كتاب: تنزيه ذَوي الولاية والعرفان عن عقائد أهل الزّيغ والخذلان،للإمام محمد بن أحمد المِسناويّ.
_ سبب التأليف: وبعد،فهذاجُهْد المُقِلّ القاصر في نُصرة الشيخ عبد القادر الجيلاني،سببُه: أني كنت ذكرت في العُجالة المُسماة بنتيجة التحقيق في بعض أهل النسَب الوثيق ما وقفت عليه في غبطة الناظر في ترجمة الشيخ عبد القادر للحافظ ابن حجر العسقلاني،من كلام العلامة العز بن عبد السلام،جواباً لسؤال سائل في جانب هذا الشيخ الإمام. وقد كان خَفي عليّ أولاً معناه،ثمّ لما وقفت على شرحه في بعض أجوبة ابن حجر المذكور،ظهَر لي عدم تسليم مَبناه،فأردت الآن تقييد ما ظهر ليكون عُرضة للنظر،فيُضاف بعد تأمّله وخُبره إلى ما يراه الصيارفة النقّادة من حَصباء الفكر أو دُرّه. وجعلته لتلك العُجالة كالذّيل الساتِر والصّلة المعرِّفة منها لما خَفيَ على الناظر. ولم يمنعني من البحث في الكلام المذكور،ما عُرف من جلالة القائل،لأن الحقّ لا يُعرف بالرجال عند العاقل.. قال الشيخ زروق في قواعده: العلماء مُصدّقون فيما ينقُلون،لأنه موكول إلى أمانتهم. مبحوث معهم فيما يقولون،لأنه نتيجة عقولهم،والعصمة غير ثابتة لهم. فلزِمَ التبصّر طلباً للحقّ والتحقيق،لا اعتراضاً على القائل اهـ.. ونصّ الكلام المذكور،يقول الشيخ عزّ الدين بن عبد السلام: ما نُقلت إلينا كرامات أحد بالتواتر إلا الشيخ عبد القادر. فقيل له: هذا مع اعتقاده؟ فقال: لازمُ المَذهب ليس بمذهب اهـ. ومعنى هذا الكلام الأخير: أن يكون حُصول الكرامات مع ما عُرف من اعتقاده،يعني في المسائل التي خالفَ فيها الحنابلة،والجيلانيمنهم،الأشاعرة،ممّا ينحو مَنحى التجسيموالتشبيه،المُستلزِم للحدوث في حقّه تعالى،الذي يقول به كُفر. فأجاب ابن عبد السلام بأنهم،وإن قالوا بذلك،فلا يقولون بها يلزم عنه ممّا هو كُفر. لأن الحقّ أن لازمَ القول لا يُعدّ قولاً،أي فلا يمتنع ظهور الكرامات على القائل بشيء من ذلك.. هذا بَسْطُ ما رمَز به ابن حجر من معناه في جواب له مقيّد في كُنّاش الشيخ زرّوق.. _ أوجُه النظر في موضوع الخِلاف: وهذا من عزّ الدين رحمه الله تَسليم لِما ذكَر ذلك السائل،من كون الشيخ عبد القادر من أهل ذلك المعتقد الفاسد،وإقرار منه له على ما اعتقد فيه على ما هو الظاهر والمُتبادر منه،وهو في محلّ المَنْع من وجوه أربعة،ملخصها:
أولها:تحرير محلّ النزاع: عدم تَسليم أن معتقَد الحنابلة ما ذُكر،وإن زعم كثير من المخالفين لهم في المذهب،بدليل ما في الرحلة العياشية عن شيخه العلاّمة الشيخ إبراهيم الكُردي من قوله: [ قال لي: لما أمعنت النظر في رسائل القوم ومصنّفاتهم،وجدتهم بُرآء من كثير ممّا رَماهُم به أصحابنا الشافعيّة من التجسيم والتشبيه.. غير أن الحنابلة مُشدّدون في ردّ التأويل،مُجهّلون من يذهب إليه.. ].. فظهر أن ما يُنسَب إليهم من ذلك ناشئ عما يقع كثيراً بين المتخالفين عند ردّ بعضهم على بعض،من عدم تحقيق محلّ النزاع،ونسبة كل واحد منهما صاحبه إلى لازم قوله وتعلّقه بظواهر أقواله،وإن كان في صريح كلامه ما يدفع تلك اللوازِم ويُحيل تلك الظواهر. وسببُه ما عُرف منهم من التوقف عن تأويل الظواهر المستحيلة،فتوهّم أن وقفهم عن تأويلها لاعتقادهم ظواهرها. ولا يتعيّن ذلك،لجواز أن يكون اتباعاً للسنة،أو لتعدد التأويلات الصحيحة من غير علم بالمراد منها،بعد قطعهم بأن الظواهر المستحيلة غير مُرادة البتّة.
ثانيها:مَنْع تَعْميم الأحكام على المذاهب انطلاقاً من بعض المنتسبين إليها: بعد تَسليم وجود ذلك الاعتقاد فيهم،إنا لا نُسلّم الحكمَ بذلك على الجملة والجنس كلّه حتّى يَلزم عنه ما ذُكر من نسبة الواحد بمجرد كونه منهم إلى ذلك المعتقَد المَقول عنهم.. وقد سبق في كلام السّبكي والبَكّي: تخصيص ذلك المذهب بمن هو من رَعاعهم وجَهلة أتباعهم،دون الأئمة القُدوة والعلماء الجلّة منهم. وأن فساد الاعتقاد موجود في رعاع سائر المذاهب،وإن اختلفت فيه بالقلّة والكثرة،فلا خصوصية لهؤلاء به عن غيرهم،ففي كلّ وادٍ بنو سعد..
ثالثها:ضرورة مُراعاة اجتهاد المختلفين في العقيدة كما في الشريعة: إنّا وإن سَلّمنا،أيضاً،صحّة ذلكَ الحكم السابق،وعمومَه للسابق منهم واللاّحق،وفرضنا وقوع هذا الحال كما يُفرَض وقوع المحال ــ لا نُسلّم تناول ذلك لهذا الشيخ وأمثاله من كبراء العلماء العارفين،ذوي التبحّر في علوم الشريعة والرسوخ في مقامات اليقين.. استناداً إلى نصوص كِبار الأئمة الدالّة على خروج هؤلاء عن دائرة التقليد لغير الشارع صلى الله عليه وسلم،وخُلوصِهم من ربقته في الأحكام الشرعية العملية التي هي مَحْض نَقْل،فكيف بالعقائد العلمية التي هي معقول ومفهوم..
رابعها:مُراعاة أحوال المختلفين من أهل الفضل والتقوى: إنا وإن سلّمنا،أيضاً،عدم خروجه عنه في الأعمال والفروع،لا نُسلّم ذلك في العقائد والأصول. استناداً للفرق بينهما،ولما تقرّر وسُلّم لدى الكافة من شَهير ولايته وعلوّ رتبته فيها ومكانته.. وذلك نتيجة كمال العرفان الذي هو نتيجة مقام الشهود والعِيّان،الفائق بكثير لِما يُستفاد بالنظر من الدليل والبرهان..
وقد تمّ،والحمدلله،ما أردنا من رسالة النّصرة لحامل راية كمال العرفان ومَزيد الشّهرة بمبلغ جُهد جامعها العاجز والحقير،ومنتهى علمه اليسير وفهمه القصير.. جاءت مؤسّسة القواعد والمباني،محرّرة الألفاظ والمعاني،مؤيّدة الأنظار العقلية بمُحكَم النصوص النقلية،جمّة الفروع والفائدة،جزلة الصلة والعائدة،ممتِعةالمجالسة،طيّبة المؤانسة
ذ رشيد موعشي..