المعـرفة و العارف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين
المعرفة :نقول عرف الشيء أدركه بالحواس أو بغيرها،والمعرفة إدراك الأشياء وتصورها،بتفكرٍ وتدبرٍ لآثار الأشياء.وهي مأخوذة من عرفان الدار أي آثارها التي تعرف بها ،ويضادها الإنكار.ولما كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل إليه بتدبر آثاره دون إدراك ذاته،امتنع استعمالها في جناب الحق دون العلم،فنحن نقول إن الله يعلم،ولا نقول إن الله يعرِف،ولم يرد في القرآن إسناد المعرفة إليه تعالى، إذ لايجوز أن يكون علم الله تعالى بالأشياء من جهة الأثر والدليل،وإنما علمه تعالى بالأشياء قبل وجودها وأوجدها على وفق علمه بها.في حين وردت المعرفة لتمييز المعلوم من غيره،بإلتماس اثاره﴿تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا﴾فالسيماء علامة يُتَوصل بها إليهم﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ﴾فهم يعرفون بسواد الوجوه يوم القيامة.وقوله تعالى في أهل الجنة﴿تَعْرِفُ فِي وُجَوهِهِم نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾فالنضارة أثر في وجوه أهل النعيم، يُعرفون بها،وقوله تعالى﴿ولتَعرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَم أَعْمَالَكُمْ﴾ فذكرعلامة المنافقين،وبأنها تعرف في فحوى الكلام ،ثم إنه لما أسند الكلام إليه تعالى غاير بلفظ (علم)لأن الله تعالى لا يعرف أعمالهم بإدراك آثارها ؛ قال سبحانه وتعالى ﴿وَاللَّهُ خلَقَكُم وَمَاتَعْمَلُونَ﴾.
والعقل خص به الإنسان دون غيره من المخلوقات وهومَلَكة لإكتساب العلم يستطيع بها إدراك الشيءعلى حقيقته،كلياته وجزئياته، ويكون نقيض الجهل. وفي التمييز بين المعرفة والعلم،قالوا أن المعرفة إدراك جزئي،والعلم إدراك كلي،وأن المعرفة تستعمل في التصورات،والعلم في التصديقات،و لذلك تقول عرفت الله دون عَلِمْته،لأن من شرط العلم أن يكون محيطاً بأحوال المعلوم إحاطة تامة،والله مطلق لاسبيل للإحاطة بكنهه.ومن أجل ذلك وُصف الله بالعلم لا بالمعرفة ،فالمعرفة أقل من العلم ،لأن للعلم شروطاً لا تتوفر في كل معرفة،فكل علم معرفة،وليس كل معرفة علماً.والعلم أعلا من المعرفة لأن العلم صفة الحق، والمعرفة صفة الخلق.والمعرفة يسبقها الجهل
وعلى العموم يراد بالمعرفة اصطلاحاً العلوم اللدنية،التي يهبها الحق عز وجل منة وفضلاً منه،لعبده المؤمن من خلال فتوحات،ونفحات تتجلى على قلبه،والمعرفة الصوفية هي العلم الذي لايقبل الشك،لأن المعلوم عند المتصوفين هو أسماء الله وصفاته ومقتضياتها في الكون الإلهي،ومعرفة سيدنا محمدا بالقرءان،ومعرفة القرءان بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأن نعلم أنه تعالى موجود واحد، فرد،لا يشبه شيئاً،وأنه تعالى حي،عالم ،سميع ،بصير،مريد،متكلم. أما الذات الإلهية،فمنزهة عن كل النسب والإضافات،مقدسة عن سائر القيود والإعتبارات،فلا اسم يبينه،ولا وصف ينعته،ولا رسم يميزه،ولا عين تبصره،ولا عقل يدركه،ولاوهم يتخيله.هيهات هيهات لما يطلبون.
والمعرفة مسألة قلبية،لادخل للعقل فيها لأن العقل مسجون ومقيد بالحواس وبالزمان، والمكان، والكم،والكيف،والعلة والمعلول ،وهي وهبية من محض الفضل والكرم الإلهي.فاحتاج السالكون إلى الله تعالى،إلى كلمة تميز العالم بالله عن العالم بالأحكام والنصوص ،فاستعملوا كلمة عارف بالله.اصطلحوا عليها لقوله صلى الله عليه وسلم : أنا أعرفكم بالله وأخشاكم له. فالعارف من أحاط علما بما يجب له تعالى،وما يستحيل، وما يجوزعلى الوجه المطابق للمعقول والمنقول والذوق) كأن لا تجلي بالأحدية) ثم عَلِم بعد ذلك باستحالة معرفة الذات الإلهية،لإنعدام المجانسة والمناسبة بين الله وخلقه،ولغنى الله المطلق عن معرفة من يعرفه، وأمسك عن الخوض فيه،كان هو العارف.فكل من توهم أنه أدرك بعقله،أوبذوقه،أو بحاسة من حواسه،ماهية الله، فهو في أودية الضلال تائه “والعجز عن الإدرا ك إدراك ” كما بلغنا عن الصديق الأكبررضي الله عنه .فسبحان من لم يجعل طريقا إلى معرفته إلاّ بالعجز عن معرفته.
أول من تكلم في المعرفة معروف الكرخي (ت 200 هـ). قال الشيخ أبوبكر الشبلي قدس سره :العارف صدره مشروح ،وقلبه مجروح وجسمه مطروح، والمقصود بصدره مشروح هو إشارة إلى الآية الكريمة ﴿فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ﴾. أما قلبه مجروح لأنه أطلعه الحق عز وجل على تصاريفه بالخلق فأخفاها. ورد في الحديث الشريف: “حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ”. أما جسمه مطروح لأنه تبرأ من حوله وقوته،ولجأ إلى حول الله وقوته،فلم يلهث خلف الدنيا،ولم يغويه بهرجها.ومن كلام الجنيد رضي الله عنه،لايعرف الله إلا الله. وعرَّف البلخي الله سبحانه وتعالى،عبر صفة القدرة الإلهية،في حين عرَف ذو النون ربه بربه.قال :عرفت ربي بربي ولولا ربي ما عرفت ربي. قيل لأبي سعيد الخراز بما عرفت الله قال بجمعه بين الأضداد وتلا ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ ﴾.في حين يضع الأنصاري نظريته في المعرفة ضمن نهايات المقامات الصوفية.
يقول ابن عربي: (مبدأ معرفة الله):..وأما معرفة الحق من هذا المنزل فاعلم أن الكون لا تعلق له بعلم الذات أصلاً،وإنما متعلقه العلم بالمرتبة وهومسمى الله،فهو الدليل المحفوظ الأركان،السادن على معرفة الله وما يجب أن يكون عليه سبحانه من أسماء الأفعال،ونعوت الجلال وبأية حقيقة يصدر الكون من هذه الذات المنعوتة،بهذه المرتبة المجهولة العين والكيف،وعندنا لا خلاف في أنها لا تعلم بل يطلق عليها نعوت تنزيه صفات الحدث،و إن القدم لها والأزل الذي يطلق لوجودها إنما هي أسماء تدل على سلوب،من نفي الأولية وما يليق بالحدوث اهـ. قال أبو العباس بن العريف الصنهاجي في محاسن المجالس: ليس بينه وبين العباد نسب إلا العناية،ولا سبب إلا الحكم، ولاوقت غير الأزل وما بقى فعمى وتلبيس.
قال الشيخ أحمد الرفاعي : المعرفة شجره لها ثلاثة أغصان،الأول هو التوحيد، وهو بمعنى الإقرار أي قطع الأنداد،وثانيها هو التجريد وهو بمعنى الإخلاص أي قطع الأسباب،والثالث هو التفريد وهو بمعنى الإنقطاع إلى الله سبحانه بالكلية في كل حال،ويعني الإتصال بلا سير ولا عين ولا دون .
وقال ابن قيم:العارف من عرف الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صَدق الله تعالى في معاملاته،ثم أخلص له في قصوده ونياته،ثم انسلخ من أخلاقه الرديئة، وآفاته،ثم تطهر من أوساخه وأدرانه، ومخالفاته،ثم صبر على أحكام الله في نعمه وبلياته ثم دعا إليه على بصيرة بدينه وآياته.انتهى.
والمعرفة عندالصوفية فضل من الله وهبة،أماعند المتكلمين والفلاسفة فهي مكتسبة بالعقل.والمعرفة حادثة يسبقها الجهل،والعلم أزلي قديم،ومن ثم فإن الله تعالى يوصف بالعالم ولا يوصف بالعارف، والمعرفة من فعل القلب لا من فعل العقل .قال :”أنا أعلمكم بالله وأن المعرفة من فعل القلب”.إضافة إلى هذا فمعرفة الله عز وجل في الفكر الصوفي تؤدي إلى الحيرة والتحير،إذ مهما بلغ الصوفي من المعرفة به وعنه ومنه سبحانه وتعالى، يبقى الحق بخلافه.مما يعني دلالة صريحة وعلى وفق الإقرار الصوفي بالعجز عن هذه المعرفة،والمعبر عنه على وفق المرادف اللغوي،تارة بالجهل،بتعبير التستري والحلاج، وتارة بالفكرة،بتعبير النفري والتوحيدي وابن سبعين.
قال ابن عربي في احدى رسائله…عارف بالله أي عارف بما اقتضته مرتبة الألوهية التى هي رئيسة الأسماء 98 لا أنه عارف بالذات الإلهية بل الجاهل بالذات هو العارف ،ومن ادعى المعرفة بالذات فهو الجهل بعينه …انتهى. فالمعرفة الحقيقية هي معرفة مولانا رسول الله أي أقدمية النبوة” كنت نبيا و آدم منجدل في طينته “وما دورها في الكون الإلهي وقد كانت قبل وجود آدم،وما حقيقة الكعبة،ومعرفة كيف تكون التجليات الإلهية وما دورسيدنا محمد فيها وهو الرحمة العظمى﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾.لأنه الحجاب الأعظم، والبرزخ الأتم القائم بين يدي الله تعالى،وما سواه،من وراء حجابيته الأحمدية المحمدية فلا نسبة لنا إلا معه،وما كلمتنا إلا نبوته ،وما سمع العارفون إلا منها . عرف ذلك من عرفه وأنكره من جهله﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ﴾ نبئهم أنت يا محمد ولاوصول لنا إلا إليه ،ولا رؤية لنا إلا لحقيقته”من رءاني فقد رأى الحق”﴿ إِنَّ رَبَّهُۥ كَانَ بِهِۦ بَصِيرًا﴾فما ثم من نبي،ولا رسول،ولا ولي إلا وعنه صدر ولا شئ إلا وبه منوط . فلولا سيدنا لانهد الوجود وصار عدما﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ﴾فسيدنا هو النورالأزلى “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر” الذي بفضله تمتع الوجود بالوجود.والتجليات الإلهية التي تظهر المقتضيات هي التي تسير الكون ترجع بك الى عين واحدة أي اسم الجلالة “الله”إذا كان التجلي على شخص باسمه تعالى المضل،هذا الشخص يقترف الذنوب،ولا تنفع معه الموعظة.إذا تغير التجلي عليه،وأصبح بالإسم الهادي تجده يزاحمك في المسجد، وفي حلق الذكر،وتُبَدَّل سيئاته حسنات.الشخص هو،هو،جوارحه هي هي، تغير التجلي،وتغير الفعل،وتغير الحكم.كانت سيئات،فأصبحت حسنات،فافهم وَ(مَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلَّابِإِذْنِ اللَّهِ﴾.﴿مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّاهُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾.﴿إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ﴾تشاجر الأسماء الإلهية، كل إسم يجر إلى دائرته ﴿قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللهِ﴾.فالخلق كلهم تحت حكم الأسماء الإلهية،وتحت تأثير مقتضياتها،وما في وسعنا إلا أن نقول: يا مقلب القلوب تبث قلبي على طاعتك وطاعة رسولك. أما سيدنا فليس له ضرة فى الوجود” إني لست كهيئتكم” . “أنتم من آدم وآدم من تراب “،والأسماء الإلهية لاتأثير لها على حقيقته ،وكل ما ظهر منه خلاف ذلك فإنما هو للتشريع،و لكي لا يعبد من دون الله. فالعارف بالله هو الذي يعرف المقتضيات الأسمائية، وكيف تتصرف في الكون،ولماذا هذا معوج وهذا مستقيم ،وباستطاعته ربط العالم العلوي بالعالم السفلي( أي ريط الروحاني العلوي بالروحاني السفلي) و..و… يقول الشيخ الرفاعي رضي الله عنه( كتاب حالة أهل الحقيقة مع الله) : أن المعرفة من العبد،والتعريف من الله،فالبداية اصطفاء والنهاية فضل ،والفضل كله من الله يقول ابن عربي (الإعلام بإشارات أهل الإلهام): المعرفة هو أن تعرف ما أنت عليه وما هو عليه. انتهى.وعندما يصل السالك إلى درجة المعرفة فالتكاليف تسقط عنه، بمعنى أن التكليف مأخوذ من الكلفة وهي المشقة وبدل المجهود في عمل ما، فهم يعبدون الله بلا مشقة، العبادة أصبحت ذاتية لهم ،فلا يستطيع أن لا يصلي الصلاة في وقتها ولا يستطيع أن لا يقوم بأوراده اليومية من ذكر،ونوافل،وصيام ،ودوام الحضور فلم يعد يكلف نفسه العبادة .وبناء على هذا ،تعد معرفة الله عز وجل في الفكر الصوفي،أطيب شىء يتذوق في الحياة الدنيا،هي الجنة في الدنيا، فلا حياة على الحقيقة إلا لأهل المعرفة بالله ،هم الأحياء بحياة معروفهم : محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد