- شرح الباب الحادي عشر وثلاثمائة
الفتوحات المكية الجزء 3 ص41،الباب الحادي عشر وثلاثمائة: في معرفة منزل النواشئ الاختصاصية الغيبيّة من الحضرة المحمدية: مقام العبودية الخالصة: اعلم أنه ليلة تقييدي هذا الباب رأيت رؤيا وسُررت بها،واستيقظت وأنا أنشد بيتاً كُنت قد عملته قبل هذا،في نفسي،وهو من باب الفخر،وهو:
في كلّ عصر واحد يَسمو بهِ=وأنا لباقي العصر ذاك الواحد …
وذلك أنّي ما أعرف اليوم،في علمي،من تحقق بمقام العبودية أكثر منّي. وإن كان ثَمّ فهو مثلي،فإني بلغت من العبودية غايَتها. فأنا العبد المحض الخالص،لا أعرف للربوبية طعماً.واعلم أنه في كل زمان لابد من واحد فيه في كل مرتبة مُتبرّزة،حتى في أصحاب الصنائع.والعبودية من جملة المراتب،والله قد مَنحها هِبَة ،أنْعَم بها عليّ،لم أنَلها بعمل،بل اختصاص إلهيّ. وأرجو من الله أن يُمسكها علينا،ولا يحول بيننا وبينها إلى أن نلقاه.انتهى…
مفتاح هذا الباب هو هذا البيت الشعري الذي قاله من باب الفخر،والفخر يتبع الاعتزاز بالجاه،أو بالنسب،أو بالعلم أوافتخار تكبر،وبما ان الفخر كان بعد تقييد الباب 311 فلا شك أنه افتخار بالعلم بالله،وبمقام العبودية الخالصة لله التي لاتشوبها ربوبية.اما النواشئ مفردها ناشئ هو الفتى الذي تجاوز حد الصغر وأصبح شاب،وكنى به عن بداية كل مقام وحال،وهذه التسمية تعني أن ابن عربي حط رحاله في هذا المقام .
يقول:وأنا لباقي العصر ذاك الواحد ؟ أهو كلام على لسان الحقيقة المحمدية،أم هي ختمية كبرى على كل الاولياء؟وعلى كل الازمنة والعصور؟هذا مستحيل، كما يستحيل على غيره، فلكل زمان ختم لأن التجليات الإلهية في ترق ،فختم زماننا هذا ،لاشك أنه يفوق السابقين في العلوم،وفي المعرفة بمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم،بكثير وفي القرب. و” فوق كل ذي علم عليم”…وما كان عطاء ربك محظورا “. فالامر الإلهي لايقبل التحجير.
يقول رضي الله عنه جوابا عن السؤال الثالث عشر من أسئلة الحكيم الترمذي “…. فإن قلت ومن الذي يستحق خاتم الأولياء كما يستحق محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبوة. فلنقل في الجواب: الختم ختمان ختم يختم الله به الولاية المحمدية،فأما ختم الولاية على الأطلاق فهو عيسى عليه السلام …وأما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب من أكرمها أصلاً،ويداً وهو في زماننا اليوم موجود عُرِّفت به سنة خمس وتسعين وخمسمائة، ورأيت العلامة التي له قد أخفاها الحق فيه عن عيون عباده،وكشفها لي بمدينة فاس حتى رأيت خاتم الولاية منه وهو خاتم النبوة المطلقة لايعلمها كثير من الناس. …”
و في الباب 24 من ف ح يقول:“….فكان من شرف النبي أَنَّ خَتْمَ الأولياء في أمّته ،نبي رسول مكرم هو عيسى عليه السلام،وهوأفضل هذه الأمة المحمدية وقد نبه عليه الترمذي الحكيم في كتاب ختم الأولياء …. وكلامنا في اللواء الخاص بأمّته وللولاية المحمدية المخصوصة بهذا الشرع المنزل على محمد ختم خاص هو في الرتبة دون عيسى عليه السلام ،لكونه رسولاً وقد ولد في زماننا ورأيته أيضاً واجتمعت به ورأيت العلامة الختمية التي فيه فلا ولي بعده إلا وهو راجع إليه كما أنه لا نبيّ بعد محمد إلا وهو راجع إليه … “انتهى.
فكما ترى فهو ينسب الختمية المطلقة إلى عيسى عليه السلام ،وينسب الختمية المحمدية إلى شخص رآه بمدينة فاس وهونفس الشخص الذي ذكره في الباب 24 لأنه لايمكن أن يكون في زمان واحد ختمان ،وينسبها فيما بعد إلى نفسه،وابن عربي جاء بعد هذا الختم فهو نفسه راجع إليه (حسب منطقه) ” فلا ولي بعده إلا وهو راجع إليه “.
يقول في ج1 ص 319 …كنت بمكة سنة تسع وتسعين وخمسمائة أرى فيما يرى النائم الكعبة مبنية بلبن فضة وذهب، لبنة فضة ولبنة ذهب،وقد كملت بالنباء وما بقي فيها شيء و أنا أنظر إليها وإلى حسنها فألتفت إلى الوجه الذي بين الركن اليماني والشامي هو إلى الركن الشامي أقرب فوجدت موضع لبنتين لبنة فضة ولبنة ذهب ينقص من الحائط في الصفين، في الصف الأعلى ينقص لبنة ذهب، وفي الصف الذي يليه ينقص لبنة فضة، فرأيت نفسي قد انطبعت في موضع تلك اللبنتين فكنت أنا عين تينك اللبنتين وكمل الحائط ولم يبق في الكعبة شيء ينقص وأنا واقف أنظر وأعلم أني واقف وأعلم أني عين تينك اللبنتين لا أشك في ذلك وأنهما عين ذاتي .واستيقظت فشكرت الله تعالى وقلت متأوّلا أني في الإتباع في صنفي كرسول الله في الأنبياء عليهم السلام وعسى أن أكون ممن ختم الله الولاية بي وما ذلك على الله بعزيز …”.انتهى.
تساؤل : رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت للبنة واحدة،ورؤيا ابن عربي للبنتين ذهب وفضة كل واحدة في صف ؟.
يقول ابن عربي ف ح ج3 صفحة 323 “…وإنما علقت نفسي مع الله أن يستعملني فيما يرضيه، ولايستعملني فيما يباعدني عنه،وإن يخصني بمقام لايكون لمتبع اعلى منه،ولو أشركني فيه جميع من في العالم لم أتأثر لذلك،فإني عبد محض لا أطلب التفوق على عباده …..”انتهى.
قلت: الشيخ الاكبر يحكي عن وصوله الى اعلا مقامات الاحسان،إلى المشاهدة.فواخى بين الإيمان والعيان ،وهذا عزيز الوجود في الإتباع كما يقول،وطلب من الله أن يخصه بمقام لايكون أعلا منه.والظاهر ان الله تعالى استجاب لدعاء ابن عربي،وأراه مراتب الاولياء ومكانه ومكانته بينهم .
المخمس العرشي هو جدول من خمسة وعشرين خانة،وبه تتميز مقامات الأولياء مند زمن الصحابة والتابعين الى أن يرث الله الأرض ومن عليها . فابن عربي ما زال يتصدر خانة العرش وسيبقى فيها(حسب نظري والله اعلم إلى أن تقوم الساعة)وهو الظاهر فيها يعني أنه لو كان ولي في مقام ابن عربي ،وأعطي مرتبة خانة العرش يبقى محجوبا بابن عربي: “…..فينال مثل هذا فيكون معي،وفي درجتي فإنه لا ضيق ولا حرج …..”
والذي كان في هذه الخانة قبله هو أبو يزيد البسطامي.وهذا المخمس سمي بالخانة التي يقيم بها ابن عربي وباقي الخانات 24 للعرش هي :. الكرسي. القلم … الاقطاب …حمالة العرش. ). أما الخانة الوسطى فهي للغوث الحي في ذلك الزمان واذا مات،حل محله غوث غيره،وانتقل هو الى خانة الحمالة او الكرسي او …حسب معرفته برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي رؤياه رآى ابن عربي لبنتان :فلبنة الذهب تشير الى مقامه في المخمس العرشي ولبنة الفضة تشير الى مقام الختمية،الذي أقيم فيه الى نهاية حياته ؟
وهذا المخمس له تصاريف عند علماء السيمياء وعلماء خواص الاسماء والحروف،وقد ذكره غير واحد من العارفين ،والى هذا يشير في الرؤيا وفي الكشف وعبرعن ذلك في البيت الوارد آنفا،وابن عربي الذي جمع بين التصوف وعلم السيمياء أورد البيت الشعري في الباب 311 الذي تطرق فيه الى الكلام على علم السمياء.
وابن عربي كان على معرفة بأسماء جميع الاقطاب الذين سيبلغون مقام الغوثية ،ويقيمون طيلة حياتهم بالخانة الوسطى ،وأشار إلى هذا في الباب 555 “… اعلم وفقنا الله وإياك أن الكتب الموضوعة لا تبرح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ،وفي كل زمان لا بد من وقوف أهل ذلك الزمان عليها ،ولابد في كل زمان من وجود قطب عليه يكون مدار ذلك الزمان، فإذا سميناه وعيناه ،قد يكون أهل زمانه يعرفونه بالاسم والعين،ولا يعرفون رتبته فإن الولاية أخفاها الله في خلقه وربما لا يكون عندهم في نفوسهم ذلك القطب،بتلك المنزلة التي هو عليها في نفس الأمر فإذا سمعوا في كتابي هذا بذكره،أداهم إلى الوقوع فيه فينزع الله نور الإيمان من قلوبهم،وأكون أنا السبب في مقت الله إياهم، فتركت ذلك شفقة مني على أمة محمد صلى الله عليه وسلم….. “.
وخلاصة القول : الختمية أعلا مقام في درجات الولاية ،ولكل زمن ختمه ،حتى نزول سيدنا عيسى عليه السلام فيختم الله به الولاية المحمدية.وهناك ختم أصغر،وختم أكبر يتفاوتون بينهما في العلوم التي اعطيتهما من الحضرة المحمدية.أما الاقطاب فكما ذكر الشيخ الدباغ يبلغ عددهم في كل زمان سبعة أقطاب،ولكن الغوث واحد،وهم تحت تصرفه.
يقول :” وإن يخصني بمقام لا يكون لمتبع أعلى منه ولو أشركني فيه جميع من في العالم لم أتأثر لذلك” والاختصاص الالهي لايقبل التحجير “. فابن عربي خَتم زمانه،وكل من أدرك مقامه يمكن ان يكون معه ولكن محجوبا به والاختصاص الإلهي لايقبل التحجير..
فبعض العارفين نسب إليهم اتباعهم الختمية على كل الأزمنة كالطريقة التجانية،وقد انكر هذا العارف بالله السكيرج(في جوابه عن اسئلة الحكيم الترمذي)فهذا تحجير لعطاء الله،وحصر للنفحات الربانية،وتقييد للتجليات الإلهية،ولا يعقل ان الشيخ التجاني قال هذا في حياته،فهو فعلا ختم ،ولايعقل لمن وصل هذا المقام الا يعرف أنه موجة في بحر الحقيقة الاحمدية،وأن التجليات الإلهية في ترق دائم، فلا تاتي إلا بمن هو أكبر وأعرف ممن سبقه ،وقد أشارت الى هذا صلاة جوهرة الكمال التجانية ب” صراطك التام الاسقم” .
ولنعد إلى البيت الشعري فهو لايمكن أن يكون على لسان الحقيقة المحمدية، لأن الشطر الاول من البيت :لكل عصر واحد يسمو به ينفي ذلك.هذا الشطر يقصد به ابن عربي غوث ذلك العصر،يسمو به عصره، لأن تغزلاته في الحقيقة المحمدية،وكشفه النقاب على خبايا الأحمدية يتبعها التقدم العلمي والتكنولوجي و … لهذا قال “يسمو به عصره ” فمند وفاة ابن عربي10 أغواث او أكثر تعاقبوا على الخانة الوسطى،وانتقلوا منها الى غيرها بعد موتهم. أما الشطر الثاني فهو يشيربه الى مقامه في الترتيب العام لدرجات الاولياء:أي خانة العرش. ” هم درجات عند ربهم”(ال عمران)”..”هم“أي هم عين تلك الدرجات،وفي الانفال (اؤلئك هم المومنون حقا لهم دجات عند ربهم)”لهم“فابن عربي عين ذلك المقام،والمقام صفة له،والصفة ملازمة للموصوف،فهو لباقي العصر ذاك الواحد.
ولو كان البيت على لسان الحقيقة المحمدية لقال :
في كل عصر واحد يسمو بنا =ونحن لباقي العصور ذاك الواحد
ولنرجع الى حديثنا عن هذا الباب،فكما قلت ان الشيخ الاكبر جمع بين التصوف وعلم السيمياء،وتطرق في هذا الباب الى علم السيمياء،وهوعلم يربط عالم الشهادة بعالم الغيب،وان صاحب هذا العلم يتحول في الصور(واعطى مثالا للشيخ قضيب البان)…
يقول: ..وقد رأينا من له قوة التمثّل من البشريظهر في البشرفي صورة بشر آخر،غير صورته اهــ… كما ان صاحب هذا العلم يمكن ان يأكل به ويسافر به،و صاحب علم السيمياء له سلطان وتحكّم على الخيالِ بخواص الأسماء أو الحروف ..وهذا العلم يمنح للختم دون ان يكون قد تعلمه على يد شيخ.. يقول :….وقد وجدنا هذا المقام من نفوسنا،وأخذناه ذوقاً في أول سلوكنا مع روحانية عيسى عليه السلام.انتهى…صاحب هذا المقام يصبح من جملة الروحانيين. يقول …والفرق بيننا وبين عالم الغيب: أن الإنسان إذا ترَوْحن وظهر للروحانيين في عالم الغيب،يعرفون أنه جسم تروحن. والناس في عالم الشهادة،إذا أبصروا روحاً تجسّد،لا يعلمون أنه روح تجسّد ابتداءً،حتى يُعرّفوا بذلك.. غير أن بعض الناس يعرفون الروحاني إذا تجسّد من خارج من غيره من الناس أو من كل جنس تلك الصورة التي يظهر فيها،وما كل أحد يعرف ذلك.اهــ.
وفي اخر الباب يرجع بنا الى مقام الختمية ومقام العبودية الخالصة.يقول… ولا يقدر على مقام عدم الظهور بالتحوّل(مع تحققه بالمقام )إلا العبد المحض الخالص،فإنه لا يعطيه مقام العبودية أن يتشبّه بشيء من صفات سيده جملة واحدة..
ويختم قوله بحكاية مع الشيخ يوسف بن يخلف الكومي،الذي وجد ابن عربي بين القبور يخاطب الارواح …يقول : فقبّل بين عيني. فقلت له: يا استاذ،من يُجالس الموتى: أنا أو أنت؟ قال: لا والله،بل أنا أجالس الموتى،والله لو تمادى عليّ الحال فطَسْت. وانصرف وتركني،فكان يقول: من أراد أن يعتزل عن الناس فليعتزل مثل فلان.
هذا الباب، باب عظيم من الفتوحات المكية ،تكلم فيه ابن عربي عن مقام الختمية الذي حط رحاله فيه في حياته ،وتكلم على مقامه بالمخمس العرشي الذي سيستقر فيه بعد موته ،وتطرق الى علم السيمياء وعلم الحروف،والعجائب التي يمكن أن يقوم بها أصحاب هذا العلم ،وليس صدفة كون هذا البيت مكتوب على جدار مدخل مقامه الشريف بسوريا.قاله من بالي الفخر دنيا واخرة ..
اليس هو الشيخ الاكبر