شرح القاعدات 20_21

بسم الله الرحمن الرحيم. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد،وعلى مولاتنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين،وعلى خديجة الكبرى أم المؤمنين،وعلىآله وصحبه أجمعين.

نواصل شرحنا لقواعد (خريطة السلوك العرفاني) لأستاذنا سيدي محمد بن المبارك حفظه الله،وسنتناول في درسنا اليوم قاعدتين مترابطتين في المعنى العرفاني،وهما القاعدتين (20 و21):

[ إعلم أن (الألوهية) مرتبة للذات لا يستحقها إلا الله،والمألوه يَطلبها،وهي تَطلُبه. والذات غنية عن كل شيء. وكل وَصف لا يَصل إلا إلى المرتبة،لا إلى الذات. فنَزّه الذات حتى عن التّنزيه ].

[ الألوهية جمعت بين الأضداد،فمن أسمائه تعالى: الضار والنافع والمُعطي والمانع..وهذا يقتضي أن يكون في العالَم ذو بَلاء وذو عافية،وذو غِنى وذو فَقر..لأن كل الأسماء لها حُكم ولها أثر،وتعطيل دائرة إسم مُحال. فما تَمّ من تَقبل حضراتها الأضداد إلا الألوهية. فلا تعترض على شيء،فلا يقع في مُلك الله ما لا يُريده الله ]..  مرّبنا في الشروحات السابقة التفريق بين  الذات الإلهية  ومرتبة الألوهية ،وذكرنا بعضاً مما جادت به قرائح العارفين وأنفاس الكُمّل منهم،من التمييز بين المفهومين..وسنُجمل في خلاصة ما قيل في الفرق بين المفهومين..فنقول وبالله التوفيق.   

               أجمع العارفون بأن الذات الإلهية لها الغنى المطلق عن العالمين..وعندما يُطلق العارفون مفهوم الذات فهم يقصدون معان مختلفة،منها أربعة معان أساسية،وهي: مرتبة الأحدية،ومرتبة الألوهية،والقرآن،والحقيقة المحمدية ..

وقد أجمل شرح هذه المعاني المختلفة للذات،أستاذنا حفظه الله،عندما يقول: [الذات هي المُسماة في إصطلاح ساداتنا ب الأحدية . فالأحدية ذات لأنها  أول مرتبة وجودية ،ومن مُقتضاها (الفيضة القرءانية،ونور النبوة . و الألوهية ذات لأن تحت حُكْمها جميع الأسماء الإلهية والتى بها التّجلّي. والقرآن ذات لأن الكون كله يرجع إليه. والحقيقة المحمدية ذات  لأنها الجامعة لجميع الحقائق،وهي صاحبة الرحمة في الكون الإلهي، والتجليات تحتاج إليها في الظهور. والذات الإلهية لا يَصْلُح في حَقّها سوى  صفات السّلْب ،أما الأوصاف الثّبوتية  فتُشَبّهها بالمخلوقات. و الصفات الثّبوتية تتعلّق بمرتبة الألوهية .. ]..    يقول الشيخ الأكبر إبن عربي: [ العلم بذات الحق مُحال حُصوله لغير الله، والإنسان المُدْرك لا يعرف إلا ما يُشابهه ويُشاكله،والباري تعالى لا يُشبه شيئاً ولاهو في شيء مثله،فلا يُعرف أبداً..فاعلم أن الكون لا تعلّق له بعلم الذات أصلاً،وإنمامُتعلّقه العلم بالمرتبة وهو مسمى (الله). الذات مجهولة العين والكيف،وعندنا لا خلاف في أنها لا تُعلم،بل يُطلق عليها نُعوت تنزيه.. فالذات الإلهية في أحديتها لا وَصْف لهاولا رَسْم، فهي في عَماء، حيث كان الله قبل أن يخلق الخلق،كما ورد في الحديث.بمعنى أنه في الكلام عن الصفات يجب الإشارة إلى أن الذات الإلهية لم تكن موصوفة ولا مُسمّاة،فهي في أزل لا أول له. بينما وصف الذات بأسماء وصفات، ولو أنها قديمة وأزلية،إلا أن ثنائية الصفة والموصوف من جهة يوجب لها بداية،وتعلّق الصفة  وتحقّقها في الوجود من جهة أخرى يوجب لها بداية كذلك. ] هذا التعلّق هو الذي عبّر عنه إبن عربي بالإثْنَينيّة عندما قال:[ إذ لا تعقل  النّسْبة إلا باعتبار الإثنينية ].

فالإسم الإلهي الجامع الله:هو الجامع للنّسب،أي الأسماء والصفات،في مقابل الذات المُعراة عن كل نسبة. فلا يُعرف الله إلا بالعالَم،أي لا يُعرَف الإله إلا بالمألوه.

يقول إبن عربي: [ ثمّ إن الذات لو تَعرّت عن هذه النّسب لم تكُن إلهاً. وهذه النّسب أحدثَتها أعيانُنا،فنحن جعلناه بمألوهيتنا إلهاً،فلا يُعرَف حتى نَعرف..فبعض الحكماء إدّعوا أن الله يُعرف من غير نَظر في العالَم،وهذا غلط. نعم تُعرف ذات قديمة أزلية،لا يُعرف أنها إله حتى يُعرف المألوه، فهو الدليل عليه..ثمّ يُعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته،وأن العالَم ليس إلا تجلّيه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه،وأنه يتنوّع ويتصوّر بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها..]..                                                            ويقول إبن عربي في كتابه (فصوص الحكم): [ فالمُؤثّر بكل وَجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو الله،والمؤثَّر فيه بكل وجه وعلى كل حال وفي كل حضرة هو (العالَم)].                                                وذكر أيضاً في كتابه (الفتوحات المكية) نصاً موضحاً لحقيقة الألوهية ، يقول فيه:[ إن الحق بين الخلق وبين ذاته الموصوفة بالغنى عن العالمين. فالألوهة في الجبروت البرزخي،فتُقابل الخلق بذاتها وتُقابل الذات بذاتها. ولهذا لها التجلّي في الصور الكثيرة والتحوّل فيها والتبدّل..فلا يَعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ وهو الألوهة،ولا تحكم الذات في المخلوق بالخلق إلا بهذا البرزخ وهو الألوهة. وتحقّقناها فما وجدناها سوى ما ندعو به من (الأسماء الحسنى)..]..      من خلال التحقيقات العرفانية لمشربنا المبارك،يمكننا مقاربة المفاهيم الأربعة الأساسة لمفهوم الذات في إصطلاح العارفين،وهم: (الأحدية، والألوهية،والقرآن،والحقيقة المحمدية)..

بالنسبة لمرتبة الأحدية فقد أجمع العارفون بأنه لا تجلّ بها،ولا تَعرف أحداً،كما لا يعرفها أحد..فهي محتدّ  نور النبوة،والفيضة القرآنية  لا غير.. أما الألوهية فهي المرتبة الجامعة لحقائق الأسماء الإلهية كلها، والإسم الجامع الله هو الإسم الكامل المُحيط الجامع لجميع الأسماء، المتقابلة وغير المتقابلة. فما ثَمّ من يَقبل الأضداد في وَصفه إلا الله.. يقول إبن عربي: [ الإسم الله هو عين الذات،لكن من حيث المرتبة التي هي  الألوهية ]وبساط الألوهية هو بساط الإصطحاب بين نور النبوة والفيضة القرآنية.. والقرآن هو كلام الله،والدستور الذي يسير عليه الكون(ما فرطنا في الكتاب من شيء).. والحقيقة المحمدية هي الجامعة لجميع الحقائق، إصطحبت مع الإسم الجامع  الله ،وتحلّت بحُلل الأسماء الإلهية كلها “إن الذين يُبايعونك إنما يُبايعون الله”..والقرآن صفتها،فتحقّقت بكل حقائقه ومعارفه وخفاياه،الظاهرة والباطنة. فالإصطحاب ألبس النبوة المحمدية حُلَل الأسماء والصفات الإلهية،وحُلّة القرآن..وكذلك هي برزخ رحموتي بين التجليات الإلهية والمخلوقات،ليعُمّ اللطف والرحمة “سبقت رحمتي غضبي”،أي سبقت الرحمة النبوية ظهور التجليات الجلالية لتسبق بذلك رحمة الله غضبه..   فالبرزخ الحقيقي بين الحق والخلق هوالحقيقة المحمدية،لأن الكون لا قدرة له على التلقّي المباشر من الحضرة الإلهية..ولذلك أوكل الحق تعالى لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلافة الكلية،فظهر الخليفة بصورة من إستخلفه (من رآني فقد رأى الحق)،ولا يقوم مقام الحق إلا الحق..   

فالإصطحاب ،كما حققه شيخنا رحمه الله تعالى هوبداية ونهاية الخلق. وهذا ما يُشير إليه المعنى العرفاني لحروف الإسم الجامع (الله)أو كهوف الذات:ف(الألف) إشارة إلى الأحدية،وهي حضرة سحق ومحق.. و(اللام الأولى) إشارة إلى  الأحمدية ..و اللام الثانية إشارة إلى المحمدية..و(الهاء) تُشير إلى سدرة منتهى المقامات..وما بعد سدرة المنتهى لا معرفة للمخلوق به..وخلاصة القول   أن الألوهية مرتبة للذات  يطلبها المألوه و تَطلُبه. والذات غنية عن كل شيء.حتى عن الاسماء والصفات. و الألوهية جمعت بين الأضداد،فمن أسمائه تعالى: الضار والنافع والمُعطي والمانع..وهذا يقتضي أن جميع الدوائر الكونية تشتغل لأن كل الأسماء لها حُكم ولها أثر،وتعطيل دائرة إسم مُحال. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم .فلا تعترض على شيء،فلا يقع في مُلك الله ما لا يُريده الله.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد. 

   ذ رشيد موعشي

حصل المقال على : 668 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية

    الاشتراك في النشرة البريدية

    احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

    اترك تعليقا

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد