جاهلية ابن عربي
حين يتحدث الشيخ الأكبر عن حياته قبل أن يدخل الطريق(طريق الكشف والفيض والإلهام )ويسلك مسلك الصوفية،يسمي هذه الفترة من حياته باسم «الجاهلية» كأن حياته تنقسم إلى قسمين:ما قبل دخوله في الطريق، وهي «جاهلية »بالنسبة له ،وما بعد دخوله في طريق القوم،واكتسابه المعرفة،بالفيض المباشر،لا عن طريق التعلم وقراءة الكتب.
نشأ محيي الدين بن محمد بن العربي الحاتمي الطائي، بإشبيلية في أسرة غنية عريقة ومشهورة،وكان وقتُه، وهو طفل،مقسّما بين حفظ القرآن الكريم،ومتون العلوم الشرعية،واللغوية وبين اللهو واللعب،وقد قدّم لنا الشيخ لمحةً عن الوسط الذي كان يعيش فيه،في طفولته حين قال:“فإذا كان آخر الليل،أنام أنا وجماعة السوء مثلي، وقد تعبنا من كثرة ما رقصنا، فلا نلحق ننام إلا والصبح قد قام،فنقوم فنتوضأ، أقل ما ينطبق عليه اسم الوضوء، ثم أجيء إلى المسجد (هذا إن وُفِّقتُ ) وإلا فالأغلب على من هذه حالته أن يصلي في داره بـسورة الفاتحة،و”إنا أعطيناك الكوثر“، والقنوت ليس بواجب فأتركه،وأنقرها مخففة جدا، ثم أضطجع إلى وقت الضحى لأستريح،و إن كنت موفقا اكثر من غيري ،توضأت وخرجت الى المسجد،واذا دخلت فيقال لي :قدصلى الناس ،فلا أجد لذالك حزنا ولا أكثرت ،واذا ادركت الصلاة مع الامام فأنا في تلك الصلاة على أحد وجهين،واذا كنت مستريح القلب من كل شيء،أكون حاضرا في ليلتي البارحة وحسنها،وما كان أحسن ذلك القول وشعره ،وأقضي صلاة كلها في هذا، حتى لا ادري ما صلى الامام ،ولا بما صلى ،وانما رأيت الناس يفعلون شيئا، ففعلت مثلهم ،ركعوا فركعت، سجدوا فسجدت ،وجلسوا فجلست.أو يكون النوم قد اخذ مني وهي الحالة الثانية،فأترقب عن ذلك فراغ الامام، وتثقل علي القرءاة،واغتاب الإمام في نفسي،وأمقته وأقول: ما أثقله قد افتتح سورة الحشروالواقعة،هلا كان قنع بالانفطار والفجر،والنبي صلى الله عليه وسلم قدأمرنا بالتخفيف.
في إحدى المناسبات،يحكي عن واحدة من التجارِب التي حدثت له في جاهليته،وذلك حين كان مع والده في سفر،يحيط بهما الغلمان من الحراس على صهوات الخيل،بأيديهم الرماح والسهام.وكان ابن عربي نفسه يمتطي صهوة جواده،ويشهر في يده رمحًا. ومروا بحُمُر وحشية،والتي كان في العادة يهوى صيدها.ولكن لأن المجال لم يكن مجال صيد وقنص،فقد فكرالفتى في أنه يجب عليه ألا يؤذيها.ولكن كيف يمرون بينها بخيلهم وأسلحتهم المشرعة،دون أن يسببوا لها إزعاجًا؟. يحدثنا ابن عربي فيقول: ففكرت في نفسي،وجعلت في قلبي أني لا أوذي واحدًا منها بصيد.وعندما أبصرها الحصان الذي أنا راكبه هش إليها،فمَسَكْتُه عنها ورمحي بيدي إلى أن وصلت إليها ودخلت بينها،وربما مرَّسنان الرمح بأسنمة بعضها وهي في المرعى،فوالله ما رفعت رءوسها حتى جُزْتُها.ثم أعقبني غلماني ففرَّت الحمر أمامها.وما عرَفت سبب ذلك إلى أن رجعت إلى هذا الطريق،أعني طريق الله،فحينئذ علمت ما كان السبب.
لماذا أنست إليه الحمرالوحشية،وهويمرمن بينها بحصانه ورمحه يكاد يلامس ظهورها، في حين أنها جفَلَت حين مر بها الغلمان؟ السبب يسميه ابن عربي «سرالمعاملة»فجاهلية الشيخ تحمل في ثنايها أن العناية الربانية سابقة له،و إن حديث الذي دار في نفس ابن عربي،اي استبعاد أي نية في إيذاء الحيوانات،أو في مجرد إزعاجها وجد استجابة في نفس الحيوان،فسرى الأمان من قلب الإنسان إلى قلب الحيوان،في عملية اتصال غيرعادية.وكأن هذه الرسالة يقول من خلالها أن في جاهليته لم تكن خالي الوفاض من الأسرار،التي ستنبت وتثمر فيما بعد. فهذه بذور الولاية والإنسان في جاهليته هو الإنسان في إسلامه.قال صلى الله عليه وسلم “خياركم في الجاهلية ، خياركم في الإسلام إذا فقهوا “.
لكنه،وهو في الثانية عشرة من عمره،مرض مرضا أشرف أثناءه على الموت،يحكي ابن عربي: «مرضتُ فغُشِيَ عليَّ في مرضي بحيث أني كنت معدودًا في الموتى،فرأيت قومًا كريهي المنظريريدون أذيتي،ورأيت شخصًا جميلًا طيب الرائحة شديدًا يدافعهم عني حتى قهرهم،فقلت له: من أنت؟ فقال: أنا سورة يس أدفع عنك، فأفقت من غشيتي تلك،وإذا بأبي رحمه الله عند رأسي يبكي،وهويقرأ سورة “يس” وقد ختمها،فأخبرته بما شهدته. فلما كان بعد ذلك بمدة علمت أن هذا الحديث روي عن النبي ﷺ أنه قال: “اقرءوا على موتاكم يس”.(الفتوحات) .
اشرف على الموت ،لم ينقذه منه إلا تلاوة أبيه لسورة «يس» فوق رأسه وهو في شبه غيبوبة بسبب المرض، وتجسدت له سورة “يس” فخاطبها وخاطبته. بعدها بدأ يطمح أن يكون تقيا مثل بعض من شاهد والتقى من الصلحاء. ثم سلك طريق القوم وهو في السادسة عشرة.ويقول الشيخ انه دخل خَلوته دون توجيه شيخ أوتعليم أستاذ،فخرج منها بعلوم وَهْبية لا يتأتى الحصول عليها بقراءة الكتب .
الفتوحات. رسالة روح القدس.
“فتح الرحمن الرحيم “للشيخ البيطار