رباط تيطْ

 رباط تيطْ : من التأسيس  إلى ظهورالحركة الجزولية

أولاً_ معلوماتنا التاريخية عن (رباط تيط) ومؤسّسيه:                                                             بالرجوع إلى ما توفّره لنا المصادر المغربية،نلاحظ أن أخبار (رباط تيط) جاءت في الغالب الأعمّ مجرد تلميحات هامشية وإشارات عارضة..باستثناء مؤلف وحيد هو (بهجة الناظرين) للزموري الذي بادر صاحبه ــ بأسلوبه المضطرب وأحكامه الذاتية ــ إلى لَمّ ما بقي في ذاكرة الصنهاجيين (صنهاجة أزمور)،وما ورد في مؤلفات ذات قيمة ثانوية (ضاع أغلبها)،ليكتُب عن تاريخ الرباط وشيوخه المبرزين.

نتبيّن هذا الإهمال فيما صادفناه من أخبار الرباط ضمن تآليف محقّقة كالتشوف  لإبن الزيات،الذي عاش مرحلة مُضيئة من تاريخه،فقد أوجز القول في تعريفه بهذا الرباط،ولم يتعدّ التحديد المكاني: [ رباط تيط من بلاد أزمور ]،مع تعريف مفرط في الإختصار ببعض شيوخه..نفسالإقتضاب نصادفه كذلك في مؤلف إبن قنفذ (أنس الفقير)،مع إشادة مُعبّرة ببيت (آل أمغار)..فيما جاء كلام إبن الخطيب في (معيار الإختيار) أكثر فائدة،ومما قال: [ ف(تيط) معدن تقصير،وبلد بين بحري ماء وعصير،ورباطللأولياء،به سرور وإغتباط،ومسجدها تضيق عنه المدائن مناراً عالياً..]..ومال العمري في (المسالك إلى الإيجاز) فلم يُعط غير خراج تيط: [ خمسة آلاف مثقال ]..أما الحسن الوزان في (وصف إفريقيا) فلم يهتمّ إلا بمرحلة الرباط الأخيرة،وبحيثيات ودواعي تخريبه وترحيل سكانه..

باستثناء هذه الإشارات المبعثرة،فإننا لم نُصادف في الدراسات الحديثة ما يملء الفراغ ويُجيب عن تساؤلاتنا،إلا دراسة باصي وطيراس (الأركيولوجية)،التي فصّلت بالتدقيق العلمي في جزء من تاريخ عمارة (تيط) وبعض الأخبار الخفية عن مؤسسيه.تُضاف إلى هذه الدراسة محاولة الباحث أحمد بوشرب في (التعريف برباط تيط وتاريخه الصوفي والإقتصادي)،بالرغم من أنها لم تكن إلا عنصراً ثانوياً ضمن دراسته عن (تاريخ دكالة إبّان الإستعمار البرتغالي).وبالرغم من أن أغلب المعلومات الخاصة ب(رباط تيط) مُستقاة من (بهجة الناظرين)،إلا أن توظيفها المنهجي مكّن من فهم جيّد لدور هذا الرباط في مجمل تاريخ دكالة قبل وإبان الإستعمار البرتغالي.

في غياب معلومات مُقنعة عن (تاريخ رباط تيط) في التآليف المغربية،تقدّم (المراسلات البرتغالية) بعض الإشارات المهمة،وإن كانت تهُمّ مرحلته الأخيرة.فمن خلال عشر مراسلات برتغالية بين سنتي (1513_1515)،تبيّنا بوضوح الدّواعي الحقيقية لإهتمام البرتغال ب(تيط) وبصرحها العمراني المتميّز.فقد كانت البواعث (الإقتصادية) هي الدافع الأساسي للتعرّف على (تيط) وإمكانياتها،لكونها كانت من أهم المراكز المجاورة لأزمور المحتلّة نوما دامت تيط لم تخضع بعد للتاج البرتغالي فقد زاد الإهتمام بها وزادت مراقبتها والتضييق بسكانها،الذين أجبروا في النهاية على طلب الحماية البرتغالية.

ثانياً_ (رباط تيط): أدواره الصوفية والعلمية ضمن مجال (صنهاجة أزمور):

في تعريف إبن الزيات ب(أبي عبد الله بن أمغار)،وَسَم بيته ب[بيت خير وصلاح ووَلاية،وكذلك خَلَفُه إلى الآن]..في نهاية القرن (8هـ) سيُعزّز إبن قنفذ هذه الشهادة بأخرى أكثر دلالة،حينإعتبر هذا البيت (آل أمغار): [أكبر بيت في المغرب في الصلاح،لأنهم يتوارثونه كما يتوارث الناس المال].

بمقارنة كلتا الشهادتين نلمس حجم التطور الذي عرفته (أسرة الأمغاريين) ــ شيوخ رباط تيط ومؤسسيه ــ بين العهدين: (الموحدي / زمن إبن الزيات) حين كانت أدوارها الصوفية والعلمية الباعث الوحيد على شهرتها،و(المريني / زمن إبن قنفذ) حيث تعزّزت تلك المكانة بحظوة الدولة وتزكيتها لنسبها (الشريف)،مما جعلها (أسرة الأمغاريين) تنتظم في سلك الأسر الصوفية التي جمعت بين (الصلاح والولاية وعُلوّ النّسب).

إن (وراثة الصلاح) التي لزمت الأمغاريين حتى نهاية القرن (13هـ)،تكمُن في البدء في عطاءات أبناء وأحفاد (أبي عبد الله بن أمغار)،لدرجة لقّب معها ب(أبي البدلاء السبعة).فبفضل تلك العطاءات وفّروا لرباط تيط مكانة متميزة،وجعلوا طائفتهم الصنهاجية من أهم الطوائف الصوفية المغربية خلال العصر الوسيط المغربي.كما كفلوا لرباطهم سمعة جعلت منه في أواسط القرن (9هـ) مركزاً صوفياً سُنياً مُجدّداً للشاذلية،ومُنطلق أشهر متصوفة المغرب (الإمام محمد بن سليمان الجزولي).

لقد شرع الأمغاريون في تشييد نواة رباطهم (قبل الدعوة المرابطية)، ومارسوا نشاطاً حيوياً محدوداً ب(تيطآيير) قبل أن تنحلّ (الإمارة البرغواطية) بزمن غير قصير،وتحت نفس الدّواعي التي حرّكت رباطات أخرى قبل العهد المرابطي (أي مُحاربة برغواطة دينياً)..ونستدلّ لإقرار ذلك بما يلي:

_ إستقرار مؤسس الرباط الأول (إسماعيل) بمركز (تيط) القديم منذ بداية القرن الخامس الهجري،وعلاقته المبكرة لقبائل (صنهاجة أزمور)،وهي علاقة تُثبتها المُصاهرة ووقائع مختلفة.

_ تزكية (تميم بن زيري اليفرني) لدور (أبي جعفر إسحاق بن إسماعيل) الصوفي والعلمي،حين نقل مركز نشاطه من (تيط) إلى (آيير)،بسبب حروب تَميم مع البرغواطيين.وتمثل هذه التزكية إشادة صريحة بخصال أبي جعفر وقصده السنّي،كما تُنشده الإستعانة به (لإعادة المنحرفين إلى جادة الهداية،وتكليفه بصرف الزكاة والأعشار على مُستحقيها)،وهو ما يُثبت أن نشاط الأمغاريين الصوفي كان سابقاً عن العهد المرابطي.ولكن عودة أبي جعفر إلى (تيط) توافق وصول المرابطين إلى أطراف دكالة الشمالية،مع التأكيد بأن شهرته ظلّت واضحة بين (صنهاجة أزمور ومصامدة آيير)،وهو ما خلق لرباطه المُعاد التّشييد سَنداً عُزّز لاحقاً بوُرود قبائل صنهاجية جديدة من الجنوب،لتشغل الفراغات المتولدة عن حروب برغواطة،ولتُدعّم الدولة المرابطية الصنهاجية الناشئة.

لقد ساهم هذا التحول البشري في تحويل (رباط تيط) من مجرد مركز صوفي أسري إلى تجمّع عامر،إضطرت معه الدولة المرابطية إلى مطالبة سكانه بدفع الضرائب الشرعية،كما دُعيَ شيوخه إلى لعب أدوار جديدة عنهم،كالتوسط في النزاعات المحلية أو التدخل لدى المخزن للتخفيف من الأعباء والكلف الطارئة..

خلّف أبا جعفر في (مشيخة رباط تيط) إبنه الأكبر (محمد بن أمغار) [أبو البُدلاء السبعة]،وفي عهده لم يعُد الرباط مجرد مركز للوعظ الديني والتربية الصوفية فحسب،بل أضحى (مؤسسة دينية) بمقروءاتها وطلابها..ومنالمقروءات أوْرَد الزموري: [ القراءات،وإعراب القرآن،والموطأ،والمدوّنة،والإحياء للغزالي]..

كما لم يعد شيخ الرباط مُكتفياً بالتدريس،بل أصبح كثير التجوال بين المراكز الدكالية،يحُثّ أهلها على التّقوى ويَعظهم بأمور الدين والعقيدة، ويُجيب على الإشكالات التي يُثيرونها والتي نقرأ فيها بعضاً من رواسب (النّحلة البرغواطية)،خصوصاً بين ساكنة ساحل أزمور.ومما يُزكي هذا بوضوح أن (أبا عبد الله) كان شديد الحرص على تصحيح إيمان محيطه، بل جعل من تعزيز العقيدة منطلق مبادئه الصوفية،وجاعلاً من قراءة القرآن والإستشهاد بأقوال الرسول صلى الله عليه وسلم سُبُلاً لإحتواء جهل المتردّدين على رباطه..

خلال مشيخة (أبي عبد الله) شَهد الرباط تطوراً نوعياً في علاقته بالنسيج الصوفي المغربي،إذ أصبح يستقطب الكثير من مشاهير الصوفية من دكالة ومن خارجها،ك(أبي شعيب أيوب السارية) الذي كان كثير التردّد على الرباطنو(عبد الخالق إبن ياسين الدغوغي)،و(وزجيج بن ولوون الصنهاجي)،و(عمر الدكالي)،و(يحيى الدكالي)..كما تنوّعت منطلقات طلبته ومريديه،فمنهم من وفد من [سكّورة،وبنيماجر،وبنيدغوغ]،وإن كانت أعدادهم غير محددة،إلا أن شهرة بعضهم كانت كافية لتقدير سمعة وقيمة الرباط.ومن هؤلاء المريدين نذكر: (أبو زكرياء يحيى بن صالح المصطاوي) الذي أخذ عن شيخ الرباط أصول التصوف،و(أبو موسى عيسى الدكالي) الذي قضى ردحاً من الزمان بالرباط..ويبقى (أبو صالح الماجري) أشهر الآخذين عن أبي عبد الله..كما أن ل(أبي العباس السبتي) زيارات لأبي عبد الله بن أمغار منذ كان شاباً يافعاً..

وتحت دواعي حماية الرباط شرع أبو عبد الله في تحصينه بسور ضخم،يحتمل أن يكون الشروع في تشييده سابقاً أو موازياً لتسوير عاصمة المرابطين بمراكش.قد لا يكون لهذا التحصين أية علاقة بتهديد مسيحي حقيقي من جهة المحيط،كما كرّر ذلك الزموري،بل ربما كان الباعث مرتبطاً بعوامل أخرى،منها فكرة (الجهاد المفتوح) وما يفرضه على المرابط من يقظة وإحتراس لحماية مَكاسب المُرابطة الروحية والماديةنومنها كذلك ظروف دكالة نفسها التي عرفت حالة من الإضطراب خلال ظهور (الحركة الموحدية) والناجمة عن معارضة هذه الناحية للدعوة المهدوية،وما واكبها من تحولات سياسية وبشرية.

بعد مشيخة أبي عبد الله عرف (رباط تيط) جملة من التحولات الواضحة،كان لعمارته المحصنة دور فيها،ومن ذلك:

_ إضطراد ساكنته بشكل بارز،فقد سمح سور تيط المنيع بإندفاع السكان المجاورين طلباً للحماية.

_ تطور إقتصادالرباط،الذي ظل محدوداً في السابق،وذلك بنمو المبادلات التجارية عبر (مرفأ تيط الصغير)،كما إنتعشت الزراعة بمحيطه،خصوصاً زراعة الحبوب وجنات العنب.

_ تبدّل أحوال شيوخه المادية،فلم تعد مصادرهم مجرد هبات وأعطيات القبائل،بل أصبحوا مالكين فعليين لأراضي الحرث وجنات العنب وولجات على الساحل.

إلا أنه في مقابل هذه التحولات ظهرت عوائد سلبية مُنافية لقُسية الرباط،كرواج المواد المحرمة،والإشتغال بالغناء والرقص واللصوصية,كما تغيّرت مواقف المخزن تُجاه شيوخ الرباط،بأن أصبح يُلزمهم وبالقوة بدفع المغارم التي ظلت ساقطة عنهم..

وسيتّضح (الدور السياسي) للرباط إبان نزاع السلطة بين (المعتصم بن الناصر) و(المأمون)،وخلال ظهور (الإمارة المرينية) التي سارعت منذ نشأتها إلى إستقطاب شيوخه إلى صفّها.

بقطع النظر عن هذا التحول السياسي ظلّ رباط تيط يمارس أدواره الصوفية والعلمية،بل أصبح منفتحاً على مجالات جديدة،فخلال مشيخة خلف أبي عبد الله (أبو عبد الخالق) زاد عدد الطلبة والمريدين،مماإستدعى بناء مسجد أكبر هو (المسجد الحديث بمنارته العالية) وإستقطاب بعض مشاهير الصوفية،ك[ (أبي العباس السبتي) و(أبي العباس المري)]،كما برز من بين الآخذين به (أبو موسى الزناتي) الشارح المشهور توفي سنة (708هـ).

لكنه وإبتداء من القرن الثامن الهجري،لم نعد نسمع عن شيوخ مبرزين،فقد تحوّل إهتمام الشيوخ المتعاقبين إلى الخطط الدنيوية،ك(القضاء والإمامة والفتوى)،وحصل تحوّل ملحوظ عن منطلقات الرباط الأولى.

نستطيع أن نقرأ من خلال هذا التحول أثراً لسياسة الدولة المرينية تجاه المتصوفة،فالمرينيونسارعوا،منذ بداية دولتهم،إلىإستقطاب العديد من الأسر الصوفية بحملها على قبول تأييد إمارتهم التي لم تكن تستند إلى أية مشروعية مذهبية ولم يكن لها أي سند واضح،في مقابل منح الإمتيازات المختلفة من (جرايات ومرتبات وظهائر وخطط)،وكثيراً من الأسر الصوفية تمّ تزكيتها ك(أسر شريفة)،ومن ضمنها (الأسرة الأمغارية) التي كانت من أول المستفيدين.

هذا التحول في الرباط في زمن المرينيين (ق8هـ)،لقي معارضة من أحد أبناء (الأسرة الأمغارية) هو (أبو إبراهيم إسحاق)،الذي شكّلت تجربته ثورة صوفية حقيقية،فقد عارض بشدة مظاهر الفساد والإنحراف والتحول إلى الأمور الدنيوية،ملتزماً في نهجه بأقصى حدود السُنّة وتعاليم رباط أجداده الأولى.

شكل إذن القرن الثامن الهجري مرحلة تحوّل واضحة في (تاريخ رباط تيط)،تدرّج خلالها من (مؤسسة صوفية وعلمية) إلى (مركز إقتصادي ذو أهمية سياسية).فإلى جانب نصيب الدولة المرينية في هذا التحول،نرى أن تأثير المحيط البشري كان له الأثر كذلك: فإذا كان المحيط الصنهاجي هو الباعث الأصلي في إرتقاءالأمغاريين لزعامة الرباط وعنصر دعم لطائفتهم الصوفية،فإن التغيّر البشري الذي عرفته دكالة وما واكبه من إختلالاتإجتماعيةوإقتصادية،جعل شيوخ (تيط) الأمغاريين يفقدون سيادتهم الروحية وبالتالي تهميش تعاليمهم،مما حكم على رباطهم بالتراجع أمام (متغيّرات ثقافية وبشرية) جديدة.

وربما يكون هذا التحوّل هو ما أدركه لاحقاً (القرن 9هـ): (أبو عبد الله بن أمغار الصغير) الذي شكلت تجربته الصوفية (ثورة ثانية) في تاريخ الرباط،بعد ثورة (أبي إبراهيم إسحاق)،وذلك حين أشار على أبنائه ومريديه بإشهار طريقته خارج الصقع الدكالي.

لقد تزامن نهوض (أبي عبد الله الصغير) وأزمة أشمل عاشها المغرب في أواسط القرن التاسع الهجري: (أزمة حكم وسلطة)،أزمة التهديدات الأجنبية وآثارها على الإقتصاد والحياة الإجتماعية،أزمة العقيدة وسيادة الإنحرافات والمعتقدات البدعية.وهي الأزمات التي شكّلت منطلق (الحركة الجزولية)..

لقد كان لشيخ رباط تيط نَصيب في بلورة أسس هذه الطريقة الجديدة،بتجديده لمبادئ التصوف الشاذلي وتعميم تعاليمه بأرض المغرب،بعد أن ظلّت مُغتربة عنه في بلاد الشرق.فمع (أبي عبد الله الصغير) تحوّل (رباط تيط) من مجرد كونه (طريقة صنهاجية) أسروية المنطلق إلى (مدرسة شاذلية) مجدّدة..فتبنّي الشاذلية كفل للرباط ولشيخه،وفي أعزّ أزمته،تحقيق جملة من المكاسب،بالرغم من توقف نشاطه باختفاء شيخه المجدد:

أولها: إستعادة الرباط لمكانته داخل النسيج الصوفي المغربي.

ثانيها: إخراج الطريقة الأمغارية (الصنهاجية) من دائرتها التقليدية (دكالة)،وذلك بتجديد تعاليمها وتطوير مقوماتها الصوفية.

ثالثها: تجاوز (المُرابطة) كشكل صوفي،يتأسيس أتباع (أبي عبد الله) لزوايا في مجالات جديدة.ففضلاً عن (الإمام الجزولي) الذي ستشتهر طريقته بناحية آسفي،إستقرّ أبناء أبي عبد الله في نفس الوقت ولنفس الدواعي في مواقع متباينة،مُشكّلين ما سيُعرف لاحقاً ب(الزوايا الأمغارية)،وهي: (زاوية أفوغال) في بلاد حاحا،وزاويةبسوس،وزاوية قرب مركز داي القديم (تادلا)،و(زاوية أسول) بتافيلالت عند وادي غريس،و(زاوية هنتيفة) بالأطلس الكبير تُعرف ب(زاوية أغبالو).كما تفرّعت عن هذه الزوايا فروع كثيرة ببلاد الشياظمة (زاوية مخيجلة)،وتازارينبآيتعطا،وتامصلوحت بحوز مراكش،وكيك ببلاد سجتانة (الأطلس الكبير المغربي).

هكذا نلاحظ أن (رباط تيط) لم يكد يختفي حتى ظهرت لأصحابه زوايا في مواقع جديدة،كانت فيها أكثر فاعلية وتجاوباً مع ظروف ومحيط الإستقرارالجديد.ولنا في أدوار (زاوية أسول) بين قبائل الجنوب الشرقي المغربي،و(زاوية تامصلوحت) بحوز مراكش إبان العهد السعدي الأول،خير ما نستدلّ به على أهميتها الصوفية والإجتماعية وحتى السياسية..

ثالثاً_ علاقة (رباط تيط) ب(المخزن):

1_ علاقة (رباط تيط) ب(بني يفرن):

تُجمع الكثير من المصادر أن (تميم بن زيري اليفرني) [424_448هـ] إشتهر بجهاده المتواصل ضد (برغواطة)،إذ كان (يغزوهم في كل سنة مرّتين)،بل إنه في ولايته الثانية (بعد سنة 429هـ) سيتّخذ (شالة) حاضرة مملكته ليولي منها سائر عنايته للساحل البرغواطي (ساحل تامسنا وأطراف دكالة الشمالية)،وأثناء هذه الولاية سيعزّز تَميم نشاط (أبي جعفر إسحاق الأمغاري) بين المصامدة وصنهاجة المُحاذين لهوامش برغواطةالجنوبية.بل أكْسَب نشاط أبي جعفر (شرعية دينية وسياسية)،حين خصّه بظهير يُشيد فيه بخصاله وإستقامة مسلكه الديني،كما أوْكَل إليه مهامّ هي من إختصاصالأمير،ك(صرف الزكاة والأعشار على مُستحقيها)..

2_ علاقة (رباط تيط) ب(المرابطين):

نُشير في البداية إلى أهمية (دكالة) في سياسة المرابطين،فهي معقل أعدائهم الأوائل (برغواطة)،لذلك حرصوا على جعل منطلق دعوتهم تطهير المنطقة ومحيطها من رواسب النّحلة البرغواطية،بأن شجّعوا (الحركة السنيّة) بها [مساجد،ربط،مراكز العلم..] وباستقدام عناصر بشرية جديدة لإحتواء المنطقة.

وفي سياق هذا التحوّل سيعود (أبو جعفر) إلى (تيط)،التي هجرها بسبب حروب برغواطة وبني يفرن.

إستهلّ (علي بن يوسف) عهده بحادثة (إحراق كتاب الإحياء للغزالي)،وهي الخطوة التي أثارت مواقف متباينة في أوساط الفقهاء في المغرب والأندلس،وظلّ الأندلسيون أشدّ المؤيّدين للإحراق،حتى أن الأمير المرابطي وافقهم الرأي وأصدر أمراً بالإحراق وبالتحريج على الكتاب،مما أثار نزاعات مذهبية بين الفقهاء والمتصوفة.

ضمن هذا (المناخ السياسي والديني) تندرج حادثة تخلّف شيخ رباط تيط [ التخلّف عن دعوة من علي بن يوسف المرابطي لحضور جمع للفقهاء والصلحاء بحضرة مراكش قصد الإختيار والتشاور]،خصوصاً وأن كتاب (الإحياء) كان من جملة مقروءاتالرباط،بالإضافة إلى أن موقفه ينسجم مع موقف المتصوفة الذين عارضوا خطوة الأمير وخالفوه الرأي في تلك النازلة،بل عارض كثير منهم صراحة خطوته تلك،بأن تمسّكوا ب(الإحياء) لأنه لم يكن يشمل في نظرهم ما يُخالف السنّة.

وتدخل إستشارة (علي بن يوسف) لشيخ رباط تيط (أبو عبد الله بن أمغار) في سياق ما أقدم عليه الأمير المرابطي من التّشاور مع الفقهاء والصوفية في أمر تَسْوير عاصمة مملكته،وقد أشار عليه الشيخ بالبناء وبَعَث له من ماله..وتمثّل هذه المساندة تأييداً صريحاً لمجهود علي بن يوسف،الذي ظلّ ــ رغم حادثة (الإحياء) ــ حريصاً على نشر مبادئ السنّة وتثبيت المذهب المالكي،وهي مقومات يُشاركه فيها شيوخ رباط تيط.

كانت هذه الإستشارة بداية تقارب صريح بين شيوخ رباط تيط والدولة المرابطية،فقد بعث الأمير المرابطي برسالة إلى (أبي عبد الله بن أمغار) يلتمس منه فيها الدعاء له ويُعرفه بأن له في مسلكه (حسن الظن والرجاء)..

ولفهم دواعي هذه الرسالة ننطلق أولاً من تاريخ كتابتها (527هـ)،أي أنها جاءت بُعيد خسارة المرابطين لأول مواجهة لهم مع الحركة الموحدية الناشئة (524هـ)،وتبيّن خلالها ضعفهم العسكري،لذلك سارع علي بن يوسف إلى إستقطاب من كان يملك نفوذاً لدعم إمارته،ومن ذلك (رباط تيط) الذي تقوى نفوذه في محيط دكالة.ولعل هذه الأهمية هي التي تفسر إلتفاتة الأمير المرابطيالحارة،والتي يظهر أنه كان لها تأثير سياسي فيما بعد،حين تحوّلت دكالة إلى معقل قوي للمعارضين للدعوة الموحدية.

3_ علاقة (رباط تيط) ب(الموحدين):

حصلت أول تزكية رسمية لشيوخ الرباط في أول عهد (أبي يعقوب المنصور) [580_595هـ]،وإن كانت ذات طبيعة رمزية (عبارة عن رسالة) إلا أنها كانت دالة على إهتمام الموحدين بدورهم (الشيوخ) النافذ وإكتشافهم لمكانتهم الدينية والسياسية.وستكون تلك التزكية البداية الفعلية لسلسلة من التداخلات بين شيوخ الرباط والحكام الجدد.

من هذه التداخلات دور رباط تيط في النزاع حول السلطة الذي أعقب وفاة (العادل) [624هـ]،والمتمثل في صراع (المعتصم) و(المأمون).فقد كاتب هذا الأخير (المأمون) شيخ رباط تيط في أمر تزكية بيعته،والتي ساندها الشيخ طواعية،بل وردّ عليه بأن [يأخذ الحركة إلى مراكش (كان مُقيماً بإشبيلية) ويستعين بالله،وأنّا نتكفّل لك على ذمة الله تعالى أن يهَب لك مُلككُم ويجعلكم خليفة،لكونك أهلاً للخلافة،لأن لك عقلاً وافراً ورأياً صالحاً].

هذا الإندماج في المواقف السياسية ستتوضّح صورته أكثر في صراع (المرتضى الموحدي) [646_665هـ) و(أبي دبوس) [665_668هـ] آخر الملوك الموحدين،وبعده في صراع هذه الأخيرة والإمارة المرينية الناشئة..

إن الأحداث التي واكبت سقوط (المرتضى) أظهرت إنحياز (أزمور) وتاحيتها لطرف (بني مرين)،فقد ثار الوالي الموحدي بأزمور (عزوز بن يبورك) ضدّ (المرتضى) وإنحرف إلى صفّ (يعقوب بن عبد الحق).ونعلم أن هذا الثائر كان قد إلتجأ إلى حرم (رباط تيط)،وقد أظهر شيخ الرباط معارضة شديدة لقائد المرتضى (أبو القاسم الهنائي) المكلّف بتعقّب الثائر إبنيبورك.لكن بعد هذه الحادثة سنُفاجأ بصدور ظهير (أبي دبوس) [الذي خلف المرتضى] إلى شيوخ رباط تيط يحملُهم فيه على المَبرّة والحماية،ويرفع عنهم كل الكُلَف والوظائف المخزنية،وبأن يصدقوا أعشارهم على المساكين ،رَعْياً لما إشتهروا به من الصلاح.وتاريخ هذا الظهير هو ربيع الأول من سنة (665هـ)،أي بعد ثلاثة أشهر فقط من توليته الحكم.

لكن رغم مجهود (أبي دبوس) لإستجماع قوته وخلق تحالفات،فضّل (المرينيون) نهج خطة بطيئة لمواجهته،ويبدو أن يكون قد حصل لدى شيوخ (رباط تيط) إبان ذلك شبه إقتناع بعدم فعالية سلطة الموحدين على دكالة،خصوصاً بعد أن إنقضّ عليها المرينيون في أول ردّ فعل لهم ضد أبي دبوس،وعليه أضحى (ظهيره) لشيوخ الرباط دون جدوى،رغم ما يحمله من إمتيازات..وهي الحقيقة التي كشفت الأحداث أنها كانت وراء الإعتراف المبكر للأمغاريين بسلطة (بني مرين)،والذين لم يتردّدوا في إقرار ما بظهير أبي دبوس لهم،بل أضافوا إليه إمتيازات مادية وبادروا إلى الإعتراف المبكر لهم بشرف نسبهم،بل قدّموهم على رأس الركب الرسمي للحج في سنة (703هـ).

4_ علاقة (رباط تيط) ب(المرينيين):

تتوافق خطوة الإمارة المرينية المبكرة بالأمغاريين وغيرهم من الأسر الصوفية (الشريفة) مع ما كانوا يُنشدونه من رغبة لإنتزاع (بيعة أشراف مكة) في صراعهم مع جيرانهم في (الجزائر)،ولتزكية سلطتهم داخل المغرب.

وبتتبّع مواقف المرينيين تُجاه (رباط تيط) نلاحظ أن الدولة خصّتهم بحريات ثابتة وبامتيازات مختلفة،منها تَوْليّة شيوخه،ولأولمرة،مهام دنيوية (القضاء والإمامة..)،كما إستفاد الرباط من مُستفاد صنهاجة (حوالي مائة دينار ذهب سنوياً)..

لكن علاقة الرباط بالدولة المرينية عرفت تبدّلاً بعد عهد (أبي عنان)،خصوصاً بعد تخلّيها عن دعمه (مادياً وسياسياً)..

رابعاً_ (تَخْريب تيط):

أشرنا سابقاً إلى الأهمية التي كانت تكتسيها (تيط) في مخططات الإستعمار البرتغالي بدكالة،وكيف تحوّل سكانها إلى طلب حمايته..وأما تزايد مثل هذه الحلالت نظّم السلطان الوطاسي (محمد البرتغالي) سلسلة من الحملات العسكرية إلى دكالة بين سنتي (920_924هـ) لتخليص السكان من التهديد البرتغالي منعهم من دفع الإتاوات إليه.وبحكم أن (تيط) كانت من أكثر المراكز تهديداً،فقد أظهر السلطان الوطاسي حرصاً بالغاً لترحيل سكانها حتى لا يخضعوا لسيطرة التاج البرتغالي..فقام بترحيل سكانها إلى ناحية فاس (عند قرية مهجورة على وادي النجا)،بعد أن خرّب أسوارها (تيط) وهدم بيوتها لئلا يعود إليها السكان أو لتُستعمل كموطئ قدم جديد للبرتغال.وخلال نفس الحملة رحّل السلطان الوطاسي سكان (تارغة) وأغلب سكان (المدينة الغربية) و(مشنزاية) و(بني ماجر) الذين لم يرضوا بالعيش تحت سلطة المسيحيين..

مع إعتقادنا في أن خطوة السلطان الوطاسي كانت تدخُل في صميم دوره لحماية المسلمين،فإن تخريب عمارة (تيط) تحمل أكثر من مغزى،فقبل أن يتحول هذا المركز إلى ما أضحى عليه من أهمية إقتصادية،كان رباطاً صوفياً يحتضن رُفات أولياء نشروا تعاليم التصوف السنّي،لذا لن نقرأ في خطوة السلطان الوطاسي الهاجس (السياسي) فحسب،بل علينا أن نستحضر من خلالها كذلك هذا الماضي،ولعل هذا ما يفسر تخريب عمارة (تيط) دون غيرها من المراكز التي رَحّل أهلها..

__ في تقييم سريع ل(رباط تيط)،نلاحظ أنه عرف توقّفات كانت بمثابة علامات أزمة،تباينت أسبابها حسب كل ظرف: فخلال القرن الثامن الهجري كان الباعث (سياسياً ــ بشرياً)،بينما كان التهديد الأجنبي وأزمة المغرب خلال القرن التاسع الهجري سبباً في التوقّف النهائي لوظيفة الرباط الصوفية..وحين نظّم (محمد الوطاسي) حملته لتخليص (تيط) من التهديد البرتغالي لم يجد به شيخاً صوفياً ولا عالماً أمغارياً،بل كان أهله وأصحاب السلطة فيه والمُتفاوضون من أجل الحماية البرتغالية: شيوخ العرب من (بني ذويب)،وهو ما يعكس حجم التحوّل البشري الذي عرفه مُحيط الرباط بين الأزمتين.

لقد إنتهى الدور الصوفي والعلمي لرباط تيط بخروج الأمغاريين منه في أواسط القرن التاسع الهجري،بعد أن أدّوا دورهم في مجال قبلي إنبثقوا منه وبه كانت طريقتهم راسخة..

 (محمد المازوني)

حصل المقال على : 1٬354 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد