الباب الخامس والخمسون : في معرفة الخواطر الشيطانية
الشيطان لا يأتي إلى الإنسان إلا بما هو الغالب عليه : الشيطان لا يأتي إلى كل طائفة إلا بما هو الغالب عليها.وليس غَرضه من الصالحين إلا أن يَجهلوه في الأخذ عنه.فإذا جَهلوه،ونَسبوا ذلك إلى الله،ولم يعرفوا على أي طريق وَصل إليهم،كأنه قَنَع منهم بهذا القدرمن الجهل،وعرف أنهم تحت سُلطانه.فلا يزال الشيطان يَستدرجه في خَيريّته،حتى يتمكّن منه في تصديق خَواطره وأنها من الله.
الشيطان ليس له إلى باطن الأنبياء من سَبيل.فخواطرالأنبياء كلّها ربّانيّة أومَلَكيّة أو نَفسية،لاحَظّ للشيطان في قلوبهم.ومن يُحْفَظ من الأولياء،في علم الله،يكون بهذه المثابة في العصمة ممّا يُلقي الشيطان،لا في العصمة من وصوله إليه.فالوليّ المُعتَنى به هوعلى علامة من الله فيما يُلقي إليه الشيطان وسبب ذلك أنه ليس بمُشرّع،والأنبياء مُشرّعون،فلذلك عُصمَت بَواطنهم.
جاء إبليس إلى عيسى عليه السلام،في صورة شخص شيخ في ظاهر الحسّ،فقال لعيسى ،يا عيسى،قل: لا إله إلا الله (ورَضي منه أن يُطيع أمره في هذا القدر)فقال عيسى أقولها،لا لقَولك فرجع خاسئاً.
ومن هنا تعلم الفرق بين العلم بالشيء، وبين الإيمان به،وأن السعادة في الإيمان.
وممّا تَعرف به الخواطر الشيطانية(وإن كانت في الطاعة)بعَدَم الثّبوت على الأمر الواحد،وسرعة الإستبدال من خاطر بأمرما إلى خاطر بأمر آخر.فإنه حَريص،وهو مخلوق من لَهب النار،ولهب النار سريع الحركة. ومُتعلّق أصل الخواطر الشيطانية إنما هو المحظور،فعلاً كان أو تركاً،ثمّ يَليه المكروه،فعلاً كان أو تركاً. فالأول في العامّة،والثاني في العُبّاد من العامّة.
ويأتي الشيطان للعارفين بالواجبات،فلا يزال بهم حتى يَنووا مع الله فعل أمر ما من الطاعات. فإذا إسْتَوثق الشيطان منه ذلك،وعَزَم،وما بَقي إلا الفعل،أقام له الشيطان عبادة أخرى أفضل منها شرعاً.فيرى العارف أن يقطع زمانه بالأولى،فيترك الأول،ويَشرع في الثاني.فيفرح إبليس حيث جعله ينقض عهد الله بعد ميثاقه، والعارف لاخَبر له بذلك،فلو عرف أن ذلك من الشيطان،عرف كيف يرُدّه وكيف يأخُذه،كما فعل عيسى، وكل مُتمكّن من أهل الله،من وَرثة الأنبياء.
فإذا خَطر لك خاطرفي مَحظورأومكروه ،فتَعلم أنه من الشيطان بلا شكّ.وإذا خطر لك خاطر في مُباح، فتَعلم أنه من النّفْس بلا شكّ.فخاطر الشيطان اجتنبه،فعلاً كان أو تركاً.والمُباح أنت مُخيّر فيه،فإن غَلب عليك طلب الأرباح،فاجتنب المُباح، واشتغل بالواجب أو المندوب.غير أنك إذا تَصرّفت في المباح، فتَصرّف فيه على حُضور أنه مُباح،وأن الشارع لولا ما أباحَه لك ما تَصرّفت فيه.فتكون مأجوراً في مُباحك،لا من حيث كونه مباحاً،ولكن من حيث إيمانك به أنه شرع من عند الله.وكذلك كل واحد من الأحكام. وإن خطر لك خاطر في فرض،فقُم إليه بلا شك،فإنه من المَلَك.وإذا خطر لك خاطر في مندوب، فاحفظ أول خاطر، فإنه قد يكون من إبليس،فاثبُت عليه.فإذا خطر لك أن تترُكه لمندوب آخر،وهو أعلى منه وأولى،فلاتَعدل عن الأول،واثبُت عليه. فإذا فرغت منه،إشرع في الثاني،فافعَله أيضاً،فإن الشيطان يرجع خاسئاً بلا شك،حيث لم يتّفق له مقصود. وبهذا الدّواء تُذهب مَرض الشيطان من نفسك،وتكون عُمَريّ المقام: ما يَلقاك الشيطان في فج الا سلك فجا غير فَجّك،إذا عامَلته بمثل هذا ..
الشيخ الاكبر