حقيقة المُريد و الشيخ المُرَبّي
(المريد) على قسمين: مريد حقيقي،ومريد مجازي.
__ (المريد الحقيقي): هو من كمُلت فيه أهلية الإرادة،فصمّم عزمه من أول مرة على الإلتزام بصحبة الشيخ،والتحكّم في نفسه. وعَمِلَ على معانقة الأهوال،وتحمّل الأثقال،ومفارقة الأشكال،ومعالجة الأخلاق،وممارسة المشاقّ،وتحمّل المصاعب،وركوب المتاعب.
__ (المريد المجازي): هو الذي ليس قصده إلا الدخول مع القوم،والتزيّي بزيّهم والإنتظام في سلك عقدهم،والتكثير لسوادهم. وهذا (لا يُلزم بشروط الصّحبة)،وإنما يُؤمر بلُزوم حدود الشرع ومخالطة الطائفة حتى تشمله بركتهم،وينظر إلى أحوالهم وسيرهم،فيسلُك مسلكهم ويُؤهّل لما أهلوا له..
و(الشيخ المربي) لا بد أن يكون (سَلَك طريق السلوك)،ثمّ (خاض بحار الجذب)،ثم (رجع إلى السلوك). فلا يصلُح للتربية (سالك محض)،ولا (مجذوب محض). وإنما يصلُح من تقدّمه سلوك ثم تداركه الجذب،أو تقدّمه جذب ثم رجع للسلوك..
أما (السالك المحض)،وهو الظاهري،فلأنه لا يخلو من بقية فيه من هذا العالم (عالم الأشباح)،و(المُكاتب عبد ما بَقي عليه درهم)،والعبد المملوك لا يمكنه التصرّف في نفسه فكيف يتصرف في غيره.
وأما (المجذوب) قبل أن يرجع إلى البقاء (بمعنى: قبل أن يرجع من عالم القدرة وإرتفاع الوسائط وخرق حُجُب الأسباب،إلى عالم الحكمة وتحقيق الوسائط والأسباب،وإلى الإشتغال بالسلوك والتحقّق بالمقامات..)،فهو أيضاً غير مؤهّل للمشيخة والإقتداء به،لإشتغاله بحاله عن حال غيره،وعدم تحققه بالمقامات. إلا أنه يُربّي من هو دونه إلى بلوغ مقامه..
و(شيخ التربية) يكون قد سَلك من (طريق القوم) ما كان منها (مُنخفضاً)،كالخمول والذلّ والعزلة والفاقة،وذاق حلاوة ذلك ومرارته،وعرف منافعه ودسائسه،فيُسيّر غيره فيها كما سار هو.. وعرف أيضاً ما كان منها (مرتفعاً)،كالظهور والعزّ والغنى،فيكون قد سلك ذلك،وعرف ضرره ونفعه،وذاق حلاوته ومرارته،فيُسيّر فيه كما سار هو..
وبما أن الشيخ المربي يكون قد إختبر الطريق: صعبُها وسهلها،فينظر في حال المريدين: فمن كان قوياً حمله على الصّعبة ليطوي عنه مسافة البُعد،ومن كان ضعيفاً حمله على السّهلة لئلا يُنفّره فيرجع من حيث جاء..
ويشترط في الشيخ أن يكون (ماهراً بالطريق)،قد جال فيها مراراً،قد راح فيها آخر النهار وغدا فيها أول النهار (أي علم البدايات والنهايات)،يُربي به المريد في بدايته ونهايته..ويكون أيضاً قد (سلك مسالك الجمال والجلال)،فالجمال محل العلو والظهور،والجلال محل الإنخفاض والحنو..
ويشترط في الشيخ أن يكون (حَلّ في منازل السائرين)،وهي (مقامات اليقين)،بحيث سلكها وعرفها: (ذوقاً وحالاً ومقاماً)،ك[ تصحيح التوبة بشروطها وأركانها،وتحقيق الورع والزهد،والخوف والرجاء،والتوكل والصبر،والرضى والتسليم،والمحبة والمراقبة والمشاهدة ]. وحصل له [الفرق بين الروحانية والبشرية،والسلوك والجذب،والفناء والبقاء ]. وأحكم [ أحكام التّخلية والتّحلية ]..وكل (شرب) من مشارب القوم وأذواقها،كان فيه ناهلاً وشارباً. فإذا حصّل هذه المراتب وذاق هذه الأذواق: إستحقّ أن يكون شيخاً مُربياً..
قال الشيخ أبو مدين: (الشيخ من شهدت له ذاتك بالتقديم،وسرّك بالتعظيم. الشيخ من هذّبك بأخلاقه،وأدّبك بإطراقه،وأنار باطنك بإشراقه. الشيخ من جمعك في حضوره،وحفظك في مغيبه.).
وقال الشيخ إبن عطاء الله في (لطائف المنن): [ ليس شيخك من أخذت عنه،وليس شيخك من واجهتك عبارته،إنما شيخك الذي سَرَت فيك إشارته. وليس شيخك من دعاك إلى الباب،إنما شيخك من رفع بينك وبينه الحجاب. وليس شيخك من واجهك مقاله،إنما شيخك من نهض بك حاله. شيخك هو الذي أخرجك من سجن الهوى،ودخل بك على المولى. شيخك هو الذي ما زال يجلو مرآة قلبك حتى تجلّت فيه أنوار ربك،نهض بك إلى الله فنهضت إليه،وسار بك حتى وصلت إليه،ولا زال محاذياً لك حتى ألقاك بين يديه،فزجّ بك في نور الحضرة،وقال: (ها أنت وربك). هنالك محل الولاية من الله،ومواطن الأمداد من الله،وبساط التلقي من الله..]..
عن كتاب الفتوحات الالهية
رشيد موعشي