ما نعقله في المحدَثات،ولكن تدخُل عليه بما فيها من معنى “التنزيه والتقديس”.. والمراد عند الطائفتين،العارفين وعلماء الكلام،أن الكلمات التي توهِم التشبيه: “أدوات إلى أفهام المُخاطَبين”.. يقول الشيخ الأكبر: [ وإن أردت أن يَقْرُب فَهْم ذلك عليك،فاعْمَد إلى اللفظة التي توهم التشبيه،وخُذ فائدتها أو روحها أو ما يكون عنها،فاجعله في حق الحق،تَفُزْ بدرجة التنزيه،حين حاز غيرك دَرْك التشبيه. فهكذا فافعل،وطهّر ثوبك..].
يقول الشيخ الأكبر في السفر الثالث والعشرين،في مسألة “العالم اليوم في الثلث الآخر من الليل”،يقول: [ .. النبي صلى الله عليه وسلم لما بَعثه الله،بعثه والشرك قائم والكفر ظاهر. فلم يدعُ القرن الأول،وهو قرن الصحابة،إلا إلى الإيمان خاصة.. وأنزل عليه القرآن الكريم،وجعله يترجم عنه بما تبلغه أفهام عموم ذلك القرن. فصَوّر وشبّه ونَعت بنعوت المحدَثات،وأقام جميع ما قاله في صفة خالقه مقام صورة حسيّة مُسوّاة معدّلة،ثمّ نفخ في هذه الصورة الخطابية روحاً لظهور كمال النشأة،فكان الروح: (ليس كمثله شيء) و(سبحان ربك رب العزة عما يصفون)،وكل آية تسبيح في القرآن فهو روح صورة نشأة الخطاب،فافهم فإنه سرّ عجيب.. ]. وقال أيضاً،عند كلامه عن “سرّ القدر”: [ .. سرّ القدر هو التوقيت عينُه.. وبه تميّز الخالق من المخلوق والمحدَث من القديم. فتميّز المحدَث بنعت ثابت يُعلم ويُشهَد،وما تميّز القديم من المحدَث بنعت ثبوتي يُعلم،بل تميّز بسَلب ما تميّز به المحدَث عنه لا غير. فهو المعلوم ــ سبحانه ــ المجهول،فلا يُعلم إلا هو ولا يُجهل إلا هو. فسبحان من كان العلم به عين الجهل به،وكان الجهل به عين العلم به.. ].
ومن دقائق المعرفة عند أهل الله تفريقهم بين الأسماء والنعوت،فنزول الشرائع في العالَم من الله إنما تنزل بحُكم ما تواطأ عليه أهل ذلك اللسان.. وقد تواطأ الناس على أن هذه الأسماء التي سَمّى الحقّ بها نفسه مما يُثنى بها في المحدَثات إذا قامت بمن تقوم به نعتاً أو صفة،فأثنى الله على نفسه بها ونَبّه على أنها أسماء لا نُعوت،ليفهم السامع الفَهم الفَطن أن ذلك حكم التواطي لا حكم الأمرفي نفسه،كما دلّ دليل الشرع ب(ليس كمثله شيء) من جميع الوجوه،فلا يقبل الأينيّة،فإنقبول الأينيّة مُماثلة..الثناء على الله بصفات الإثبات،التي جعلها الله أسماء،وجعلها الخلق نعوتاً كما هي لهم نعوت. إذا وقع هذا الثناء من العبد صورة،لا يكون روح تلك الصورة تسبيحاً ب(ليس كمثله شيء)،كان جهلاً بما يستحقّه المُثنى عليه،فإنه أدخله تحت الحدّ والحصر،بخلاف كون ذلك أسماء لا نعوتاً.. كما قال الشيخ الأكبر ابن عربي،وأتبع هذا التحقيق بقوله: [ فيا وليّ،لا يُفارق التسبيح ثناؤك على الله جملة واحدة.. ].
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد نبي الله،وعلى الزهراء بضعة رسول الله.
الفقير الى عفو ربه، ذ موعشي رشيد.
شرح قيم كما هي عادتك ،سيدي رشيد،تحيط بالموضوع من كل جوانبه العرفانية،و تزينه بأقوال العارفين من أهل الله. نعتز بصحبتك
جزاك الله بكل خير
من اراد الشروحات السابقة على شكل ب د ف فليتصل فمجموعة التصوف السني العرفاني على تلغرام
091 092 57 6 212