الــــــكــشـــف

الــــــكــشـــف

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الانبياء والمرسلين

سأل الفيلسوف ابن رشد الشيخ ابن عربي الحاتمي(الفتوحات  ج1ص 362)وهو ما زال شابا ما طرَّ بعد،كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟هل هو ما أعطاه النظر؟ (ابن رشد  يسأل هل موصفات المعرفة الصوفية مماثلة لمواصفات المعرفة النظرية الفلسفية أم لا ؟) فأجابه الحاتمي: نعم، لا..

فيا ترى،ما هو الشئ الذي يمكن إثباته ونفيه في نفس الوقت ؟.اي حقيقة تحتمل النقيضين ؟  ابن رشد قاضي قرطبة،وفيلسوف البلاط،والخصم اللدود للغزالي،ومترجم ارسطو،وتلميذ ابن طفيل،

وابن طفيل هو كاتب قصة حي بن يقظان،حي إشارة إلى مطلق البشر،ويقظان إشارة إلى العقل،فهو حي متيقظ،فالحياة الحقيقية لا تكتمل إلا بالعقل والمعرفة. حي بن يقظان قصة إنسان يعيش في جزيرة خالية من البشر خارج الزمن، والمجتمع والثقافة،واللغة والدين،ومع ذلك توصل إلى إدراك المعرفة،بلا إستعداد مسبق ديني أو نظري فلسفي(حسب القصة) وتشريحه لجثة ظبيته،حتى وصل إلى القلب فلما وجده خاليا أدرك أن خلوه دليل على أنه مكمون سرالحياة. ويلتقي”حي بن يقظان “بعد أزيد من 30 سنة في الجزيرة بعابد زاهد،يصل إلى الجزيرة طالبا العزلة،فكانت المفاجأة أن سمع  العابد من “حي”، بعد ماعلَّمه الكلام،وصفا لحقائق الوجود،كما يعرفها العابد،فتيقن أن “حي” من أولياء الله الذين لاخوف عليهم ولهم يحزنون .وكـأني بابن طفيل يريد أن يستنتج،أن لا معارضة بين السلوك النظري ،والسلوك الصوفي الديني فكلاهما يوصل الى معرفة الله؟  

وقد أفرد ابن رشد في هذه المسألة رسالة معروفة سماها( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من إتصال) يُقِرُّ فيها بتفاوت البشر في إدراك الحقيقة ويميز فيها بين 3 طبقات البشر:

أهل البرهان وهم الفلاسفة.أهل الجدل وهم المتكلمون، وأدلتهم الجدلية تعتمد أساسا على القياس،

وأهل الخطابة وهم العامة،

وأهل العرفان.

وللإشارة فالقاضي ابن رشد له كتاب شهير في الفقه هو بداية المجتهد ونهاية المقتصد.

يقول ابن عربي في نهاية قصته مع ابن رشد حين سمع النفي والإثبات :… فانقبض وتغيرلونه وشك في ما عنده،وقال الحمد لله أنا في زمان رأيت فيه من آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما.                               لقي ابن عربي ابن رشد مرتين، الثانية عندما  حمل أهل ابن رشد نعشه من مراكش قاصدين الأندلس .يقول  ابن عربي ولما جُعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة جُعلت تآليفه تعادله من الجانب الآخر لِيَعْبُررفاته البحرالأبيض المتوسط من مراكش إلى قرطبة “هذا الإمام وهذه أعماله” انتهى.

أي مقامه يعادله ما كتب وكفى وليس له نصيب في مقامات العارفين

فلا وصول إلى الله إلا بإتباع نبيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،فهو الواسطة في المعرفة،ومعرفة الله هي معرفة أسمائه وصفاته. أما الكشف والعلوم اللدنية فلا تأتي إلا عن طريق الفتح الرباني، والفتح الرباني لايأتي إلا بإتباع الكتاب والسنة. فقصة حي بن يقظان لا وزن  لها في المعرفة الصوفية.لأن الفلسفة،والعلوم النظرية،والسلوك بغير وساطة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يوصلك إلى طريق مسدود .

الكشف :

يقال كشف الشئ بمعنى أظهره،ورفع عنه ما يواريه،ويقال كشف عنه الهَّم أي أزاله،وعند الصوفية كشف عنه الحجاب أي حجاب الظلمة فرآى الحقائق،فهي مكاشفة لابعين البصر ولكن بعين البصيرة.

الكشف هوالنظر بالنورالذي يعطيه الله للولي فيري بنور الله ويخبر بالمغيبات، التي قد تكون ماضية أو مستقبلية،وهذا النور هوما يعرف عند القوم بالفراسة الصادقة .و الفِراسة في اللغة: هي التثبت والنظر،وفي اصطلاح أهل الحقيقة : هي مكاشفة اليقين، ومعاينة الغيب .
قال ابن عجيبة رحمه الله تعالى الفراسة هي خاطر يهجم على القلب،أو وارد يتجلى فيه،لا يخطىء غالباً إِذا صفا القلب،وهي على حسب قوة القرب والمعرفة، فكلما قوي القرب،وتمكنت المعرفة صدقت الفراسة، لأن الروح إِذا قربت من حضرة الحق لا يتجلى فيها غالباً إِلا الحق(“معراج التشوف” ص18).

والكشف نور يحصل للسالكين في سيرهم إِلى الله تعالى،يكشف لهم حجاب الحس،ويزيل دونهم أسباب المادة،نتيجة لما يأخذون به أنفسهم من مجاهدة،وخلوة، وذكر.
قال حجة الإِسلام الغزالي رحمه الله تعالى: إِن جلاء القلب وإِبصاره يحصل بالذكر،وإِنه لايتمكن منه إِلا الذين اتقوا،فالتقوى باب الذكر،والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر،وهو الفوز بلقاء الله تعالى (إِحياء علوم الدين ج3. ص11)،واختصر التصوف في علمين : علم المعاملة وعلم المكاشفة،وقَسَّم الكشف إلى قسمين  مُلكي ومَلكوتي(كتاب الكشف والتبيين) .

إِنَّ من غض بصره عن المحارم،وكفَّ نفسه عن الشهوات،وعمَّر باطنه بمراقبة الله تعالى،وتعوَّد أكل الحلال،لم يخطىء كشفه وفراسته، ومن أطلق نظره إِلى المحرمات تنفست نفسه الظلمانية في مرآة قلبه فطمست نورها.قال تعالى﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾،وقال صلى الله عليه وآله وسلم” اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله” .

قال ابن القيم  في مدارج السالكين في منزلة الفراسة :الفراسة ثلاثة أنواع :النوع الأول الفراسة الإيمانية وسببها :نور يقذفه الله في قلب عبده، يفرق به بين الحق والباطل،والحالي والعاطل،والصادق والكاذب وحقيقتها :أنها خاطر يهجم على القلب ينفي مايضاده.يثب على القلب كوثوب الأسد على الفريسة، لكن الفريسة بمعنى فعيلة أي مفعولة .وبناء الفراسة كبناء الولاية والإمارة والسياسة.وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ،فمن كان أقوى إيمانا فهو أحدُّ فراسة .انتهى.
قال أبو سعيد الخراز:من نظربنورالفراسة نظر بنورالحق ،وتكون مواد علمه مع الحق بلا سهوة ولاغفلة.بل حكم حق جرى على لسان عبده.
وقال الواسطي:الفراسة شعاع أنوار لمعت في القلوب،وتمكن معرفة جملة السرائر في الغيوب،من غيب إلى غيب،حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق إياها فيتكلم عن ضمير الخلق .
وقال الداراني : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ،وهي من مقامات الإيمان.
وقال أبو جعفر الحداد: الفراسة أول خاطر بلا معارض فإن عارضه معارض آخر من جنسه،فهو خاطر وحديث نفس.


وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي: إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهن جواسيس القلوب، يدخلون في قلوبكم ويخرجون من حيث لاتحتسبون.

وكان الجنيد يوما يتكلم مع الناس.فوقف عليه شاب نصراني متنكرا. فقال أيها الشيخ مامعنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم “اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله “؟فأطرق الجنيد،ثم رفع رأسه إليه وقال:أسلم فقد حان وقت إسلامك، فأسلم الغلام .
وكان سيدنا أبو بكرالصديق أفرس الأمة وبعده سيدنا عمرالفاروق فإنه ماقال على شيء أظنه كذا إلا وقع كما قال،كما في قصته عندما مرعليه سواد بن قارب فقال له بما معناه(لقد أخطأ ظني أو أن هذا كاهن) فقال سواد :صدقت يا أمير المؤمنين كنت كاهنا في الجاهلية .
ذكرالتاج السبكي رحمه الله تعالى في الطبقات وغيره: أنه دخل على عثمان رضي الله عنه رجل،كان قد لقي امرأة في الطريق، فتأملها،فقال له عثمان رضي الله عنه: يدخل أحدكم،وفي عينيه أثر الزنا؟ فقال الرجل: أوحْيٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: لا، ولكنها فراسة المؤمن .وإِنما أظهر عثمان هذا تأديباً للرجل،وزجراً له عن شيءٍ فعله (حجة الله على العالمين للنبهاني ص862).


وقد جعل الشيخ زروق في قواعده ،الكشف ثالث علوم الصوفية حين رتب هذه  العلوم إلى :

1=  علوم الوعظ والتذكيروأساسه﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾.

2= علم المعاملة والعبودية وأساسه﴿ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾.

3=علم المكاشفة وأساسه ﴿وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُم اللهُ﴾.

وجعل السراج الطوسي المكاشفة أشرف العلوم ،وجعله تحت دائرة علم الحقائق والمنازلات ( كتاب اللمع ) .

وقسم ابن عربي الكشف الى أربعة أنواع (كتاب إنشاء الدوائر) :

1=الكشف العقلي وهوما يدركه العقل ،بجوهره المطلق عن قيود الفكر.

2=الكشف النفسي ،وهو ما يرتسم في الخيال أثناء المجاهدة والرياضة.

3=الكشف الروحاني وهو الذي يكون بعد كشف الحجب العقلية والحجب النفسية وكله مطالع روحانية.

4= الكشف الرباني و هو أعلاه ويكون بالعروج والنزول والتجلي .

وأرى أن الكشف ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما : كشف صُرَّاح(بضم الصاد) وهوما له دليل من الكتاب والسنة،وهوالذي يسميه ابن عربي الكشف الإعتصامي، وغير صراح لأن الكشف يمكن أن يكون عند أهل الباطل أصحاب الخلوة، والجوع،والسحرة.

يقول الشيخ الدباغ :…فصاحب الكشف لايأمن على نفسه من القطيعة واللحوق بأهل الظلام ،حتى يقطع مقامه ويتجاوزه.انتهى .

أي يتحقق بمعنى العبودية الخالصة ولا يلتفت إلى الكشف ويجعل غايته الله ،فالكشف وإن كان ثمرة الإيمان يمكن أن يَصْرف السالك الى الله عن الله،وهنا يكمن الخطر.

يقول ابن عربي كل كشف يخالف شريعة متواترة لايعول عليه. وفي رسائله: كل كشف لا يعضده الكتاب والسنة فلا يعتد به.                            ويقول الجيلي أن كل ما أورده في كتبه إنماهو مؤيد بالكتاب والسنة ومن لاح له غيرها فليعلم أن ذلك من حيث مفهومه لامن حيث مرادي.

يقول الصوفية :إذا عارض كشفك الكتاب والسنة فتمسك بالكتاب والسنة ودع الكشف،وقل لنفسك أن الله تعالى قد ضمن لي العصمة في الكتاب والسنة،ولم يضمنها لي في جانب الكشف والإلهام، فالكشف الحقيقي هو الذي لا يعارض الكتاب والسنة ،لأن العصمة مضمونة فيهما وليست موثوقة عن طريق الكشف والإلهام،ولا الرؤى ولا المشاهدة وإذا لم يوافق الكشف الشريعة ،فلا ينبغي الإعتقاد فيه.

وصحح الصوفية عن طريق الكشف بعض الأحاديث المشكوك في صحتها. يقول ابن عربي في رسائله:…أن الطاعات تهب أصحابها تصحيح أحاديث الأحكام،أي ما إتفق على ضعفه وتجريح نقلته وهم أخذوه(أي الصوفية) من الكشف عن قائله(صلى الله عليه) صحيحا فتعبد به أنفسهم على غيرما تقررعند علماء الرسوم، فينسبونهم إلى الخروج عن الدين ،وما نصفوا فإن للحق وجوها يوصل إليه منها هذا أحدها.ورب حديث قد صححوه واتفقوا عليه، وليس بصحيح عندهم من طريق الكشف،ويتركون العمل به مثل ذلك.

يقول الشيخ محمد بن عبد الكبيرالكتاني قدس الله سره  في كتاب اللمحات القدسية   في معرض الكلام عن قوله تعالى﴿يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾: صرحت هذه الاية أن هذا الروح ليس خاصا،بل هو منزل على من يشاء من عباده،فالوحي ينزل على المحقق الأحمدي،لكن هاهنا نكتة وهو،هب أنه يوحى إليه،لكن لا بالأمروالنهي الجديدان،بل بمبشرة أوإخبار،بما تكنه السرائر،أو بصحة حديث قال الناس بضعفه أووضعه لاغير.

وفي كتاب الديوانة يقول عن الحديث (كنت كنزا مخفيا)الغيرمقبول عند علماء الرسوم أنه صحيح عند الصوفية كشفا.

يقول ابن عربي [ ف ج3 ص 50]:من كان من الصالحين ممن كان له حديث مع النبي صلى الله عليه وسلم في كشفه وصَحِبَه في عالم الكشف والشهود وأخذ عنه،حشر معه يوم القيامة،وكان من الصحابة الذين صحبوه في أشرف موطن، وعلى أسنى حالة،ومن لم يكن له هذا الكشف فليس منهم،ولا يلحق بهذه الدرجة صاحب النوم ،ولايسمى صاحبا ولورآه في كل منام ،حتى يراه وهو مستيقظ كشفا،يخاطبه ويأخذ عنه،ويصحح له من الأحاديث ما وقع فيه الطعن من جهة طريقها.انتهى.

وفي [ج4  ص 28 ]:فإنهم قد يرونه صلى الله عليه وسلم في كشفهم فيصحح لهم من الأخبارما ضعف عندهم بالنقل وقد ينفون من الأخبار ما ثبت عندنا بالنقل،كما ذكر مسلم في صدركتابه عن شخص أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فعرض عليه ألف حديث كان في حفظه ،فأثبت له صلى الله عليه وسلم ،في الألف ستة أحاديث،وأنكر صلى الله عليه وسلم ما بقي،فمن رآه صلى الله عليه وسلم في المنام فقد رآه في اليقظة،ما لم تتغير عليه الصورة،انتهى .

ولا ننسى الإشارة إلى أن هذه العلوم الوهبية ،سواء كانت عن طريق الكشف أوالإلهام، أوغيره ،يصعب الدليل عليها،والكثير من رفاقنا لم يرجعوا إلى كتاب الله للتدليل على كشفهم. فالقرءان الكريم هو الوحيد المعصوم من الخطأ،أما كتب القوم فلا تخلو من أخطاء  كما ان التجليات الالهية في ترق وبالتالي الفتوحات الربانية في ترق والبعض من اقوالهم لم تعد تساير فتوحات زمننا ومع ذلك تجد البعض ممن يدعى المعرفة ويتصدر المشيخة يرددها وكأنها ثوابت عرفانية وهو لا يدري ان فتوحات زمننا لا تستسيغها.قال ابو مدين التلمساني لأصحابه : أطعمونا لحما طريا لا قديدا.وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى اله وصحبه

مقطتف من كتاب الرفاق  كتب سنة 2015

محمد بن المبارك: المعهد الفاطمي المحمدي

حصل المقال على : 1٬175 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

    يمكنكم الاشتراك في نشرتنا البريدية للتوصل بملخصات يومية

    الاشتراك في النشرة البريدية

    احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

    اترك تعليقا

    يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد