بحر الحقيقة المحمدية

قاب قوسين ومُلتقى النّاموسين في معرفة سيّد الكونين

يقول الامام الجيلي في الباب الرابع من  كتابه قاب قوسين ومُلتقى النّاموسين في معرفة سيّد الكونين 

 اعلم أن الفيض الإلهي إنما يكون على قدر القوابل،أما ترى الشمس تَظهر في المرآة بشعاعها حتى لايكاد الشخص أن يستطيع النظر إلى المرآة،وتظهر في بقية الجمادات بغير هذا المظهر.فظهور الحق تعالى في المخلوقات على قدر قوابلهم،بل ظهوره في أسمائه وصفاته على حسب ما تقتضيه قوابلها،إذ ليس ظهوره في اسمه المُنعم كظهوره في اسمه المنتقم:فالظاهر واحد،والظهور مختلف لاختلاف المظاهر.

كل شيء في العالَم إنما هو أثر أسمائه وصفاته فكل فرد من أفراد العالم له مَحتدّ من أسماء الحق تعالى وصفاته.ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم محتدّه الذات الأحدية،كان ظهورالحق تعالى عليه بالذات،ألا تراه انفرد دون غيره بجميع الكمالات .فنسبة القابلية المحمدية كنسبة البحر،ونسبة قوابل الأنبياء والأولياء كالجداول والأنهار،ونسبة بقية العالَم كالقطرات من ذلك البحر.وسبب ذلك أن سيدنا محمداً مجموع العالَم،لأن روحه العقل الأول.فالعالَم كلّه مخلوق به صلى الله عليه وسلم، فقابليته وحده بقوابل سائر الموجودات،فهو المُستفيض الأول والمُفيض الثاني،لأن الفيض الأقدس الذاتي مُتوجّه إليه بالتوجّه الأول،ومنه يتوجّه إلى بقية المخلوقات بقدر قوابلهم،فهو كلّ الوجود وله كل شيء.ولما عَلمت ذلك الأنبياء والأولياء، وضعت الرؤوس خضوعاً على باب عِزّه العالي،وحطّت رِقابها على أرض المذلّة لمجده الشامخ السامي.وذلك معنى أخذ الله تعالى على الأنبياء العهد لتُؤمننّ به ولتنصُرنّه،قال الله تعالى:(وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لَما آتيتُكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين).

 ثمّ إن جميع الأولياء والمقرّبين،مع عُلوّ شأنهم،إنما يترقّون ويعرجون بالاستمساك بحبل عُروته الوُثقى..فقوّة سيدنا محمد بقوة العالم كلّه،العرش والكرسي، واللوح والقلم ،والأملاك ،والأفلاك،والسماوات،والنجوم والكواكب السيّارة،والشمس والقمر والريح والماء والتراب والشجر، والحجر والمعدن، والحيوان،وجميع الإنس والجان، ومجموع ما خلق الله تعالى وما هو خالق. ويزيد على ذلك كلّه بالمعيّة الكبرى التي خُصّ بها والمُعبّر عنه بقاب قوسين،وليس لسواه من ذلك كلّه إلا ما وسعته قابليته. فافهَم،وألحِق نفسك بهِ لحوق القطرة بالبحر،لتفوز بالسعادة الكبرى والمكانة الزلفى.   وإلى هذا اللّحوق بالبحر المحمّدي أشار سيدي أبو الغيث بن جميل بقوله: خُضنا بحراً وقفت الأنبياء على ساحلهاهـ. لأن اللحوق الحقيقي بالشخص لا يكون إلا لمن بعده صورة ومعنى. فالأولياء الكمّل من أمّة سيدنا محمد لاحقون به صورة ومعنى،فهُم خائضون بحر اللحوق المحمدي. بخلاف الأنبياء،لأنهم إنما لحقوا بسيدنا محمد حُكماً،فهم لاحقون من حيث المعنى،لامتبوعين لا تابعين لغيرهم،على أنهم في الحكم تابعون له صلى الله عليه وسلم. والأولياء تابعون له،لا متبوعون،فالأولياء تابعون له صورة ومعنى، عيناً وحُكماً.فمن وُفّق له أن يلحق قطرته ببحر الحقيقة المحمدية فاز بالسعادة الأبدية الكبرى ...

الامام الجيلي قدس الله سره

هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد