سيدي القاضي عياض السبتي
علاّمة المغرب القاضي عياض السبتي اليحصُبي المزداد بسبتة عام 476ه حسبما
كتب القاضي بخطّه، ونقله عنه ابنه محمد بن عياض في كتابه “التعريف”.
اتفقت مصادر ترجمة القاضي عياض على وصفه بالذكاء والحذق والفهم والحرص على طلب العلم.
وتكفي نظرة سريعة في مصادر تكوينه لإدراك سعة إطّلاع الرجل؛ فقد درس
الموطأ للإمام مالك ومسند الموطأ لأبي قاسم الجوهري والأمالي لأبي علي
القالي والكامل لأبي العباس المبرد، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والكافي لابن
النّحاس، والمنهاج في الجدل والمناظرة لأبي الوليد الباجي..
ولطالما
استدل القاضي عياض في كتابه “الشفا” بأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني
وإمام الحرمين الجويني، كما ناقش المعتزلة والفلاسفة والصوفية نقاشا
مستفيضا، وهذه قيمة مضافة أبتغي من وراء إثارتها وضع القاضي عياض في موضعه
العلمي الصحيح الذي يستحق التمثل والاستلهام..
وتجدر الإشارة إلى انه
كانت لقاضينا جولات مع فكر الإمام أبي حامد الغزالي، وقد قرأ الإحياء
وناقشه ونقده. وقال أن فيه قصور من جهة علم الحديث، وصرّح بكل موضوعية أن
في كتاب الإحياء من العلم الخالص ما يجعله كتابا مفيدا، ولم ينحو منحى أبي
الفرج بن الجوزي الذي نقض كتاب الإحياء كلية في كتابه “إعلام الأحياء
بأغلاط الإحياء”..
بهذا المحصول العلمي والمنهجي الغزير رحل القاضي
عياض إلى الأندلس لملاقاة علمائها ورصد مناهجهم في التفكير، وقد تولى بها
قضاء غرناطة..
وبعملية الاختبار والمفاضلة والتنقيح –كما يقول العلامة
محمد بن تاويت الطنجي رحمه الله- تمّ له بناء الجهاز النقدي، وتكاملت له
أصول التفكير على أساس من المقارنة والاختيار.. أماّ عن سيرته وأخلاقه: فقد
ذكر ولده محمد في “التعريف” أنه كان صلبا في الحق، محبا في طلب العلم،
كثير التواضع، يقبل على المساكين والفقراء يسألهم عن أحوالهم، ويكثر الصدقة
عليهم، ومات مدينا بخمسمائة دينار..
اشتهر القاضي عياض في المغرب
والمشرق بكتابه “الشفا بالتعريف بحقوق المصطفى”، وحمله الناس عنه وطارت
نسخه شرقا وغربا، كما يقول الداودي في طبقات المفسرين، وقد استتبع ذلك تعدد
أصول الكتاب بالمغرب والمشرق، إذ يشير المقري في “أزهار الرياض” أن الناس
اعتنوا بتصحيحه وضبطه وإتقانه..
لقد ساهم الكتاب إذن في ثقافة العصر،
وأضحى مادة علمية تتداول بالضبط والنقد والتمحيص، وهو ما ينمّ عن حركة
فكرية واسعة في زمان القاضي عياض كانت ذات أبعاد علمية تتصل بالاعتقاد
والسلوك.
لقد قيل في كتاب الشفا أنه رِِبح المبتاع والعلق النفيس لِمن
أدبرت عنه دنياه، وما ألف في بابه من كتب السيرة مثله في الإسلام حسبما
ذكره حاجي خليفة في “كشف الظنون”.
والغريب أن ابن تيمية المتوفى سنة
728ه بعدما قرأ كتاب “الشفا” انتقل من حال إلى حال، وأخذ يتلو ويعيد إلى أن
قال في حق قاضينا “لقد غلا هذا المُغَيْرِبي”..
يعلق الأستاذ عبد
الرحمن الفاسي في مقالة له بمجلة المناهل (ع 19) بقوله: “وهكذا جاءت كلمة
الغلو على لسانه –أي ابن تيمية- مقرونة بجهارة التصغير لتكشف عن حساسية
استعلاء تستعصي على كل شفاء وتنادي بصريح مراده بالغلو، وهو أن القاضي
المغربي قد تتالع بصنيعه إلى قنة تعز وتطول على من رامها من أعلام هذا
الشأن. فكيف بأهل تلك الأصقاع النائية عن مظان الريادة الفكرية والقدوة في
دنيا الإسلام! إنها كانت فلتة من الشيخ لا مراء، وهي من رجل الفكر عثرة لا
تقال..”
لقد أثرتُ قضية شيخ الإسلام ابن تيمية مع القاضي عياض إسهاما
في إضاءة بعض الجوانب النفسية والتاريخية في علاقة المشرق بالمغرب، وهي
مسألة ثقافية وحضارية لازالت تحتاج إلى الكثير من البحث والتنقيب من أجل
بناء علاقات المشرق والمغرب على أساس من المعرفة العميقة المتبادلة، لأن
الموقف التيمي إزاء عياض سيعاد إنتاجه عبر تاريخ العلاقات المشرقية-
المغربية خصوصا من طرف من هم دون شيخ الإسلام علما ومكانة، ولازالت نتائجه
تفعل فعلها إلى اليوم…
قضية أخرى أحسبها مفصلية في حياة قاضينا عياض
هي معاصرته لانتقال الملك من المرابطين إلى الموحدين، وموقفه المناصر لبني
تاشفين ضد عبد المؤمن بن علي الذي حاصر سبتة التي كان القاضي عياض يتزعم
تورثها..
وهنا سيبدو عياض حائرا بين مفاهيم العلم ومفاهيم السياسة حسب
مفهوم ابن خلدون لهذا التقسيم، فالأولى لها طابع الدوام، والثانية لها طابع
التوقيت. وبينهما سلكَ القاضي عياض دربا ابتغى من خلاله نشر علمه
ورسالته..
لقد كان كل ما ناله عياض- بعد ممانعته للموحدين- هو أن يطلب
منه عبد المؤمن بن علي الرحيل إلى مراكش لإفادة الناس بعلمه.. لقد كان
الخليفة الموحدي يدرك أن عياض قمّة من قمم الفكر وأنه فصل بارز من فصول
تاريخ المغرب لا يمكن تخطيه وتناسيه.
توفي القاضي عياض بمراكش عام 544ه ودفن بداخل باب أيلان بِها. وهو معدود في سبعة رجالها، وقبره مزارة كبرى..
ومعلوم أن قبر قاضينا كان قد تلاشى ولفّه النسيان إلى أن عثر عليه وعلى
شاهد قبره في أواخر العصر المريني-وهي فترة عصيبة في تاريخ المغرب فكريا
وسياسيا- والتَفّ الناس حوله وانتعشت مؤلفات القاضي عياض من جديد وعلى
رأسها كتاب “الشفا” وكتاب “المدارك”. وساهمت في بعث الحركة الثقافية من
جديد وقد كانت الأمة في أمسّ الحاجة لمن يحشد هِمّتها..
واحتفى الناس
بالقاضي عياض السبتي جزاء لما قدمه من أعمال الخير يوم كان حيّا يسعى،
وأجابت الأمة بذلك عن كل ما يمكن أن يمسّ ذكراه العاطرة بالكلمة التي
رُدّدَت مغربا ومشرقا: لولا عياض لما ذكر المغرب.