شرح القاعدة الثالثة عشر
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه.
نستمر في شرح القواعد المباركة من (خريطة السلوك العرفاني) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله تعالى،ونقف في هذه الحلقة مع القاعدة التي تقول: [ جوهر العرفان الصوفي هو: (معرفة النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن،ومعرفة القرآن بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) ]. (العرفان الصوفي) له بُعدين: فهو من جهة (رؤية معرفية)، ومن جهة أخرى (تجربة سلوكية). هذا بشكل عام هو المتفق عليه في تعريف (العرفان) من قبل الباحثين والمُنتمين للتصوف والمعرفة الإشراقية..ومن خلال هذين البُعدين تتمّ الإشارة إلى رأي من قام بالتفريق بين التصوف والعرفان،باعتبار أن التصوف مرحلة من مراحل العرفان: فالرؤية المعرفية تُحيلنا على العرفان،والسلوك العملي يُشير إلى التصوف..
وقد جمع بين البُعدين الشيخ يحيى يثربي،مُعرفاً للعرفان بقوله: [ العرفان هو عبارة عن العلم بالحق سبحانه من حيث أسمائه وصفاته ومظاهره،والعلم بأحوال المبدأ والمعاد وحقائق العالم وكيفية رجوعها إلى الحقيقة الواحدة التي هي الذات الأحدية للحق تعالى،ومعرفة طريق السلوك والمجاهدة لتحرير النفس من علائقها وقيود جزئيّتها،ولإتصالها بمبدئها وإتصافها بنعت الإطلاق والكلية].
أول من تكلّم عن المعرفة من الصوفية هو معروف الكرخي المُتوفى سنة (200هـ)..والمعرفة عند العارفين متعلّقة ب(مرتبة الألوهية)،يقول الشيخ الأكبر: [ ..فاعلم أن الكون لا تعلّق له بعلم الذات أصلاً (أي: الذات الإلهية)،وإنما مُتعلّقه العلم بالمرتبة (أي مرتبة الألوهية)،وهو مسمى الله،فهو الدليل المحفوظ الأركان السّادن على معرفة الإله،وما يجب أن يكون عليه سبحانه من أسماء الأفعال ونُعوت الجلال..]،ويذكر الشيخ الأكبر بأن صفة (عارف بالله) إنما يُقصد بها: [ عارف بما إقتضته مرتبة الألوهية،لا أنه عارف بالذات الإلهية.بل الجاهل بالذات هو العارف،ومنإدّعى المعرفة بالذات فهو الجهل بعينه]..وقول إبن عربي [الجاهل بالذات هو العارف] هو ما عبّر عنه سيدنا أبو بكر الصديق في قولته المشهورة: (العجز عن الإدراك إدراك)..
من هنا كانت المعرفة بالله عز وجل عند العارفين تؤدّي إلى الحيرة والتحيّر.. وبالتالي،كما قال أستاذنا حفظه الله في كتابه (المواقف الأحمدية)،ف[المعرفة الحقيقية هي معرفة القرآن بالنبوة،ومعرفة النبوة بالقرآن]،وكذلك معرفة (التجليات الإلهية)،والنبوة كانت قبل خلق آدم،وهي والفيضة القرآنية من محتد الصفة الأحدية،وهي الحجاب الأعظم والبرزخ الأتمّ القائم بين يدي الله تعالى،وما سواه من وراء حجابيته المحمدية الأحمدية،فما سمع العارفون إلا من حقيقته صلى الله عليه وسلم،ولا شيء إلا وهو به مَنوط،لأنه الخليفة الكلي والواسطة العظمى بين الحق والخلق،فكان ظهوره بصورة من إستخلفه لتَصحّ له الخلافة،فظهر بصورة لاهوتية نورانية صرفة،مُتحلياً بجميع الأسماء الإلهية..فهو صلى الله عليه وسلم باب الله،وملجأ القاصدين،ومنتهى رغبات الواصلين،ودفتارالمثاني،وقهرمان العروج بدعاء السائلين..فالمعرفة الصحيحة والحقيقية هي معرفة النبوة المحمدية..
قاعدتنا المباركة تقول (جوهر العرفان الصوفي)،وهو يُشير إلى أن هناك جوهر وسطح،والمقصود من هذا الجوهر حسب ما جاء في التعريف يُحيلنا على النعمة الكبرى التي جاء بها ولها مشربنا،حيث قدّم لنا تحقيقات معرفية في العرفان مُوافقة للتجليات الإلهية المتجدّدة والمستمرة،غيرمسبوقة،ما يحملنا على إعتبار مشرب المعهد الفاطمي المحمدي بمثابة مُنعطف في تاريخ التصوف الإسلامي معرفة وتربية،وحكمنا هذا ليس فيه أي مبالغة،بل نحن مقصرين ودون المقام العالي للمعارف الحديثة عهد بربها لهذا المشرب المبارك..
سيجد القارئ في هذا الشرح بعض الحقائق قد تمّت الإشارة إليها في الشروح السابقة،وبالتكرار تستقرّ الحقائق المعرفية،وفقنا الله تعالى إلى معرفة قيمة هذه الحقائق وترسيخها في ذاكرتنا وقلوبنا،وجزى الله عنا أستاذنا ومَددنا خير الجزاء..
قال الله تعالى: (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله): (نور وكتاب)،والواو تقتضي المغايرة،ف (نور) هو (نور النبوة)،و(كتاب مبين) هو (القرآن)،وهما صفتان لحقيقة واحدة،لهذا قال تعالى (يهدي به) ولم يقل (يهدي بهما)،أي أن الصفة عين الموصوف بها..وذُكر النور قبل ذكر الكتاب إشارة إلى أن (ظهور نور النبوة كان قبل نزول القرآن)،فحقيقة النبوة كانت قبل القبل، والقرآن ظهر ببعثته صلى الله عليه وسلم..
قال الله تعالى: (وما علّمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) أي أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم (ذكر وقرآن مبين)..وكذلك قال تعالى: (وما أرسلناك إلا مُبشّراً ونذيراً وقرآناً)،وقال تعالى: (قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات)..وقد نال سيدنا محمد هذه المرتبة العظمى لأنه لَبس حُلل الأسماء الإلهية..قال الشيخ عبد الكريم الجيلي: [ إعلم أن كلام الله صفته،لأن الكلام صفة المتكلم.قالت أمنا عائشة (كان خُلقه القرآن)،فما أعرفها به، أنظُر كيف جعلت صفة الله تعالى خُلقاً لمحمد صلى الله عليه وسلم،لإطّلاعها منه على حقيقة ذلك.قال تعالى (إنه لقول رسول كريم) وهو على الحقيقة قول الله،فانظُر إلى هذا التحقّق بصفات الله،حيث أقامه مقامه في صفاته وأسمائه، ومقام الخليفة مقام المُستخلف]..فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو سدرة منتهى المخلوقات أجمعين ونهاية سير العارفين..
ونور النبوة (الحقيقة المحمدية) والفيضة القرآنية (الحقيقة الأحمدية) من محتدّ (الصفة الأحدية)..وفي بساط الألوهية تمّ الإصطحاب بين المحمدية والأحمدية،وفيه إصطحبت المحمدية بالإسم الجامع (الله) فتحلّت بحُلل الأسماء الإلهية،وتمّت الترجمة عن الله.
(القرآن) كلام الله،والكلام صفة المتكلّم،والصفة مُلازمة للموصوف،وحروف اللغة مُحدثة لا تتّصف بالأقدمية.. والقرآن في أزليته ليس بحروف،وكلامه تعالى لا يُشبه كلامنا..ولما لم تكن هناك مجانسة بين كلام الله تعالى وكلام المخلوقين،كان من اللازم وجود (واسطة وتُرجمان) له،ولا يستطيع ترجمته إلا من كان والقرآن من محتدّ واحد،أي من الصفة الأحدية،وهذا ما تحقّق في (نور النبوة)..قال تعالى (إنا أنزلناه قرآناً عربياً) (إنا جعلناه قرآناً عربياً)،فلم يكن عربياً،إنما جُعل وأنزل عربياً،وهذا هو سرّ حذف ألف كلمة (قُرآناً) في هاتين الآيتين،وثبتت في القرآن كله..
الترجمان يقوم بدور(البرزخ) بين لغة ولغة،وهذا شأن مولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،فهو برزخ بين (الحَقيّة) و(الخَلقية)،فترجم القرآن من وجهة حقيّة نورانية إلهية،إلى وجهة خلقية بشرية (فإنما يَسّرناه بلسانك)..ولولا سَريان الحقيقة المحمدية في الحروف لما إستطعنا حمل معاني القرآن،إذ كيف للمُحدَث أن يحمل القديم..
عندما حَقّق العارفون بأن (الحروف) فرع من مراتب الحقيقة المحمدية،قالوا (القرآن منه إليه،به عليه،من أحمديته على محمديته)..وهذا ما يُشير إليه صاحب (صلاة جوهرة الكمال) الشيخ أحمد التيجاني عندما قال (إفاضَتك منك إليك): (إليك) تعود على المقتضيات القرآنية والتجليات الإلهية،ولا نغيّب هنا إصطحاب الحقيقة المحمدية مع الإسم الجامع ومع الفيضة القرآنية،لكي لا تختلط علينا الأمور وتلتبس بذلك الفهوم..وهو كذلك ما أشار إليه الشيخ محمد الكتاني (الوحي من لَوح أحمديته يُتلى،وعلى محمديته يُقرأ)..فكانت الحقيقة المحمدية هي المُترجم للقرآن والمُلطّف للتجليات،فوساطة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ضرورية لإستمرار الكون وحصول الفهم..
لما سُئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن خُلق سيدنا ومولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،قالت (كان خُلُقه القرآن)..يقول الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، مُعلّقاً على الحديث ومُظهراً أن الصفة عين الموصوف بها: [فكان القرآن خُلقه، فمن أراد أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ممّن لم يُدركه من أمته،فلينظُر إلى القرآن،فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،فكأن القرآن أنشأ صورة جسدية يُقال لها سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. والقرآن كلام الله،وهوصفته،فكان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صفة الحق تعالى بجملته..فيكون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما فُقدَ من دار الدنيا،لأنه صورة القرآن الكريم..].
قال الله تعالى: (هذا ذكر من معي وذكر من قبلي) أي: هذا القرآن ذكر لهذه الأمة التي بُعث إليها النبي صلى الله عليه وسلم،بهيكله الشريف المولود من أم وأب.. وكذلك هذا القرآن هو ذكر لمن قبله من الأنبياء والرسل،فهو دستور كلي للكون أوله وآخره،دستور الكون الذي يَسير عليه الخليفة،والنبوة هي الخليفة على الكون الإلهي..ولذلك كانت شرائع الأنبياء والرسل السابقين جُزئية ومقيّدة ومُندرجة في أحكام رسالته الأزلية صلى الله عليه وسلم،وهي التي سمّاها العارفون (الأحمدية).. يقول الشيخ الأكبر: [..فكانت الأنبياء في العالم نُوّابه صلى الله عليه وسلم..فروحانيته صلى الله عليه وسلم موجودة وروحانية كل نبي ورسول،فكان الإمداد يأتي إليهم من تلك الروح الطاهرة،بما يظهرون به من الشرائع والعلوم.. وعَيّن في كل زمان خُلفاء إلى أن وصل زمان نشأة الجسم الطاهر محمد صلى الله عليه وسلم،فظهر مثل الشمس الباهرة،فإندرج كل نور في نوره الساطع،وغاب كل حكم في حكمه،وإنقادت جميع الشرائع إليه،وظهرت سيادته التي كانت باطنة،فهو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم]..وهو ما أشارت إليه كذلك الآية الكريمة: (وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين)،فالقرآن هو (المشكاة) التي كان يستمد منها المُقتسمون الأولون،أخذ كل نبي ورسول (قسمة) من القرآن،وجعلوه (عضين) أي مُجزّءاً،لكل واحد منهم (شريعة ومنهاجاً)..
جاء في الأثر: (جميع ما في الكتب السماوية في القرآن، وجميع ما في القرآن في الفاتحة،وجميع ما في الفاتحة في البسملة،وجميع ما في باء البسملة في النقطة التي تحتها)،وهو ما عبّر عنه أستاذنا حفظه الله في عبارته العرفانية الجامعة (الإحاطة البائيّة بالسور القرآنية)..
كل سور القرآن تبدأ بحرف (الباء / ب)،ولها من الأعداد (2) كسراً،فهي تُشير إلى (أول العابدين)،وفيه إشارة إلى أن (بداية الظهور) هو (الحقيقة المحمدية)..أما (بسطاً وكسراً) فهي إشارة إلى (الصفة الأحدية) للحق تعالى [ أحد = (13) ] وإلى (أول مرتبة من مراتب الوجود)،وهذا يعني أن (سرّ الأحدية يَكمُن في الباء)..ولا يُعرف في كلام العرب (باء) تَقوم مَقام (الألف) إلا باء (البسملة)، ونيابتُها عن الألف تُشير إلى (نيابة الحقيقة المحمدية عن الله) في مُلكه..(النقطة) التي تحت (الباء) تُشير إلى (العبودية)..فالباء (وجهة حَقيّة)،والنقطة (وجهة خَلقيّة).الباء (ربوبية)،والنقطة (عبودية)..
عندما خاطب الحق تعالى الأرواح بقوله (ألست بربّكم) كان بداية الكلام (الألف)،وأجابوا (بَلى) وبدايتها (الباء)..فليس هناك إلا (الصفة) وهو (توحيد المقرّبين) الذين لا يَرون في الكون إلا [ محمد أحمد ].. فأسرار القرآن كلها إنشقّت منه صلى الله عليه وسلم،قال تعالى (ما فرطنا في الكتاب من شيء)،فلا يوجد شيء في عالم المُلك أو الملكوت إلا وذكره (اللسان المحمدي)،مستوراً وراء الحِكَم القرآنية ووَراء الرّسم القرآني..وعندما تكلم الشيخ محمد الكتاني عن صفة (أحمد)،قال: [..ويحتمل أنه: (أحمد) من حَمِدَه الحق سبحانه،ويكفي من أحمديّته تعالى له: القرآن مدح له إما بالتّصريح أو التلويح أو الكنايات أو الإشارات أو التعريضات أو الإدماجات..]..
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آل سيدنا ومولانا محمد سيد الانبياء والمرسلين،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى سيدتنا خديجة الكبرى ام المومنين ،وصحبه اجمعين.
الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي