رؤية النبي يقظة:هل يمكن الآن الاجتماع بالنبي صلى الله عليه وسلم في اليقظة والتلقّي منه؟.
الجواب: نعم يمكن ذلك،فقد صرّح بأن ذلك من كرامات الأولياء: الغزالي والبارزي والتاج السبكي والعفيف اليافعي من الشافعية، والقرطبي وابن أبي جمرة من المالكية. وقد حُكي عن بعض الأولياء أنه حضر مجلس فقيه،فروى ذلك الفقيه حديثاً،فقال له الوليّ: هذا الحديث باطل. قال: ومن أين لك هذا؟ قال: هذا النبي صلى الله عليه وسلم واقف على رأسك يقول: إنّي لم أقُل هذا الحديث. وكشف للفقيه فرآه..
وقد أنكر ذلك جماعة،وجوّزه آخرون وهو الحقّ. فقد أخبر بذلك من لا يتّهم من الصالحين، بل استدلّ بحديث البخاري:”من رآني في المنام فسيراني في اليقظة” أي: بعيني رأسه، وقيل بعين قلبه،واحتمال إرادة القيامة بعيد من لفظ “اليقظة”..
وفي شرح ابن أبي جمرة للأحاديث التي انتقاها من البخاري: ترجيح بقاء الحديث على عمومه،في حياته ومماته،لمن له أهليّة الاتباع للسنة ولغيره. ومُراده بعموم ذلك: وقوع رؤية اليقظة الموعود بها لمن رآه في النوم ولو مرّة واحدة،تحقيقاً لوعده الشريف الذي لا يخلف..
وفي المدخل لابن الحاج المالكي: رؤيته صلى الله عليه وسلم في اليقظة باب ضيّق،وقَلّ من يقع له ذلك إلا من كان على صفة عزيز وجودها في هذا الزمان،بل عدمت غالباً. مع أننا لا نُنكر من يقع له هذا من الأكابر الذين حفظهم الله تعالى في ظواهرهم وبواطنهم..
وأشار البيهقي إلى ردّه بأن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى جماعة من الأنبياء ليلة المعراج. وقد تقرّر أن ما جاز للأنبياء معجزة جاز للأولياء كرامة،بشرط عدم التحدّي..
وقال البارزي: وقد سمع من جماعة من الأولياء في زماننا وقبله أنهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يقظة حياً بعد وفاته.
وعند ابن العربي: أن أكثر ما تقع رؤيته صلى الله عليه وسلم بالقلب،ثمّ بالبصر لكنها ليست كالرؤية المتعارفة،وإنما هي جمعية حالية وحالة برزخية وأمر وجداني،فلا يُدرك حقيقته إلا من باشره،كذا قيلَ. ويحتمل أن المراد بالرؤية المتعارفة: بأن يرى ذاته طائفة في العالَم أو تنكشف الحُجب له بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم وهو في قبره،فينظُره حياً فيه رؤية حقيقة،إذ لا استحالة. لكن الغالب أن الرؤية إنما هي لمثاله لا لذاته،وعليه يحمل قول الغزالي: ليس المراد أنه يرى جسمه وبدنه،بل مثالاً له،صار ذلك المثال آية يتأدّى به المعنى الذي في نفسه،والآلة إما حقيقية وإما خيالية،والنفس غير الخيال المتخيّل. فما رآه من الشكل ليس هو روح المصطفى صلى الله عليه وسلم ولا هو شخصه،بل هو مِثال على التحقيق.
ثمّ رأيت ابن العربي صرّح بما ذكرناه من أنه لا يمتنع رؤية ذات النبي بروحه وجسده، لأنه وسائر الأنبياء أحياء ردّت إليهم أرواحهم بعدما قبضوا،وأذنَ لهم في الخروج من قبورهم وبالتصرّف في الملكوت العلوي والسفلي. ولا مانع من أن يراه كثيرون في وقت واحد لأنه كالشمس. وإذا كان القطب يملأ الكون كما قاله التاج ابن عطاء الله،فما بالُك بالنبي صلى الله عليه وسلم.
ولا يلزم من ذلك أن الرّائي صحابي،لأن شرط الصحبة الرؤية في عالم المُلك،وهذه رؤية في عالم الملكوت وهي لا تُفيد صُحبة،وإلا لثبتت لجميع أمّته لأنهم عرضوا عليه في ذلك العالم فرآهم ورأوه كما جاءت به الأحاديث..
الفتاوى الحديثية
المؤلف: شيخ الإسلام شهاب الدين بن حجر الهيثمي