بُغية الطالب على ترتيب التجلّي بكُليات المراتب
(الموقف الثامن والأربعون بعد المائتين)
قال الله تعالى: (ويضرب الله الأمثال للناس) [إبراهيم: 25].
أخبر تعالى أنه يَضرب،أي يُبيّن. فإن الضّرب،لغة،البيان. بالأمثال للناس،ما غاب عنهم من الحقائق الإلهية والمعاني الربانية. فإن المثال تخييل يوصل إلى تحقيق. ولا يشترط في المثال مُساواته للمِثَل له من كل وجه،بل يكفي الوجه الواحد..
والمُراد بالناس المضروبة لهم الأمثال،الذي إنسانيتهم حقيقية. فالأمثال مضروبة لمن كمُلت إنسانيته فغلبت حيوانيته،لا مطلق المُسمى إنساناً،فإن من المُسمى إنساناً ما هو حيوان..
وقد ضرب الحق الأمثال بأقواله وأفعاله،وضرب المثل بالفعل أوضح في التّفهيم وأبْيَن في التوصيل.
ونَهى تعالى عباده أن يضربوا له الأمثال،فقال: (فلا تضربوا لله الأمثال) أي: لا تضربوا الأمثال للإسم الجامع (الله)،فإنه جامع للمُتقابلات من المُتضادّات،والمتناقضات والمتخالفات والمتماثلات،وذلك من خواص الإله،وهو واحد،فلا يوجد له مثال،بخلاف غيره من الأسماء الخاصة..
العالَم كلّه إسمه (الظاهر)،وأنه تجلياته وظهوراته ومِثالاته وتعيّناته بحقائق ألوهيّته،البعوضة فما فوقها إلى العرش إلى العَماء. فكل العالم،العلويّ والسّفليّ،أمثال لما في الحضرة الإلهية العليّة من الحقائق والرّقائق،والكُليات والجُزئيات..
وجعل تعالى معرفة الإنسان نفسه ضَرب مثال لمعرفته ربّه،فإذا عرف نفسه عرف ربّه.. فما أحالنا تعالى إلا عليه،في أمره لنا بالنظر في أنفسنا وفي السماوات وفي الأرض،حيث يقول: (أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض)،(وفي أنفسكم أفلا تُبصرون)،(قل أنظروا ماذا في السموات والأرض). يعني من حيث أنها أمثلة لما في الحضرة الإلهية من الحقائق والمعاني،لا من حيث هي أنفُس وسماوات وأرض،ولذا قال: (انظروا ماذا). وقال مُمتنّاً على خليله إبراهيم: (وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وليكون من الموقنين)،وملكوت كل شيء هو باطنه وما تضمّنه من الدلالة والمثالية. والموقِن الثابت الذي لا يتزلزل علمه ولا تطرُقه الشّبه،وليس ذلك إلا من علم بواطن الأشياء وحقائقها.. فالأكوان خلقها تعالى سَلاليم يتوصّل بها إلى المعاني الإلهية الباطنة فيها. فمن قَصر نظره ووقف مع المثال،ضلّ وحارَ. ومن إرتقى إلى الحقيقة إهتدى..
فالحق تعالى ما خَلقنا إلا لنعبُده،والعبادة من غير معرفة المعبود مُحال،فخَلق العالَم لنعرفه به تعالى فنعبُده. فالآثار دَلّت على المعاني الإلهية والحقائق الربانية،والمعاني الإلهية دلّت على ذات الإله الربّ المعبود..
لكل بني آدم خَلقاً (في أحسن تقويم)،وهي الإنسانية الحقيقية (فطرت الله التي فطر الناس عليها). ثمّ ردّه تعالى أسفل سافلين،بجعله تحت حُكم الطبيعة وأسْر العقل المعاشي،فإن العقل عُقال عن الترقّي إلى إدراك الأمور الإلهية التي فوق طوره،ولذا قال تعالى: (وما يعقلها إلا العالمون)،وما قال: “وما يعلمها إلا العقلاء”. فما كان فوق الحدّ المحدود للعقول،لا حيلة لها في الوصول إليه وإكتسابه،وإنما لها أن تتعمّل بالأعمال الشرعية وتستعدّ الإستعداد الجزئي وتنتظر الوَهْب من الوهّاب تعالى،فإنها علوم وهب،لا علوم كسب،وهو المسمى بالعلم اللدُنيّ. ففَيض هذا العلم مُتقدّم على تعقّله،فإذا وردت هذه العلوم من الواهب،عَقلها العقل وصارت عنده من المعقولات،بل البديهيات،بعد أن كان لا يتصوّرها ولا يحوم حول حِماها،بل يُنكرها إن سَمعها..
لما كان العالَم هو الإسم الظاهر،وكان الإنسان من بين سائر العالَم،جامعاً بين الإسم الظاهر والباطن،كان له الشرف،فهو أشرف المخلوقات وأكملها،وأما فضله على سائر المخلوقات فشيء آخر. ف”الإنسان الكامل هو الكون الجامع للحقائق الإلهية والكونية“،فهو المثل الذي لا مثل له،قال تعالى: (ليس كمثله شيء) و”الكاف” غير زائدة،وهو مذهب جمهور أهل الطريق،سادة هذه الأمة المحمدية،ولهم طريقان حول الآية،والمُماثلة ثابتة على كِلا الطريقين:
الطريق الأولى: أثبت له تعالى مِثْلاَ،وهو الإنسان الكامل،ونَفى أن يُماثَل هذا المِثْل،فيكون مَساق الآية: نَفي المثل لمِثْل الحق تعالى،وهو الإنسان الكامل. إذ الإنسان الكامل مَظهر جامع لجميع الحقائق الأسمائية التي تطلُب العالَم،ومظهراً أيضاً لجميع الحقائق الكونية.. فللإنسان نسبتان: نسبة يدخل بها إلى الحضرة الإلهية،ونسبة يدخل بها إلى العالم،فهو المُقابل لجميع الموجودات،قديمها وحادثها.. فالإنسان له القِدَم وله الحدوث،فهو منعوت بهما،فلهذا هو ربّ وعبد: عبد من حيث أنه مخلوق مُكلّف،وربّ من حيث أنه خليفة،ومن حيث أنه خُلق على الصورة الإلهية،فهو يَلحق بالإله إلتحاقاً معنوياً.. قال تعالى: (خلق الله السموات والأرض بالحق) بسَبب الحق المخلوق،إذ من أسماء الإنسان الكامل “الحق المخلوق به“،وليس إلا “الحقيقة الإنسانية الأكملية المحمدية“..
الطريق الثاني: أن يكون مَساق الآية: ليس مِثْل مِثله شيء.. فالمراد إثبات المثل،ونفي المثل من هذا المثل.. فأما المثل المُشبّه فهو العالَم،غير الإنسان،ولكنه مثل غير كامل. إذ العالم ليس بمثل كامل إلا باعتبار دخول الإنسان في جملته،فإن العالم كمُل بالإنسان الكامل.. فالعالَم مثل للحق تعالى،فإنه مَحلّ ظهوره تعالى بأسمائه العُلى وحقائق نِسَبه الحُسنى. فكل حقيقة كونية كُليّة هي مظهر حقيقة إلهية كُلية،وكل حقيقة كونية جُزئية هي مظهر حقيقة إلهية جُزئية. وأما المثل المُنزّه،فهو الإنسانية الكمالية،كآدم ومن وَرثه من أولاده،الذين تسجُد لهم الملائكة،فإن الملائكة لم تزل تسجد لمن ظهر بالحقيقة الإنسانية على الكمال..
فالإنسان الكامل “مِثْل“،بسُكون الثاء،على النحو الذي ذكرناه. و”مَثَل“،بفتح الثاء،لأن المثل هو ما يتعيّن به المثل له في الإدراك. والحق تعالى الظاهر المُتعيّن في الآفاق والأنفُس،مُتعيّن بالإنسان الكامل،ولذا كان من أسمائه (صورة الإله)،فإنه مُستعدّ للظهور بجميع الأسماء الإلهية،على تقابلها وتخالفها،كما ظهر الحق بها،قال تعالى: (وله المَثَل الأعلى في السماوات والأرض). ثم نَعته ب(العزيز الحكيم): فمن كان نعته العزّة والمَنعة،عَزّ أن يَعرف أحد مَقامه وأوصافه. ووصفه بالحكمة،فيُعطي على ما ينبغي،ويمنع على الوجه الذي ينبغي. فهو المثل الأعلى للحق،ظهر به تعالى للمدارك النورانية. فهو مرآة الحق ومرآة العالَم،فمن رآه رأى الله ورأى العالم،ومن عرفه عرف الله وعرف العالم.. وأقول: من عرف نَفسه،من حيث الظاهر والباطن،عرف ربّه وعرف العالم،لأن النفس جامعة لحقائق العالم وحقائق الحق تعالى (سنريهم ءاياتنا في الآفاق وفي أنفسهم): فآيات الآفاق هي كل كون خرج عن الإنسان في العالم الأعلى والأسفل،وآيات الأنفس هي ما دخل في الإنسان من الحقائق الكونية المُستندة إلى الحقائق الإلهية..
وما ظهر بالحقيقة الإنسانية،التي هي عبارة عن الصورة الرحمانية على الكمال،سوى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،فإنه ظهر بها على الوجه الأكمل الأفضل الأشرف،إذ هي حقيقته. وغيره من الأنبياء والكُمّل من وَرثتهم،حصل لكل نبيّ واحد منهم بحسب ما قُسّم له من القُرب الإلهي،وإن إشتركوا كلّهم في الكمال النبوي والشرف والإصطفاء الإختصاصي الرّسالي.
وصف الإنسان الحقيقي بالكامل،ليس للإحتراز من الإنسان الحيوان،فإن التمييز بينهما ظاهر بديهي. حيث إن الإنسان الكامل له الظهور بالإقتدار التامّ،تتكوّن الأشياء عند قوله: (كن) أو قوله (باسم الله)،يُحيي ويُميت،ويُذلّ ويُعزّ،ويُعطي ويَمنع،ويولّي ويَعزل.. ومع هذا الإقتدار الذي أعطيَه،فهو في نفسه العبد الذّليل،الذي لا تشوب عبوديته ربوبية بوجه ولا حال.. والإنسان الحيوان لا شيء له من هذا،فلا مشاركة ولا مشابهة بينهما،فلا إلتباس. وإنما ذلك للإحتراز من الإنسان الناقص،حساً ومعنى،وهو (الدجال)،فإنه يظهر بالإقتدار،ومع هذا فهو إنسان ناقص حساً ومعنى. أما المعنى فلنقصه السعادة الأخروية،وأما الحسّ فلأنه أعور العين اليُمنى.. فلهذا الإشتباه في الإقتدار التكويني والإنسانية،جاء الوصف بالكامل،لتمييز الإنسان الكامل السعادتين،الصادق الوليّ،من الإنسان الناقص السعادة الأخروية،الكذاب العدوّ..
ما من حقيقة كونية،كُليّة أو جزئية،إلا ولها حقيقة إلهية تُقابلها،هي مُستندها ومَحتدها،والحقيقة الكونية هي تعيّنها وظهورها،ومثال لها وفَرعها. ف”النسخة الكونية مُتقابلة للنسخة الإلهية“،حرفاً حرفاً. ولا يلزم من تقابل النّسختين وإستناد إحداهما إلى الأخرى،المُساواة في الحقيقة والنّسبة. فإن الذهب تُقابله مَثاقيل الحديث في الصنجة التي يوزَن بها،وأين الذهب من الحديد؟ وإن إشتركا في الوزن والمُقابلة؟ وقد عَنّ لي أن أذكر بعض الكليات من تقابُل النّسختين،تأنيساً للإخوان،وحرصاً على إيصال العلم إليهم. فإن أكثر ساداتنا ذكروا تقابل النسخة الكونية،أعني العالَم،مع النسخة الإنسانية. وما ذكروا من تقابل النسخة الكونية والإلهية إلا النزر القليل..
[ذكر الشيخ الأمير بعض الكُليّات من تقابُل النسخة الإلهية والنسخة الكونية]،ثم قال:
فها قد ذكرنا بعض الكُليّات من تقابُل النسخة الإلهية والنسخة الكونية،فَتحاً للباب ورَمياً للمُسترشدين على الطريق. ومن هذا يعلم أنه لا شيء قبيح لذاته،ولا مُنكر لعَينه،وإنما ذلك لعوارض تَعرض للفعل من حيث صُدوره من المخلوق،فلا يوجد في العالَم قبيح ولا مُنكر إلا باعتبار. فكل ما خَلق الله فهو مَليح بالأصالة،فلم يَبق إلا المطلق.
ومن أحاط علماً بما قدمناه وفَهمه على النحو الذي أردناه،عرف أن النسختين مُتقابلتين حَذو القُذّة بالقُذّة،وعرف صحّة قول حجة الإسلام الغزالي: [ليس في الإمكان أبدع ولا أكمل من هذا العالَم]،إذ لو كان وإدّخره لكان بُخلاً يُناقض الجود وعجزاً يُناقض القدرة..
لما كان العالَم مظاهر أسمائه تعالى،الكُليّة والجزئية،لأنها الطالبة لإيجاد العالم وإظهاره من العدم الإمكاني،مع طلب الحقائق الإمكانية للإيجاد والظهور،من التعيّن العلمي إلى التعيّن الخارجي،مع عوارض التعيّن الخارجي ولوازمه من الأحوال والنّعوت التي لا تنحصر ولا تدخل تحت ضابط ولا قياس. وقد أجاب الحق طلب الجميع،فلم تبق حقيقة كُلية إلهية تطلب العالم إلا وقد ظهرت بحقيقة كُلية كونية،وجزئياتها وأشخاصها لا تتناهى. فلم يبق شيء في الإمكان،من حيث الأجناس والأنواع،إلا وقد كان.. فهو تعالى الذي أعطى كل شيء خَلقه وإستعداده كما ينبغي،وعلى الوجه الذي ينبغي،وبالقدر الذي ينبغي. فعطاء الحق تابع للطلب الإستعدادي الكُلّي من الأسماء ومن الأعيان الثابة،التي هي صور الأسماء..
فما أنكر قولة حجة الإسلام،وإستعظمها وإستغربها منه،إلا من كان مُتكلماً قُحّاً مَحجوباً عن الرقائق والدّقائق،ما شَمّ رائحة من علم القضاء والقدر،ولا عرف كيف نَشأ العالم ولا أسباب صدوره. فتوهّم أن في هذه المَقالة تعجيزاً للقُدرة،وتناهياً للمقدورات،وإيجاباً على الحق تعالى فعل الأبْدَع،ومَشياً على قواعد المعتزلة.. وإنما مُراد حجة الإسلام: التنبيه على أن سبب هذا الإختلاف،الواقع في العالم بين أجناسه وأنواعه وبين أشخاص النوع الواحد،هو القضاء الأزليّ. وسبب القضاء الأزليّ هو الحكمة من إسمه تعالى (الحكيم)،فهي المُخصَّصة للإستعدادات.. فما ظهر في هذه النسخة الشّهاديّة إلا ما طلبته الإستعدادات الأزلية غير المجعولة،فكل ما ظهر في العالم فهو العدل والحق: (ولا يظلم ربك أحداً)..
__ (إنك رمز وفتح كنز): من أعظم الأمثلة للتجليات الإلهية،الأجسام الصّقيلة،وبالخصوص المَرايا.. جعل تعالى الأجسام الصقيلة مِثالاً لتجلّيه في الصور الحسيّة والخيالية والمثالية والعقلية..
والطائفة المرحومة ــ أهل الله ــ وحدها أدركَت تجليات الحق في الصور،وما إشتبه عليهم بحلول ولا إتّحاد ولا بغير ذلك،ممّا إشتبه على غيرهم،من أصحاب العقول المَعقولة بقيود الأكوان،المسجونة بسجني الزمان والمكان.. فإن ظهور الصور وتجلّيها في الأجسام الصقيلة،مجهول للعقول،لم يُدركه حكيم ولا مُتكلم،وإنما أدركه أهل الكشف والوجود،الذين أعلمهم الله بحقائق الأشياء على ما هي عليه.
قال إمام الكاشفين من الأولياء محيي الدين: [الجسم الصقيل أحد الأمور التي تُظهر صورة البرزخ المثال بجَري العادة الإلهية،ولهذا لا تتعلّق الرؤية فيها إلا بالأجسام. هذا إذا كانت المرآة على شكل مخصوص ومقدار جرم مخصوص،فإن لم تكن كذلك،لم تصدُق المرآة في كل ما تُعطيه،بل تصدُق في البعض دون البعض].
فما خلق الله المرايا إلا ضرب مثال لتجلّيه،فليست الصورة الظاهرة بسبب المُقابلة للمرآة عَيْن المُتوجّه على المرآة،وإلا لما تحكّمت فيه المرآة فظهر بما عليه المرآة صغراً وكبراً،وإعوجاجاً وإستقامة،وطولاً وعرضاً. ولا غيره،لأنها ما ظهرت إلا بتوجهه على المرآة. ولا عين للمرآة،لأن المرآة ما فيها صورة من ذاتها ولا غيرها،لأنها ما أظهرت إلا ما فيها. ولأنه الصورة بين المُقابل والمرآة،والرائي لا يشكّ أنه رأى شيئاً زائداً على المرآة وعلى المقابل لها،فليس هو عدماً صرفاً،ولا هو من المعقولات ولا من الماديات. ومع إدراكه ذلك محسوساً،لا يقدر أن يحكُم عليه بأنه موجود ولا معدوم،ولا ثابت ولا منفيّ،ولا معلوم ولا مجهول.. فهو شيء يُدركه الحسّ ويُثبته،ويَنفيه العقل..
فكذلك يُقال في العلم الإلهي في التجلّي،الوجود الحق الذات،مُتجلّ بالصور الحسية والخيالية والمثالية والعقلية والخيالية،التي هي مَرايا تجلّيه من غير حلول.. فإنه ليس عند أهل طريقنا إلا وجود واحد،يتعدّد بتعدّد الصور التي هي مراياه،يرى فيها ذاته المطلقة والمقيّدة المُتعيّنة ببعض أسمائه..
__ (التعيّن الأول / المرتبة الأولى): للذات الغيب المطلق: تَجليات وتنزّلات وظُهورات،تُسمّى بالمراتب والتعيّنات والمَجالي والمِنصّات والمظاهر،وهي الأسماء الإلهية والمخلوقات الكونية،من العقل الأول إلى آخر مخلوق،لو كان للمخلوقات آخر،ولا آخر لها.
فأول المراتب،عند من يعُدّ الذات مرتبة،(الأحديّة): وهي الذات بشَرط لا شيء،أي بشرط الإطلاق. فهي مرتبة تقييدها بتجرّدها عن القيود الثبوتية،فهي عبارة عن مَجلى ذاتي ليس لشيء من الأسماء ولا لمؤثراتها فيه ظهور،وإنما هو ذات مجرّدة عن الإعتبارات الحقية والخَلقية.. فما حَصل عندنا من الأحدية إلا أمر جُملي،هو إعتبار الذات بإسقاط جميع الإعتبارات. إذ الإعتبارات فيها بحُكم البُطون،لا بحكم الظهور.. فالأحدية إسم للذات الصّرف،لكن نُسبَت الأحدية إليها،فنزل حُكمها عن الصّرافة والمَحض،وهي مُلحقة بالصّرافة والسّذاجة،فهي أعلى المَجالي.
وبعدها (الهوية)،فإنه ليس لشيء فيها ظهور إلا الأحدية،فإلتحقت بالسّذاجة. لكن دون لُحوق الأحدية،لتعقّل الغيبوبة فيها بطريق الإشارة إلى الغائب بالهُوَ.
وبعدها (الآنيّة) وهي ليس لغير الأحدية فيها ظهور،فإلتحقت بالسّذاجة. لكن دون لُحوق الهُويّة،لتعقّل التحدّي فيها والحُضور. والحاضر أقرب إلينا من الغائب..
وكل إسم بعد الأحدية فهو مُخصّص،لا يُنسَب إلى الذات. إذ حكم الذات في نفسها شُمول الكُليات والجزئيات والنّسب والإضافات والإعتبارات،لا بحكم ظهورها،بل بحكم إضمحلالها تحت سلطان أحديّة الذات. وإنما يُنسب ذلك التجلّي إلى الإسم الذي ظهر به،لا إلى الذات.. وليس في الأسماء الإلهية إسم عَلَم على الذات،لا شيء فيه غير العلمية،إلا (الأحد الواحد) عند العلماء بالله..
كُلّيات التعيّنات والمراتب مَحصورة في ستّ مراتب: الأولى مرتبة الغيب المُغَيّب،وهو التعيّن الأول. الثانية مرتبة الغيب الثاني. الثالثة مرتبة الأرواح. الرابعة مرتبة عالم المثال. الخامسة مرتبة الأجسام. السادسة مرتبة الإنسان الجامع لجميع المراتب المُتقدّمة.
والمراتب والتعيّنات والمظاهر ونحوها،كلّها أمور إعتبارية،لا وجود لها في حدّ ذاتها. إذ التعيّن ونحوه لا يزيد على المُتعيِّن بالعَيْن،فلا عين لها في الوجود العَيني،فليس إلا الذات الوجود الأحد الواحد. وأما المراتب،كالخلافة والسّلطنة والإمامة والقضاء والحُسبة ونحوها،فهي أمور عقلية إعتبارية،وإن كان التأثير والفعل لا يُنسَب إلا للمراتب،وإن نُسبت إلى الذوات فلأمر حَقّي فيها. فليس الوجود إلا لصاحب المرتبة،والتمييز بين المرتبة وصاحبها ظاهر حاصل حقيقة وعلماً،فليس في الخارج صورة للمرتبة زائدة على صورة صاحبها.. وأمر الخَلق والإيجاد محصور بين الوجود الذات والمرتبة،أي مرتبة الوجود الذات،وهي الألوهة،فإنها الجامعة لجميع مراتب التأثير،وهي الأسماء. وحيث لم يصح نسبة التأثير إلى الذات الوجود،تَعيّن نسبته إلى المرتبة وهي الألوهة.
الذات لمّا تَنزّلت من الذات الأحدية،نزلت إلى مرتبة التعيّن الأول،وهي الوحدة المطلقة الذاتية الحقيقية. بمعنى أن الوحدة عين الذات،لا صفة لها ولا نعت. ونسبة الأحدية المُسقطة لجميع الإعتبارات،ونسبة الواحدة المُثبتة لجميعها إليها على السواء..
الإطلاق مُقَدّم بالمرتبة على التقييد. وإنما كانت (الوحدة) أول تعيين للذات وأول إعتبار وأول المراتب المنعوتة،لأن كل تعيّن يَفرض أو تتقدّم عليه الوحدة ضرورة،تقدّماً رتبياً،بلا توهّم تَقدّم إستتار وغَيبة فُقدان..
الأحدية مرتبة العدم المطلق،والواحدية مرتبة الوجود المطلق.. والوحدة البرزخ الجامع بين الوجود والعدم،وكان من أسمائها: البرزخ الأكبر والأعظم والأول وبرزخ البرازخ،لأنها البرزخ الساري في جميع البرازخ..
ولأصالة مرتبة الوحدة،وكونها منبع المراتب والتعيّنات،سُميت “حقيقة الحقائق“،وهي المُسماة في كتب القوم ب”الحقيقة الكُلية“،وهي لا موجودة ولا معدومة. بمعنى أنها غير موجودة العين خارجاً وُجود إستقلال،فإنها معقولة في حدّ ذاتها،فلا تكون لها صورة ذاتية،لكن لها في كل موجود حقيقة،من غير إنقسام ولا تبعيض. وهي باطن كل حقيقة،ووجودها عين بُروز الموجودات وتابع لها.. فهي واحدة،تتعدّد بتعدّد الموجودات. ولولا أعيان الموجودات ما عُرفت،ولولاها ما عُرفت حقائق الموجودات. وهذه الحقيقة تُقارن الحق في الأزل،من غير أن يكون لها وجود في عينها. ويستحيل عليها التقدّم الزماني على العالَم والتأخّر عنه،كما إستحال ذلك على الحق تعالى،لأنها ليست بموجودة ولا معدومة. وليس العالم بمُتأخّر عنها أو مُحاذيها بالمكان،إذ المكان من العالم،وهذه أصل العالم.. فهي حقيقة حقائق العالم الكُلية المعقولة في الذهن،التي تظهر في القديم قديمة وفي الحديث حادثة. وهي معلومة له تعالى،يعلمها بها لا بغيرها،إذ هي صفة العلم،وليس العلم بغيرها ولا هي العلم. فلولا الإله الحق وهذه الحقيقة الكُلّية،ما ظهر شيء من العالم العلوي والسفلي،من الجواهر والأعراض والنّسب. فإن قُلت: إن هذه الحقيقة هي العالم صَدقت،أو غير العالم صدقت،أو إنها الحق سبحانه صدقت،أو غير الحق تعالى صدقت.. فهي الكُلّي الأعمّ الجامع للحدوث والقِدَم،وهي الهَباء والهيولى وهيولى الكل وهيولى الهيولات والهيولى الخامسة.
لأن (الهيولى) في إصطلاح ساداتنا: إسم للشيء باعتبار ما هو ظاهر فيها،بحيث يكون كل باطن هيولى الظاهر،الذي هو صورة فيه. الجسم الكل،الذي هو أقصى مراتب الظهور،صورة في النفس الكليّة. والنفس الكلية صورة في العقل الكُلّ. والعقل الكل صورة في العلم. والعلم صورة ظهرت من باطن الوحدة المطلقة،وهي حقيقة الحقائق المُسماة أيضاً بالحقيقة المحمدية. فالحقيقة المحمدية صورة لمعنى وحقيقة ذلك المعنى،وتلك الحقيقة هي حقيقة الحقائق. فهو صلى الله عليه وسلم الإنسان الكامل الأكمل،مظهر التعيّن الأول. وغيره من الكاملين،ممّن يُسمّى بالإنسان الكامل،هو مظهر التعيّن الثاني. ولذا قالوا في التعاريف: الحقيقة المحمدية هي الذات مع التعيّن الأول. ولهذه المرتبة والتعيّن الأول أسماء كثيرة،وذلك لكثرة وجوهها وإعتباراتها،وجميعها عبارة عن صورة علمه تعالى بنفسه،من حيث تعلّق نفسه بنفسه،باعتبار توحّد العالِم والعلم والمعلوم. وعندما تعينت الذات هذا التعيّن المذكور،تميّزت الحقائق الإلهية والكونية التي كانت مُستهلكة في الذات الأحدية،تمييزاً نسبياً لا حقيقياً..
__ (التعيّن الثاني / المرتبة الثانية): لما تعيّنت الذات،التعيّن الأول العلمي الإجمالي الذاتي،تبيّن أن لها كمالين:
كمال ذاتيّ مُجمل،بلا شرط ولا كثرة ولا غيرية ولا تميّز ولا إسم ولا نعت،وقد حصل بالتعيّن الأول.
وكمال أسمائي مُفصّل،سارٍ في الأسماء والحقائق،مُتوقّف ظهوره على الأسماء ومؤثراتها،من حيث ظهور كل فرد ووجدانه لنفسه ولأمثاله،من كونها أغياراً مُقيّدات بالمراتب،إستدعى ثُبوت هذا الكمال وظهوره لكثرة المعلومات وتعدّدها المُستحيل مُجامعتها للوحدة،إلى أن تكون لها حضرة هي محلّ تفصيل تلك الحضرات. فتنزّلت الذات الوجود من التعيّن الأول إلى التعيّن الثاني،الذي ظهرت فيه الأشياء،وتتميّز ظهوراً وتميّزاً علميين،لإنتقاد الكثرة والتميّز الحقيقي في التعيّن الأول،مع تضمّن التعيّن الأول لجميع نسب التعين الثاني مع الأسماء الإلهية التي هي لها الفعل والتأثير. والحقائق الكونية التي لها الإنفعال والتأثير،وهي المسماة في التعين الأول بالشؤون الذاتية،جمع شأن،بمعنى أمر مُجمل غير مفصل.. فالعلم في هذا التعين الثاني هو ظهور الذات لنفسه بشؤونه من حيث مظاهر تلك الشؤون المسماة صفات عند المتكلمين..
وهذه المرتبة الثانية الكلية تشتمل على مراتب: منها مرتبة الوجود المقدّسة عن شوائب النقص،وهي المدعوة ب”مرتبة الصفات“. ومنها “مرتبة الإمكان“. ولهاتين المرتبتين مرتبة فاصلة بينهما من وجه،وجامعة لهما من وجه،فهي البرزخ الفاصل الجامع المعقول.. فإذا وَجبت كانت ألوهة فاعلة مؤثرة مقدسة،وعليها يطلق لفظ (الله). وإذا أمكنت بإقتضاء حضرة الوجود لمظاهرها ومؤثراتها،كانت خَلقاً مُنفعلاً. ولهذا سُميت هذه المرتبة بالبرزخية الثانية،كما سميت بالعماء،حيث كان العماء حائل بين مرتبة الوجوب ومرتبة الإمكان،وفاصل بين الوحدة والكثرة الحقيقيتين،وحدة الذات وكثرة صور الموجودات.. فحضرة الوجوب من العماء تَلي التعيّن الأول،لأنها حضرة تعيّن أسماء الألوهة التي هي كلها واجبة لذاته تعالى.. وحضرة الإمكان هي أيضاً برزخ متوسط بين حضرة الوجوب وحضرة الإمتناع.. والممكنات كلها،من حيث إمكانها،معقولة. وإنما صارت محسوسة لما في المدارك من الأغاليط،بل الأغاليط في العقول الحاكمة لا في المدارك،فإن المدارك تُعطي ما في قوتها.
ومن هذا البرزخ العمائي إتّصف الحق بصفات الخلق ونُعت بنعوتهم،كما ورد في الكتب الإلهية والأخبار النبوية،وهي المُسماة عند المتكلمين بالصفات السمعية. بمعنى أنها لولا أن الشارع جاء بها ما أثبتها العقل ولا قَبلها.. وإتّصف الخلق بصفات الحق،كالحياة والعلم والقدرة والإرادة..
ومنشأ هذا العماء من النَفَس الرحماني،فمنه ظهر. والنفس الرحماني هو أيضاً من أسماء المرتبة.. فتعدّد الوجود الواحد وإختلاف صوره،إنما حَصل من إختلاف القوابل التي هي الأعيان الثابتة وإختلاف أحكامها وأحوالها.
والعماء عين النفس،ولكن لما تميّز عن النفس اللطيف بالصورة العمائية الكشفية،لكون الممكنات كلها في العماء بالقوة،فشُبّه بالسحاب الدقيق.. فالعماء إسمه تعالى (الظاهر)،والنفس الرحماني إسمه تعالى (الباطن).. وإنما أضيف النفس إلى الرحمن دون باقي الأسماء،لأن الرحمن إسم للوجود المُفاض على الممكنات،أعياناً ثابتة وصوراً وجودية،فهو عين الرحمة العامة التي وَسعت كل شيء،حتى أسماء الألوهة..
ومن أشهر أسماء التعيّن الثاني: مرتبة الواحدية،سُمي بذلك لأنه إعتبار الذات من حيث إنتشاء الأسماء منها،ومن حيث إتّحادها من جهة كون كل إسم دليلاً عليها.. فسُميت الذات واحداً بالإعتبار الذي صار به الكل مُتوحّداً في الدلالة عليها. قال إمام العلماء شيخنا محيي الدين: [ليس في الأسماء الإلهية إسم عَلم على الذات إلا الإسم الواحد الأحد].
وفي الواحدية تظهر الذات إسماً والإسم ذاتاً،ولهذا ظهر كل إسم عين الذات وعين كل إسم من الأسماء الأخر،لإشتراك الأسماء في الذات،وظهور الذات بكل ما ظهر من الأسماء.
والأسماء الثابتة للذات في هذه المرتبة الواحدية: منها أسماء أجناس أصول،كالأسماء السبعة،والأسماء التسعة والتسعين.. ومنها أسماء كالأشخاص والجزئيات النازلة،ولا نهاية لها،إذ لكل مخلوق إسم يخُصّه هو الذي إقتضى من الذات الغنيّة إيجاد ذلك المخلوق وإبرازه من العدم إلى الوجود..
ومن أسمائه: “مَحلّ نُفوذ الإقتدار“،لكون الإقتدار إنما يتحقّق في هذه الحضرة التي هي منشأ السّواء،فإن الوجود إنما تعدّد وتكثّر بحسبها. ومن أسمائه: “الظل الأول“،لأنه أول قابل للكثرة التي هي صور ظلال شؤون الوحدة. ومن أسمائه: “الحقيقة الإنسانية الكمالية“،بمعنى أن صورة الإنسان الكامل صورة لمعنى وحقيقة ذلك المعنى،وتلك الحقيقة هو حضرة الألوهة المُسماة بالتعين الثاني وبالمرتبة الثانية.. فالإنسان الكامل مظهر التعيّن الثاني،والإنسان الأكمل مظهر التعيّن الأول،حقيقة الحقائق،وهي الحقيقة المحمدية الإنسانية،الحقيقة الأصلية. ومن أسمائه: “قاب قوسين“،وهما ظاهر العلم وظاهر الوجود لجميع الأنبياء. وأما قاب قوسين في قوله تعالى،في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (فكان قاب قوسين) فهما الأحدية والواحدية. (أو أدنى) يعني الوحدة الجامعة بين الأحدية والواحدية،فإن حقيقته صلى الله عليه وسلم هي البرزخية العظمى الأولى. ومن أسمائه: “حضرة الإمكان” تَسمية له بما فيه من الممكنات.. ومن أسمائه: “المرتبة الثانية” لكونها صورة التعين الأول،الذي هو مرتبة الذات. ومن أسمائه: “مرتبة الألوهة” لكون التجلّي الظاهر فيه وبه أصل جميع أسماء الألوهة التي إشتمل عليها الإسم الجامع (الله). ومن أسمائه: “مرتبة الغيب الثاني” لغَيبة كل شيء فيه عن نفسه وعن مثله،لإنتفاء صفة الظهور للأشياء فيه،مع تحققها وتميّزها وثُبوتها للعالِم بها،لا بنفسها.. ومن أسمائه: “عالم المعاني” لتحقق جميع المعاني،الكلية والجزئية،وتميزها فيه،لإستحالة خُلوّ علمه عن شيء. ومن أسمائه: “حضرة الإرتسام” لإرتسام الكثرة النسبية،المنسوبة إلى الأسماء الإلهية،والكثرة الحقيقية،المُضافة إلى الكون وحقائقه.. ومن أسمائه: “حضرة العلم الأزلي الذاتي” لأنه حضرة تعلّق علمه تعالى بالأشياء على سبيل التفصيل لحقائقها..
__ إعلم أنه لما تحصّل من تعيّن الذات،لنفسها بنفسها،صورة علمية،هي المُسماة بصورة الرحمن وبصورة جمعية الحقائق،وبالنكاح الأول الغيبي ــ النكاحات أربع ــ: وهو التوجه الأصلي الإلهي الذاتي،من حيث إجتماع الأسماء الأولى الأصلية،التي هي مفاتح غيب الهُوية،والحضرة الكونية،فكان المولود الوجود العالَم المُسمى بنَفس الرحمن. وبالصورة الرحمانية كانت تلك الصورة العلمية بمثابة الظلّ للذات والحكاية لها،مع ما إندرج في الذات من المعلومات التي هي عين الذات..
مجموع الأسماء الإلهية ومَدلولاتها،هي المعلومات الإلهية والكونية،التي هي لوازم الأسماء. فلا صورة له تعالى مطلقاً،لا محسوسة ولا مُتخيّلة ولا معقولة. ولكل ظلّ ظلّ قائم بذاته،معقول فيه،وظلّ مُمتدّ عنه. ولا يعرف الحق تعالى،من حيث الظلّ المعقول،أحد غير سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فإمتدّ الظلّ المُسمّى ب: [الوجود المُقيّد،وبالرحمن،وبالوجود المُفاض،وبالنور المَرشوش،وبالتجلّي الساري في جميع الذّراري،وبالرقّ المنشور،وبالوجود العام،وبالوجود المشترك،وبالرحمة التي وَسعت كل شيء،وبحقيقة العالَم..]،وبغير ذلك. فقابَله العدم المُقيّد،كما قابَل الوجود المطلق العدم المطلق. فما قَبل النور المرشوش،فهو المُسمى بالعدم المقيّد وبالممكن. وما لم يقبل النور الوجود هو المُسمى بالعدم الصّرف وبالمُحال وبالعدم المطلق..
المَعدوم المطلق مَعدوم للعالِم تعالى،أعني ليست له صورة ولا عين في علم العالِم تعالى. والعدم المقيّد مَعدوم لنفسه،مَوجود للعالِم به تعالى،بمعنى أن له صورة علمية هي المُسماة بالإستعدادات وبالأعيان الثابتة وبحقائق الممكنات عند ساداتنا أهل الطريق،وبالماهيات عند الحكماء،وبالمعدوم الثابت عند المتكلمين. وكلّها عبارة عن تعلّقات الحق الكُلية والجزئية التفصيلية،وهي ثابتة لا موجودة،خلافاً للأشاعرة النّافين للثّبوت. والثبوت غير الوجود،كما أن النّفي غير العدم.. والثبوت للأعيان عبارة عن إمكانها وقابليتها للوجود عند إرادة الموجِد تعالى،وطلبها للوجود طَلباً إستعدادياً..
وللعالَم ثلاث مَواطن: الموطن الأول هو التعيّن الأول،ويُسمى العالَم فيه “شُؤوناً ذاتية“. والموطن الثاني هو التعيّن الثاني،ويُسمى العالَم فيه “أعياناً ثابتة“. والموطن الثالث هو هذا الوجود،المُسمى ب”الوجود” عند العامة.
__ المعلومات تنقسم إلى: ما يختصّ بعلمه تعالى،وذلك في مرتبة التعين الأول والتعين الثاني،حيث كانت المراتب إعتبارية علمية،لا وجودية عَينية.. وإلى ما يعلمه الحق،وهي الأشياء المُسماة: غَيْر وسَواء وخَلقاً،وذلك في مرتبة عالَم الأرواح ومرتبة عالَم المثال ومرتبة عالم الأجسام.
وكانت الأسماء الإلهية قد تَميّزت وتَعيّنت حقائقها في التعيّن الثاني،وهو المرتبة الثانية،وتحاوَرت الأسماء فيما بينها،وطلبت ظهورها بظهور آثارها.. فإن الأسماء في الحضرة العلمية لا آثار لها،فهي مؤثرة بالصلاحية والقوة: فخالق ولا مخلوق،ورازق ولا مرزوق،ومُصوّر ولا صورة،ورحيم ولا مرحوم. حقائق مُعطّلة التأثير. فأسماء الألوهة التي تطلٌب العالَم،وإن كانت معاني قديمة بالنسبة إلى المُسمّى تعالى،وكان التعلّق لها نفسياً،فتأثيرها في مُؤثّراتها حادث. فلهذا نقول: إذا أعتُبر الإسم من حيث المُسمى تعالى،كان قديماً. وإذا أعتبر من حيث الأثَر،كان حادثاً..
وقد كانت أيضاً الأعيان الثابتة،تَميّزت أعيانُها في هذا التعيّن الثاني،فسَرَت فيها مَحبّته الظهور،من حيث إنها عين علمه الذي هو عينه تعالى. فلجأت إلى الأسماء في ظهور أعيانها،فلجأت الأسماء إلى الإسم الجامع (الله)،وذلك بالإقتضاء الذاتي. فسَبب نُشوء العالَم طَلب الأعيان،الطلب الإستعدادي،ظهور أعيانها من الأسماء،وطلب الأسماء من الإسم الجامع،لسَريان المَيْل الذاتي إلى الظهور في الأعيان والأسماء،لا سَبق العلم كما يقول المُتكلّم،ولا أن الحق تعالى عِلّة كما يقول الحكيم. فتجلّى الحق تعالى،عند طلب الأسماء،بضَرب من التجليات،إلى الحقيقة الكُليّة،حقيقة الحقائق،فإنفعل عنها حقيقة الهَباء.. فكان الهباء ظَرفاً للعالَم حُكماً،كظرفية العلم للمعلومات.. ويُسمى الهباء بالحق المخلوق،وتَقيّد الحق بالمخلوقية في هذه المرتبة من أجل ذلك الإنقسام،أي: إنقسام ذات الحق تعالى قسمين،من غير تعدّد في العين: فسَمّى أحد القسمين بالواجب القديم الربّ الفاعل،وسَمّى القسم الآخر بالممكن المُحدَث العبد المُنفعل.. فالهباء جوهر العالَم،والعالم كله فيه بالصلاحية والقوة..
ولما خلق الله تعالى الخَلق التّقديري،خَلقه جوهراً مُظلماً معقولاً،فتجلّى الحق عليه بإسمه “النور الوجودي“،فإنصبغ بذلك النور فإتّصف بالوجود،بعد أن كان عدماً،فزالت عنه ظلمة العدم،فظَهر الهَباء،بعدما إنْصَبغ بالنور الوجودي،على صورة العالَم،لأن الممكنات كلها ظهرت فيه ظهوراً غيبياً علمياً.
فالهباء هو العالم البسيط،والعالم فيه هو الوسيط،والإنسان الكامل هو الوجيز. فالإنسان على صورة العالم،والعالم على صورة الهباء،والهباء على صورة الحق باعتبار الظهور. وبالعكس،باعتبار البطون،ظهر الحق في الهباء بمعلوماته،فهو محلّ الأعيان الثابتة. فإذا قال تعالى للممكن: (كُن)،وهو ثابت العين في جوهر الهباء المُسمى بالعماء وبالخيال وبالهيولى،وسَمع الأمر بالسّمع الثّبوتي،لم يتوقّف عن الوجود،فكان صورة في جوهر الهباء،بعد أن كان معلوماً. ولما وجدت الصُوَر في الهباء،أعطته الوجود العيني،بعد أن كان معقولاً.. فبَدأ العالَم وحقيقته،هو موجود من النور الوجودي والحقيقة الكُلية والهَباء.
__ (التعيّن الثالث / المرتبة الثالثة): وهو تَنزّل الذات إلى مرتبة الأرواح،مرتبة النكاح الثاني،وهي عبارة عن الاجتماع الواقع في عالم المعاني لتوليد الأرواح العالية العقل والمُهيمن. فإن الأرواح العَليّة هَيئات إجتماعية مُتحصّلة من إجتماع جُملة من أحكام الوجود،وهي الأسماء الإلهية والحقائق الإمكانية. فتُسمى المُؤثرات: أحكام الوجوب،وقوابل المُتأثرات: أحكام الإمكان.
فلما خرج الإذن الإلهي للأسماء بالظهور والتأثير،تَوجّه كل إسم إلى ما تقتضيه حقيقته،فكانت الموجودات الخارجية،التي أولها عالَم الأرواح العالية،”العقل الأول“،ومن في مرتبته من المُهيّمين في الله،وهم الكَرْبيون،سادة الملائكة المُقرّبين،بل ليسوا بملائكة وإنما هم أرواح. و”النفس“،وهو اللوح المحفوظ،من العالين،وإن كان مخلوقاً بواسطة العقل الأول. وأما العقل الأول والمُهيمون فمن غير واسطة.
وهذه المرتبة يُسميها بعض أهل الله ب”عالَم الملكوت“،وبعضهم يُسميها ب”عالم الجبروت“،وبعضهم يُسميها ب”عالم الأمر” لوجوده عن أمر الحق فقط من غير واسطة سبب غير الأمر،وهو قوله (كُنْ).. وعالَم الخَلق: كل موجود صَدر عن مادة وسَبب مُتقدّم،كصُدور الولد عن أبويه. وفي التحقيق الكُلّ عالم الأمر،كما قال تعالى: (ألا له الخلق والأمر). غير أن عالم الخَلق له وجهان: وجه إلى سَببه الحادث العينيّ،ووجه إلى الأمر وهو سببه الغيبي. وعالَم بلا واسطة الأمر،له وَجه واحد..
لما أراد الحق إيجاد الأعيان الخارجية،وكان ذلك بتجلّيه للأعيان الثابتة وظهورها في نور الوجود،ظهور الصورة في المرآة،كان أول تجلّيه لأقرب المعلولات،وجعله عِلّة وشَرطاً لإيجاد كل ما بعده من المخلوقات،وهو “العقل الأول” الذي هو “الحقيقة المحمدية” في الخارج. بمعنى أن العقل الأول مَظهر الحقيقة المحمدية،التي هي الذات مع التعيّن الأول،وهي حقيقة الحقائق..
فكان العقل ألطف الموجودات وأشرفها،لأنه ظهر في مرآة الوجود بلا واسطة. فصارت حقيقة العقل،الحقيقة المحمدية،كالحجاب على الوجود الذات.. وهذا الحجاب الأول لا يرتفع دنيا ولا آخرة،وهو الرّداء (رداء الكبرياء) المُشار إليه في الخبر الصحيح.. وجميع إشارات الصوفية وتغزّلاتهم مُتوجّهة إليه،وهو غاية السائرين ونهاية السالكين. فإذا وَصلوا إليه،علماً وشُهوداً وذَوقاً،وَصلوا إلى الإيمان بالغيب،وعرفوا أن الحق تعالى وراء ذلك.. ومن أهل الرياضات والمجاهدات وتهذيب الأخلاق النفسية،ممّن على غير شريعة أو على شريعة منسوخة،من يَصل إلى شهود “العقل الأول”،فيظنّ أنه الحق تعالى وأنه ليس وراءه مرمى لرام،فيزداد ضلالاً ويَجني وبالاً،لأنه ليس معه نور إيمان،وإنما معه نور النفس وخصوصيتها،ولا تنجلي الأشياء على الحقيقة إلا لذي نورين وعَينين..
__ ولما كثرت وجوه العقل وإعتباراته،كثرت أسماؤه،إذ كل من قامَ به وصف أشتُق منه إسم. منها: “العقل الأول” عند الحكماء،لأخذه الوجود والعلم مُجملاً بلا واسطة،فهو أول من عَقَل من ربّه وأول قابل لفَيض وجوده.. ومنها: “القلم الأعلى” لتفصيله ما أخذه مُجملاً في اللوح المحفوظ،فهو القلم من جهة التدوين والتسطير.. ومنها: “الروح الأعظم” عند أهل الله،فهو الروح من حيث التصرّف والإمداد،لكونه حاملاً للتجلّي الأول ومَنسوباً إلى مظهريته،ولغلبة حُكم الوحدة والبساطة عليه. وهو جامع لجميع التجليات الإلهية،لما تجلّى له الحق عَلم جميع ما يظهر عنه من اللطائف والكثائف والبسائط والمركبات والجواهر والأعراض والأزمنة والأمكنة،إلى يوم القيامة.. ومنها: “روح الأرواح” لأنه منشأ جميع الأرواح الكُلية والجزئية.. ومنها: “الإمام المبين” لأنه ظاهر بصفة كل شيء،ومُفصّل مُبين لكل شيء.. ومنها: “العرش” الذي إستوى عليه الرحمن،لأنه مظهر لجميع الأسماء،من جمال وجلال.. ومنها: “مرآة الحق” لأنه تعالى شاء أن يرى ذاته ظاهرة له،فظهر بنفسه في صورة العقل الأول،فقامت له نفسه في صورة المُغايرة مَقام المرآة،من غير إنفصال ولا تعداد.. ومنها: “الكلمة” لأنه صَدر عن كلمة الحضرة،وهي (كُن)،وهي صورة الإرادة الإلهية والتوجه الإلهي،فصَدر عالِماً بالمعلومات التي لا تتبدّل.. ومنها: “المادة الأولى” لأنه أول مخلوق تَبيّن من الغيب،وتَفصّل منه جميع ما في العالَم.. ومنها: “الفيض الأول” لأنه تعالى أبرزه من حضرته قبل كل شيء،وأفاضه على عين كل شيء.. ومنها: “نَفَس الرحمن” فإنه تعالى قال: (ونفخت فيه من روحي). والنفخ إرسال النفس على المنفوخ فيه،فهو روح كل صورة.. ومنها: “العقل الكُلّي والعقل الكُلّ” والفرق بينهما هو: أن “العقل الكُلّي” ماهيته عقلية،لها تعيّنات لا تتناهى بالقوة،وهي كالمَرايا تظهر فيها كسائر الماهيات التي تظهر في جزئياتها. فالعقل الكُلّي صورة العلم في العقل،والعقل الكُلّ هو صورة العقل الكُلّي في التشخّص.. ومنها: “الروح الكُلّ والروح الكُلّي” والكلام فيهما كالعقل الكلي والعقل الكل.. ومنها: “مركز الدائرة” لأن نقطة المركز تُقابل بذاتها كل نقطة من نُقط الدائرة،وليست من هذه الدائرة. وكذلك هو فإنه واحد بسيط يُقابل جميع الصور والأجسام والجواهر،ويتلوّن بكل صورة،فهو الواحد الكثير.. ومنها: “الدُرّة البيضاء” لكونه أشدّ الممكنات بَساطة ونَزاهة،فهو غير مُتلوّن.. ومنها: “العدل” لأنه يُعطي كل شيء خَلقه وإستعداده.. ومنها: “أمر الله“،قال تعالى: (ويسألونك عو الروح قل الروح من أمر ربّي) والأمر هو ما صَدر عن الحق بلا واسطة،فهو الروح،وهو النور المحمدي..
فجميع ما تقدّم من الأسماء،وارد عليه ومُتوجّه إليه،شَخصاً وحقيقة،فإنه التعيّن الأول. إذ الأمر الصادر من حضرة الإطلاق،حيث لا تعيّن،صَدر بصورة النور المحمدي،فهو التعيّن الثاني باعتبار قيام النور المحمدي بالأمر. والتعيّن الثالث باعتبار نُزوله في عالم الخَلق. فالمراتب ثلاث،وصاحبها واحد. فالحقيقة المحمدية حقيقة الروح الأول،وهو حقيقة جميع الأرواح. فهو ظهور الحقيقة المحمدية،وجميع الأرواح ظُهوراته. والروح مُنزّه عن جميع النقائص الإمكانية،ما عدا الوجوب بالغير..
ومع كون العقل الأول أشْرَف المخلوقات وأقربها إلى الحق تعالى،لأنه خَلقه من غير واسطة،فهو أجهل بالله من المصنوعات بصانعها. فإن المصنوعات بينها وبين صانعها مُناسبة ما،ولو في الإمكان والحدوث. والعقل الأول،الروح الكُلّ،ليس بينه وبين مُبدعه مُجانسة من وجه أصلاً،فهو لا يعلم من الحق إلا وجوده،أما حقيقته فلا.. وهو يستمد من الحق ويُمدّ الخلق،ولا علم له بكيفية إمداد الحق له،فإن الإمداد بالتجلّي،والعلم بالتجلي من خصائص الإله.. وعلم العقل الأول عين ذاته،ما هو صفة له،وهو مُجمل يتفصّل بحسب التجليات. وإمداده لمن تحته،في المرتبة،ذاتي لا يوصف فيه بالمنع،وإرادي يوصف فيه بالمنع..
__ (إفشاء سِرّ وهَتك سِتْر): معنى نسبة الوجود إلى كل ممكن،عند أهل الله ــ أهل الكشف والوجود ــ أنه تعالى لما تجلّى لأعيان الممكنات الثابتة في علمه تعالى،لم تستطع أبصارها الثّبوتية النّفوذ في النور الوجودي،فإنعكست عليها،فرأت أنفسها وقد إنصبغت بذلك النور الوجودي،فعلمت أنفسها وغيرها،وإنصبغ النور الوجودي بأحكامها ونُعوتها،فتوهّمت لذلك أنها وُجدت خارج العلم،وهي لم تخرُج ولا تخرج أبداً. فلو خرجت خارج العلم،كما تخيّلت،لإنقلبت حقائقها،وقلب الحقائق مُحال..
ولما إستحال على الأعيان الثابتة أن تظهر بذواتها،وإستحال على الحق أن يظهر بذاته مجرّداً عن المظاهر: تَعيّن أن تكون هذه المُسماة موجودات ومخلوقات،إنما هي تجليات الحق تعالى بأحوال الممكنات ونُعوتها،ليست عين الحق ولا عين الممكن،ولا غير الحق ولا غير الممكن،فعين ما ترى عين ما لا ترى. فالموجودات كالصورة في المرآة،ما هي عين الرائي ولا عين المَرئي فيه،ولكن بالمَحلّ المَرئي فيه وبالناظر للمَحلّ ظَهرت الصورة..
ومن هنا تعرف قول ساداتنا أهل الله: [العلم كله خيال]،لا يريدون أنه عدم محض،كما تقول السوفسطائية،أو أنه لا وجود له إلا في الخيال المُتّصل،كما توهّم كثير من الجهال.. وإنما مُراد أهل الله: أن العالَم في حقيقة الأمر على خلاف ما تُدركه مَدارك الجمهور،فإن ظاهره خَلق وباطنه حقّ،أو قُل: ظاهره حق وباطنه خلق. فالعالَم كالخيال الذي يجده كل عاقل من نفسه،فإن لكل إنسان خيالاً هو شعبته من الخيال الذي وُجد فيه العالَم..
الوجود الخيالي من أقسام الوجود. فسادَة هذه الأمة،الوارثون علوم الأنبياء،يقولون: العماء،الذي هو جوهر العالم،وفيه وُجدت أجناسه وأشخاصه،هو الخيال المُنفصل ــ ويُقال: الخيال المطلق والخيال المُحقّق ــ بمثابة المرآة التي بسبب التوجه عليها ظهرت الصور الخيالية في المرآة،وظهور صور العالم فيه هي المُتخيّلات. وإنما سُمي بالخيال لأن كل شيء ظهر فيه،فهو ظاهر بخلاف ما هو عليه. فكل شيء وُصف بالوجود فهو لا هو..
وجميع ما ذكره القوم في كتبهم من: أرض السمسمة،وسوق الجنة،وعالم المثال،والخيال المُتّصل.. هي شُعب من الخيال المُنفصل،ووجوه من وجوهه..
أحدية الكثرة هي التي نشأ العالم عنها،وأما أحدية الواحد فهي غناه عن العالمين. لأن الوحدة لا فرق بينها وبين الهُوية وكمال الإطلاق ومرتبة الغنى عن العالمين،إلا باعتبار حضوره لنفسه المُسمى بالتعيّن الأول. فلا مناسبة بينها وبين الممكنات في فيضان الوجود. فالإبداع والخلق والإيجاد والتأثير والمَبدئية،إنما كانت عن مرتبة الألوهية،للنّسبة التي بين أعيان الممكنات والأسماء،فإنها الطالبة لظهور العالم وإيجاده.
__ (النفس الكُلّ / اللوح المحفوظ): لما خلق الله تعالى العقل الأول،وسماه قلماً،ولا يكون القلم قلماً بالفعل إلا إذا كان له لوح يكتب فيه،وإلا فهو قلم بالقوة والصلاحية ــ أوجد تعالى من العقل “النفس الكُلّ“،وهو “اللوح المحفوظ“،وجوداً إنبعاثياً.. فكان اللوح المحفوظ مَحلاً لما يكتب فيه هذا القلم الإلهي.. فخَطّ القلم في اللوح ما يُملي عليه الحق،وهو علمه في خلقه..
ثمّ أوجد الله تعالى في النفس،وهو اللوح،وهو مَلَك كريم،صفتين: نصفه علم ونصفه عمل.
فبصفة العمل تظهر صور العالم فيه،وبهذه الصفة يُعطي الصور للعالَم. والصور منها: ظاهرة حسيّة وهي الأجرام والأشكال والألوان،وصور باطنة وهي العلوم والمعارف والإدراكات.. فالموجودات كلها مُنطبعة في النفس إنطباعاً أصلياً،جرى بذلك القلم الأعلى فيه بإيجاد. فلا تقتضي الهيولى صورة إلا وهي منطبعة في اللوح،فلا بدّ من إيجادها..
وإنما سُمي لوحاً محفوظاً،لحفظه من التبديل والتغيير.. فالذي كتبه القلم في اللوح على نوعين: نوع إقتضته الأسماء الإلهية بذواتها،من غير واسطة،فهذا لا يتبدّل ولا يتغيّر. ونوع إقتضته القوابل الإمكانية،كالأمور الجارية على حسب العادة،فهذا قد يتبدّل.. فالممكن مُفتقر على الدّوام،والمحو والإثبات المُتعاقبان على الممكن،إنما هما في الصور. وأما الجواهر،وهي الأرواح،فما أثبته منها لا يمحوه،وإنما تتبدّل عليه الصور..
ومن أسماء هذا المَلك الكريم،اللوح: “النفس الكُليّة” لأنه مُتوجّه بالتدبير والتكميل لكل ما تفصل منه من الصور.. ومن أسمائه: “الروح المُضاف“.. ومن أسمائه: “كل شيء“،وإليه الإشارة بقوله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء).. ومن أسمائه: “الكتاب المبين“،وإليه الإشارة بقوله تعالى: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين).. ومن أسمائه: “الكوكب الدريّ” نسبة إلى الدرّة البيضاء،وهو العقل الأول.. ومن أسمائه: “الزمرّدة” سُمي بذلك لأن نوره مَشوب بسواد الطبيعة التي هي بنت النفس.. ومن أسمائه: “العرش العظيم” فإن النفس عرش العقل الأول.. ومن أسمائه: “الذكر“،كما في الصحيح: (وكتب في الذكر كل شيء) الحديث..
__ بعدما أوجد الله تعالى الأرواح العالية،إيجاداً عينياً شِهادياً،عَيّن الله تعالى “مرتبة الطبيعة“،ثمّ عيّن بعدها “مرتبة الهباء“،وهو المُسمى ب”الهيولى” في إصطلاح الحكماء. ثمّ عيّن تعالى بعدها “مرتبة الجسم الكُلّ“،ثمّ عيّن “الشكل الكلّ“.
وهذه الأربعة يُطلق عليها إسم “الخَلق التّقديري“،لا الخلق الإيجادي،فإنها غير موجودة في أعيانها،وإنما هي أمور كُليّة معقولة كالأسماء الإلهية.
ومعنى قولنا في هذه الأربعة: أنه تَعيّن كذا ثم كذا،أنه تعالى لو أوجدها في العيان لكانت هذه مراتبها مُرتّبة كما ذكرناه.
فأما “الطبيعة” فإنها أول ما تعيّن،بعد النفس الكلية،وهي عند أهل الله على غير ما هي عليه عند علماء النظر من الحكماء. فهي حقيقة إلهية فعّالة للصُور جميعها،من كل ما يُقال فيه عالَم،فهي أحقّ نسبة بالحق تعالى ممّا سواها. فإن كل ما سواها،ما ظهر إلا فيما ظهر منها،وهو النفس الرحماني،وهو الساري في صور العالَم. إلا أن يكون مُراد من جعل مرتبة الطبيعة تحت النفس الطبيعة،التي ظهرت في الأجسام،العرش وما في باطنه،فتكون هذه الطبيعة الكبرى العليا،وهذه النّسب مرتبطة بالأجسام من حيث ظهور حُكمها فيها وبها.. وإنما سُميت بالطبيعة،لأن فعلها طبيعي لا علمي،فإنها غير موصوفة بالعلم،وفعلها بعلم النفس،إذ (الحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة)،التي هي مجموع ما سُمي بالطبيعة،أعراض تقوم بالأجسام لا بأنفسها. وهذه الأربعة مُستندة إلى الأسماء الأربعة التي قام الوجود كله بها،وهي (الحيّ،العالِم،المُريد،القائل).. فالطبيعة أمر كُلّي عقلي،لا عين لها في الخارج الحسّي والمثالي،كسائر المراتب..
وبهذا تعرف أن “الطبيعة”،عند أهل المحقّقين،أعلى من جميع العالَم،فإنها حقيقة إلهية فعّالة..
__ (التعيّن الرابع / المرتبة الرابعة): المرتبة الرابعة من المراتب الكُليّة،هي “مرتبة عالم المثال الخيال“. وهي الصور الجسدية الخيالية البرزخية المُركّبة من الأجزاء اللطيفة،التي لا تقبل الخَرق والإلتئام،كما هو ذلك في الأجسام العنصرية. فهي في حقيقتها أجسام نورانية شُعاعية،تَنفذ في الأجسام نُفوذ الشعاع البصري والشمسي في الأجسام الشفافة..
فكل صورة يَظهر فيها الروحاني،من مَلك وجان،وكل صورة يرى الإنسان نفسه في النوم فيها،والصور التي تنتقل إليها أرواحنا بعد الموت ــ فهي من صور هذا العالَم. وكذلك أرض السمسمة التي ذكرها أكابر القوم،هي من هذه العالم،ولها مَحلّ مخصوص من الخيال المنفصل الذي هو العَماء.. وكذلك “سوق الجنة”،فقد ورد في الحديث: أن في سوق الجنة صُوراً،وكل من إستحسن صورة منها لَبسها،وهي باقية في مَحلّها لا تزول.. وكذلك ما تُصوّره القوة المُصوّرة التي بكل إنسان،هو من صور هذا العالَم،إذ كل صورة يُصوّرها الإنسان في خياله المتّصل به لها وجود في هذا العالم.. فكلما أرادت النفوس شيئاً تصوّرت به لها أرواحها: إما في الخيال المتّصل وهو للعموم،وإما في الخيال المنفصل وهو للخصوص من الأكابر..
وفي النفوس الإنسانية خاصية،وهي أنه إذا أدرك الإنسان روحاً مُتجسّداً،مَلكياً أو جنيّاً،وقَيّده ببَصره،وأدام النظر إليه بحيث لا يفتُر،فلا يستطيع الروحاني أن يتحرّك ما دام الإنسان مُقيّداً له بنظره إليه.. وعندما يتشكّل الروحاني بصورة حيوانية أو إنسانية،يُعطى حكم تلك الصورة،فيجوع ويعطش ويبرُد ويسخُن..
وإنما سُمي بعالم المثال،لأنه حاوٍ لمثال كل شيء.. والصور المثالية كُليّة،إلا أنها محسوسة..
وهذا هو المعروف عند الحكماء والمتكلمين ب”المُثُل الأفلاطونية“،فإن الله كَشفه لهذا الإمام الإلهي،وأنكر ذلك المتكلمون قاطبة..
وأما تسميته ب”البرزخ”،فإنه برزخ بين المعاني التي لا أعيان لها في الوجود الخارجي،وبين الأجسام النورية والطبيعية والعنصرية. فالمحسوسات تعرُج إليه،والمعاني تنزل إليه،فتظهر بصورة برزخية جسدية خيالية. فيكسو المعاني المجرّدة عن المواد أجساداً،ويُشكّلها ويُصوّرها..
__ ثمّ بعد ما أوجد الله العالم المثالي،توجّهت الأرواح العالية،من حيث مظاهرها المثالية،إلى إيجاد الأرواح المَلكية (عُمار العرش والسماوات والأرضين) في مرتبة الطبيعة.. والأرواح موجودة قبل الأجسام في الغيب دون الشهادة،وجوداً مُتداخلاً،كوجود النخلة في النواة والسّنبلات في الحبّة الواحدة والحروف في الحبر الموضوع في الدواة..
ومن خواص الأرواح عدم التحيّز،فلا مكان يحصرها. وإن كانت من العالم المخلوق،فهي لا داخلة في العالم ولا خارجة عنه. فليست الصور بأبنيات ومَحال للأرواح. والأرواح كلّها سَواء في هذه الخاصية،مَلَك وجنّ وبشر وغيرهم. إلا أن الصور العنصرية كالمِلْك لأرواحها في التصريف،وغير العنصرية كالمظاهر لأرواحها. فكلما أكمل الله صورة وسَوّاها،نورية أو عنصرية،تَجلّى لتلك الصورة،فيتكوّن عن التجلّي والصورة روح تُناسب تلك الصورة،وأمَدّها بتدبيرها.
والأرواح كلها موجودة عن العقل والنفس،وهي من حيث ما هي أرواح أقسام ثلاثة:
القسم الأول: مُقيّد بعدم المظهر،لا طبيعي ولا مثالي ولا عُنصري،وهم الأرواح المُهيّمة في جلال الله،فلا يشعر أحد منهم بنفسه فضلاً عن غيره. ولا يُسمّون ملائكة،وهم المعروفون عند الحكماء ب”الجواهر المُجرّدة“.
والقسم الثاني: مُقيّد بالمظهر،وهم صنفان: الصنف الأول: يُضاف المظهر إليهم،لا هم إليه،وهم عُمّار السماوات والأرضين،الذين تُضاف الآثار والأفعال إليهم. وهم موجودون قبل السماوات والأرضين،وهم المُسخرون الوُكلاء على ما يخلقه الله تعالى.. والصنف الثاني: يُضافون إلى المظهر،بمعنى أنهم لا يتعيّنون في الخارج إلا بعد تَسوية المظهر،كالأرواح الإنسانية المُضافة إلى صورها..
والقسم الثالث: لا يتقيّدون بالمظهر ولا بعدمه،فلهم أن يظهروا حيث يشاؤون. وهم الرسل السّفراء بين الله وبين خلقه..
والتصوّر بالصور وبالأشكال المختلفة،ذاتيّ للأرواح،من غير أن تكون لها قوة مُصوّرة مثل الإنسان. فإن الأرواح عين الخيال،وهي وإن كانت أجساماً فهي نورانية..
ورد في الحديث: (أن الشيطان يجري من إبن آدم مَجرى الدم)،فهو ينفُذ في جسم الإنسان حقيقة،لا كما يقول أهل الحجاب أنه تمثيل وتخييل. إلا العقل الكُلّ والنفس،فإنهما لا يتشكّلان ولا يتصوٍّان،لأنهما فوق الطبيعة،ولا علم لهما بصُور الأشكال الطبيعية،فلا يَشهدان صور العالَم. وإن كان النفس الكُلّي يُعطي الإمداد بذاته لعالم الطبيعة،من غير قصد،كما تُعطي الشمس المنافع من غير قصد. فالعمل والعلم المنسوبان إلى النفس،هو نسبة ذاتية لها..
__ ثمّ تعيّن بعد مرتبة الطبيعة “مرتبة الهَباء“،وتُسميه الحكماء “الهَيولى“. وهو،كالطبيعة،لا وجود له إلا في العلم.. وبعض الحكماء جعل مرتبته قبل الطبيعة ودون النفس الكلّ.
وحقيقة الهباء جوهر مُنبثّ في جميع الصور الطبيعية والعنصرية،البسيطة والمركبة. لا تُظهره إلا الصور،ولا تخلو منه،إذ لا تكون صورة إلا في هذا الجوهر.. فالهباء عند السادة: إسم للشيء باعتبار نسبته إلى ما هو ظاهر فيه،بحيث يكون كل باطن هَيولى الظاهر الذي هو صورة فيه..
وبعض أهل الله يُسمي الهباء “العنقاء“،لأن العنقاء طائر يطير في القاف،يُسمع به ولا يُرى. فكذلك حال الهباء وما يقتضيه من الصور،لا سبيل إلى بُروزه جميعه،بحيث لا تبقى فيه قابلية لصورة أخرى،هذا مُحال..
__ ثم بعد مرتبة الهباء تعيّنت “مرتبة الجسم الكُلّ“،الشامل لجميع الأجسام،روحانية ومثالية وطبيعية وعنصرية. وهو أمر معقول،كالطبيعة والهباء،ليس له وجود عينيّ. فإنه كُلّي،ظهر فيه حكم الهباء،كما ظهر حكم الطبيعة في الهباء.
فعَمل الحق تعالى بهذا الجسم المعقول “الخلاء“،وهو الإمتداد والتوهّم في غير الجسم. ولما كان الخلاء مُستديراً،كان الجسم الكل مُستديراً.. وأظهر الله صور العالم في هذا الجسم الكلّ،على إختلاف،لإختلافها في إستعدادها..
ولما تحرّك هذا الجسم بالإستدارة سُمي “فَلكاً“،فإن غير المُستدير لا يُسمى شَكله فلكاً..
__ ثم بعد مرتبة الجسم الكل تعيّنت “مرتبة الشكل الكُلّ“،وهو أمر معقول كالمراتب الثلاثة قبله.. والشكل الكل إنما ظهر في الجسم الكل،لأنه هو الذي يقبل الأشكال،أي القيود،من تربيع وتسديس وتكعيب وإستدارة وتقصير.. والشكل معقول دائماً،والذي يُدرك هو المُتشكّل لا الشكل..
فكل واحد من هذه الأربعة المعقولة (المراتب الأربعة المتقدّمة) هَباء لما قَبله. ومجموع هذه الأربعة ظهرت في “العرش“،فهي العرش. والعرش من جهة ظهوره العيني ظهر في مرآة النفس،إذ ليس بينهما موجود عينيّ خارجي،وإنما بينهما أمور معقولة غيبية لا شهادية. والنفس ظهرت في مرآة العقل،والعقل ظهر في مرآة العلم،والعلم مرآة ظهرت من باطن حقيقة الحقائق.
__ (التعيّن الخامس / المرتبة الخامسة): وهي “مرتبة عالم الأجسام“،وأوّلها “العرش“. ثمّ أوجد الله تعالى العرش في الجسم الكُلّ المعقول،وجوداً عينياً شِهادياً. فالعرش موجود عيني طبيعي بعد النفس الكُليّة..
وإسم العرش يُطلق،لغة،على السرير،وعلى المُلك. والمُراد هنا “السّرير“. والعُروش خمسة:
أولها: “عرش الحياة“،ويُقال له “عرش الهُويّة” و”عرش المَشيئة”،وهو العَماء المُتقدّم الذكر،ويُسمى فَلك المعاني،وهو عرش العُروش. الثاني: “العرش المجيد“،وهو العقل الأول. الثالث: “العرش العظيم“،وهو النفس الكُلّ. الرابع: “العرش الرحماني“،وهو عرش الإستواء. الخامس: “العرش الكريم“،وهو الكُرسي.
والمُراد هنا “العرش الرحماني”،وبعض السادة يُسميه بالجسم الكلّ،نظراً لإحاطته بجميع الأجسام. وكان إيجاد العرش بتوجهات الأرواح العالية،بما سَرى فيها من أحكام الأسماء الإلهية من حيث مظاهرها المثالية المُتعيّنة في عالم المثال.
فكانت الأرواح بمثابة الذكَر،والطبيعة بمثابة الأنثى،والجسم الكل بمثابة المَحلّ،والعرش بمثابة المولود. وهذا من النكاح الثالث،فإن درجة عالم المثال ودرجة العرش واحدة طبيعية. وما بَقي بعده إلا النكاح الرابع،وهو النكاح العنصري الثقلي.
العرش جسم طبيعي نوراني مثالي شفّاف مُستدير،مُحيط بجميع العالم لإستدارته. وكل ما هو داخل فيه مُستدير: الكرسي والسماوات والأرض والعناصر،وما تولّد منها،يوصف: بالعِظَم من حيث الإحاطة بالأجسام،إذ لا جسم طبيعي فوقه. وبالكَرم من حيث أنه أعطى ما في قوّته لمن تحته من الأجسام،وبالمَجد من حيث أن ما فوقه شيء من الأجسام. فله الشّرف والمَجد،وهو مُنزّه عن الجهات. وهو على الماء الجامد،والماء الجامد على الهواء البارد وهو الذي جمّد الماء،وتحت الهواء ظُلمة لا يعلم ما بعدها إلا الله تعالى.. وهو غير مُتحرّك،خلافاً لأهل النظر من الحكماء،إذ لو كان متحركاً ما أخبر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أنه على الماء مستقرّ. فهو جسد العالم وهيكله الجامع لجميع مُتفرّقاته،كما أن جسم الإنسان وهيكله جامع لجميع ما تضمّنه وُجوده من الروح والعقل والنفس والقلب وجميع قواه وحواسّه الظاهرة الباطنة. غير أنه وإن أحاط بالعالم من حيث صُوَره،فما أحاط به من حيث أرواحه،فإن الأرواح ليست تحته،فإنها غير متحيّزة كروح العرش،لا هي داخلة فيه ولا خارجة عنه..
__ (الكُرسي): ثم أوجد الله “الكُرسي” بعد العرش الرحماني،إيجاداً عينياً شهادياً،جسماً لطيفاً بسيطاً طبيعياً،روحانيته غالبة على جسمانيته كالعرش.. وكما أن علوم العقل الأول مُجملة،تتفصّل في اللوح النفس الكُلّ. كذلك علوم العرش مُجملة،تتفصّل في الكرسي. فإن لعالَم المُلك كتاباً مُجملاً وهو العرش،وكتاباً مُفصّلاً وهو الكرسي. فباعتبار إندراج ما ينفصل في الكرسي في العرش،يقال للعرش “أم الكتاب“. وباعتبار ما كان في العرش مُجملاً في الكرسي،يُقال للكرسي “الكتاب المبين“. فبين القلم والعرش مُضاهاة من جهة الإجمال،وبين اللوح المحفوظ والكرسي مُضاهاة من جهة التفصيل. فالعرش من هذا الوجه المذكور في المرتبة الحسيّة،مرآة القلم،فما في القلم مُندرج على الوجه الكُلّي والإجمالي فهو في العرش كذلك. والكرسي أيضاً من هذا الوجه،في المرتبة الحسيّة،مرآة اللوح النفس،فما في اللوح ثابت فهو في الكرسي ثابت على الوجه الجُزئي والتفصيلي.
ومن الكرسي يبرُز الأمر الإلهي في الوجود،فهو محلّ فصل القضاء.. والكرسي غير متحرّك حركة حسيّة،مثل العرش. ومقرّه على الماء الجامد الذي إستقرّ عليه العرش.
وبعدما خلق الله الكرسي تَدلّت إليه القدمان،كما ورد في الخبر: (الكرسي موضع القدمين). وهما كناية عن كل حُكمين مُتضادّين مخصوصين بالذات،غير مُتعديَين إلى المخلوقات. فهما عين الذات،كالحَقيّة والخَلقية،والحدوث والقدم،والتنزيه والتشبيه. أو مُتعديّين،كالأمر والنّهي. وإن شئت قُلت: هما الخير والشرّ.. فالقدمان عبارة عن إنقسام الكلمة التي هي الأمر الإلهي،فإنه ينزل إلى العرش هَيولانياً لا صورة له،فإذا وَصل إلى الكرسي تَعيّن وإنقسم..
وعن العرش والكرسي تكون الأشكال القريبة الخارقة للعادة،كالمعجزات والكرامات،وظهورها يكون في الخيال المُنفصل. وكالسحر وما شاكله،وظهوره يكون في الخيال المتّصل. وبهذا تعرف الفرق بين الكرامة والمعجزة والسحر،وإن إتّفقا في الصورة. وعنهما تظهر الطبيعة المجهولة التي يُقال فيها الخاصية،حيث يُجهَل السبب الموجب لذلك الفعل..
__ (الفَلك الأطلس): ثمّ أوجد الله “الفلك الأطلس” بعد الكرسي،وهو في الكرسي كحَلقة مُلقاة في فلاة من الأرض.. وإلى هذا الفلك الأطلس ينتهي علم علماء الهَيئة والأرصاد،ويُسمى “فَلك البروج” وفلك الأفلاك.
وسُمي ب”الأطلس” لكونه لا كوكب فيه ولا شيء ممّا تتميّز به حركته،فإنه مُتشابه الأجزاء،مُستدير الشكل،لا تعرف لحركته بداية ولا نهاية،وما له طَرف.
ويُسمى ب”فلك البروج” لأن الله تعالى لما خلقه قسّمه إثني عشر قسماً،سمّاها بُروجاً،أولها الجدي وآخرها القوس،وهم أسماء ملائكة خَلقهم الله على صور مختلفة،فسُمّوا بأسماء صورهم في عالَمنا.. وهذا الفلك ليس هو السماوات السبع. فجعل كل قسم بُرجاً لسُكنى مَلك من المُوكلين بتدبير العالم،ورفع الله الحجاب بين هؤلاء الأملاك وبين اللوح المحفوظ،فيُشاهدون ما شاء الله أن يُجريه على أيديهم في عالم الخلق إلى يوم القيامة..
ويُسمى “فلك الأفلاك” لإحاطته بما تحته من الأفلاك،فجميع الأفلاك تقطع فيه،فيُعلم ما لكل فلك من الطول والقصر في دورته،وهو يوم ذلك الفلك. ولهذه الحكمة خلق الله تعالى الدّراري السبعة في السماوات،ليعرف قطع فَلكها في الفلك المحيط الأطلس. وبوجود الأطلس حَدثت الأيام السبعة والشهور والسنون. ولكن ما تعيّنت فيه إلا بعد ما خلق الله في جوفه من العلامات التي ميّزت هذه الأشياء،فإن الليل والنهار ما كانا إلا بعد خلق الشمس..
وهذا الفلك هو سَقف الجنة،كما عند الشيخ الأكبر. وعن حركته يتكون في الجنة ما يتكون،وهو لا ينخرم نظامه،فالجنة لا تفنى لذاتها أبداً.. ولما كانت الطبيعة فوقه،ولم يكن بسيطاً،فإنه مركّب مُنقسم على الطبائع الأربع: الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة..
وهذا الفلك أحد الأفلاك التي خلقها الله للبقاء،فلا تَبدّل لصورها يوم تُبدّل الأرض غير الأرض والسماوات..
__ (فلك الثّوابت): ثمّ أوجد الله تعالى “فلك الثوابت” بعد فلك البروج الأطلس،وهو آخر الأفلاك التي خلقها الله للبقاء،فلا تفنى ولا تهلك صورها.. سَطحه أرض الجنة،ومُقعّره سقف النار جهنم. وفيه الكواكب الثابتة. وهو،بما إحتوى عليه من السماوات والأرضين،في الفلك الأطلس،كحلقة مُلقاة في أرض فَيحاء. وفيه قوة ما فوقه،أي الأطلس والكرسي والعرش،لأنه مُولّد عنهم. وهكذا كل مُولّد فإنه يجمع حقائق ما فوقه،حتى ينتهي إلى الإنسان،فيجتمع فيه قوة جميع العالَم. وإن كان إنساناً كاملاً،جمع مع ذلك الأسماء الإلهية بكمالها. ويُسمى هذا الفلك ب”مُكَوْكِب” وب”فلك المنازل“.. والمنازل مقادير التّقاسيم التي في فلك البروج،وهي ثمانية وعشرون منزلة: أولها النّطح،وآخرها بطن الحوت.. وهذه المنازل هي مساكن أملاك نُوّاب الإثني عشر مَلَكاً،الذين هم في الفلك الأقصى،يأخذون الأمر عنهم.. والكواكب السيّارة وغيرهما من الكواكب،إنما هي صور لأرواح مَلَكيّة تُدبّرها،مثل صورة الإنسان وبروحه يَفعل.. ولولا الأرواح ما فعلت الصور شيئاً،لا من إنسان ولا كوكب ولا حَرف..
__ (الدنيا): ثمّ تعلّقت إرادته تعالى،التعلّق التنجيزي،بإيجاد “الدنيا”،وهي: إسم لما تحت مُقعّر فلك الثوابت،إلى الظلمة التي إنتهى إليها علم العلماء من الأركان،وهي: [التراب. والماء. والهواء. والأثير،وهو النار. والسماوات. والأرضين. والمُولّدات من الأركان وهي: الجماد والنبات والمعدن والحيوان والجان والإنسان ]،التي مآل صورها وأجسامها إلى فساد وإنتقال. فإنه تعالى جعل للدنيا أمداً معلوماً تنتهي إليه وتنقضي صورتها وتستحيل إلى صورة مخصوصة ما تُشاهدها اليوم،كما أنه تعالى يُنشئها بعد البعث من القبور نشأة أخرى لا نعلمها اليوم.. وما سُميت دُنيا إلا بنا،بمعنى قُربى منّا،والآخرة بُعدى..
وهذه هي “مرتبة النكاح الخامس“،باعتبار النكاح الغيبي المعنوي،والرابع على عدم إعتباره. وهو النكاح العنصري السُفلي الثّقلي،لأنه عن عُصارات العناصر الأربعة وإمتزاجاتها،وهو الإجتماع الواقع للأجسام البسيطة،بموجب ما وصل إليها من أحكام الأصول الأسمائية والمعنوية والروحانية،لإظهار صور المُركبات وعالم الكون والفساد،على إختلاف طبقاته وأجناسه وأنواعه.. فلا تزال الطبيعة،وهي ظاهر الأمر الإلهي،تَفعل الصُور،والروح الكُلّ يُمدّها بالأرواح،دنيا وآخرة إلى غير نهاية..
ويلزم الأجسام والصور الطبيعية والعنصرية،أمور كالأشكال والألوان والخفّة والثّقل واللطف والكثافة واللين والصلابة،وما أشبه هذا من لواحق الأجسام والصور.. ومآل هذه الأوصاف اللاّحقة للأجسام إلى المُدرك لها،ما هي لذوات الأجسام،إذ لو كانت لذوات الأجسام لوَقع التّساوي في ذلك في حقّ كل مُدرك،كما وقع التساوي في كونها أجساماً وصوراً.. هذا عند أهل الله أصحاب الكشف والوجود،فإنا موقنون بأن من أهل الكشف الصحيح من لا تحجُبه الأجسام الكثيفة،كالجبال والجُدران والستائر وبعد المسافة.. فصورتها عنده صورة الأجسام اللطيفة التي لا تحجُب ما وراءها عن نفوذ الإدراك،فيُدركها ببَصره الحسّي.. ومن أهل الله من لا يُثقله شيء يحمله،ومنهم من لا يؤثّر فيه النار ولا تُحرق ثَوبه..
وإياك أن تظنّ أني أعني بقولي: “ومن أهل الله“،هؤلاء الذين يأكلون النار ويُدخلون مَسامير الحديد في أشداقهم،ويدخلون التنّور ويمشون راكبين على ظهور الأشخاص،ليعرفهم العوامّ بالوَلاية. مع عدم الإستقامة والمَشي على الكتاب والسنة،اللذين هما أساس طريق أهل الله. حاشا وكلاّ،ما يصدُر عن هؤلاء: منه ما هو شعوذة،ومنه ما هو سيمياء،ومنه ما هو خواص نفسية يتوارثونها بينهم.
وأما أهل الله فلا تظهر عنهم كرامة إلا لفيضان وَجد أو هداية مُريد أو نُصرة شَرع أو إنقاذ هالك أو حاجة شديدة أصابت الناس.. فإذا أظهره الله تعالى،من غير إرادة منه،فذلك إلى الله،شأن الكاملين. وأما أصحاب الأحوال فليس كلامنا فيهم..
__ (الأرض): ثمّ خلق الله من الصور الوجودية،بعد فلك الثوابت: “رُكن الأرض“،وهو التراب،وهو بارد يابس.
والأدلّة الشرعية والكشف الصحيح يَقضيان بأنها مخلوقة قبل بَقيّة الأركان،والخلاف في ذلك مشهور.. قال تعالى: (وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام) لأنها خزانة أقوات المُولّدات،ومن جملة أقواتها: وجود الماء والهواء والنار،وما في ذلك من البُخارات والآثار العُلوية.. [ذكر الشيخ الأمير تفاصيل ركن الأرض..].
__ (الماء): ثم خلق الله تعالى بعد الأرض: “ركن الماء“،وهو بارد رطب،فناسَب الأرض من جهة البرودة. له عقل وروح وعلم،كالأرض وسائر أجسام العالم. جعله تعالى مُحيطاً بالأرض،فهي مغمورة به،إلا القدر الذي إستقرّ عليه الحيوان والنباتات البريّة.. والماء العنصري أصله من “نهر الحياة”،وهو فوق الأركان،ومنه جعل تعالى كل شيء حيّ.. [ذكر الشيخ الأمير تفاصيل هذا الرّكن..].
__ (الهواء): ثم بعد الماء،خلق الله تعالى “ركن الهواء“،وهو حار رطب،ذو روح وعلم وتسبيح،وهُبوبه تَسبيحه. وهو الأسطقس الأعظم،خلقه بعد الماء لمناسبة الماء من جهة الرطوبة. وهو أقرب الأركان نسبة إلى نفس الرحمن،فإن الهواء نفس العالم الكبير.. ولا شيء أقوى من الهواء إلا الإنسان،والمُراد من ذلك أنه مَلَك هَواه وجعله مقهوراً تحت حُكم شَرعه وعقله..
وبرُكن الهواء حياة العالَم،كما أن الماء أصل صور العالَم. فصورة الهواء من الماء،وروح الماء من الهواء.. [ذكر الشيخ الأمير تفاصيل هذا الركن..].
__ (النار): ثم خلق الله تعالى بعد الهواء “ركن النار“،المسمى عند الحكماء ب”الأثير“،وهو حار يابس،مُحيط بكرة الهواء. خلقه الله تعالى مُوالياً للسماء الدنيا،لتُقابل حرارته بُرودة السماء الدنيا،فيندفع عن المُولدات في الأرض ضَرر بردها.. [ذكر الشيخ الأمير تفاصيا هذا الركن..].
__ وما ذكرناه في الأركان الأربعة (الأرض والماء والهواء والأثير وكائنات الجوّ) هو ممّا قال به الحكماء،وهو ممّا وافَق فيه الحكماء أهل الله أهل الكشف والوجود.. فلا تلتفت إلى قول من يقول: هذه آراء الحكماء الفلاسفة،وهي مبنية على نَفي الفاعل المُختار. فإنه قول أهل الجُمود،فليست آراء الحكماء كلها باطلة،فلا يُنكر كل ما قالته الحكماء إلا بسيط مَحجوب عن الدقائق والرّقائق،فإن للحكماء إصابات عجيبة لا يُنكرها مُنصف.
__ (الدخان): ثمّ بعد ما خلق الله تعالى الأركان ونَظمها،خَلق السماوات. فبعد ركن النار خلق الله الدخان،وذلك أنه تعالى كَسا الهواء صورة النحاس،وهو الدُخان،ومن ذلك الدخان خلق سبع سماوات طباقاً.. وكانت حينئذ السماوات وَتقاً ففَتقهما،أي فَصل كل سماء على حِدَة،بعدما كانت رَتقاً،أي واحداً،دُخاناً.. [ذكر الشيخ الأمير تفاصيل السماوات السبع..].
__ (المعدن): أول ما أوجد الله من المُلّدات الأربعة “الجماد“،وهو المعادن،وهو الذي بطنت حياته جملة واحدة،فلم تظهر إلا لأهل الإيمان وأهل الكشف من أولياء الله. فالمُسمى جماداً عندهم: حَيّ ناطق،بنُطق وجودي،دَرّاك بإدراك وجودي. فالحياة سارية في جميع الموجودات،وكذلك النطق والإدراك والعلم..
واعلم أن الكلام والنّطق المَنسوب إلى الجماد والنبات والحيوان،غير الإنسان،هو ما يَحدُث من ذلك الذي يُريد إفهامك بما يريد الحق تعالى أن يُفهمك،فيوجد فيك أثراً تعرف منه ما في نفسه،ويُسمى هذا كلاماً.. فليس المقصود من الكلام إلا إفهام السامع مُراد المتكلم بما تَكلّم به..
__ (النبات): ثم أوجد الله تعالى “النبات” بعد الجماد،مُختلف الألوان والأشكال والأحوال والطعوم والروائح والمنافع. فمنه قوت الإنسان،ومنه قوت الحيوان،ومنه دَواء،ومنه داء لبعض الحيوان،بل كل نبات هو دواء وداء،أي فيه منفعة لبعض الأمزجة ومَضرّة لبعضها..
وإفتقار الإنسان وجميع الحيوان إلى التغذّي،ليس من كونه حيواناً ذا نفس ظاهرة الحياة،وإنما ذلك من كونه نباتاً،قال تعالى: (والله أنبتكم من الأرض نباتاً).. فقد ورد في خبر نبويّ،صحّحه أهل الكشف: (أن آدم كان شجرة بوادي نعمان) يعني على صورة ترتيب أعضائه التي الآدميون عليها اليوم،ثمّ ظهر حُكم النفس الحيوانية في تلك النفس النباتية،فتحرّكت الشجرة بَشراً سَوياً،وهو آدم عليه السلام. فإن النفس التي تحفظ نظام أجزاء الجماد،تُسمى نفساً جمادية. فإن كانت مع ذلك تتغذّى وتنمو وتولد مثلاً،فهي نفس نباتية. فإن كانت مع ذلك تتوهّم وتختار وتتخيّل،فهي نفس حيوانية. فإن كانت مع ذلك تعقل وتتفكّر وتختار،فهي نفس ناطقة. وكل نفس باطنة في التي قبلها بالقوّة،وظاهرة عنها بالفعل..
أكمل صورة في النبات “شجرة الوقواق“،وهذه الشجرة توجد في جزيرة من جزائر الصين،تحمل ثَمراً كالنساء،بصورة وأجسام وعيون وأيد وأرجل وشعور وأبزاز وفُروج كفُروج النساء،وهنّ حِسان الوجوه،مُعلقات بشعورهم.. فإذا أحسسن بالهواء والشمس،يَصحن “واق واق”،حتى تنقطع شُعورهم،فإذا إنقطعت ماتت..
__ (الحيوان): ثم بعد النبات،أوجد الله “الحيوان”،وهو أشرف الأجسام الموجودة في العالم السُفلي بعد الإنسان،لإختصاصه بالقوّة الشريفة،وهي الحواس الظاهرة والباطنة.. وما سُمي الحيوان حيواناً لكونه مُختصاً بالحياة دون الجماد والنبات،وإنما ذلك لظهور الحياة فيه بالقوة الحسّاسة وخَفائها في الجماد والنبات..
__ (الجانّ): ثم بعد خلق الحيوان،خلق الله تعالى “الجانّ”. ومادّتهم من مارج من نار. والمرج الإختلاط.. فهم مخلوقون من نار مُركّبة فيها رطوبة،ولهذا يظهر لها لَهب،وهو إحتراق الهواء،ففتح الله في ذلك المارج صورة الجنّ. فهو عنصري،فيه جميع الأركان الطبيعية،ولكن الأغلب فيه رُكن النار والهواء،فلهذا نُسب إلى النار..
وللجن وجه إلى البشرية،كان به عنصرياً. ووجه إلى الملائكة،به كان لطيفاً ينحجب عن أبصارنا ويتشكّل بالأشكال والصور المختلفة.. والتغذّي للجن هو الفارق بينه وبين المَلك،وإن إشتركا في الروحانية..
ومن آمن من الجن كان أقرب مُناسبة لعالَم الغيب،فإن لهم التحوّل في الصور،ولهذا كانوا أعلم بكلام الله من الإنس..
التشكّل والتصوّر للأرواح،النورية والنارية،ذاتيّ لها. وتكون الصورة عين الروحاني. وإذا إتّفق موت الصورة،كما في الشاهد،مات الروحاني.. بخلاف البَشر،إذا تَروْحَن وصار له التشكّل والتصوّر في الصور،وماتت صورة من تلك الصور في الشاهد،فإنه لا يلحقه شيء من ذلك،لأن الشكل والتصوّر ليس بذاتيّ له،فلا تحكُم عليه الصور. ومع هذا فتصوّر الإنسان في حضرة الخيال أقرب وأولى من المَلك والجنّ،لأنه في نشأته له دُخول بروحه،الذي هو ناطقه،إلى عالم الخيال. وله بشَهادته،الذي هو جسمه،إلى عالم الشهادة. والروحاني ليس كذلك،فليس له دخول إلى عالم الشهادة إلا بالتمثّل في عالم الخيال صورة مُمثّلة. فإن أراد الإنس أن يتروحن بجسمه ويظهر به في عالم الغيب،وجد المُساعد،وهو روحه المُرتبط بتدبيره،فهو أقرب إلى التمثّل من الروحاني. وهذا المقام يُكتسب ويُنال،فيظهر صاحبه في أيّ صورة شاء من صور بني آدم،وفي صور النباتات والأحجار والملائكة.. وليس للمَلك أن يظهر في صورة مَلك آخر غيره..
__ (التعيّن السادس / المرتبة السادسة): ثم بعد الجنّ،أوجد الله تعالى “الإنسان“. وهي مرتبة الإنسان الجامعة لجميع المراتب المتقدّمة،ما عدا مرتبة الأحدية،فإنها لا تتجلّى لمخلوق،لمُناقضتها الإثنينيّة..
سمّاه إنساناً لأنه بمنزلة إنسان العين من العين،وهو ما به النظر،فإن به نظر الحق تعالى إلى العالم فرَحمهم. فكما أإبتدأ الأمر بحقيقة الإنسان،أختُتم بصورته.. فكل المخلوقات خَرجت من العدم إلى الوجود،إلا الإنسان فإنه خرج من الغيب إلى الشهادة،لا من عدم،فإنه أزليّ قديم باعتبار حقيقته. فإنه الأول من حيث الصورة الإلهية،فإنه ورد: (إن الله خلق آدم على صورته)،والآخر من حيث الصورة الكونية. فأوّليته حقّ،وآخريته خَلق. وإلى الصورة الإلهية الإشارة بقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)،وإلى الصورة الكونية الإشارة بقوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين)..
__ وأما حقيقة “الروح” ففيه من الأقوال كَثرة بلغت ألف قول. والقول الحقّ هو ما عليه أهل الكشف والوجود: أنه ليس بجسم يحُلّ البدن،ولا عرض يحُلّ في القلب أو الدماغ. وإنما هو جوهر مُجرّد،غير مُتحيّز ولا مُنقسم،ولا له صورة من ذاته،ولا هو داخل البدن ولا خارج عنه ولا متّصل به ولا منفصل عنه،ولا هو في جهة. فهو مُنزّه عن الحلول في المَحال والإتّصال بالجهات،وعن جميع عوارض الأجسام،فلا يدخل تحت مساحة ولا يقبل إشارة حسيّة. فالأرواح متّصلة بالأجسام بالتّدبير،مُنفصلة بالحدّ والحقيقة. والتدبير للأرواح ذاتيّ كالشمس،غير أن الشمس لا علم لها بما تُدبّره من مصالح العالم،والروح لها علم.. وليس المُدبّر لصور العالم كلّه روح واحدة،كما قيل،وإن روح زيد هي روح عمرو،فإنه يلزم أن ما يعلمه زيد لا يجهله عمرو.. واختلف في الأرواح: هل وجودها مع أجسامها أو قبلها أو بعدها؟ والحق عند أهل الله أن أرواح الكُمّل،كالأنبياء والرسل وكُمّل وَرثتهم،مُساوقة للعقل الأول،فهي موجودة مُتعيّنة مُتميّزة قبل إيجاد أجسامهم.. وما عداهم،من إنسان وغيره،فأرواحهم المُدبّرة لصورهم كانت موجودة في حضرة الإجمال،كالحروف في المداد،غير متميّزة لأنفسها.. فعين وجود الصورة،عين حَياتها،عين نَفخ الروح فيها،كل صورة بحسب إستعدادها ومَرتبتها..
وتُسمى هذه الحقيقة المُدركة من الإنسان بأسماء كثيرة،بحسب تنزّلاتها وإعتباراتها،فلها بكل إعتبار وتنزّل إسم. تُسمّى “علماً” من حيث أنها بها تحقّقت الأشياء وبانَت مراتبها وتميّزت أعيانها. وتُسمى “روحاً” من حيث أنها صورة الحياة الإلهية،ومن حيث أنها لا صورة لها تخُصّها،فلا تُعرف إلا بآثارها في الصُوَر.. وتُسمى “اللطيفة الإنسانية” لأنها ظهرت بالنّفخ الإلهي،فهي سِرّ لطيف يُنسَب إلى الله من جهة الإجمال،من غير تكييف. وتسمى “النفس الناطقة” عند الحكماء،يعنون المُفكّرة بالقوّة. وتسمى “عقلاً” لأنها أول شيء عَقل عن الله ما يُلقي إليه،ولأنه قيّد الأشياء وحدّدها بعد إطلاقها. وتسمى “نفساً” لتنفّسها في صور المراتب وإنبساطها وتكثّرها،مع وحدتها الحقيقية. وتسمى “قلباً” لتقلّبها بحسب المراتب التي تنزل إليها،وإنصباغها بكل شيء يُريده الحق تعالى منها. وتسمى “سِرّاً” لتجرّدها الحقيقي عن كل شيء يتوهّم مُلابستها له،ومُباينتها لكل صورة،فإنها الوجود الحق الذي ليس منه شيء في شيء. فلروح الإنسان باطن وهو “السرّ“،وللسرّ باطن وهو “سرّ السرّ“،ولسر السر باطن وهو “الخَفا“،وللخفا باطن وهو “الأخفى“. وباطن كل شي حقيقته ومادّته..
ومجموع حقيقة الإنسان،باعتبار التفصيل،روح وعقل ونفس،فهم الحاكمون على المدينة الإنسانية.
أما “الروح” فهو واحد قُدسي،تختلف أحكامه باختلاف الأعضاء،فهو واحد كثير. ولا يُدبّر الجسم لأنه خليفة،له الإحتجاب. وأما “العقل” فهو نور الروح،وهو يُدبّر المدينة الإنسانية بأمر الروح. وأما “النفس” فهي نور العقل،وهي بمنزلة الخادم،يُصرّفها كيف شاء. فإن كمُل العقل في تدبيره،كملت النفس في خدمتها،والعكس بالعكس..
ولما أوجد الله تعالى “الروح الخليفة“،على الكمالات والأوصاف العليّة،أراد تعالى أن يُعرّفه بعجزه وإفتقاره.. فأوجد له تعالى مُنازعاً في مملكته،سَمّاه “الهَوى“،وهو كل ما تميل إليه النفس وتستحليه من الأمور الطبيعية واللذّات المُعجّلة المُحبّبة لها.. فوقعت النفس بين أمرين قويّين: هذا يُناديها لطاعته ومَشيها على ما يُرضيه،وهذا يُناديها لطاعته وإستعمالها لما يشتهيه. فإن أجابت النفس داعي العقل،الذي هو وزير الخليفة ومُدبّر المدينة الإنسانية،حصل لها إسم “المطمئنة“. وإن أجابت داعي الهوى والشيطان،حصل لها إسم “الأمّارة بالسّوء“. والكل من عند الله (فألهمها فجورها وتقواها)..
__ إعلم أن “الروح” المُسمى ب”اللطيفة“،لمّا تعلّق بالجسم وتدبيره،وشَهد ما هي الأجسام عليه وما تُنتجه ممّا لم يشهده في عالَمه،عالَم المُجرّدات،إذ عالم المجردات لا ذوق له في عالم الأجسام. فلما أهبط إلى عالم الأجسام،تَولّع بها وعشق الهيكل وأحبّه حُبّاً لا يتصوّر أشدّ منه ولا أعظم. لأن الهيكل هو الواسطة في شُهوده لعالم الأجسام وإدراك الجُزئيات من العلوم وغيرها.. ولشدّة محبة الأرواح لهياكلها،غفلت عن أنفسها وذهلت عنها،ولم يثبُت عندها إلا أجسامها،فإنها نظرت إلى أجسامها نَظر الإتّحاد،فإكتسبت التصوير الجسمي.. والحق أن مُسمّى الإنسان: مجموع الجسم والروح،لا الجسم وحده ولا الروح وحده. وإنما أحَبّ الروح وحده الظهور،لأن الوجود الحق الساري في جميع الموجودات،الذي هو أصل الروح،أحبّ الظهور،كما ورد في قوله: (أحببت أن أعرف)..
وإذا فارقت الأرواح هياكلها وأجسامها،لا ترى أنفسها إلا على صورة هياكلها وصورها قبل الموت الطبيعي وبعده.. فتجسّد الأرواح وظهورها بالهياكل والصور،ليس إلا في شعورها لا غير. فإذا زال عنها ذلك الشهور،بالموت الطبيعي أو الإرادي،بَقيت عند نفسها على ما كانت عليه في نفس الأمر من التجرّد،قال تعالى: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد).. إذ الأرواح،عند تعلّقها بالأجسام وتدبيرها لها،لا تُفارق أصلها،وهي ناظرة إلى أجسامها وهياكلها،فهي تحُلّ موضع نظرها من غير مُفارقة لمركزها الأصليّ..
__ فها قد تَمّ ما أراد الحق تعالى إظهاره على لسان عبده،من كشف بعض أسرار التجلّي بكُليات المراتب،وبعض الأنواع تتميماً للفائدة. مع تقييد ما لساداتنا في ذلك من إطلاقات،وتفسير مُبهمات،وتفصيل أشياء أرسلوها مُجملات،وتنوير مسائل ما بَرحت مُظلمات،وحَسر النّقاب عن مُخدّرات لم تزل من وراء حُجُب الغَيرة مَصونات،ربما لا توجد في كتاب،فإنها من فتوح الوقت،وهب الوهّاب،حرصاً على توصيل العلم لإخواني.. فمن عرف هذا الموقف حق المعرفة،وأقام جداره فإستخرج كنزه وكشفه،كان ممّن فُتح له الباب ورُفع بينه وبين ربّه الحجاب،وقيل له: ها أنت وربّك.. وليست الدلالة على الله إلا العلم به.
ومن شاء فليجعل هذا الموقف (248) رسالة مستقلّة،يُسميها: [بُغية الطالب على ترتيب التجلّي بكُليات المراتب].
ذ موعشي