== (المعجم الصوفي_الحكمة في حدود الكلمة) ==
_ (مقدمة) _
البحث الصوفي اليوم،حتى يكون صوفياً،عليه أن يرجع إلى الجذور،رجوعاً يُحقّق فَصْلاً معيّناً بين الباحث والمُتصوّففي علاقة من داخل،تُفَتّح أمامه رؤية إسلامية تجريبية،تَضُمّ إلى أبعادها الكونية ــ الإلهية،بُعداً باطنياً إنسانياً.
وتَطرح هذه العَوْدة أمام الباحثين شَرَكاً سَقط فيه الكثير منهم،فلم يُميّزوا بين التجربة الصوفية وبين التعبير عنها. فطابقوا بينهما،مُطابقة هي المسؤولة في إرجاعهم التصوف الإسلامي إلى أصول: تارة يونانية وهندية،وأخرى فارسية.. الخ.
فالتجربة الصوفية،حيث تقف ذات المُتصوّف في مُواجهة موضوع حُبّها أو معرفتها،هي تجربة جُوانيّة تتحرّك في إطار ذاتية مَعيشة،بعيداً عن الحروف والكلمات،وبعيداً عن الآخرين..وهي تجربة قُرب وعرفان،تجربة من نمط قرآني خاص: (واتقوا الله ويُعلّمكم الله)..
أما التعبير عن هذه التجربة،فهو خروج من الذاتية والجُوانية إلى الآخرين،هي عودة الصوفي من رحلته في الأعماق إلى الآفاق..هنا تأخُذ هذه الجُوانية أشكالاً لدى التعبير عنها،تأخُذ لغة الآخرين،إنسجاماً مع كلام سيد الوجود: “أُمرنا أن نُكلّم الناس على قدر عقولهم”..فالخطاب تنزّل من عوالم الذات،في إطلاقها،إلى حدود الحرف،إلى أفهام الآخرين،إلى قَدْر العقول..وهنا على مستوى التعبير،تدخل العبارات والإصطلاحات والمفاهيم السائدة في زمن الخطاب،فيتناولها الصوفي ليُعبّر بها عن تجربته،في محاولة تواصل مع الآخرين.فتظهر بالتالي مفردات نجد جذورها في فلسفات شرقية ويونانية،تظهر على مستوى التعبير،وهي المرحلة التي تَلي صفاء ونَقاء التجربة..فلا تَظْهَر التجربة إلا في مَظْهرها،مُتحقّقة في كلمات.وهذا التطابق بين التجربة واللغة لا يتحقق إلا عند بلوغ التجربة مرحلة الإكتمال،فيتحوّل نشاطُها إلى الخارج للتعبير عن نفسها..
__ لماذا هناك لغة جديدة؟: هَل عَبّر المتصوّفة عن تَجربتهم بلغة الآخرين؟ أم خَلقوا من تَجربتهم لغة جديدة؟.
لغة التصوف قبل إبن عربي يكاد يَجمعها أساس واحد،وهو أنها لغة تُعرب عن تأمّل وتجربة مُتلازمين. ولهذا إنحصرت مشكلة متصوفي تلك الفترة في التّعبير،وإشتركوا في الشّكوى من حُدود الحَرف وعَدم طاقته الإستيعابية لأبعاد تجربة مطلقة.. فنرى المُفردات تتعدّد بتسلسل مُتدرّج،في مُحاولة يائسة ساعيّة نحو التّطابق مع التجربة،ويظهر الحرف والكلمة في كتاباتهم غَيْراً وسِوىً وثانياً،إلى جانب المُراد منه..
وربما رجع سبب هذا العجز إلى أنهم حاولوا التّعبير عن تجربة خاصة،ذات طبيعة فردية،بلغة عامة لم تَخلُقها تجربتهم..
كان إبن عربي من أوائل من إنفصل من المتصوفة عن تجربته الصوفية ليُحَلّلها،وينتقل بها من ميدان المَواجيد والأحوال،إلى منطق العلم والنظريات.. ولا نجد عند شيخنا الأكبر تلك الشّكوى من حدود الحرف وعجزه وتقصيره،بل العكس يتحوّل الحرف إلى ذات مضمونه.. وإذا أردنا التعبير بلغة الشيخ الأكبر،نقول: إن التجربة الصوفية هي الظاهر،والتعبير هو المَظْهَر. فلا تَظهر التجربة إلا في مَظهرها،مُتحقّقة في كلمات.
لقد ظهرت مع إبن عربي في أفُق التصوف لغة جديدة،هي بلا شك وليدة نَمط فكري جديد،وتجربة إسلامية إكتملت خلال قرون ستة،ونظرة شمولية إلى الكون….
لقد إستطاع إبن عربي أن يكون نهاية مرحلة.. هكذا يجب أن ننظُر إلى إبن عربي الذي إستوعبت كُتبه التجربة الصوفية السابقة،فاختصر قرون ستة سابقة وقَضى على قرون ستة لاحقة..
لكأنّي بإبن عربي يَشعُر بإمتلاكه الشيء عند تَسميّته.. وهذه الرّغبة المُلحّة لديه في تسمية الأشياء لإمتلاكها،خَلقت لغة جديدة إستطاعت أن تضع أمام كل أفكار التصوف السابقة وجُزئياته: أسماء ومُفردات.
كل ذلك يُبرّر ظهور معجم صوفي من جهة،ويُحتّم نسبته إلى الشيخ الأكبر من جهة ثانية،فهو قطب اللغة الصوفية ومفرداتها..
__ التّنظير عند إبن عربي أساسه ديناميكية داخلية: للإحاطة بنظريات الشيخ الأكبر لا تكفي آلاف الصفحات،ولكن نستطيع بشكل مُبسّط علمي أن نختصر هذه الألاف من الصفحات،بوضع الأسس الديناميكية التي تتفاعل بشكل معيّن حَيّ،لخَلق التركيب النظري الذي يضعه بين أيدينا من خلال مؤلفاته.
ولعل القاسم المشترك بين جميع مواقفه هو الوحدة الوجودية التي ينتهي إليها دائماً. ونستطيع أن نَعْبُر خلالها إلى نظرياته كلها،لأنها وحدة غنيّة،هي في الواقع تركيب للطريحة والنّقيضة بتأليف جَدليّ حَيّ.
ونأخذ عدّة وجوه من هذه الوحدة،تبيّن أسس الفكر الحاتمي الديناميكي: الحق والخَلق.. الوحدة والكثرة.. التنزيه والتشبيه..
== حرف الألف ==
_ الألف _
يقول إبن عربي: [الألف ليس من الحروف عند من شَمّ رائحة من الحقائق،ولكن قد سَمّته العامة حرفاً،فإذا قال المحقّق: إنه حرف،فإنما يقول ذلك على سبيل التجوّز في العبارة. ومقام الألف مقام الجمع،وله من الأسماء إسم “الله”،وله من الصفات “القيوميّة”،وله من المراتب كُلّها،وله مجموع عالَم الحروف ومَراتبها..]..
_ إبراهيم _
إبراهيم رمز لحقيقة الإنسان الكامل التي،من ناحية،تجمع في كونها جميع الحقائق الإلهية،ومن ناحية ثانية،المَحلّ والمَجلى والمَظهر الكامل للحق.. وإبراهيم أتَمّ مَجلى من حيث أنه الإنسان الكامل في زمنه،والإنسان الكامل يَترقّى في مراتب الخلافة،فلا يلزم من كمال الإنسان كمال خلافته. يقول إبن عربي: [ إن معنى الإنسانية هو الخلافة عن الله،وإن الخلافة عن الله مرتبة تشمل: الولاية والنبوة والرسالة والإمامة والأمر والمُلك.. وجمع الله لإبراهيم: الولاية والنبوة والرسالة وإبتداء الإمامة..].
_ الأب/ الأمّ _
_ الأب الأول: الأب الأول هو أول أصل يتولّد عنه الأثَر أو المولود. وهذا المصطلح عند إبن عربي لا يُعبّر عن ذات واحدة مميّزة يُمكن تَسميتها بالأب الأول،بل هي مرتبة كونية تُطلق على كل من يَشغلها. مثلاً،إذا أخذنا أجسام أشخاص الجنس البشري نجد أن أول أصل تولّدت عنه هو آدم.. ولكن في الروحانيات نجد أن حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي الأب الأول،وهي أبو آدم وأبو العالَم.. جميع الأرواح صَدرت عن روح واحدة،وهي ما يُعبّر عنها أحياناً إبن عربي ب”الروح الكُلّي،وحقيقة سيدنا محمد،والعقلالأول،والعقل الأكبر”.. _ الأب الثاني: هو المقدمة الثانية التي تبعث على ظهور النتيجة. فالأثر أو الولد لا يكون إلا عن مقدمتين أو أصلين. فلا يكون أمر إلا عن أمرين،ولا نتيجة إلا عن مقدمتين. المقدمة الأولى هي بمثابة الأب الأول،والمقدمة الثانية بمثابة الأب الثاني [ كما يُسمّيها إبن عربي أحياناً أمّاً،من حيث إنها ثانية،وتحتفظ المقدمة الأولى بصفة الأب. ]..
وهكذا يتغيّر إسم المقدمة ومضمونها بتغيّر شخص الأثر أو الوَلد موضوع البحث،بحيث يكون المضمون نفسه أباً أولاً لأثَر،وأباً ثانياً بالنسبة لآخر..
الأب الثاني هو النفس الكلية أو حواء كما يُصوّرها إبن عربي. والعالَم هو الأثر المولود من تداخل مقدمتين هما: العقل الأول والنفس الكلية،ويحتفظ العقل الأول بلَقب الأب الأول عند إبن عربي،أما النفس الكلية / حواء فهي: _ “أمّ” من حيث إنها مُنفَعلة ومُؤثّر فيها،والعقل فاعل مؤثّر _ أب ثانٍ من حيث إنها المقدمة الثانية أو الأصل الثاني المُؤثّر في بُروز العالَم،والعقل أصل أول.
الآباء العُلويات للعالَم: أربعة: العقل الأول،النفس الكلية،الطبيعة،الهَباء.
العقل الأول مهما إختلفت الإعتبارات نَراه دائماً أول الآباء. في حين أن النفس الكلية يمكن إعتبارها أمّاً من حيث إنفعالها للقلم الأعلى،فتترُك مكانتها الثانية للطبيعة التي هي بدورها فاعلة مؤثرة في الهباء..
هذه الآباء الأربعة ليست أصولاً منفصلة للعالَم،بل متداخلة تتوالد فيما بينها،وكونها آباء للعالم لا يمنع أن تكون أمهات فيما بينها.
العقل الأول (أب أول / أب أول).. النفس الكلية (أمّ / أب ثانٍ).. الطبيعة (أب ثانٍ / أب ثالث).. الهَباء (أمّ / أب رابع)..
_ أب عُلوي: إن كلمة أب علوي تُقابل عند إبن عربي أمّاً سُفليّة،ولذلك تخضع في شَرحها لنظرية الخَلق نفسها في مَرحلتي فَيضها الأقدس والمُقدّس.. الآباء العلويّة / الأسماء الإلهية: إن الأسماء الإلهية هي أول مؤثّر وباعث على وجود الخَلق،لأن المَشيئة التي أرادت إظهار الخلق ترجع إلى الحضرة الإلهية من حيث الأسماء،لا الذّات. فالأسماء هي التي تَوجّهت على الأعيان الثابتة لإظهارها.. يقول إبن عربي: [وأول الآباء العلوية معلوم (أي: الإسم الجامع)،وأول الأمهات السفلية شَيئية المعدوم المُمكن،وأول نكاح القصد بالأمر،وأول إبن موجود عَيْن تلك الشيئية].. يَصف إبن عربي الآباء ب”العُلويات” حين تكون أربعة: “العقل الأول،النفس الكلية،الطبيعة،الهَباء”،وهذا هو [المعنى الثاني]. وب”العُلويّة” حين يكون المُراد بها “الأسماء الحُسنى” وهي كثيرة [المعنى الأول]. والتفريق في هذا الوصف مُتناسق تماماً مع التعبير العميق في اللغة العربية [فقد ألحَق العرب بصفة الجمع الكثير الهاء،فقالوا: أعطيته دراهم كثيرة.. وألحقوا بصفة الجمع القليل الألف والتاء،فقالوا: أقمت أيماماً معدودات..].. وهذه الآباء العلويات بمضمونها الثاني أسباب موضوعة في رأي إبن عربي،ولذلك فَصلها عن الحضرة الإلهية،جاعلاً إيّاها العالَم العُلوي أو الأرواح.. وإبن عربي لا يجعل الآباء العلويات سَبباً في إيجاد الخلق،بل سبباً يوجد عنده الخلق،فالفاعل الحقيقي هو الله تعالى.. نقول الفاعل هو الله وليس الذات الإلهية الخالية من النّسب والصفات،بل الله بكل النّسب والصفات والإضافات التي تعني مفهوم الألوهية. ولذلك عندما يقول إبن عربي “أمر عَدمي”يقصد به كذلك من الحضرة الإلهية “الصفات والنّسب” التي هي أمور عَدمية،وهذا سَبقه إليه الإمام الغزالي.. فالأمر العَدمي،أي المعقول،هو في الواقع عِلّة ظاهرة يَفعل من خلالها الحق حقيقة.. ويُميّز إبن عربي بين السّبب والعِلّة،ويُعطي لذلك مثلاً: الدّاء والدّواء والشّفاء. فالدّواء سَبب،والشّفاء عِلّة. إذن: العِلّة هي مُسَبّب السّبَب.. _ أبو الوَرَثة: يُفرّع إبن عربي الوجود الروحي من نقطة وجودية واحدة هي روح سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فأول موجود بالروح هو سيدنا محمد،وأول نبيّ في الوجود،لا في الظهور،هو سيدنا محمد.
وإنطلاقاً من كون سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أول نبيّ،فكل نبي ظهر بعد ذلك،من آدم إلى زمن سيدنا محمد،هو وارث للعلم المحمدي،وبالتالي كل وَليّ وارث كذلك للعلم المحمدي..
يقول الشيخ الأكبر: [.. فآدم ومن دونه إنما هو وارث سيدنا محمد،لأنه كان نبياً وآدم بين الماء والطين،لم يكن بعد موجوداً.. وسيدنا محمد أبو الورثة،من آدم إلى خاتم الأمر من الوَرثة. فكل شرع ظهر وكل علم إنما هو ميراث محمدي،في كل زمان ورسول ونبي،من آدم إلى يوم القيامة. ولهذا أوتيَ جوامع الكلم،ومنها عَلّم الله آدم الأسماء كلها..]..
__ الأمّ: هي مَحَلّ الإلقاء،والإستحالات،والإيجاد والتكوّن والظّهور..
الأمّ: هي الجامعة الكُليّة لكل ما يَظهر في المَولود،والحاكمة على مجموع ما هي أمّ له..
الأمّ: هي المُؤَثَّر فيه،في مُقابل المؤثِّر (أب). والصفة العامِلة،في مُقابل الصفة العالِمة (أب). والقابِل بالنّسبة للفاعل (أب).
ولكن لا يكفي أن يتأثّر الموجود ليكون أمّاً،بل هو في هذه الحالة أنثى فقط. وليَكتسب الأمومة لا بدّ من الوَلد،فالأمومة مُرتبطة إرتباطاً وَثيقاً بوجود الأبوة والبُنوّة،فالوَلد يُعطيها إسم الأمّ..
وهذا لا يعني أن مُجرّد عِلمك الشيء يَجعلُك أباً له،بل لا بد من تَوصيل العلم عن طريق العَمل إلى الإيجاد،وإلا كان العالِم مَحلاً لعلمه ليس أكثر،ويتحوّل إلى أمّ بَدَل أن يكون أبقاً. ف”الأبوّة” هي: العلم المُؤثِّر المُنتج..
وهكذا تكون الأمّ،كالأنوثة،وَصفاً ونسبة تُطلق على الشيء من وَجه،بحيث يكون الشيء نفسه أماً وأباً في وقت واحد،من وجهين مختلفين: أمّاً مُنفعلاً عمّا فوقه،وأباً فاعلاً فيما دونه..
_ آدم _
إن آدم،عند إبن عربي،هو تلك الشخصية التي تكلّم عليها القرآن ــ أي: أول أفراد الجنس البشري،خلقه الله بيديه،عاش في الجنة،هبط إلى الأرض،خليفة. ــ..ولكنه يُفارق شخصه المحدد في زمان ومكان معينين،لينفرد بأنه: رمز للحقيقة الإنسانية وللإنسان الكامل الذي جمع في حقيقته كل الحقائق المنتشرة في الأكوان،فهو الكون الجامع،وهو روح العالم،وهو خليفة الله في الأرض،وهو النفس الواحدة التي خلق الله منها هذا النوع الإنساني..
آدم هو صفة الذكورية الفاعلة،في مقابل الأنثى المُنفعلة (حواء)،ومحل الإجمال بالنسبة لمحل التفصيل (حواء)..
وفي حين يتبوّأ آدم مرتبة الإجمال،في مُقابل حواء مرتبة التفصيل. نرى أنه يظهر في مرتبة التفصيل في مُقابل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي له الجمع،فسيدنا محمد للجمعوآدم للتفريق..فآدم بداية الأمر،وسيدنا محمد نهايته..ف [إذا كان آدم هو الإنسان الظاهر المُتعيّن بالوجود الخارجي في صور أفراده،فإن سيدنا محمد هو الإنسان الباطن المتعين في العالم المعقول] (أبو العلا عفيفي)..ف [آدم أبو الأجساد وسَببها،وسيدنا محمد أبو الأرواح ويَعسوبها]..
يُنَوّه شيخنا الأكبر بوجود مائة ألف آدم،وعلاقة ذلك بالخَلق،فإن الله لم يزل ولا يزال خالقاً،والآجال في المخلوق لا في الخلق.. ولدينا نَصّين لإبن عربي:
الأول: يقول إبن عربي: [ ولقد أراني الحق تعالى فيما يراه النائم،وأنا أطوف بالكعبة مع قوم من الناس لا أعرفهم بوجوههم.. فقال لي واحد منهم،وتَسمّى لي بإسم لا أعرف ذلك الإسم،ثمّ قال لي: أنا من أجدادك،قلت له: كم لك منذ،فقال: لي بضع وأربعون ألف سنة،فقلت له: فما لآدم هذا القدر من السّنين،فقال لي: عن أي آدم تقول،عن الأقرب إليك أو عن غيره؟. فتذكّرت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله خلق مائة ألف آدم”..].
الثاني: يقول إبن عربي،سائلاً النبي إدريس عن الواقعة السابقة في النص الأول: [.. فقال إدريس: صَدق،إنّي نبيّ الله ولا أعلم للعالَم مدّة نَقف عندها بجُملتها،إلا أنه بالجملة لم يَزل خالقاً ولا يزال دنيا وآخرة،والآجال في المخلوق بانتهاء المُدَد لا في الخَلق.. قُلت: فعَرّفني بشَرط من شروط إقترابها (أي الساعة). فقال: وجود آدم من شروط الساعة ]..
_ الإذن الإلهي _
الإذن الإلهي: هو التمكين الإلهي الذي يحفظ على المَحلّ المرتبة أو الصفة الفاعلة،أو تمكين المؤثّر من التّأثير في مرتبته. فالعِلّة لا تَستقلّ بالفعل،بل يُمكّنها الله من الفعل. وهذا التمكين يُعبّر عنه بالإذن الإلهي.
فالإذن الإلهي مُرتبط إرتباطاً مباشراً بمفهوم السّبب وفعّاليته. فالسبب أو العلّة ليسا كافيّين لوجود المُسبّب أو المعلول،بل إن الله يخلُق الفعل عندهما فيُخيّل للناظر أن السبب هو الذي فَعل فِعله بالمُسبّب،وفي الواقع إن الله هو الفاعل عند وجود السبب..
والإذن الإلهي هو الأمر الإلهي الظاهر بالإستعداد في المُسبّب،وهو صِنْو المشيئة في تكوين القدر.. والشيخ الأكبر يَجعل القدر وَجهين: مَشيئة وإذن،فالقدر هو ما شاء الله وأذنَ به فكان..
_ (الأرض الإلهية الواسعة) _
_ الأرض الإلهية الواسعة:بدن العبد المحض: هي أرض معنوية معقولة،غير محسوسة ولا محدودة،تتجلّى فيها الربوبية،فلا يُعمّرها من العباد إلا الذين تحقّقوا بالعبودية المخضة لله. وهي أرض بدن العبد المحض.. يقول إبن عربي: [إن أرض بدنك هي الأرض الحقيقية الواسعة التي أمرك الحق أن تعبُده فيها،وذلك لأنه ما أمرك أن تعبده في أرضه إلا ما دام روحك يسكُن أرض بدنك،فإذا فارقها أسقط عنك هذا التكليف مع وجود بدنك في الأرض مدفوناً فيها،فتعلم أن الأرض ليست سوى بَدنك. وجعلها واسعة: لما وَسعته من القوى والمعاني التي لا توجد إلا في هذه الأرض البدنية الإنسانية..أما قوله تعالى: (فتُهاجروا فيها) فإنها مَحل للهوى ومَحل للعقل،فتُهاجروا من أرض الهوى منها إلى أرض العقل منها.وأنت في هذا كله فيها ما خرجت عنها..].. _ أرض الحقيقة: من مُرادفات هذه الأرض: مَسرح عيون العارفين،الأرض المخلوقة من بَقيّة طينة آدم.
لقد أفرد الشيخ الأكبر كتاباً خاصاً للكلام على هذه الأرض [وهو كتاب: (الإعلام بما خلق الله من العجائب في الأرض التي خُلقت من بقية طينة آدم عليه السلام)]،كما أفرد لها باباً في الفتوحات..
يقول إبن عربي: [ اعلم أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام،الذي هو أول جسم إنساني تَكوّن،وجعله أصلاً لوجود الأجسام الإنسانية.. وفَضُل من خَميرة طينته فَضلة خلق منها النخلة،فهي أخت لآدم،وهي لنا عَمّة.. وفَضُل من الطينة،بعد خلق النخلة،قدر السّمسمة في الخفاء،فمَدّ الله في تلك الفضلة أرضاً واسعة الفضاء،إذ جعل: “العرش وما حواه،والكرسي،والسماوات والأرضون،وما تحت الثّرى،والجنّات كلها والنار” في هذه الأرض،وكان الجميع فيها كحَلقة مُلقاة في فَلاة من الأرض.وفيها (أي: فَضلة طينة آدم) من العجائب والغرائب ما لا يُقَدّر قَدره.. وفي هذه الأرض ظهرت عظمة الله،وعظُمت عند المُشاهد لها قُدرته تعالى. وكثير من المُحالات العقلية،التي قام الدليل الصحيح العقلي على إحالتها،هي موجودة في هذه الأرض. وهي مَسرح عُيون العارفين.. وإذا دخلها العارفون إنما يَدخلونها بأرواحهم لا بأجسامهم،فيتركون هياكلهم في هذه الأرض الدنيان ويتجرّدون.. وتُعطي هذه الأرض بالخاصيّة لكل من دخلها الفهم بجميع ما فيها من الألسنة.. ودخلت في هذه الأرض: أرضاً من الذهب الأحمر،فيها أشجار كلها ذَهب.. ودخلت فيها أرضاً من فضة بيضاء في الصورة،ذات أشجار وأنهار وثَمر شَهيّ،كل ذلك فضّة.. ودخلت فيها أرضاً من الكافور الأبيض.. وكل أرض من هذه الأرضين،التي هي أماكن في هذه الأرض الكبيرة،لو جعلت السماء فيها لكانت حَلقة في فَلاة بالنسبة إليها.. وخَلْقُها (أي: سُكان أرض الحقيقة) يَنبُتون فيها كسائر النباتات،من غير تناسُل،بل يتكوّنون من أرضها.. وسُرعة مَشيهم في البرّ والبحر أسْرَع من إدراك البَصر للمُبصر.. ورأيت في هذه الأرض بَحراً من تُراب يَجري مثل ما يجري الماء. ورأيت حجاراً،صغاراً وكباراً،يجري بعضها إلى بعض كما يجري الحديد إلى المغناطيس،فتتألّف هذه الحجارة.. ومَدائنها (أي: مدائن أرض الحقيقة) لا تُحصى كَثرة.. وجميع من يَملكها من الملوك ثمانية عشر سُلطاناً.. وأهل هذه الأرض أعْرَف الناس بالله. وكل ما أحالَه العقل بدَليله،عندنا،وَجدناه في هذه الأرض مُمكناً قد وَقع.. فعَلمنا أن العقول قاصرة،وأن الله قادر على جمع الضدّين،ووجود الجسم في مكانين وقيام العرض بنفسه وإنتقاله.. وكل جسد يتشكّل فيه الروحاني،من مَلك وجنّ وكل صورة يرى الإنسان فيها نفسه في النوم،فمن أجساد هذه الأرض..]..
هذه الأرض بإيجاز هي عالَم الخيال الذي ندخُله بالروح،عالَم الخيال كما يفهمه إبن عربي.. فهي ليست أرضاً محسوسة..
ويرى هنري كوربان أن النخلة هي رمز للأرض السماوية.. كما يُشير إلى أهمية النخلة،ويُقارن بين نخلة مريم التي ولدت عيسى تحتها،وبين النخلة التي هي أخت آدم..
ويتكلم عبد الكريم الجيلي على تجليات الصفات الإلهية في الإنسان الكامل،وعندما يصل إلى صفة القدرة يُسهب في شرح تجلياتها،ويجد أن من تجلياتها عالَم الخيال.. يقول: [.. ومن هذا التجلّي (أي: تجلّي صفة القدرة) عالم الخيال وما يُتصوّر فيه من غرائب وعجائب المُخترعات.. ومن هذا التجلّي عجائب السّمسمة الباقية من طينة آدم الذي دكرها إبن عربي في كتابه..]..
__ ربط إبن عربي السّمسمة بالإنسان الكامل،فجعلها ثَمرته. ولهذا تفسيران:
أولاً: أن السمسمة رمز للمعرفة التي هي ثمرة الإنسان.
ثانياً: أن الله عندما خلق آدم،الذي هو الإنسان الكامل،بَقيت من طينته قدر السّمسمة،هي ما يُسميها إبن عربي أرض الحقيقة،ويُسميها الجيلي أرض السمسمة.
_ إكسير العارفين _
إكسير العارفين: عبارة إستفادها إبن عربي من الكيمياء،ليُطلقها على خاصية بالذات في الكيمياء الطبيعية.ونستشف من خلال مفرداته: رؤيته للطبيعة تلك الرؤية الحَركية التي لم تخرُج لحظة عن تقيّدها ب”الخلق الجديد”.فالكيمياء دليل على التبديل والإستحالة،وكل تبديل غايته الذهبية،أي درجة الكمال في الأشياء.وهي علم ينسحب على كل ما هو طبيعي أو روحاني أو إلهي.والإكسير هو الذي يقوم بالتبديل،لذلك كانت الكيمياء هي العلم بالإكسير..وإكسير العارفين هو العلم ب: وجه الحق في الأشياء أو الوجه الإلهي الخاص الذي لكل موجود..ومعرفة هذا الإكسير يدخُل في كيمياء السعادة..
_ الله _
مترادفات الإسم: الإسم الجامع،الإله المطلق،الإله الحقّ،الإله المَجهول.
الله هو إسم علم ذاتي لمرتبة الألوهية الجامعة لحقائق الأسماء كلها.فهو الإسم الكامل المُحيط،الجامع لجميع الأسماء ــ المُتقابلة وغير المتقابلة ــ،فما ثمّ من يقبل الأضداد في وصفه إلا الله..وبجمعه للأسماء يتحكّم في تجلياتها..وله التنوّع بالأسماء: (كل يوم هو في شأن)،في مُقابل الرب الذي له الثبوت..وكل موجود ليس له من الله إلا نسبة خاصة،أي إسم إلهي..فالأسماء الإلهية هي أرباب لمظاهرها ومجاليها،أما الله فهو رب جميع الموجودات.. يقول إبن عربي: [كل موجود مرتبط بإسم من الأسماء..فكان ذلك الإسم ربّه في الحقيقة..والإسم الله رب جميع الموجودات من جهة جمعيته]..
ويميز إبن عربي بين الألوهية الدائمة التلوين،لأن الله دائم التجلّي في الصور،وبين الربوبية التي لكل إسم من الأسماء الإلهية،وهي ثابتة له لا تتغير..والله هو الجامع للنّسب (الأسماء والصفات)،في مُقابل الذات المُعراة عن كل نسبة.فلا يُعرف الله إلا بالعالَم،أي لا يُعرف الإله إلا بالمألوه..
والله هو مظهر تجلّي الهو..فمرتبة الهوية تفصل بين الذات المطلقة عن كل نسبة وقيد،وبين مرتبة الألوهية التي ترتبط بالمألوه.. حسب إبن عربي: الذات تتجلّى وتَظهر في الهو،الذي يتجلّى ويظهر في الإسم الجامع الله،الذي يتجلّى ويظهر في الأسماء كلها..
الله هو الإله الحق،المطلق،المجهول،الذي لا يكون بالإتخاذ والجَعْل،فلا تضبطه الحدود.في مقابل:الإله المخلوق أو المجعول/ إله المُعتقد الذي تَحُدّه العقائد وتنسحب عليه عملية التنزيه.. يقول إبن عربي: [فكل صاحب نظر ما عبد ولا إعتقد إلا ما أوجده في مَحلّه،وما وُجد في مَحلّه وقلبه إلا مخلوق،وليس هو الإله الحق..فاعبُد ربّك في كل إضافة حتى يأتيك اليقين..ما عبد أحد الإله المطلق عن الإضافة،فإنه الإله المجهول..]..
_ الألوهية / الألوهَة _
يفرّق الشيخ الأكبر بين: ألوهي ــ إلهي ــ إلّي.
الألوهي: كل نسبة مُضافة إلى الله. والإلهي: كل إسم إلهي مُضاف إلى البشر. والإلّي: هو كل إسم إلهي مُضاف إلى مَلَك أو روحاني.
الألوهية: هي برزخ بين الذات والخلق،إنها الأسماء الحسنى السارية في الخلق جميعاً..يقول إبن عربي: [إن الحق بين الخلق وبين ذاته الموصوفة بالغنى عن العالمين.فالألوهة في الجبروت البرزخي،فتُقابل الخلق بذاتها وتُقابل الذات بذاتها.ولهذا لها التجلّي في الصور الكثيرة والتحوّل فيها والتبدّل. فلها إلى الخلق وجه به يتجلّى في صور الخلق،ولها إلى الذات وجه به تظهر إلى الذات. فلا يعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ،وهو الألوهة،ولا تحكُم الذات في المخلوق بالخلق إلا بهذا البرزخ. وتحقّقناها فما وجدنا سوى ما ندعو به من الأسماء الحسنى.. فلا تَسُبّ المعبودات،فإن سريان الألوهية في الموجودات،ولولا ذلك ما قامت،ولولا قيوميتها ما دامت.. وصور العالم لا يمكن زَوال الحق عنها أصلاً،فحدّ الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز،كما هو حد للإنسان ــ للجسد الإنساني ــ إذا كان حياً.. ]..
_ إله المعتقدات _
المترادفات: الإله المخلوق،الإله المجعول،الحق الإعتقادي أو الحق المُعتقد في القلب،الحق المخلوق أو الحق المخلوق في المُعتقد.
إله المعتقدات: هو صورة أو فكرة الله التي يخلُقها عقل العبد،فيسَعُها قلبُه [ حديث: “ما وَسعني أرضي ولا سمائي،ووسعني قلب عبدي المؤمن”].إنها صورة صفاتية لله،يَسعها كل إنسان على قدر طاقته وعلمه..فلا يمكن أن يتعدّد الله،حقيقة،بعدد عبيده،فليس للعبد منه إلا صورة..فالله،حقيقة،لا يصل إلى أعتاب إطلاقه مخلوق،فهو المجهول،ولا يزيد نَصيب العبد منه عن صورة مخلوقة. فالإنسان،في الحقيقة،لم يَعْبُد سوى نفسه،لأن الصورة من خلقه هو،فما ثمّة إلا عابد وثناً.
إبن عربي هنا ــ [فما ثَمّ إلا عابد وثَناً] ــ ناقد لأبناء زمنه،وليس مفكراً يقرّر نظرية. لذلك يحصر إبن عربي العلم بالله في طريق التقليد..كما جاء في الحديث: [إن الحق يتجلّى يوم القيامة للخلق في صورة منكرة،فيقول: أنا ربكم الأعلى.فيقولون: نعوذ بالله منك.فيتجلّى في صورة عقائدهم فيسجدون له]..فكل صورة أو معبود عُبِد،هو مَجْلى من المجالي الإلهية (نظرية وحدة الوجود)،علم العابد ذلك أم لم يعلمه..فما ثمّ إلا ذات وتجلياتُها..وأبرز خطأ وقع به عَبَدة الإله المخلوق هو أنهم أصحاب عقل،فالعقل للحصر والتقييد،ليس من طاقته أن يتقلّب في أنواع الصور..على حين أن القلب يتقلّب مع تجليات الحق..( لقد صار قلبي قابلاً كل صورة /// فمرعى لغزلان ودير لرهبان..)..وعندما يصل القلب إلى مرتبة الكمال لا يتقيّد بعَقْد مخصوص،بل يُصبح هيولى لصور المعتقدات كلها.. [فما يقوله الصوفية عن رؤية الحق ليس إلا صورة شُهودهم لصُوَر إعتقاداتهم. ]..
يقول إبن عربي: [ فإن الناظر في الله خالق في نفسه بنَظره ما يَعتقده،فما عَبَد إلا إلهاً خَلقه بنَظره،وقال له كُن فكان. ولهذا أمرنا الناس أن يعبدوا الله الذي جاء به الرسول ونَطق به الكتاب،فإنك إذا عَبدت ذلك الإله: عَبدت ما لم تَخلُق،بل عَبدت خالقك.. فإن العلم بالله لا يَصحّ أن يكون علماً إلا عن تَقليد.. ]،[ ثمّ رفع الحجاب بينه وبين عبده فرآه في صورة معتقده،فهو عَيْن إعتقاده. فلا يَشهد القلب ولا العين،أبداً،إلا صورة معتقده في الحق. فالحق الذي في المُعتقد هو الذي وَسع القلب صورته،وهو الذي يتجلّى له فيعرفه. فلا تَرى العين إلا الحق الإعتقادي]..
_ المألوه المُطلق / الإنسان الكامل _
يضع إبن عربي عبارة المألوه المطلق في مقابل الإله المطلق،فهي تُشير إلى مرتبة الإنسان الكامل في عبودية محضة في مقابل مرتبة الألوهية.
يقول إبن عربي: [ فلا تصحّ العبودية المحضة،التي لا تَشوبها ربوبية أصلاً،إلا للإنسان الكامل وحده. ولا تصحّ ربوبية لا تشوبها عبودَة،بوجه من الوجوه،إلا لله تعالى.. فالإنسان الكامل المألوه المطلق،والحق سبحانه هو الإله المطلق ]..
وعبارة المألوه المطلقلا تُطلق على الإنسان العادي،لأن ذاته غير مُستخلصة من شوائب الربوبية التي يُمارسها على غيره..
_ الأمر الإلهي / المعصية والشّرّ _
كانت أوّل معصية لأمر إلهي هي معصية إبليس للأمر الإلهي بالسّجود لآدم..
المعصية قد تحمل في طيّاتها أربعة أسئلة بوَضعها الأمر الإلهي في مُواجهة الإرادة الإلهية:
1_ هل يمكن أن يُعصى الأمر الإلهي؟. 2_ هل يمكن أن يَخرُج فعل عن الإرادة الإلهية؟. 3_ هل يُعقَل أن يأمُر الله بفعل ولا يُريده؟. 4_ هل يُريد الله الشرّ والمعصية؟.
حاول الشيخ الأكبر الإجابة عن هذه الأسئلة الأربعة بقِسْمَته الأمر الإلهي شقّين: أمر إلهي دون واسطة،لا بُدّ من أن يُنفّذ. وأمر إلهي بواسطة،قد يُنفّذ وقد لا يُنفّذ. فسَمّى الواحد الأمر التكويني،والآخر الأمر التكليفي.
يقول إبن عربي: [ فلا يقع في الوجود شيء ولا يرتفع خارجاً عن المشيئة. فإن الأمر الإلهي إذا خولفَ هنا بالمُسمّى معصية،فليس إلا الأمر بالواسطة لا الأمر التكويني. فما خالَف الله أحد قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة،فوقعت المُخالفة من حيث أمر الواسطة..]..
الأمر التكويني: هو أمر حقيقي برفع الوسائط،يُوافق الإرادة،لا يُمكن أن يُعصى لأنه ب”كُنْ”.
الأمر التكليفي: هو صيغة أمر وليس أمراً،تَرد المُكلّف بوساطة الأنبياء،لا يعلم بمُوافقته الإرادة إلا بعد حُدوثها أو لمَن كشف له الله عن حال الممكن في ثبوته.
_ أمّهات الأسماء الإلهية _
عبارة أمّهات الأسماء مؤلّفة من لفظين: أمّ ــ إسم.
أمّ): ينحصر مضمونه في معنى: الجامعة والحاكمة على مجموع ما يظهر في الإبن.
إسم: يتفرّع إلى عدّة مضامين يُمكن حَصرها بثلاثة،وهذا يستتبع تَفرّع أمهات الأسماء،فتأخذ بالتالي معاني ثلاثة هي:
الأول: المقصود من الإسم الإلهي مَظهره.. يقول إبن عربي: [وأسماء الله لا تتناهى لأنها تَعلم بما يكون عنها،وما يكون عنها غير مُتناه،وإن كانت ترجع إلى أصول متناهية هي أمّهات الأسماء أو حضرات الأسماء..].
فالأسماء الحُسنى هنا هي الأصول الجامعة للمظاهر أو التجليّات كافة.
الثاني: المقصود من الأسماء الإلهية:الأسماء الحُسنى المُتوجّهة على إيجاد العالَم،وهي الأمّهات السّبع التي ينضَوي تحتها جميع الأسماء المُتوجهة على إيجاد العالَم.. يقول إبن عربي: [ ولكن قَصدنا الأمهات التي لا بد لإيجاد العالَم منها.. فالذي نحتاج إليه من معرفة الأسماء لوجود العالَم وهي أرباب الأسماء،وما عداها فسَدَنة لها..].
الثالث: المقصود من الإسم الإلهي: دَلالته على المُسمّى،وهنا نجد إبن عربي يحصرها في ثلاثة هي: الله،الربّ،الرحمن. يقول إبن عربي: [ وهذه الثلاثة الأسماء “الله،الربّ،الرحمن” هي أمّهات الأسماء،وإذا تتبّعت القرآن العزيز وَجدت هذه الأسماء الثلاثة دائرة فيه]..
_ أمّ سُفليّة _
لشرح أمّ سفلية لا بد من التعرّض لنظريّة الخَلق عند إبن عربي،فإن العالَم هو الإبن المولود من إتّصال الأمّهات السّفليات بالآباء العُلويات.
الخَلق،عند إبن عربي،ليس إبداعاً من عَدم،بل تَجليّاً يَتمّ على مرحلتين من التعيّن في طبيعة الوجود المطلق. هاتان المرحلتان يُطلق عليهما إسم الفيض الأقدس والفيض المُقدّس،وفي كلتا المرحلتين من الظهور (أمّهات سفليات وآباء علويات)..
_ الفيض الأقْدَس: في المرحلة الأولى من الخلق (الفيض الأقدس) يتجلّى الحق في الصور المعقولة للكائنات،وهذه الصور المعقولة مجرّد قَوابل للوجود،يُطلق عليها إبن عربي إسم الأعيان الثابتة. العين الثابتة أو شيئيّة المعدوم الممكن هي أول أمّ سُفليّة للموجودات من حيث أنها القابل الذي قَبل توجّه الأسماء الحُسنى لإيجاد عَيْن العالَم. _ الفيض المُقدّس: في المرحلة الثانية (الفيض المقدس) تَظهر الأعيان الثابتة من العالَم المعقول إلى العالَم المحسوس،وفي ظهورها المحسوس تتطلّب قَوابل محسوسة هي: الطبيعة وعناصرها الأربعة..
_ أمّ الكتاب _
أم الكتاب: عبارة مؤلّفة من لفظين.. ينحصر مضمون لفظ “أمّ” هنا بمفهوم الإجمال،في حين لفظ “الكتاب” يرد دائماً مُعرّفاً ويَشغل مرتبة التفصيل.. والمعنى من أم الكتاب: المجموع المُجمل لكل الحقائق المُفصّلة في الكتاب المبين..
وهكذا تكون أم الكتاب كلمة تابعة للمقصود من الكتاب. فهذا الكتاب المبين وإن كانت صفته لا تتغيّر،وهي أنه دائماً “مُبين”،إلا أن ذاته تتغيّر بتغيّر العالَم المقصود في الكلام..
_ أمّهات الأكوان/ أمّهات الوجود _
لا بد من التفريق بين الكون والوجود: “الوجود” واحد يَسري في جميع الموجودات،على حين “الكون” أصل التّمييز والكثرة.. فالعَيْن تتّصف بالوحدة،والكون بالكثرة. لأن العَيْن هي الوجود،والكون هو المرتبة التي يتجلّى فيها الوجود.
لهذا فالوجود يَرد دائماً بصيغة المفرد،على حين أن الكون يَقبل الجمع لأنه يتّصف بالكثرة..
_ أمّهات الأكوان تعني: المراتب الوجودية الرئيسية المُجملة التي ترجع إليها كل مرتبة وجودية مُفصّلة في العالَم،وعددها خمس: الإنسان الكامل،القلم الأعلى،اللوح المحفوظ،الهباء،الجسم. _ أمّهات الوجود / الأمّ الجامعة لجميع الموجودات: عبارة أمهات الوجود إبتكرها إبن عربي في اللفظ دون المضمون،لأن مقولات المنطق إرْتَدت في ظهورها عنده اللفظ المناسب لفكره. وهي الأصول أو الحقائق المُفردة التي بتركيبها يظهر كل وجود عَيني..
يرسُم إبن عربي في كتاب (إنشاء الدوائر) أمّهات الوجود،التي يُسميها هنا ب”الجدول الهَيّولاني”. ويظهر عددها عشر: الجوهر،العرض،الزمان،المكان،الحال،الوضع،الإضافة،العدد،أن يَنْفعل،أن يَفعل.. يقول إبن عربي: [ اعلم أن هذا الجدول الهيولاني هو الحقيقة التي أوجد الحق من مادّتها الموجودات العلويات والسفليات،فهي الأمّ الجامعة لجميع الموجودات.].
أما في (الفتوحات المكية) فيحصر إبن عربي أمّهات الوجود في أربع،يتركّب منها المقولات الباقية،وهي: “الجوهر،الكمّ،الكيف،النّسبة”.. يقول إبن عربي: [إن الله لما خَلق العالَم ومَلأ به الخَلا،لم يبق في العالَم جوهر يزيد ولا ينقُص،فهو بالجوهر واحد.. وفيه يظهر “الجوهر الصوري،والعرض،والزمان،والمكان”. وهذه أمّهات الوجود ليس غيرها،وما زاد عليها فإنه مُركّب منها،من “فاعل،ومُنفعل،وإضافة،ووَضع،وعدد،والكيف”..].
لقد إفترق العالَم الإسلامي عن الفكر اليوناني بوَضعه مذاهب جديدة في المقولات،وكيف حَصرها في أربع..
وينتقد السّهروردي هذا المذهب ليُثبت موقفه هو،يقول: [ ولما حَصرنا المقولات المشهورة في كتاب (التلويحات) في خمسة،وجدنا بعد ذلك في موضع لصاحب البصاير (عمر بن سهلان الساري) حصرها في أربع “الجوهر والكم والكيف والنّسبة”. وإذا إعتبرت هذا الحصر،لا تجده صحيحاً،فإن الحركة لم تدخل تحت الجوهر لأنها عرض ولا تحت الكمّ،وليست كيفاً،ولا نسبة.. فالأقرب لمن يُريد أن يُثبت المقولات حَصرها في خمس: “الجوهر والكيف والكمّ والإضافة والحركة”..]..
_ الأميّة _
تتّخذ الأميّة عند إبن عربي معنى مغايراً وبعيداً عن معناها اللغوي،فلا تُقاس عنده بكميّة المعلومات المحفوظة أو بمعرفة القراءة والكتابة،ولكنها منهجية جدلية. فالأمّي هو الذي يُفرّغ ويُطهّر مَحلّه،ليُقبل بكليّته على الفتح الإلهي،في مُقابل العالِم بنَظره الفكري.
يقول إبن عربي: [ الأميّة عندنا لا تُنافي حفظ القرآن ولا حفظ الأخبار النبوية،ولكن من لم يتصرّف بنَظره الفكري وحكمه العقلي في إستخراج ما تحوي عليه من المعاني والأسرار،وما تُعطيه من الأدلّة العقلية في العلم بالإلهيات.. فإذا سَلم القلب من علم النظر الفكري،شرعاً وعقلاً،كان أمّيّاً،وكان قابلاً للفتح الإلهي..].
أما الحلاج فيربط الأميّة ب”جَمعيّة الهِمّة”..
_ الأمانة _
نظر أكثر مُفسّري الأمانة إليها على أنها: قوة أو صفة أو عقيدة أو ما شابه،أودَعها الله أمانة في قلب الإنسان أو روحه أو نفسه. ولكن إبن عربي قفز من الحال إلى المَحلّ،أي جعل المَحلّ ــ القلب،الروح،النفس ــ هو الأمانة التي حَملها الإنسان.
فالأمانة: هي الصورة التي خلق الله آدم عليها،فإستحقّ بها الخلافة. ولذلك يُشير إليها أحياناً بكلمة الأمانة المُعارة،لأن خلافة الإنسان دليل على أن الأمر بيد من إستخلفه،فالأمر إعارة وليس أصيلاً.
يقول إبن عربي: [ الإنسان الكامل.. وحَمله هذا السرّ المُعبّر عنه بالأمانة التي تَبرّأ من حملها الوجود الكُلّي حين أبى وأشفق وإعترف بالعجز عن حملها.. فصار بذلك خليفة الرحمن لأنه مخلوق على صورته..]،[النفس الناطقة المميّزة العاقلة،التي هي ثمرة الكون وغاية الوجود،تنقسم إلى قسمين: نفس منسوبة إلى الحق،ونفس منسوبة للعبد. فأما النفس المنسوبة للحق فهي سِرّ الله المُستحقّ الوجود الذي قام به كل موجود،وهي التي أشار إليها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بقوله: “من عرف نفسه فقد عرف ربه”،فهذه النفس هي (الأمانة)..]،[فالشمس كاملة والقمر ناقص،لأنه مَحو. فصفة ضوئه مُعارة،وهي الأمانة التي حملها.]..
_ الأنثى _
عندما ينظر إبن عربي إلى المرأة كأحد وَجهي الحقيقة الإنسانية،يرى أنها شقيقة الرجل،تنال ما يناله من المقامات والمراتب والصفات حتى القُطبية. فالحقيقة الإنسانية واحدة،تُطلق بكافة مقتضياتها وأحكامها على الذكر والأنثى،فلا يفترقان إلا عند الإنتاج..
عندما ينظر إبن عربي إلى المرأة كحقيقة مُنفردة متميّزة،رغم صدورها عن الحقيقة الإنسانية،تتحوّل إلى صفات خاصة يُؤلّف مجموعها: المرأة أو الأنثى. فالأنثى أو حواء هي صفة أو مَحلّ الإنفعال والتكوين،في مقابل صفة الفعل / الرجل ــ آدم،وهي مرتبة التفصيل في مقابل مرتبة الجمع..
وهكذا تتحول المرأة إلى مرتبة من تحقّق بصفاتها صار أنثى ولو كان رجلاً..
يقول إبن عربي:
إنّا إناث لما فينا يولده /// فلنَحمد الله ما في الكون من رجل.
إن الرجال الذين العُرف عَيّنهم /// هُم الإناث وهو نَفسي وهُم أمَلي.
نلاحظ في هذا النصّ أن الأنثى تتحوّل إلى مرتبة الخَلق المُنفَعل،في مُقابل مرتبة الحق الفاعل.
أما من الناحية الأنطولوجية: فالمرأة هي النفس الكلية،من حيث كونها هي أول النّفوس،وكل أول يَسري في كل ما يتكوّن بعده. فالمرأة هي الأنوثة السّارية في العالَم،أي النفس الكلية السارية في النفوس الجزئية والظاهرة صفاتها بوضوح في النساء. ومن حيث إن المرأة هي النفس الكلية،إذن هي اللوح المحفوظ الذي يُمدّه القلم الأعلى / آدم ــ الرجل..
_ الأنْس _
أقطاب الصوفية وَضعت الأنس بالله في مُقابل الأنس بالناس،وجعلت بين هذين الحَدّين علاقة جدليّة: بقدر ما يخلو القلب من الأنس بالناس يدخل فيه الأنس بالله. فهما ضدّان يَقتسمان القلب،يتجاوران،يتداخلان بشكل جدليّ..
إبن عربي هنا يُفارق ما ذهب إليه المتصوفة قبله،فهو لا يضع الأنس بالله في مقابل الأنس بالناس،وبالتالي لا يُقيم علاقة جدلية حيّة بينهما كما فعل من سبقه. بل يجعل الأنس بالله كالعلم،مثلاً،يُكتَسب إلى الأبد،ولا يُفقد في أي حال،ومن ثَمّ يَظلّ مُصاحباً للمُتحقّق به،سواء كان في عُزلة أو خلوة أو في مَلأ..
غَلّط الشيخ الأكبر جماعة المتصوفة في تعريفاتهم للأنْس.. يقول إبن عربي: [.. إن الأنس عند القوم: ما تقع به المُباسَطة من الحق للعبد.. والأنس حال القلب من تَجلّي الجمال.. وهو غَلط من جُملة ما غلطوا فيه.. وللأنس بالله علامة عند صاحبه،فإنه موضع يغلط فيه كثير من أهل الطريق فيجدون أنساً في حال،فيتخيّل أن ذلك أنس بالله،فإذا فقد ذلك الحال فقد الأنس بالله. فعندنا وعند الجماعة أن أنسه كان بذلك الحال لا بالله،لأن الأنس بالله إذا وقع لم يزل موجوداً عنده في كل حال..].
ينفي إبن عربي الأنس بالله عقلاً،وحُجّته في ذلك أن الأنس يفترض المُجانسة،وهذا مُحال بين الله والإنسان. ولكنه لا يستمر في نَفيه،فصارَ الأنس بالله مقبولاً عقلاً،من حيث إسم من أسمائه الحُسنى،وليس من حيث الإسم الجامع الله. يقول إبن عربي: [.. إنه لا يصحّ الأنس بالله عند المحققين،وإنما يكون الأنس بإسم إلهي خاص مُعيّن،لا بإسم الله..]..
بعدما نَفى الحاتمي الأنس بالله،وحَصره بإسم من الأسماء الإلهية،نجده هنا،بوحي من وحدته الوجودية،ينظُر إلى كل ظاهر بعَينه مَجلى لذاك الأصل وصورة من صور تجلّيه،بحيث يكونكل موجود هو مَجلى من مَجالى الله،ويُصبح هنا كل مأنوس به هو ذلك المجلى.. يقول إبن عربي: [ فالعالَم كله ذو أنس بالله..]..
كيف لا يقول بالمُناسبة،من يرى الإنسان نُسخة من جميع الحقائق الإلهية والكونية،يُقابلهما بذاته..
_ الإنسان _
_ الإنسان من جهة إطلاق اللفظ: إن المرتبة الإنسانية واحدة لا غير،تتحقّق في الإنسان الكامل الذي يُسمّيه إبن عربي إنساناً،وما عداه يُطبق عليه إسم إنسان لتَشابهه مع الإنسان الكامل في شكل أو صفة. يقول إبن عربي: [.. إسم الإنسان قد يُطلق على المشبّه به في الصورة،كما تقول في زيد إنه إنسان وفي عمرو إنه إنسان،وإن كان زيد قد ظهرت فيه الحقائق الإلهية وما ظهرت في عمرو،فعمرو على الحقيقة حيوان في شكل إنسان..].. ويُطلق إبن عربي لفظ الإنسان على ثلاث مراتب وجودية مختلفة: مرتبة الإنسانية / الإنسان الكامل،مرتبة العالَم / الإنسان الكبير،مرتبة القرآن / الإنسان الكُلّي. يقول إبن عربي: [ ما في الوجود إلا ثلاثة أناسي: الإنسان الأول الكُلّ الأقدم،والإنسان العالَم،والإنسان الآدمي..]. _ الإنسان من جهة المضمون: نبدأ،أولاً،باستبعاد التعريف الأرسطي للإنسان بأنه حيوان ناطق،فهو لا يتّفق مع ما يستنبط شُهود أهل الكشف في القرآن والحديث. يقول إبن عربي: [فالكُلّ (الجماد والنبات والحيوان)،عند أهل الكشف،حيوان ناطق،بل حيّ ناطق. غير أن هذا المزاج الخاص يُسمّى إنساناً،لا غير،بالصورة،ووقع التفاضل بين الخلائق في المزاج..].
حقيقة الإنسان مرآة رأى فيها الهو نفسه،وظهر بتلك الرّؤية. وإمكانية تلك الرؤية نتجت عن حقائق أتاحَت للإنسان المُضاهاة،فهو وحده إختصر في كَونه الحقائق الإلهية فكان مرآة أنِسَت الرّتبة الكمالية،لكمال حقيقتها الجامعة لجميع الحقائق الإلهية والكونية. ولذلك سُمّيت تلك الحقيقة إنساناً.
الإنسانية مرتبة الخلافة عن الله،وكل من إستخلفه الله حاز المرتبة والإسم،فالخليفة يظهر بصفات من إستخلفه. لذلك ليس كل فرد من أفراد البشر خليفة،وبالتالي ليس إنساناً حاز مرتبة الإنسانية،بل بَقي حيواناً،فهو إنسان حيوان وليس إنساناً خليفة.
يقول إبن عربي: [إن معنى الإنسانية هو: الخلافة عن الله،وإن الخلافة عن الله مرتبة تشمل: “الولاية والنبوة والرسالة والإمامة والأمر والمُلك”. فالكمال الإنساني بكمال هذه المراتب،وهو مركوز في الإنسان بالقوة منذ آدم إلى آخر مولود..]..
__ إنسان حيوان: هو من أفراد الجنس البشري،جمع حقائق العالَم فقط،فكان صورة العالَم. في مُقابل الإنسان الكامل الذي أضاف إلى مجموع حقائق العالَم مجموع حقائق الحق،وكان على الصورتين: صورة العالَم وصورة الحق)..
يقول إبن عربي: [الإنسان الحيوان: خليفة الإنسان الكامل. وهو الصورة الظاهرة التي بها جمع حقائق العالَم. والإنسان الكامل هو الذي أضاف إلى جمعية حقائق العالَم حقائق الحق التي بها صحّت له الخلافة]،[.. وإن الإنسان الكامل يُخالف الإنسان الحيوان في الحُكم: فإن الإنسان الحيوان يُرزَق رزق الحيوا،وهو للكامل وزيادة،فإن للكامل رزقاً إلهياً لا يَنالُه الإنسان الحيوان،وهو: ما يتغذّى به من علوم الفكر الذي لا يكون للإنسان الحيوان،والكشف والذّوق والفكر الصحيح..]..
_ الإنسان الكامل _
من المصطلحات التي تُرادف مفهوم الإنسان الكامل في ماهيّته أو طبيعته الميتافيزيقية أو في دلالاته نفسها في التعبير عن التجربة الصوفية،ما يلي:
[ حقيقة الحقائق،الحق المخلوق به،فلك الحياة،أصل العالَم،أصل الجوهر الفرد،الهيولى،المادة الأولى،جنس الأجناس،الحقيقة الكُليّة،الفلك المُحيط،العدل،كل شيء،الكتاب،المُفيض،مركز الدائرة،العقل الأول،القلم الأعلى،العُقاب،الدّرة البيضاء،العرش المجيد،الإمام المُبين،الروح الكُلّي،روح العالَم،نور محمد،التعيّن الأول،اللوح المحفوظ،عرش الله،الخليفة،نائب عن الله،ظلّ الله،النّسخة العظمى أو الجامعة أو الكاملة،الكلمة الجامعة،البيت الأعلى،المُختصر الشّريف،عين الجمع والوجود،المُمدّ الأول،المعلم الأول،البرنامج الجامع،مرآة الحق والحقيقة،البرزخ،الإنسان الأزلي]..
إبن عربي هو أول من إستعمل تعبير الإنسان الكامل في الفكر الصوفي والفلسفي الإسلامي،هذا من ناحية اللفظ،أما المضمون فقد إستقاه من ينابيع مُتعدّدة لم تُؤثّر في إبتكاره وفَرديّته.
إن أهمّ ما يُميّز فلسفة الحاتمي تلك المكانة التي إستوى عليها الإنسان.. ولكن رغم أن هذه النظريات المُترابطة المُتكاملة تُنعش الكرامة الإنسانية إلا أنها تظلّ في مُجملها في مرتبة وجودية مثالية،أي تَصف الإنسان كما يجب أن يكون / قيمة كمالية،لا الإنسان كما هو من صميم واقعه الإنساني. وربما إعترض الشيخ الأكبر بأن إنسانه الكامل ليس نظرية تصف الإنسان كما يجب أن يكون،ولكنها واقع عاشَه الإنسان الكامل. ولا يَسعنا هنا إلا أن نُوافقه الرأي،ونتوصّل إلى الإستنتاجين التاليين:
1_ إن الإنسان الكامل ظاهرة فردية لا تنطبق على الواقع الإنساني العام.
2_ لقد جعل إبن عربي الله مقياساً للكمال الإنساني،بَدل أن يستقرئ الإنسان مُتّخذاً إيّاه مقياساً..
لفظة كامل ليس لها أي معنى خُلُقيّ،بل تُفيد:
1_ تَمام الشّمول للصفات كافة،دون النظر إلى تصنيفها الخُلقي من خير أو شرّ. فللكمال هنا معنى وجوديّ،أي وجود جميع الصفات الإلهية والكونية أو قابلية وجودها في الإنسان.. إذن: إنسان كامل في وجوده.
2_ كمال المعرفة بالنفس وبالله.. إذن: إنسان كامل في معرفته.
وهكذا نجد أن للكمال معنى أنطولوجياً وإبستمولوجياً،وليس خُلقياً.
والمقصود بالإنسان الكامل هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،أو الحقيقة المحمدية.. ولكن هذه الحقيقة قُطب يَدور في فَلكه كُلّ طالب للكمال.. فيَصحّ أن نطلق الإنسان الكامل على المُتحقّقين به الفانين،لأنهم أصبحوا عَينه الصّفاتيّة..
وتتحدّد الوظيفة الأنطولوجية للإنسان الكامل بأنه: هو الحدّ الجامع الفاصل بين الحق والعالَم. فهو يجمع من ناحية بين الصورتين: يظهر بالأسماء الإلهية فيكون حَقّاً،ويظهر بحقيقة الإمكان فيكون خَلقاً. وهو يَفصل من ناحية أخرى بين وَجهي الحقيقة: فيَمنع الخلق من عودة الإندراج في الغيب الذي ظهر منه،إنه حَدّ بين الظاهر والباطن يمنع الظاهر من إندراجه في البُطون. كما أن الإنسان الكامل هو عِلّة وجود العالَم والحافظ له..
وتتحدّد الوظيفة الإبستمولوجية للإنسان الكامل بأنه: المشكاة التي يستمدّ من خلالها كل عارِف معرفته،وكل عالِم علمه،حتى الأنبياء،فهو المُمِدّ للهِمَم. وكما هو برزخ بين الحق والخلق في الوجود،كذلك هو برزخ بينهما في العلم والمعرفة..
_ إنسان كبير _
كما أعطى العالَم إسمه لنُسخَته،فكان الإنسان العالَم الصغير. كذلك أعطى الإنسان إسمه لمَن تفرّق في كونه جميع الحقائق المُختصرة فيه،فكان العالَم الإنسان الكبير.
يقول إبن عربي: [إن العالَم بأسره إنسان كبير،وروحه الإنسان الكامل الذي هو رابطة الإمداد والإستمداد]،[فالإنسان عالَم صغير،والعالَم إنسان كبير.. فكان الإنسان آخر مُولّد في العالَم،اوجده الله حامعاً لحقائق العالم كُلّه،وجعله خليفة فأعطاه قوة كل صورة موجودة في العالم]،[ما من شيء في العالَم إلا وله حظّ في الصورة الإلهية،والعالم كله على الصورة الإلهية،وما فاز الإنسان الكامل إلا بالمجموع.. وما كمُلت الصورة من العالم إلا بوجود الإنسان،فإمتاز الإنسان الكامل عن العالَم..]..
_ أوّل ــ آخر _
إعتبر إبن عربي إسمي الحق: الأول والآخر،إسمين إضافيّين،لا حقيقة ذاتية لهما. بمعنى أن مفهومهما لا يظهر ويتّضح إلا بوجود الخَلق..
وضع إبن عربي الخَلق عامة،ومقصوده من ذلك الإنسان،وَسطاً بين حَقّين: فكل صفة يتحقّق بها الإنسان مَنبعها حَقّ الأول،ومَصبّها حَقّ الآخر. مثلاً: وجود الإنسان هو وجود عَرضي بين وجودين للحق: وجود سَبق وجود الإنسان (الأول)،ووجود إنتهى إليه وجود الإنسان (الآخر). وهكذا كل صفة أو ميزة للإنسان..
يقول إبن عربي: [.. فالعالَم بين النقطة والمُحيط: فالنقطة الأول،والمُحيط الآخر. فالحفظ الإلهي يَصحبُنا حيثما كُنّا،فيَصرفنا منه إليه،والأمر دائرة ما لها طَرف يُشهَد فيوقَف عنده..]،[الأول له تعالى: إسم إضافي لا حقيقة له فيه،فإنه بوجودنا وحُدوث عَيننا كان له حُكم الأولية،وبتقدير فَناء أعياننا كان حُكم الآخرية..]..
يقول إبن عربي: [واعلم أنه لمّا لم يتمكّن أن يتقدّم الإسم الحَيّ الإلهي إسم من الأسماء الإلهية،كانت له رُتبة السّبْق،فهو المَنعوت على الحقيقة بالأول..]. في هذا النص يُبيّن أن الأول هو نَعْت لمَن حاز رُتبة السّبْق،فهو إذن ليس من الأسماء الإلهية ذات المضمون الذّاتي..
فكل أول يَسري في كل ما يتأخّر عنه،ومن هنا كان الأول عَيْن الباطن. فالأول صفته السّريان فيما بعده،حتى أنه يُمكن إستبدال كلمة ساري عند إبن عربي،في كل عبارة تقريباً،بكلمة أوّل. مثلاً: النكاح الساري هو النكاح الأول،والأب الساري والأمّ السارية هما الأب الأول والأم الأولى..
ولذلك سَرى الإسم الحيّ،عندما نُعتَ بالأول،في كل ما تأخّر عنه،فأضحى كل شيء في العالَم حيّاً عالماً مُسبّحاً..
كلّ أوّل فهو إلهي صادق لا يُخطئ. يقول إبن عربي: [.. والخير كله إنما هو في الأوائل،ألا ترى أن الخاطر الأول هو الإلهي الصادق الذي لا يُخطئ أبداًفإذا أخطأ فليس بأوّل.. وكذلك النظرة الأولى والمَسموع الأول والحركة الأولى.. فالأوائل هي الظواهر السّوابق،وكل ما جاء بعد الخاطر الأول فهو حديث نفس يَجيء على أثره. فللخاطر الأول التّمهيد والتّوطئة..]..
== حرف الباء ==
_ الباء / نقطة الباء _
الباء دليل الصفة،في مُقابل الألف دليل الذات. وهي رمز للتعيّن الأول،الذي يُشكّل وَسطاً بين الواحد والكثير.
أما نقطة الباء فتُشير إلى وجود العالَم،أي الموجودات. فوقوعها تحت الباء تَمثيل لتبعيّة الموجودات للتعيّن الأول،وهي رمز الإنسان الكامل عند الصوفية.
يقول إبن عربي: [بالباء ظهر الوجود،وبالنقطة تَميّز العابد من المعبود. قيل للشّبلي: أنت الشبلي،قال: “أنا النقطة التي تحت الباء”. وهو قولنا النقطة للتّمييز،وهو وجود العبد بما تقتضيه حقيقة العبودية. وكان الشيخ أبو مدين يقول: “ما رأيت شيئاً إلا رأيت الباء عليه مكتوبة”. فالباء المُصاحبة للموجودات من حضرة الحق في مقام الجمع والوجود،أي بي قام كل شيء وظَهر..]،[فالإنسان الكامل هو عين الأعيان،لأنه النقطة التي تحت الباء ومَحلّ الفيض..]،[.. وقال أمير المؤمنين عليّ: “أنا نقطة باء بسم الله”. فأشار بالباء إلى التعيّن الأول،الذي هو العقل الأول،لأن الباء أول تعيّن في حروف التهجّي. ونقطة الباء إشارة إلى وجود العالَم الواقع تحت التعيّن الأول،الذي هو العقل الكُلّي والروح الأعظم المحمدي. معنى أن وجود العالم بالنسبة إلى الروح الأعظم كالنقطة بالنسبة إلى الباء،في التبعيّة ووُقوعها تحته..]..
_ بَدْر / الأبْدار _
إن الأبدار هي إحدى التّمثيلات التي يستعين بها إبن عربي لبيان جانب من نظرياته في: التجلّي والنور والخلافة.
فالشمس التي لها النور بالأصالة،عندما تظهر في القمر عَينه وتُنيره كلّه يُسمّى بَدراً. كذلك الحق في تجلّيه الأكمل بأسمائه وأحكامه على ذات الخليفة أبدار،فالبدر الخليفة.
يقول إبن عربي: [.. أما الأبدار الذي نَصّبه الله مِثالاً في العالَم لتجلّيه بالحُكم فيه،فهو الخليفة الإلهي الذي ظهر في العالَم بأسمائه وأحكامه.. كما ظهر الشمس في ذات القمر فأناره كله فسُمي بَدراً. فرأى الشمس نفسه في مرآة ذات البدر فكَساه نوراً سمّاه به بدراً،كما رأى الحق نفسه في ذات من إستخلفه فهو يحكُم بحُكم الله في العالَم.. فنَصّب الله صورة البَدر مع الشمس مَثلاً للخلافة الإلهية..].
_ البرزخ _
إستعمل إبن عربي البرزخ بمعناه الديني،الذي يوحي بالمكان: البرزخ عالَم نُفارق إليه بالأجساد في حال الموت،ونُفارق إليه بالأرواح أو بالأنفُس في حال النوم. فهو عالَم خيال مُتجسّد،وهو المنزل الأول من منازل الآخرة..
عندما يستمل إبن عربي لفظ برزخ غير معرّف،يقصد به حقيقة أو مرتبة لها عدّة صفات: هي مرتبة الجامع الفاصل بين عالمين أو حالين أو مرتبتين أو صفتين.. هما في الواقع متناقضان.. فالبرزخ عنده يُقابل الطرفين المتناقضين بذاته،يجمع في ذاته حقيقتهما ويُقابلهما بوجهيه،دون أن ينقسم،بل يبقى في وحدته.
عندما يستعمل إبن عربي لفظ البرزخمعرّفاً غير مُضاف،يُشير به إلى حقيقة الإنسان التي جمعت بذاتها الصورتين: الحَقيّة والخلقية،فكانت نُسختين ذات نسبتين: نسبة تدخُل بها إلى الحضرة الإلهية،ونسبة تدخل بها إلى الحضرة الكونية. فهي برزخ بين العالم والحق،وهي مرتبة الإنسان الكامل. فالبرزخية هنا وظيفة الإنسان الكامل،الحَدّ الجامع الفاصل بين الظاهر والباطن،بين الحق والعالم..
_ البرنامج الجامع / البرنامج الأكمل _
إستعمل إبن عربي اللفظ الفارسي برنامج بمعنى نُسخة أو صورة أو مُختصر. فالإنسان عنده هو برنامج العالَم..
_ البرنامج الجامع: فهو من جهة: البرنامج الذي جمع في كونه الصغير كل الحقائق المُتفرّقة في العالَم الكبير. ومن جهة ثانية: يُقابل الحضرة الإلهية بذاته من حيث كونه نُسخة أوصورة الحق. فالإنسان الكامل صورة الحضرتين،الحقية والخلقية،وبالتالي برنامج جامع للصورتين.. يقول إبن عربي: [الإنسان هو ثَمرة جميع العالَم وبرنامجه]،[ولذلك قال في خلق آدم،الذي هو البرنامج الجامع لنُعوت الحضرة الإلهية،التي هي الذات والصفات والأفعال “إن الله خلق آدم على صورته”..]. _ البرنامج الأكمل: هو الإنسان الكامل أيضاً،ولكن كماله ليس تحقّقاً،بل له بالأصالة،أي هو شخص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وكل ما يورد الشيخ الأكبر من أفعال التّفضيل لإثبات أسبقية في الرّتبة والذات،فكثيراً ما تكون لتمييز الحقيقة المحمدية وكَمالها عن بَقيّة الكمالات الإنسانية.. يقول إبن عربي: [.. محمداً صلى الله عليه وسلم.. فإنه المجموع الأتَمّ والبرنامج الأكمل]..
_ البقاء / الفناء _
تبرُز صعوبة خاصة في بحث المصطلحات الصوفية التي تَوقّف عندها كل من سَلك طريقهم،فغَصّت بها كُتبهم.. وقد إستعملها إبن عربي بمفهومها القديم،ثمّ توقّف عندها لينظُر إليها من زاوية أخرى،فإكتسب بالتالي خلعة مميّزة شخصيّة تخُصّه.
لم يُعرّف التصوف القديم “الفناء والبقاء” تعريفاً ماهوياً،بل كانت تعريفاته مُنصبّة على الإضافات.. فتعريف الفناء،تعداد للفاني من الصفات،والباقي تعداد للباقي منها.
هكذا كانت النظرة إلى الفناء والبقاء نَظرة إضافة لا إطلاق،يُضاف إلى ذلك أنهما حالان مُتتاليان: بَقاء بعد فَناء.
الفناء والبقاء حالان مُرتبطان مُتلازمان،يكونان للشخص في زمان واحد،ولكن من نسبتين مختلفتين: فالفناء نسبة الشخص إلى الكون،والبقاء نسبته إلى الحق. البقاء نسبة لا تزول،وهي نَعت إلهي. في مُقابل الفناء،وهي نسبة تزول،وهي نَعت كِيّاني..
لقد نَظر إبن عربي إلى البقاء والفناء نَظرة أنطولوجية،على حين أن التصوف السابق،في غالبيته تقريباً، كان ذا نظرة خُلُقيّة لهما. والسبب في ذلك يعود إلى نظرتهما للتصوف بحَدّ ذاته: فالتصوف السابق تَرعرع وشَبّ في صَميم الأنظمة الخُلُقيّة،فالكمال هو الكمال الخُلقي: “التصوف خُلُق،من زاد عليك في الخُلق زاد عليك في التصوف”. على حين أن كل تلك المفردات التي ترتبط بالكمال إتّخذت معنى أنطولولجياً عند الشيخ الأكبر.
يُفسّر إبن عربي الفناء والبقاء في ضَوء نظريّته الخَلق الجديد،وهذا يؤكّد المعنى الأنطولوجي عنده،يقول: [فإنهم يَرون (أهل الكشف) أن الله يتجلّى في كل نَفس،ولا يتكرّر التجلّي. ويرون أيضاً شُهوداً أن كل تجلّ يُعطي خَلقاً جديداً ويذهب بخَلق. فذَهابه هو عَيْن الفناء عند التجلّي،والبقاء لما يُعطيه التجلي الآخر]..
_ إبليس _
في كل فلسفة تُفسح فيها مكاناً لإبليس،نجده يتحوّل إلى مبدأ للشرّ،ويتقاسم مع مبدأ الخير أفعال المُكلّفين وأحوالهم. إلا أنه عند إبن عربي لم يتحوّلأ إلى مبدأ للشرّ،بل بَقي في مرتبة الإغواء للبشر. ويعود السّبب في عدم تجاوُزه هذه المرتبة،إلى فكرة الخير والشر نفسها عند إبن عربي،إذ أنه كالمعتزلة قبله لا يحكُم على الفعل،كما أن الوجود عنده خير والشرّ هو العدم.
التكليف الإلهي للمخلوقات قسمان: أمر ونَهي. وعندما أشْرَق القول في أفُق التكليف بَدأ بالأمر،فقال تعالى لإبليس: (أسجُد لآدم)،وفي هذا خروج عن أصل المُمكن الذي له العدم. ثمّ ثَنّى بالنّهي،فقال لآدم وحواء: (لا تقربا هذه الشجرة)،وفي هذا مُوافقة لأصلهما،فكأنه قال لهما: لا تُفارقا أصلكما. فالأمر أشَقّ على النفس من النّهي. وقد باء التكليف الإلهي من مَطلعه بالعصيان في قسميه: فعصى إبليس كما عصى آدم.
ولهذا يَضع إبن عربي إبليس في مُقابل آدم: الأول للأمر وعِصيان الأمر،والثاني للنّهي وعصيان النّهي. ولكن آدم بالإعتراف تجاوز الخطيئة،بينما إبليس بالدّعوى إزداد طُغيانه وحَقّت له جهنم،رغم أنه ليس من المُشركين في الأصل وإن كان من الأشقياء. فإبليس في دَعواه وطغيانه سَنّ الشرك،وكانت له مرتبة الإغواء..
فإبليس رمز المخلوق العاصي،صاحب الدّعوى،المُستمرّ في عصيانه. فمعصية واحدة أدّت إلى شِركِه وكُفره،وبالتالي إلى شَقائه الأبديّ.وآدم رمز المخلوق العاصي التّائب،المُعترف بذَنبه،المغفور له فالمُستَخلف في الأرض..
_ بيت الله / بيت الحق _
بيت الحق هو العبد،من حيث أنه مَظهر التجلّي الوجودي بقَبوله الصورة الإلهية..
بيت الحق هو قلب المؤمن،من حيث أنه وَسع الحق: “ما وسعني أرضي ولا سمائي،ووَسعني قلب عبدي المؤمن”..
يقول إبن عربي: [فقلب العبد الخُصوصي: بيت الله،وموضع نَظره،ومعدن علومه،وحضرة أسراره،ومَهبط ملائكته،وخزانة أنواره،وكعبته المقصودة،وعَرفاته المشهودة]،[فالحق بيت الموجودات كلها،لأنه الوجود. وقلب العبد بيت الحق،لأنه وَسعه،ولكن قلب المؤمن لا غير]..
_ بَيّنة الله _
البَيّنة هي إحدى الطّرق الموصلة إلى العلم الصحيح،تتلخّص في أن أهلها،أي الأشخاص الذين هم على بيّنة من ربهم،يعتمدون للإدراك اليَقيني عَلامة بينهم وبين الحق،تَقوم عندهم مَقام الدّليل اليقيني عند صاحب الفكر.
هذه العلامة تكون في بعض الأحيان حِسيّة،كما يُروى عن المُحاسبي أن وَرعه ومُجاهدته في تَحرّي الحلال عند الطعام،أدّى به إلى بيّنة من الحقّ،وهي العلامة،فكان إذا مَدّ يَده إلى طعام فيه شُبهة نَفَر عِرق في أصبُعه. وهذه العلامة الحسيّة هي عنده بمثابة الدليل اليقيني عند صاحب الفكر..
فالحق تعالى يتولّى تَعليمهم ويَختصّهم بفَهم ما إفترض عليهم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم. فالوحي التّشريعي أختُتم،ولكن العلم به والفهم له إختصاص إلهي يُبيّنه الحق للخلق،فهُم العلماء بالله حقيقة.
يقول إبن عربي: [إن الزهاد،الذين كان الورع سبب زُهدهم،فكلما حاكَ في نفوسهم شيء تَركوه.. إلى أن جعل الله لهم علامات يعرفون بها الحلال من الحرام.. وإستراحوا إذ كانوا على بيّنة من ربّهم..]،[وهؤلاء،الذين كشف الله عن بصيرتهم،هم العلماء بالله،العارفون،وإن لم يكونوا رُسلاً ولا أنبياء،فهم على بيّنة من ربهم في علمهم به وبما جاء من عنده..]..
== حرف التاء ==
_ تابوت _
التابوت: رمز للجسم الإنساني الذي يُطلقون عليه إسم النّاسوت،في مُقابل اللاّهوت / الروح.. ولم يزد الجامي أو بالي أفندي على شرح إبن عربي التابوت بالناسوت شيئاً..
يقول إبن عربي: [وأما حكمة إلقائه (موسى) في التابوت ورَميه في اليَمّ،فالتابوت ناسوته..]..
إستعمل إبن عربي التابوت في صورة تمثيلية أخرى،أعمق من الأولى وأكثر تفرّداً. فالتابوت يُشير إلى التكاليف الإلهية التي يحملها العبد،بما فيها من مَشقّة،حَملاً معنوياً في قلبه،وحَملاً حِسّيّاً يتمثّل في العمل بالجوارح..
يقول إبن عربي: [أنواع التوابيت خمسة وهي: توابيت الأمر الواجب،وتوابيت الأمر المندوب،وتوابيت الأمر المُبيح من حيث الإيمان به،وتوابيت النّهي الواجب،وتوابيت النّهي المكروه]..
_ تُرجُمان الحقّ _
يقول إبن عربي: [اللسان: تٌرجمان الجَنان،والجنان مُتّسَع الرحمان،وهو له بمنزلة المكان،فما وَسع الربّ إلا القلب. فأنت ترجمان الحق إلى جميع الخلق..]. وترجمان الحق ليس مطلق الإنسان،بل الإنسان الخليفة..
فالإنسان يُتَرجم خطاب الحق في قلبه من لغة المعاني والإشارات إلى لغة الخلق،لغة الألفاظ والحروف. والإنسان يُبلّغ خطاب الحق إلى الخلق،لأن الحقيقة الإنسانية هي الوحيدة التي قَبلت الصورة الإلهية وظهرت بالكمالات الأسمائية في الخلق..
_ التوبة _
ناقَش الشيخ الأكبر مقالات المتقدمين في التوبة،فأخذ منها ما وافق نظرته،وردّ بمنطق تعليلي ما يُنافي حقائقه وفلسفته. ثمّ في قفزة ثانية،تخطّى كل المفاهيم الأولى في نظرتها الخُلقيّة السّلوكية،إلى نظرة أنطولوجية في التوبة..
يقول إبن عربي: [حَدّ التوبة: ترك الزلّة في الحال،والنّدم على ما فات،والعزم على أنه لا يعود لما رجع عنه،ويفعل الله بعد ذلك ما يُريد. فأما ترك الزّلّة في الحال فلا بُدّ منه. وأما الرّكن الثاني وهو النّدم على ما فات،وهو عند الفقهاء الرّكن الأعظم،فالعارفون (آدميون)،يسألون من ربهم أن يتوب عليهم،وحظّهم من التوبة الإعتراف والسؤال لا غير ذلك.. فإن الرجوع إلى الله بطريق العهد،وهو لا يعلم ما في علم الله،فيه خطر عظيم،فإنه إن كان بَقي عليه شيء من مُخالفة فلا بدّ من نقض ذلك العهد،فينتظم في قوله: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه). فلم يُرَ أكمل معرفة من آدم عليه السلام حيث إعترف ودَعا،وما عَهد مع الله توبة عَزَم فيها أنه لا يعود،كما يشترطه علماء الرسوم في حدّ التوبة.. فإن في العزم سوء أدب مع الله بكل وجه..].
التوبة إذن هي: إعتراف بالذّنب وسُؤال المغفرة،دون عهد أو عزم بعدم العودة إليه.
إن التوبة تفترض الذّنب الذي بدوره يفترض فعل العبد التائب. وهذا الإفتراض يُناقض مبادئ إبن عربي في وحدة الفاعل وهو الحق.. فالتوبة إن لم تكن إشراكاً يُثبت فيه العبد فعله بجانب وجود الحق وفعله،فهي على الأقل تُقاربه. ولذلك يُعرّف التوبة بأنها التبرّي من الحول والقوة بحول الله وقوته..
فالشيخ الأكبر لم يربط التوبة بالذّنب،فالتوبة عنده: رجوع بالوجود إلى الحق في كل حال.. يقول إبن عربي: [إعلم أنه من كان صفته: (وهو معكم أينما كنتم).. فلا يتوب إلا من لا يشعُر ولا يُبصر هذا القُرب.. إن الله يُحبّ التّوابين إليه في كل حال من خلاف ووِفاق.. فلا تصحّ توبة فإنها رُجوع،ولا يكون رجوع إلا من مُفارقة لأمر يَرجع إليه،والحق على خلافه..]..
== حرف الثاء ==
_ التّثليث _
لفَهم فكرة التّثليث عند الشيخ الأكبر ومكانتها من فلسفته،لن نُقارنها بمَثيلتها في المسيحية كما فعل غيرنا من الباحثين،بل سنكتفي باستحضار مفهوم التّربيع الذي يَقوم عليه كِيّان المخلوق “قيّومية الأشياء”.
التّثليث هو أصل الخَلق ومَبدأ النّتاج على كل المستويات الوجودية: الحسيّة والمنطقية والمعنوية..
يقول إبن عربي: [.. إن الأمر مَبني في نفسه على الفردية ولها التّثليث،فهي من الثلاثة فصاعداً. فالثلاثة أول الأفراد،وعن هذه الحضرة الإلهية وُجد العالَم،فقال تعالى: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) وهذه:ذات،إرادة،قول..]،[.. إن الأحد لا يكون عنه شيء البتّة.. ولا يكون عن الإثنين شيء أصلاً ما لم يكن ثالث يُزوّجهما،ويربط بعضهما ببعض،ويكون هو الجامع لهما. فحينئذ يتكوّن عنهما ما يتكوّن بحسب ما يكون هذان الإثنان عليه.. فيَسري التّثليث في جميع الأمور لوجوده في الأصل..].[.. ما كَفر القائل بالثلاثة،وإنما كفر بقوله إن الله ثالث ثلاثة،فلو قال ثالث إثنين لأصابَ الحق..]..
في عالَم المعاني للحصول على نتيجة لا بد من إزدواج مقدّمتين تَحدُث بينهما حركة يُعبّر عنها بالنكاح..
_ الجوع _
يعترف إبن عربي بالجوع رُكناً من أركان المُجاهدة،ولكنه لا يلبث أن يتجنّبه دون الوقوع في تُخمَة نَقيضه الشّبع..
يقول إبن عربي: [.. الجوع ليس مطلوباً لك (العبد).. ولكن إن كان الجوع إذا قامَ بك أعطاك من الصّفاء والرّقة واللطافة والتحقّق بالعبودة،فأنت طالب له غير مُستغن عنه. فإن أعطاك الشّبع ما أعطاك الجوع من كل ما ذكرناه،فقد إستغنيت بالشبع عن الجوع،إذ الجوع ليس مطلوباً لنفسه..]،[وأما اللطيفة الروحانية التي تتنعّم بالعلوم الإلهية فليس هذا الجوع بابها،وإنما بابُها قطع الشّواغل وتَرك الفُضول وتَعلّق الهمّة بالله تعالى. وإنما حَملهم على الجوع أن تَضعُف القوى فيَقلّ فُضول النفس بهذا السّبب. وقد رأيت الرجل إذا قَويَ تَرِد عليه الموارد الإلهية في شَبعه وجوعه،فلو كان الجوع شَرطاً لما صَحّ زَواله،ولكان الوارد يتوقّف على عدم الشّرط..]..
فقد نَظر إبن عربي إلى الجوع كوسيلة لها فوائدها،ولها مَضارّها الصحيّة والفكرية،ولها مُمارسة خاصة (المُريد دون الأربعين) من خلال نسبيّتها (حَدّ الشّبع نسبي عند الأفراد)..
== حرف الجيم ==
_ جَليس الحق / جَليس الله _
إن الذكرإذا تخطى صورته اللسانية ليعُمّ الذاكر،أوْصَل موضوعه إلى حال حُضور مع المذكور. فالذاكر للحق يصل بذكره إلى الحضور في حضرة الحق من حيث الإسم المذكور،وعندما يصل الذاكر إلى حضرة الحق يجلس معه مدّة ذكره،فهو جليس الحق.
يقول إبن عربي: [لأن أهل الذكر هم جُلساء الحق.. فعلى قدر ذكره (الذاكر) يكون الحق دائم الجلوس معه.. فكل ذاكر لا يزيد علماً في ذكره بمذكوره فليس بذاكر،وإن ذكر بلسانه،لأن الذاكر هو الذي يعُمّه الذكر كُلّه،فذلك هو جليس الحق..]..
وحيث أن التنزيل العزيز أكّد أن الحق يذكُر من يذكُره: (فاذكروني أذكركم)،أصبح الحق كذلك جليس الذاكر..
_ التجلّي _
من مُرادفاته: الفيض،الظهور،التنزّل،الفتح.
يتسرّب لفظ التجلّي إلى كل البُنيان الفكري لشيخنا الأكبر،ويتداخل مع نظرياته كافة،بل هو العماد الذي يبني عليه فلسفته في وحدةالوجود،إذ بالتجلّي يُفسّر: الخَلق،وكيفية صُدور الكثرة عن الوحدة دون أن تتكثّر الوحدة الوجودية،والمعرفة العلمية الصوفية..
التجلي من الحق واحد في كل ما يظهر عنه،إنه مبدأ التغيّر في المُتجلّى له لأنه ينقُله من حال إلى حال: من الثبوت إلى الوجود،تجلّ في الشيء / تجلّ وجودي،ومن عَرض إلى عَرض،تجلّ للشّيء / تجلّ علمي.. فبالتجلّي ظهرت الموجودات (تجلّ في الشيء)،وتغيّرت عليها الأحوال (تجلّ للشيء بعد وجوده)..
يقول إبن عربي: [وللنفس الكلية وجه خاص إلى الله لا علم للعقل به،فإنه سِرّ الله الذي بينه وبين كل مخلوق،لا تُعرَف نسبته ولا يدخُل تحت عبارة.. وهذا هو التجلّي في الأشياء المُبقي أعيانها. وأما التجلّي للأشياء فهو تجلّ يُفني أحوالاً ويُعطي أحوالاً في المُتجلّى له.. فبالتجلّي تَغيّر الحال على الأعيان الثابتة،من الثّبوت إلى الوجود،وبه ظهر الإنتقال من حال إلى حال في الموجودات..].
والتجلّي شقّين،وهما كما يُسمّيهما الجامي: التجلّي الوجودي والتجلّي الشّهودي / العلمي العرفاني. في التجلّي العلمي يَفْنى المُتجلّى له،بخلاف التجلّي الوجودي الذي يُبْقي..
والشيخ الجيلي إحتفظ بلفظ التجلّي في المجال العلمي العرفاني،أما على الصعيد الوجودي فقد إستبدل به كلمة التنزّل وفَسّر على أساسه (الخَلق) بالخُطوات نفسها والترتيب الذي نجده عند الشيخ الأكبر..
_ التجلّي الوجودي: إن العالَم بأسره هو صورة التجلي الإلهي من حيث الإسم الظاهر. إن الحق يتجلّى في الأشياء،أي يظهر فيها فيمنحها بهذا التجلي الوجود. وهذا التجلي: دائم مع الأنفاس في العالَم،واحد يتكثّر في مظاهره لإختلاف إستعداد المُتجلّى فيه. يقول إبن عربي: [.. وتجلّي الحق لكل من تجلّى له،من أي عالَم كان،من عالم الغيب أو الشهادة،إنما هو من الإسم الظاهر. وأما الإسم الباطن فمن حقيقة هذه النسبة أنه لا يقع فيها تَجلّ أبداً،لا في الدنيا ولا في الآخرة]،[وإن العالَم ليس إلا تَجلّيه (تجلي الحق) في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه،وإنه (الحق) يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها..]،[.. فله تعالى التجلّي الدّائم العام في العالَم على الدوام،وتختلف مراتب العالم فيه لإختلاف مراتب العالم في نفسها،فهو يتجلّى بحسب إستعدادهم].. _ التجلّي الشّهودي / العلمي العرفاني: التجلّي هنا يتّصل بطبيعة المعرفة من حيث أنه نوع من أنواع الكشف يُفني المُتجلّى له ويورثه علماً،بل لا يصحّ العلم بالله عند إبن عربي إلا عن طريقه. وهو واحد يتنوّع باستعداد المَحلّ.
يقول إبن عربي: [اعلم أن من الكشف ما هو عقلي.. ومنه ما هو رباني،وذلك بطريق التجلّي. وهذا النوع يتعدّد بتعدّد الحضرات الأسمائية،فإن للحق تجليات من كل حضرة من الحضرات الأسمائية،وأعلاها وهو التجلّي الإلهي الجَمعي الأحدي،يُعطي المُكاشفات الكُليّة. وفوقها التجلّي الذاتي..]،[.. فلم يَبق العلم الكامل إلا في التجلي الإلهي،وما يكشف الحق عن أعيُن البصائر والأبصار من الأغطية فتُدرك الأمور،قديمها وحديثها،على ما هي عليه في حقائقها وأعيانها]،[إن علومنا غير مُقتَنصة من الألفاظ،بل علومنا عن تجليات على القلب عند غَلبة سُلطان الوَجد وحالة الفناء بالوجود فتقوم المعاني،مثلاً وغير مثل،على حسب الحضرة التي يقع التنزّل فيها..]..
_ التجلّي الخاص الواحد للواحد: هو تجلي الحق للعبد بعد دخوله الجنة،في مُلكه فيها. يقول إبن عربي: [والتجلّي الذي يكون من الله لعبده،وهو في مُلكه،هو: التجلّي الخاص الواحد للواحد. فرؤيتنا إيّاه في يوم المواقف في القيامة ــ إله المعتقداتــ يُخالف رؤيتنا إياه في أخذ الميثاق ــ التجلي العام للكثرة،ويُخالف رؤيتنا إياه في الكثيب ــ التجلي العام في الكثرة،ويُخالف رؤيتنا إياه ونحن في مُلكنا وفي قُصورنا وأهلينا ــ التجلي الخاص الواحد للواحد..].. _ التجلّي الدّائم: هو تجلّي وجودي من ناحية،وشُهودي من ناحية أخرى.
تجلي وجودي من حيث أن الحق هو دائم التجلي في صور الموجودات. وهو تجلي شهودي من حيث أن العلماء الذين علموا أن الحق عين كل صورة،لا يزالون في تَجلّ دائم..
_ التجلّي الذّاتي: هو تجلي الحق بذاته في الأشياء أو للأشياء. وفي كلتا الحالتين لا يقبله أهل الحقائق،إذ أن تجلي الحق لا يكون إلا في صور خَلقه،في المظاهر. وهو بتجلّيه في المظاهر يُسمى ذاتياً إذا أعطى الكشف بحقيقة الحقائق. يقول إبن عربي: [إعلم أن التجلّي الذاتي ممنوع بلا خلاف بين أهل الحقائق في غير مَظهر،والتجلّي يكون في المظاهر..]،[التجلي الذاتي الذي يُعطي الكشف بحقيقة الحقائق وبمراتبها..]،[والتجلّي الذاتي لا يُنقال،لكن يُشهَد،وإذا شوهد لا ينضبط ولا يَشهده إلا الخاصة. وليس في الكون طريق إليه يُنال به،فهو إختصاص مجرّد وليس جزاء..]. إبن عربي يُثبت التجلي الذاتي ولكن في مَظهر،فالمُشاهد المُكمّل يَشهد التجلي الذاتي في قلبه،إذن في مظهر.. _ المَجلى: إن العالَم بأسره بكل جزئياته،وُجد وبَقي على وجوده بالتجلي الإلهي. فهو مَجلى للحق أو مِنَصّة،أي مَظهر للأسماء والصفات الإلهية. وأتَمّ مَجلى أو مظهر هو الإنسان الكامل،وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،من حيث أنه ظاهر بكل الكمالات الإلهية،وإنه جمع في ذاته كل الحقائق المُتجليّة في العالَم بأسره.
إن المَجالي تتفاوت بإستعداداتها،من هنا تنبُع الكثرة المشهودة في الوجود رغم أحدية التجلّي. فالتجلّي واحد يتكثّر في المَجالي بحسب إستعداداتها. إذن هناك علاقة مُتداخلة حَيّة بين المُتجلّي الواحد والمُتجلّى له..
يقول إبن عربي: [الخلق مَجلى الحق..]،[فإن جميع المخلوقين مِنصّات تجلّي الحق..]،[فالإنسان الكامل الذي يدلّ بذاته من أول البديهة على ربّه: مَجلى الأسماء الإلهية..]،[فكان صلى الله عليه وسلم أعظم مَجلى إلهي..]،[المِنَصّة: مَجلى الأعراس،وهي تجليات روحانية]..
_ جوامع الكَلم _
عبارة جوامع الكلم مُلتصقة بالحقيقة المحمدية،دالّة عليها،مُشيرة إلى جَمعيتها..
يرى إبن عربي أن كل نبيّ أو رسول هو كلمة أو حقيقة مُفردة مُعيّنة مُتميّزة،على حين أن الحقيقة المحمدية أو الكلمة المحمدية هي جوامع الكلم،أي لها جَمعيّة الحقائق المفصّلة في الأنبياء والمُرسلين.
يقول إبن عربي: [فقُلت (إبن عربي): “إلهي الآيات شَتات”،فأنْزَل عَليّ هذا القول: (قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون). فأعطاني في هذه الآية كل الآيات،وقَرّب عليّ الأمر وجعلها لي مفتاح كل علم. فعَلمت أني مجموع من ذُكر لي من الأنبياء،وكانت لي بذلك البُشرى بأنّي محمّدي المقام،من ورثة جمعيّة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،فإنه آخر مُرسَل وآخر من إليه تنزّل،آتاه الله جوامع الكلم..]..
إن الحق علّم آدم الأسماء كُلّها،أي جَعله مظهراً لجميع الأسماء. على حين أنه تعالى أعطى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حقائق هذه الأسماء الظاهرة في آدم. فآدم هو الإنسان الظاهر المُتعيّن بالوجود الخارجي،وسيدنا محمد هو الإنسان الباطن المُتعيّن في العالَم المعقول. يقول إبن عربي: [فكان سيدنا محمد نبياً وآدم بين الماء والطين،فإنه أوتي جوامع الكلم التي هي مُسميات أسماء آدم..]..
_ الجنّة _
الجنّات ثلاث.. جُغرافية الجنّة عند إبن عربي يُمكن تلخيصها بالشكل التالي:
1_ جنّة إختصاص: هي الجنة التي ينالها العبد بإختصاص إلهي دون عمل يَستوجبها.. يقول إبن عربي: [جنة إختصاص إلهية،وهي التي يدخلها الأطفال الذين لم يبلغوا حَدّ العمل.. ومن أهلها المَجانين.. ومن أهلها أهل التوحيد العلمي،ومن أهلها أهل الفَترات ومن لم تَصل إليهم دعوة الرّسل..]..
2_ جنّة ميراث: إن كل عمل،من فرض ونافلة،يستحقّ جنّة. ولكن إذا كان عامله من أهل النار،لا يترُك إبن عربي الفعل دون ثواب،بل يجعل أعمال الشّقيّ إرثاً يَرثه المؤمن الذي لا أفعال حَسنة لديه. فالمؤمن هنا يدخُل جنّة ميراث وَرثها من الشقيّ.. يقول إبن عربي: [جنّة ميراث ينالها كل من دخل الجنة ممّن ذكرنا في جنة الإختصاص،ومن المؤمنين. وهي الأماكن التي كانت معيّنة لأهل النار لو دخلوها]..
3_ جنّة أعمال: هي الجنة التي يدخلها العبد بأعماله،فهي جزاء وِفاق،وليست إختصاصاً إختصّ الله بها عبده،بل إستوجبتها أعماله الحَسنة. وهي منازل سبعة: “عدن،الفردوس،الخُلد،النّعيم،المأوى،السّلام،المُقامَة”،كل منزل منها مئة درجةبعدد الأسماء الحسنى والإسم الأعظم المسكوت عنه..
يقول إبن عربي: [جنة الأعمال: هي التي ينزل الناس فيها بأعمالهم،فمن كان أفضل من غيره في وجوه التفاضل كان له من الجنة أكثر.. فما من عمل من الأعمال إلا وله جنّة..]،[واعلم أن جنّة الأعمال مائة درجة لا غير،غير أن كل درجة تنقسم إلى منازل،وأعلاها جنة عدن..]..
وجنة الأعمال يُقابلها نار الأعمال،يقول إبن عربي: [وليس في النار: نار ميراث ولا نار إختصاص،وإنما ثَمّ نار أعمال.]..
_ جنّة عَدْن: هي أعلى جنّات الأعمال مكاناً ومكانة،خَلقها الله بيده،وغَرس فيها شجرة طوبى بيَده. وهي للخواص،لا يدخُلها العامّة.. _ جنّة الكَثيب / كَثيب الرّؤية،الكَثيب الأبيض،موطن الكثيب: الكثيب إسم مكان في جنّة عَدْن،يتجلّى فيه الحق ويدعو جميع الخلق،من السّعداء الذين نزلوا في أماكنهم من الجنات،إلى رؤيته. وهو منزل الحق لا ينزل به الخلق،بل ينزلون في جناتهم.. وموطن الكثيب خارج الجنة.. وكثيب الرؤية حضرة الحق،لأنه مكان تَجلّي الحق لخَلقه ليَرَوه..
__ جنّة الوَسيلة: هي منزلة الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،وتتميّز بأنها أعلى درجة في جنة عدن. ولها شُعبة في كل جنّة من الجنّات،من تلك الشّعبة يظهر صلى الله عليه وسلم لأهل تلك الجنة..
يقول إبن عربي: [وأما الوسيلة فهي أعلى درجة في جنة عدن،وهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم حَصلت له بدعاء أمّته..]..
== حرف الحاء ==
_ الحُبّ _
الحُبّ تعلّق خاص من تعلّقات الإرادة،لا يكون إلا بمعدوم. ينتقل المُحبّ بهذا التعلّق إلى صفة المَحبوب. وهو سارِ في جميع المقامات والأحوال،لأنه كان في الأصل..
يقول إبن عربي: [الحب تعلٌّق خاص من تعلّقات الإرادة،فلا تتعلّق المحبة إلا بمعدوم غير موجود في حين التعلّق.. وإن المحبوب على الحقيقة إنما هو معدوم.. وما أحسن ما جاء في القرآن قوله: (يُحبهم ويُحبونه) بضمير الغائب والفعل المُستقبل،فما أضاف مُتعلّق الحُبّ إلا لغائب ومعدوم،وكل غائب فهو معدوم إضافي..]،[فالمُحبّ الصادق من إنتقل إلى صفة المحبوب،لا من أنزل المحبوب إلى صفته]،[.. لكون العالَم ما أوجده الله إلا عن الحُبّ،فالحب يستصحب جميع المقامات والأحوال،فهو سارٍ في الأمور كلها..]..
وإبن عربي بما تَحلّى به من طاقة توحيدية نَراه يُوحّد: “الهَوى والحُبّ والوِدّ والعشق” في عاطفة لها طبيعة واحدة،تختلف بالصفات فتَتغيّر عليها الأسماء.. يقول إبن عربي: [إن الحُبّ مقام إلهي،فإنه تعالى وَصف به نفسه وتَسمّى ب”الودود”.. ولهذا المقام أربعة ألقاب: الحب،الودّ،العشق،الهَوى..]..
لقد بَحث إبن عربي الحُبّ كتعبير إنساني،بكل ما يضمّه الوجود الإنساني من مستويات يتوق من خلالها إلى المحبوب. فهناك: حُبّإلهي،حُبّ روحاني،حب طبيعي،حب عنصري..
إن إبن عربي لم يَرْقَ إلى مُستوى الفلسفات الإنسانية بمفاهيمها الحديثة،إلا أنه واكَبها في نقطة الإنطلاق: الإنسان،فالإنسان محور أفكاره وقُطبها. وإن كانت صيغة الإنسان في بُنيانه الفكري تختلف عن صيغتها في الفلسفات المعاصرة..
كثيراً ما يقف الباحث في مؤلفات الصوفية الوجدانية،شعراً ونَثراً)،أمام دَفْق حُبّهم مُتردّداً: هَل ما يقولونه هو حقيقة في الجناب الإلهي من خَلف كنايات ورُموز “هند،أسماء”؟ وما نَصيب هذه الكنايات من حُبّهم؟.
وإبن عربي مادة غزيرة في هذا المضمار،فديوانه (ترجمان الأشواق) أثار أكثر من مجرد أقاويل،ممّا دَفعه إلى شرحه بنفسه شَرحاً تَعنّى في إرجاع جُزئياته الحِسيّة إلى الحضرة الإلهية..
ولا نستطيع هنا أن نَنفي مع إبن عربي نَصيب المرأة في ديوانه المذكور،وهذا يدفعنا إلى إظهار الدّور الذي تُمثّله في نظرية الحُبّ الإلهي عنده.
إن الوجود الحقيقي عند الشيخ الأكبر واحد هو الحقّ،وكل ما يُرى في هذا العالَم من المخلوقات فما هي إلا رموز ومَجالي وحُجُب.. إذن يعيش إبن عربي في عالَم رموز،فكل ما يَهفو إليه هو في الواقع رمز وحجاب على الحق،والحق هو المحبوب على الحقيقة من خلف حجاب الرّمز..
وهنا تَبرُز المرأة،إذ أنها تنفرد من دون سائر الرّموز بإتاحتها للسّالك أكمل شُهود للحق. وهكذا تَظهر المرأة مَجلى من مَجالي الجمال المطلق،الذي يَتعشّقه إبن عربي ويُقدّسه ويَعبُده. فهي ليست مَحلاً للشّهوة بذاتها،بل هي رمز لذلك الجمال الشامل،وطريق موصل إلى الحق. فإن بَثّها حُبّه وأشواقه،فإنما هو في الحقيقة يَعْبُر من خلالها إلى ما تَرمُز إليه،إلى الحقّ. فالجمال المُقيّد المحسوس باب مفتوح على الجمال المطلق،يَعبُر منه من لا يقف مع الرّمز..
يقول إبن عربي: [.. فشُهوده للحق في المرأة أتَمّ وأكْمَل،لأنه يُشاهد الحق من حيث هو فاعل مُنفعل.. فلهذا احَبّ صلى الله عليه وسلم النّساء لكمال شُهود الحق فيهن،إذ لا يُشاهَد الحق مُجرّداً عن الموادّ أبداً.. فشُهود الحقّ في النساء أعظم الشّهود وأكمله..]..
_ حاجب الحقّ _
إن كلمة حاجب الحق هي من الصور التمثيلية التي يُقرّب بها إبن عربي إلى الأذهان صورة الوَسائط بين الإنسان والحق،عن طريق تشبيهها بالوسائط بين أفراد الشعب والمَلك.
فحضرة الحق يُشبّهها إبن عربي بحضرة المَلك،على بابها حَرَس وحُجّاب،وللحق نُوّاب،كما للمَلك،يُنفّذ بوساطتهم أحكامه في خَلقه كما يُنفّذ الملك أحكامه في شعبه.
إذن كلمة حارس وحاجب ونائب تُؤدّي معنى واحداً في النهاية،وهو الإنسان الكامل أو الشيخ الواصل الموصل،الذي يَحرس باب الحضرة الإلهية من كونه حارساً،ويُدخل المُريد إلى الحضرة من كونه حاجباً،ويتصرّف في عالَم المُلك بأمر ربّه من كونه نائباً..
يقول إبن عربي: [واعلم أن حُرمة الحق في حُرمة الشيخ،وعُقوقه في عُقوقه. هُم الشّيوخ حُجّاب الحق،الحافظون أحوال القلوب على المريدين]،[فالإنسان الكامل هو حاجب الحق تعالى وخليفته في عالَمه،والنائب عنه فيهم..]..
_ (حِجاب) _
ظَلّ الحِجاب مُشبَعاً بالسّلبيّة،يتجنّبه المتصوفة وتَنفر منه تَطلّعاتهم. إلى أن بَصمه إبن عربي بإيجابيته الفاعلة،فأصبح الحجاب باباً وطريقاً موصلاً للمحجوب به،فلا وصول إلى المحجوب إلا من الحجاب. إذن: الحجاب هو الفاصل الموصل،وليس الفاصل المانع..
والحجاب،عند إبن عربي وأهل الطائفة،كل ما يقف في طريق رؤيتهم المباشرة للوجه الإلهي. فالحجاب هو كل ما يَفصل ويوصل إلى الله.
وهذا التعريف يَشمل كل التعيّنات الكونية على كل المستويات الوجودية. فالحجاب هو الخَلق..
يقول إبن عربي: [فمِنك (المُمكن) تَعْرفُه،لا من غيرك،لأنك الحجاب الأقرب.. ومن كونك سِتْراً وحجاباً حَدّدته،فمعرفتك به في هذا الموطن عَيْن عجزك عن معرفته.. وأما الغَيْر فحجاب أبْعَد بالنّظر إليك..]،[لا يكون في الزمان إلا واحد يُسمّى الغَوْث والقُطب،وهو الذي ينفرد به الحق ويَخلو به دون خَلقه.. وذلك العبد عَيْن الله في كل زمان،لا ينظُر الحق في زمانه إلا إليه،وهو الحجاب الأعلى..].
في النص الأول: عَيْن المُمكن هي الحجاب الأقرب،أي أقرب طريق موصل إلى معرفة الله “فمنك تَعرفه..”.
أما النص الثاني: فيَرفع الحجاب إلى المستوى الأعلى،وكلمة أعلى هنا لا تُعبّر عن المكان بل المكانة.. فالقطب هو أعلى أفراد الإنسان الكامل في زمانه،ولا يُنعَت إلا بكل لفظ عالٍ. فلا يُمكن أن تحتفظ كلمة حجاب عند إبن عربي بالمفاهيم القديمة التي تُنمّ على الحرمان والمنع والقطع والبُعد والنّقص..
نورد نَصاً لإبن عربي يُبيّن بوضوح كيف يتحوّل الحجاب إلى المطلوب نفسه،يقول: [.. والحجاب رحمة والدّليل إحراق السّبُحات،والحجاب نقمة والبُرهان ما جاء في أصحاب الدّركات. وليس الوقوف خَلف الباب بحجاب إذا كان الباب يستحيل إلى أن يكون خَلفه الوصول،والإقامة لدَيه والنزول،فيكون الباب عَيْن المطلوب..]..
_ الحَضْرة _
_ كل حقيقة من الحقائق الإلهية أو الكونية،مع جميع مظاهرها في كل العوالِم،تُشكّل حَضرة،هي حضرة الحقيقة المُشار إليها. مثلاً: القدرة هي حقيقة إلهية يرجع إليها كل مظهر للقُدرة في العوالم كافة،من حيث أن كل قدرة في العوالم هي مظهر وتجلّ للقدرة الإلهية. فالقدرة الإلهية مع جميع مظاهرها وتجلياتها،من حيث تميّزها عن بقية الحقائق الإلهية،تُشكّل حضرة هي حضرة القدرة. يقول إبن عربي: [قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى) وليست سوى الحضرات الإلهية..]،[إن الحضرات الإلهية لا تكاد تنحصر لأنها نِسَب.. وكل إسم إلهي هو حضرة،ومن أسمائه ما نعلم ومنها ما لا نعلم.. وكل ما يُفتَقر إليه هو إسم من أسمائه تعالى..]. إن لكل إسم من الأسماء الإلهية حضرة،وهي مؤلّفة من الإسم الإلهي الحاكم والمُهيمن على الحضرة مع جميع تجلياته في العوالِم. وقد ذكر إبن عربي في (الفتوحات) هذه الحضرات،وعددها 100،منها: [الحضرة الربيّة،حضرة الرّحموت،حضرة المُلك،حضرة التقديس،حضرة السّلام،حضرة الأمان،حضرة الشهادة،حضرة العزّة،حضرة الجبروت،حضرة الخلق والأمر،حضرة التصوير،حضرة القهر،حضرة الوَهْب،حضرة الأرزاق،حضرة الفتح،حضرة العلم،حضرة القبض،حضرة البسط،حضرة الرّفعَة..].. وعدد الحضرات في الكون لا ينحصر لأن الحقائق لا تنحصر،ولكن الحضرات الإلهية يُرجعها إبن عربي إلى أصول أمّهات تَجمعها،كما أرجع كثرة الأسماء الإلهية إلى أمّهات.. _ والحضرة: هي مجموع حقائق تآلَفت بشكل مخصوص يُعطي حقيقة جديدة واحدة مُركّبة لها خصائص مميّزة وصورة واضحة. مثلاً: الخيال هو حقيقة واحدة مركّبة من مجموع حقائق مفردة،تألّفت بشكل معيّن يُعطي خصائص واضحة موضوعية،وهذه الحقيقة تُسمّى حضرة الخيال..
_ إن كل نسبة بين الحق والخلق تؤلّف حضرة،من حيث أن العبد يَحضُر فيها مع الحق من هذه النّسبة. يقول إبن عربي: [إن الله تعالى قد عَرّف عباده أن له حضرات معيّنة لأمور دَعاهُم إلى طلب دخولها وتحصيلها منه،وجعلهم فقراء إليها.. فمنها حضرة المُشاهدة،وهي على منازل مختلفة وإن عمّتها حضرة واحدة.. ومنها حضرة المُكالمة.. ومنها حضرة السّماع.. ومنها حضرة التّعليم..].. _ الحضرة الإلهية: إن كل إسم إلهي مع تجلياته في الكون هو حضرة إلهية نكرة. أما الحضرة الإلهية “معرفة” فهي الذات الإلهية مع صفاتها وأفعالها،في مُقابل الحضرة الإنسانية التي هي مظاهر الحضرة الإلهية وتجلياتها.
يقول إبن عربي: [آدم الذي هو البرنامج الجامع لنُعوت الحضرة الإلهية التي هي الذات والصفات والأفعال..]..
_ الحُضور _
الحُضور هو تَنبّه خاص يَطرأ على قلب العبد إلى أمر مُعيّن (الحق) فيَحضُر معه،وفي هذه الحال تُفترض الغَيْبة عمّا سوى هذا الأمر (الحق)،فالحُضور يُقابل الغَفلة.. فهناك علاقة جدليّة بين الغيبة والحضور،فبقدر غيبة العبد عن الخلق يحضُر مع الحق،والعكس بالعكس. يقول إبن عربي: [اعلم أنه لا تكون غيبة إلا بحضور،فغَيبتك من تَحضُر معه،فكل غائب حاضر وكل حاضر غائب..].
والحُضور يختلف في مراتب ظهوره في الخلق: فمنه التامّ وغير التامّ أو الكُلّي وغير الكُلّي.. والحضور التامّ يفترض جمعية من الإنسان،أي إستجماعه لقواه كافة وتوجيهها للحضور مع المُراد الحضور معه. وهذا الإستجماع قد يكون في الواقع إستحضاراً..
يقول إبن عربي: [فما ذكر أحد الله عن غفلة قط،وما بَقي إلا حُضور باستفراغ له أو حضور بغير إستفراغ بل بمُشاركة..]..
_ الحقّ _
_ الحقّ في كلام إبن عربي هو الله،لا من حيث ذاته المجردة عن كل وصف ونسبة،بل من حيث ألوهيته للخلق.. فالحقّ هو الله مُتجليّاً في صور الأشياء،مَشهوداً في أعيُن الخلق. _ الحق هو الوجود والخير،في مقابل الباطل / العدم،الشّرّ.. يقول إبن عربي: [والباطل عدم ولا عين له في الوجود،ولو كان له وجود لكان حَقّاً].
_ الحقيقة الوجودية واحدة بذاتها،ثَنويّة بوَجهيها: حق خلق،رب عبد،واحد كثير،قديم حديث.. فالحق هنا أحد وجهي الحقيقة،الجامع لكل صفات القدم. في مقابل الخلق الوجه الآخر الجامع لكل صفات الحدوث.. والخلق في الواقع ليس إلا مَظهراً،مَجلى،تعيّناً للحق. فالحق أصل الوجود وعَينه. ولذلك يجد إبن عربي أن حَدّ الحقّ مُحال،لأن حَدّه هو: مجموع حُدود كل صور العالَم. _ الحق بمعنى “العدل،الإنصاف”،وهو صفة الإنسان الكامل..
_ الحق بمعنى “الشريعة / أمر،نَهي” المفروضة من خارج على الإنسان،مَنهجاً سلوكياً،في مقابل طَبعه.. وقد إستعمل الترمذي عبارة “حقّ الله” بمعنى شَرعه.. _ الحق هو ما وَجب من الصّدق.. _ الحق هو الوجود الظاهر في الحسّ.. _ حَقّ الحَقّ: ما يجب للمقصود على وجه الإستحقاق،وهو صفة ذاتية له.
يقول إبن عربي: [فحق الحق ربوبيته،وحق الخلق عبوديته. فنحن عَبيد وإن ظهرنا بنُعوته،وهو ربنا وإن ظهر بنُعوتنا..].
ويظهر من النص تلك النظرة التّمييزية الواضحة في مؤلفات الشيخ الأكبر،فهو لا يغفل لحظة عن تفرقته بيم المَظهر وأصله،بين وجهي الحقيقة “رب،عبد”،رغم تداخلهما في المظاهر.
__ حقّ خَلق: إن الوجود حقّ كُلّه،في مُقابل العدم باطل،لذلك كل موجود هو حق.
وللتّمييز بين الخالق والمخلوق،بعدما شَمل الجميع نَعت الحق،يقول إبن عربي: [حق خَلق: عبد،حادث،مُؤثَّر.. في مُقابل حق خالق: ربّ،قديم،مُؤثِّر..]..
وحق الخلق: هو كل برزخ وَسط يَجمع بين وجهي الحقيقة الواحدة “حق،خلق”،وهو الإنسان من حيث أنه صورة الحضرتين الإلهية والكونية.. يقول إبن عربي: [فقد علمت حكمة نشأة آدم (صورته الظاهرة)،وقد علمت نشأة روح آدم (صورته الباطنة)،فهو: الحق الخلق.]..
_ حقيقة الحقائق _
حقيقة الحقائق: هي عبارة عن حقيقة معقولة [الوجود العقلي لا يتّصف بالوجود ولا بالعدم،ولا يتّصف بالحدوث ولا بالقِدَم: فهي قديمة في القديم،حادثة في الحادث] تجمع في ذاتها جميع ماهيات الحق والخلق المعقولة،فهي مجموع ماهيات الحضرتين: الإلهية والكونية. وهي بذلك أصل العالَم..
جاء في (لطائف المنن): [حقيقة الحقائق: يعنون بها باطن الوحدة،وهو التعيّن الأول الذي هو أول رُتَب الذات الأقدس.. وذلك لكُليّته وكونه أصلاً جامعاً لكل إعتبار وتعيّن،باطناً لكل حقيقة إلهية وكونية،وأصلاً إنتشأ عنه كل ذلك.. وفي التحقيق الأوضح أن حقيقة الحقائق هي: الرّتبة الإنسانية الكمالية الإلهية الجامعة لسائر الرّتب كلها،وهي المُسمّاة بحضرة أحدية الجمع ومقام الجمع.. وهي أول مرتبة تَعيّنت في غيب ذات الله تعالى]..
ويظهر عند بحث العَماء أنه يُرادف حقيقة الحقائق..
_ الحقيقة المحمدية _
المترادفات: الكلمة المحمدية،النور المحمدي،نور سيدنا محمد،حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
الحقيقة المحمدية: هي أكمل مَجلى خلقي ظهر فيه الحق،بل هي الإنسان الكامل بأخصّ معانيه.. وقد إنفرد سيدنا محمد بأنه مَجلى للإسم الجامع الأعظم الله،ولذلك كانت له مرتبة الجمعية المطلقة. وللحقيقة المحمدية،التي هي أول التعيّنات،عدّة وظائف:
1_ من ناحية صلتها بالعالَم: الحقيقة المحمدية هي مبدأ خلق العالَم وأصله،من حيث أنها النور الذي خلقه الله قبل كل شيء وخلق منه كل شيء. وهي أول مرحلة من مراحل التنزّل الإلهي في صور الوجود،وهي من هذه الناحية صورة حقيقة الحقائق.
2_ من ناحية صلتها بالإنسان: يَعتبر إبن عربي الحقيقة المحمدية مُنتهى غايات الكمال الإنساني،فهي الصورة الكاملة للإنسان الكامل الذي يجمع في نفسه حقائق الوجود.
3_ من الناحية الصوفية: هي المشكاة التي يَستقي منها جميع الأنبياء والأولياء العلم الباطن.
من حيث أن سيدنا محمد له حقيقة الخَتم / خاتم الأنبياء،فهو يقف بين الحق والخلق: يَقبل من الأول مُستمداً للعلم،مُنقلباً إلى الآخر مُمداً له..
الحقيقة المحمدية أول ظاهر في الوجود،وإن كان وجودها عن الهباء وحقيقة الحقائق: فالأول (أي الهباء) حقيقة معقولة غير موجودة في الظاهر،والثانية (أي حقيقة الحقائق) لا تتّصف بالوجود ولا بالعدم.. ويتبقّى أن الحقيقة المحمدية هي اول موجود ظهر في الكون،ومن تَجلّيه ظهر العالَم.
يقول إبن عربي في (بلغة الغواص): [.. إن الوجود كله هو الحقيقة المحمدية،وإن النزول منها إليها وبها عليها. وإن الحقيقة المحمدية في كل شيء لها وجهان: وجه محمدي ووجه أحمدي. فالمحمدي علمي جبرائيلي،والأحمدي إيماني روحي أمّي.. وإن التّنزيل للوجه المحمدي،والتجلّي للوجه الأحمدي..]..
_ الحَيْرة _
يقول إبن عربي: [.. ومن باب الحَيْرة: (والله خلقكم وما تعملون)،(وما رميت ولكن الله رمى)،وكذلك: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) والقتل ما شوهد إلا من المخلوق فنَفى ما وَقع به العلم الضروري في الحِسّ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المُنازلة: “لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك”،وهذا حال الوصول. وقال الصدّيق في هذه المُنازلة: “العجز عن دَرك الإدراك إدراك” فتَحَيّر فوَصَل،فالوصول إلى الحيرة في الحق هو عَيْن الوصول إلى الله. والحيرة أعظم ما تكون لأهل التجلّي،لإختلاف الصور عليهم في العين الواحدة.. إن العلماء بالله أربعة أصناف: الأول: ما له علم بالله إلا من طريق النظر الفكري. والثاني: من طريق التجلّي. والثالث: يَحدُث لهم علم بالله بين الشهود والنظر. والرابع: هو الذي يعلم أن الله قابل لكل مُعتقد،كان ما كان ذلك المعتقد. وهذا الصّنف يُقسّم إلى صنفين: صنف يقول: عَيْن الحق هو المُتجلّي في صور الممكنات. وصنف آخر يقول: أحكام الممكنات هي الصور الظاهرة في عين الوجود الحق. وكل قال ما هو الأمر عليه،ومن هنا نشأت الحيرة في المُتحيّرين،وهي عين الهُدى في كل حائر. فمن وَقَف مع الحَيْرة: حار. ومن وَقَف من كَوْن الحيرة هُدى: وَصَل..].
يظهر من هذا النص عُلُوّ المكانة التي بَرزت فيها الحيرة،فهي النهاية التي وَصل إليها الصنف الرابع القائل بوحدة الوجود.. فالحيرة نَبعت من أن الأمر يَجمع الأضداد،وهذا يُشبه جواب الخراز حين سُئل: بِمَ عَرفت ربّك؟،فقال: بجَمعه بين الأضداد. فإجتماع الأضداد يؤدّي إلى الحيرة،ولكنها حَيْرة عَيْن العلم،حيرة عرفان..
نستطيع الآن أن نورد تعريفاً للحيرة عند الشيخ الأكبر،فنقول: [الحيرة هي: الغَرَق في بحار العلم بالله،مع دَوام النظر إلى تَوالي تجلياته،ومعرفته في كل تَجلّ. وهي الغاية التي إليها ينتهي النظر العقلي والشرعي وكل سلوك في طريق المعرفة بالله].
يقول إبن عربي: [فإن تَأوّلنا ما جاء به الشرع لنَرُدّه إلى النّظر العقلي،فنكون قد عَبدنا عقولنا وحَملنا وجوده تعالى على وجودنا،وهو لا يُدرَك بالقياس. فأدّانا تنزيهُنا إلهَنا إلى الحيرة. فإن الطرق كلها قد تَشوّشت فصارَت الحيرة مركزاً،إليها ينتهي النظر العقلي والشرعي.. فالنظر العقلي يؤدّي إلى الحيرة،والتجلّي يؤدي إلى الحيرة،فما ثمّة إلا حائر وما ثمّة حاكم إلا الحيرة..]،[فالهُدى هو أن يهتدي الإنسان إلى الحيرة،فيعلم أن الأمر حيرة. والحيرة قَلَق وحركة،والحركة حياة. فلا سُكون،فلا موت ووُجود،فلا عَدم]..
ويُفرد إبن عربي للحيرة مَشهداً من كتاب (مشاهد الأسرار القُدسية)،يُسمّيه “مَشْهد الحيرة بطلوع نَجْم العدم”،نرى فيه تأثير النّفري واضحاً،يقول: [.. ثم قال لي: من لم يَقف في الحيرة لم يعرفني.. في الحيرة تاهَ الواقفون،وفيها تحقّق الوارثون،وإليها عمل السالكون،وعليها إعتكف العابدون،وبها نَطق الصدّيقون،وهي مَبْعَث المُرسلين ومُرتقى هِمَم النبيّين،فلقد أفْلَح من حار..].
== حرف الخاء ==
_ خَتْم الخَتْم _
كلمة خَتْم مُفردة تُؤدّي مَعانٍ صفاتية،دون تعيين أشخاص بالذات. ولذلك تتعدّد الخواتم بتعدّد النوع أو الحقيقة أو المعنى المَختوم. مثلاً: النبوة لها ختم هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،والولاية العامة لها ختم هو عيسى عليه السلام،والولاية الخاصة لها ختم هو إبن عربي نفسه أو هكذا تُشعر نصوصه،والخلافةلها ختم هو سليمان عليه السلام،والعالَم له ختم هو الإنسان الكامل. ولذلك لا بد من حقيقة تجمع في ذاتها صفات قوة هذه الخواتم جميعاً وتكون هي ختم الختم وهي لسيدنا محمد،من حيث أنه جوامع الكلم وحقيقة الحقائق..
يقول إبن عربي: [وإن الخلافة عن الله مرتبة تشمل: الولاية والنبوة والرسالة والإمامة والأمر والمُلك،فالكمال الإنساني بكمال هذه المراتب.. ولما تَمّت دورة العبودية في الخلافة بعيسى،جاء الله بدور السيّادة في الخلافة بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،فكان جامعاً للولاية والنبوة والرسالة والإمامة والأمر والمُلك،فهو ختم الختم. فكمال من قَبله: كمال عن نقص،وكماله: كمال عن كمال،فأوتي جوامع الكلم..]..
خَتْم الولاية العامّة
المُترادفات: ختم الولاية الكُبرى،ختم الولاية على الإطلاق،الختم العامّ.
يُقسّم إبن عربي الولاية شقّين: الولاية العامة وهي التي تَشمل ولاية الرسول والأنبياء،والولاية الخاصة وهي ولاية الأولياء.
وقد جعل لكل ولاية خَتْماً،هو شخص مُعيّن واحد،حاز جميع صفات الختم من حيث أنه الحَدّ والنهاية لكل أفراد النوع الذي يَختمه،ومن حيث أنه المشكاة التي يستمدّ منها كل وليّ علمه الباطن.
1_ ختم الولاية العامة: هو رسول رَفعه الله إليه،ينزل في آخر الزمان وَليّاً يحكُم بشرع سيدنا محمد،ويختم بظهوره ولاية الرسل والأنبياء جميعاً،فلا يظهر وليّ بعده. هو من الأفراد،وأفضل أمة سيدنا محمد،وهو عيسى عليه السلام.
2_ ختم الولاية الخاصة: هو رجل عربيّ من الأفراد،على قلب سيدنا محمد،جمع علم كل وليّ محمدي،وإختتم الولاية التي تحصُل إرثاً محمدياً للأولياء المُحمديّين. فلا وليّ على قلب سيدنا محمد بعده،وهو دون الختم العام الذي هو رسول. وهو إبن عربي (يُصرّح بذلك أحياناً،وتلامذته يؤكّدون).
يقول إبن عربي: [الختم خَتمان: ختم يختم الله به الولاية العامة،وختم يختم الله به الولاية المحمدية.. وأما ختم الولاية المحمدية فهي لرجل من العرب،وهو خاتم النبوة المطلقة. وكما أن الله ختم بسيدنا محمد نبوة الشرائع كذلك ختم بالختم المحمدي الولاية التي تحصُل من الورث المحمدي،لا التي تحصُل من سائر الأنبياء،فهؤلاء يوجدون بعد هذا الختم المحمدي،وبعده فلا يوجد وليّ على قلب سيدنا محمد،هذا معنى خاتم الولاية المحمدية. وأما ختم الولاية العامة،الذي لا يوجد بعده وليّ،فهو عيسى عليه السلام]،[إلا أن ختم الأولياء رسول،وليس له في العالَمين عَديل،هو الروح وإبن الروح والأم مريم،وهذا مقام ما إليه سبيل. رفعه الله إليه،ثمّ ينزل وَليّاً خاتم الأولياء في آخر الزمان،يحكُم بشرع سيدنا محمد في أمته. وليس يَختم إلا ولاية الرسل والأنبياء،وختم الولاية المحمدي يَختم ولاية الأولياء،لتتميّز المراتب بين ولاية الوليّ وولاية الرّسل..]،[وأما المُفرّدون فكثيرون،والختمان منهم،فما هما قُطبان،وليس في الأقطاب من هو على قلب سيدنا محمد. وأما المفردون فمنهم من هو على قلب سيدنا محمد،والختم منهم،أعني خاتم الأولياء الخاص..]..
إن كل نبيّ أو رسول تنتهي رسالته،مثلاً،بأدائها،بينما لا تنتهي ولايته. فكل نبي هو وليّ،ولا تنعكس..
__ فكرة الختم من أمّهات الأفكار عند إبن عربي،ويرتكز على صفات معينة في الختم لبناء نظرته في المعرفة الصوفية. وهو يُقيم مُوازنة كاملة بين سيدنا محمد في الأنبياء والختم في الأولياء.. ونلخص أوجه الشّبه بما يلي:
ختم النبوة: أزليّة النور المحمدي،أوتي جوامع الكلم،مصدر كل علم / مشكاة.
ختم الولاية: أزلية ولاية ختم الولاية،الجامع علم كل وليّ،المشكاة التي يأخذ منها كل وليّ علمه الباطن.
يقول إبن عربي: [قوله صلى الله عليه وسلم: “كنت نبياً وآدم بين الماء والطين”،وغيره من الأنبياء ما كان نبياً إلا حين بُعث. وكذلك خاتم الأولياء كان ولياً وآدم بين الماء والطين،وغيره من الأولياء ما كان ولياً إلا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الإلهية..]،[الختم الخاص هو المحمدي،ختم الله ولاية الأولياء المحمديين. وعلامته في نفسه أن يعلم قدر ما ورث كل وليّ محمدي من سيدنا محمد،فيكون هو الجامع علم كل وليّ محمدي لله تعالى..]،[روح سيدنا محمد هو المُمدّ لجميع الأنبياء والرسل والأقطاب .. ولهذا الروح المحمدي مظاهر في العالَم،أكمل مظهر في قطب الزمان وفي الأفراد وفي ختم الولاية المحمدي وختم الولاية العامة الذي هو عيسى عليه السلام]،[أعطاه العلم السّكوت،وهذا هو أعلى عالِم بالله. وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء،وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم،ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الوليّ الخاتم..]..
_ المَخْدَع _
يقول إبن عربي: [المخدع: موضع ستر القطب عن الأفراد الواصلين عندما يخلع عليهم،وهو خزانة الخُلَع،والخازن هو القطب..].
إن الأفراد خارجون،لكَمالهم،عن نَظر القطب. ولكن ذلك لا يجعلهم يَفوقونه رُتبة،بل للقطب التصرّف الكامل في كل الخُلَع في وقته بما في ذلك الأفراد،فيُعطيهم الخُلَع من المخدع،كما أن له أن يَستتر عنهم فيه.
_ المُخْتَصَر _
إبن عربي يُكدّس في حقيقة الإنسان كل الكمالات،فيجمع في جرمه الصغير كل الحقائق المُنتشرة في العالَم. بل نراه يُتحف الإنسان بمزيد من الكمال لإحتوائه وجمعه لكل حقائق الحضرة الإلهية.
فالإنسان الكامل هو المُختصر الجامع لحقائق الحضرتين الإلهية والكونية..
يقول إبن عربي: [فالإنسان آخر موجود في العالَم،لأن المُختصر لا يُختصر إلا عن طول،والإنسان مُختصر العالَم والحق،فالإنسان الكامل هو نَقاوة المُختصر..]،[أردت بالمُطَوّل العالَم كُلّه،وبالمُختصر الإنسان الكامل]،[وخلق الله الإنسان مُختصراً شَريفاً جمع فيه معاني العالَم الكبير،وجعله نُسخة جامعة لما في العالَم الكبير ولما في الحضرة الإلهية من الأسماء..]..
مطلق الإنسان هو مُختصر العالَم،ولا يلزم من ذلك أن يكون إنساناً كاملاً كما هو الحال في مُختصر الحق والعالَم..
_ الخطاب الإلهي _
إن الخطاب الإلهي للخلق واحد،تتغيّر عليه الأسماء بتغيّر صفة المُخاطَب أو عالَمه. فهو واحد من جانب الحقّ،يتكثّر بشروط المُخاطَب (الخَلق): قول،كلام،مُحادثة،مُسامرة،فَهوانية..
1_ صفة المُخاطَب: إن خطاب الحق يُسمى قَولاً عندما يُسمع المَعدوم،ويُسمى كلاماً عندما يُسمع الموجود..
يقول إبن عربي: [.. فالقول له أثر في المعدوم،وهو الوجود. والكلام له أثر في الموجود،وهو العلم..].
2_ عالَم المُخاطِب والخطاب: إن الحق يختصّ من يشاء من الخلق بخطابه في مطلق عالَم يختاره،فتتكثّر أسماء الخطاب الأحديّ بتَكثّر عَوالمه. وسنُشير إلى ثلاثة منها:
أولاً: الفهوانية: هذا الإصطلاح مُبتكر لإبن عربي،لا نعلمه لأحد من قبله. وترد عنده بصيغتين: الإسم والصفة فَهواني.
في الصيغة الأولى: تُشير إلى خطاب الحق مُكافحة في عالَم المثال. مثلاً كلمة “كُنْ” التي خاطَب بها الحق الخلق قبل وجودهم هي قول فهواني أو كلمة فهوانية.
وفي الصيغة الثانية: تقترب من الصفة المشتقة من عالَم خطابها،أي عالم المثال،فتُصبح مُرادفة ل”مِثالي”..
وكما أن الفهوانية سَماع خطاب الحق كِفاحاً،كذلك رؤية صورة الحق كِفاحاً..
ثانياً: المُحادَثة: وهي خطاب الحق للعارفين من عالَم المُلك،كالنّداء من الشجرة لموسى،وهو فَرع عن المُشاهدة..
ثالثاً: المُسامرة: وهي خطاب الحق للعارفين من عالَم الأسرار والغُيوب،نَزل به الروح الأمين على قلوبهم. وهي خصوص في المُحادثة..
__ وكما تتكثّر أحديّة الخطاب الإلهي بشروط المخاطَب،كذلك تتكثّر بتكثّر ظهوره في الطرق الموصلة إلى العبد: وَحْي،من وراء حجاب،رسول..
_ الخِلّة _
الخلّة مقام إبراهيم عليه السلام،ويتلخّص في صفتين بارزتين تنتُج إحداهما عن الأخرى:
1_ مقام الخلّة: هو المقام الذي يتخلّل فيه الحق العبد (قُرب نوافل) والعبد الحق (قُرب فرائض).
2_ الصفة الثانية تنتُج عن الأولى،فبعد أن يتجلّى الحق في كامل مظهره،أي في العبد في مقام الخلّة،يظهر العبد بالنّعت الإلهي،وتعُمّ رحمته وتَشمل كل الخلق،بَرّهم وفاجرهم.
وهذا المقام وإن كان لإبراهيم إلا أنه يمكن للسّالك التحقّق به بإتّباع سُنّته،ويُنسَب السالك إليه فيُقال إبراهيمي..
ويتميّز النبي صاحب هذا المقام عن السالك المُتحقّق بالمقام: أن الصّفة في النبي تَسبق مَظهرها،بل مَظهرها ناتج من وجودها. بينما السالك يَسعى،من خلال فعله لمَظهر الصّفة،إلى إكتساب الصّفة. مثلاً: الخلّة صفة إبراهيم هي سابقة لمظهرها فيه،وما أعماله إلا نتيجة وجودها السابق. بينما السالك الذي يُريد أن يتحقّق بمقام إبراهيم،يَمشي على قَدمه ويتّبع سُنّته عَسى أن يمُنّ الله عليه بصفته..
_ الخِلافة / خَليفة _
نظر إبن عربي إلى الخلافة على أنها نيابة مجرّدة عن شخص النائب والمَنوب عنه،فكل مُتصرّف بالنيابة عن آخر فهو خليفة المَنوب عنه فيما مَلّكه التصرّف فيه. وبذلك تتعدّد أشخاص الخلائف بتعدّد فعل الإستخلاف.
أولاً: الخليفةهو الله. يقول إبن عربي: [يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه ربه في سفره: “أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل”،فما جعله خليفة في أهله إلا عند فَقدهم إيّاه،فينوب الله عن كل شيء..]..
ثانياً: الخلفاء هم أفراد النوع الإنساني،وهم: إما خلفاء عن الله (رُسل،أنبياء)،أو يَخلفون الرسل ويخلُف بعضهم بعض (أولياء).. يقول إبن عربي: [ولله في الأرض خَلائف عن الله،وهم الرّسل. وأما الخلافة اليوم فعن الرسل لا عن الله،فإنهم ما يحكمون إلا بما شرع لهم الرسول،لا يخرجون عن ذلك..]..
_ لقد خَصّ إبن عربي الخلافة عن الله بكُليّة إهتمامه،فنراه يوضح شروط إستحقاقها ويُبيّن ماهيتها وأشكال ظهورها في المُستَخلف. أولاً: شروط إستحقاق الخلافة عن الله: هما شَرطان: الصورتان،الخلافة. فبعدما خلق الله العالَم،قال للملائكة: (إني جاعل في الأرض خليفة) وتلك الخلافة رُتبة لا يستحقها إلا من خُلق على الصورتين: الإلهية والكونية،وهو الإنسان الكامل.. ثانياً: ماهية الخلافة عن الله: إن الخلافة عن الله بلغة إبن عربي هي ظهور الإنسان الكامل في العالَم بالأسماء والصفات الإلهية،وهو مقام قُرب النوافل الذي يتحقّق فيه العبد أن الحق سمعه وبصره وكل قواه.. ثالثاً: أشكال ظهورالخلافة عن اللهفي الإنسان: إن للخلافة أشكالاً في ظهورها في الإنسان،هذه الأشكال هي مضمون الخلافة،وهي ستة أشكال: الولاية،النبوة،الرسالة،الإمامة،الأمر،المُلك. أ الولاية: إن الخلافة عن الله تَظهر في الرسالة،وبعد إنقطاعها تظهر في الولاية. فالخليفة هو من الأولياء،أفْرِدَ عنهم لمرتبة القُطبية والخلافة. يقول إبن عربي: [.. الخليفة الحق الذي هو القطب القائم بوراثة النبوة..]..
أما وجه إختلاف الخليفة عن الوليّ،أن الأول عليه يقع التصرّف فيما أستُخلف عليه (مظهر الربوبية)،ممّا يضطرّه إلى الإلتفات إلى الخلق (مقام الفَرق)..
ب_ النبوة: النبوة عند إبن عربي نُبوّتان: نبوة تشريع ونبوة عامة. الأولى تقترب من الرسالة من حيثية التشريع المُنزّل،والثانية هي الولاية لأنها لا تنقطع بانقطاع التّشريع..
نظر الشيخ الأكبر إلى الخلافة نَظرتين: خلافة عامة (نبوة عامة)،وخلافة تَشريع (نبوة تشريع)..
ج_ الرسالة: الخلافة من عند الله هي الرسالة من ناحية،وبانختامها تبقى الخلافة عن خليفة من عند الله. ومن ناحية ثانية تتجاوز الرسالة في مضمونها السّلبي (التبليغ) إلى مضمون حيّ يقتضي القتال بالسّيف في سبيل حمايتها. فالخلافة: رسالة حَيّة فعّالة تحمل في كيّانها حَتميّة فَرضها..
د_ الإمامة: الخلافة هي الإمامة من حيث أنها تقتضي تَقدّم الخليفة على كل ما أستُخلف عليه،وظهوره بجميع صفات من إستخلفه. وهي تختلف عن الإمامة من حيث أن مفهوم الإستخلاف نفسه يحمل في طيّاته عدم الأصالة،فالمُستَخلف مُستعار في رُتبة هي بالأصالة لغيره. أما الإمام فقد يكون في إمامته على وجه الإستحقاق والأصالة..
هـ_ الأمر: الخلافة تقتضي الظهور بصفات المستخلَف فيما أستُخلِف عليه. إذن الخليفة يُعطي التصرّف في المُستَخلَف عليه،فيكون له وحده الأمر..
و_ المُلك: الخلافة مرتبة تَحوز المُلك الظاهر والباطن،فإذا تَقاصَر الخليفة الحق (المُستخلَف من الله) عن الظهور بها في الخلق إحتجب بشخص (خليفة الظاهر) وأمَدّه بالحُكم والتصرّف..
_ الخَلْق _
أبرز ملامح الخَلق عند الشيخ الأكبر نُلخصها في النقاط التالية:
1_ أن الخَلق ليس من العَدم،بل من وجود علمي إلى وجود عَيني..
2_ أن الخلق لم يحدُث في زمن مُعيّن،بل هو دائم مع الأنفاس / خلق جديد. فالحق لا يزال،دائماً أبداً،خالقاً. والعالَم لا يزال،دائماً أبداً،فانياً..
3_ أن فِعل الخلق لا يستدعي إثْنَينيّة (الخالق والمخلوق)،ومن هنا إستبدل إبن عربي بلفظ خلق عبارات وتمثيلات حاوَل أن يشرح فيها تلك العلاقة بين وجهي الحقيقة الواحدة. فنراه أحياناً يَلجأ إلى: النور والظلام،الصور والمَرايا،الظاهر والمظاهر.. كل ذلك ليَسكُب تلك الإثنينية المَشهودة في الحِسّ والمُتزهّمة في وحدة إيمانية أو شُهودية كَشفية.
فالخلق هو تَجلّي الحق في صور العالَم،فهو الظاهر في كل مَظهر..
4_ نَظر إبن عربي إلى لفظ الخَلق من وجوه أربعة: _ خَلق إيجاد: وهو تعلّق الإرادة بإظهار عين المُراد إظهاره.
_ خلق تَقدير: وهو تعيين الوقت لإظهار عين الممكن. _ فعل الخلق. _ الخَلق: إسم: بمعنى المخلوق،وهو يُمثّل كل صفات: الإنفعال والتأثّر والفقر والمَعلولية،في مُقابل كل صفات: الفعل والتّأثير والغنى والعِلّيّة التي للحقّ..
_ خَلْق جديد _
إن تصور الشيخ الأكبر للعالَم،تصوّر حَيّ حَركيّ،يُضاهي التصورات العلمية الحديثة بعد إكتشاف الذّرّة وحركتها الدائمة. فالعالَم يَفنى ويُخلَق في كل لحظة،خَلقاً أزلياً أبدياً.
وقد إعتبر دارسو إبن عربي عبارة خلق جديد من الكلمات الرئيسة في فلسفته التصوفية،فأفاضوا في تأمّل جوانبها وإستقصوا مصادرها..
أما المقدمات التي ألزمَت إبن عربي بهذه النتيجة فهي:
أولاً: أن لكل ظهور في العالَم أصلاً إلهياً. والأصل الإلهي القائل: (كل يوم هو في شأن) يستدعي التغيّر والتبدّل والتحوّل المُستمرّ في صور الكائنات. كما أن الأصل الإلهي الثاني (أي الوُسْع الإلهي) يقتضي أن لا يتكرّر تَجلّ أصلاً،فكل تحوّل يَحدُث نتيجة الأصل الأول يُؤدّي إلى مِثْل نتيجة الأصل الثاني. وثَمّة أصل إلهي ثالث يقول: إن الله خالق على الدّوام،وهذا يستدعي دوام تحوّل صور الكائنات إلى أمثالها.
ثانياً: أما من ناحية الممكنات فقد ساعدت صفاتها الخاصة على تحقّق الأصول الثلاثة المُتقدّمة،وتتلخّص هذه الصفات فيما يلي:
أ_ أن الممكنات أو الأعيان الثابتة هي ثابتة،لا تزال في العدم،ما شَمّت رائحة الوجود. ودوام ظهورها في الحِسّ يقتضي دوام إيجادها في كل لحظة،لأنها فانية معدومة دائماً.
ب_ أن الممكنات لها الإفتقار الذاتي،فلو إستمرّت زمنين لإتّصفت بالغنى عن الخالق..
ثالثاً: أن التفرقة بين: الحق والخلق هي تفرقة إعتبارية محضة،فالوجود واحد هو الحق الذي يتجلّى في كل لحظة فيما لا يُحصى عدده من الصور..
_ التّخلّي _
_ التّخلّي هو إختيارالخُلوة لما فيها من تَهيئة المَحلّ للتجلّيات بقَطع عَلائق الأكوان. وللخُلوة شروط تنظُر إلى: حال طالبها،ومكانها،ومقدماتها من عُزلة ومُجاهدة،دون تحديد زمانها. وهي تَنتفي بحُصول المُراد منها،وهو: تَهيئة المَحلّ وقَطع العلائق.. يقول إبن عربي: [فالخُلوة والإعتزال،كل ذلك لتَهييء المحلّ بقطع العلائق]،[وما من نبيّ إلا وإستعدّ وخَلِيَ مع ربّه..]،[ولا أجعل للخلوة حَدّاً زمانياً معلوماً،إلا الخلوة الصّمدانية.. فإن الأمزجة تختلف،وفَراغ قلوب الخلق من الأكوان ليس على مرتبة واحدة،فقد يُفتَح لواحد في يومين عَيْن ما يُفتح لآخر في شهرين ولآخر في سنتين،ولا يُفتح لآخر أبداً.. فالحدّ الزماني في الخلوة لا يُتصوّر..]،[الخلوة الصّمدانية: أيامها ثلاثون يوماً،لا نوم فيها البتّة بليل،ولا فطر فيها بنهار. وإن إتّفق أن تكون في رمضان فهو أولى..]،[ليس في هذه الدار موضع خُلوة،فإتّخذه في نفسك]،[متى حَصل له (صاحب الخلوة) ذلك (أي: تَهيئة المحلّ بقطع العلائق) إستغنى عن الخلوة..].. _ ينقُل إبن عربي التخلّي والخُلوة من موقفهما العملي ــ المُرتَكز إلى الممارسة المَشحونة هِمّة،التّواقة للوصول إلى قطع العلائق والتّهيّؤ لتجلّي الخالق ــ إلى موقف نظري علمي عقائدي. فهو من ناحية ينفي إمكان تحقّق الخلوة في الوجود،لأنه ما من مكان يُمكن أن يختلي فيه الإنسان عن كل حيّ،إذ لا مَفرّ من وجود الصور حَوله،وكُلّها وجود وحياة.. إذن لم يبق بعد إستحالة الخلوة إلا ممارستها في الجُلوة،أي بين الخلائق والكائنات،مُمارسة ذاتية علمية..
فالتخلّي هو إعتقادنا أننا لا نُشارك الله الوجود،فنحن لسنا سوى مَظاهر.. فالإنسان عندما يتخلّى عن الإعتقاد بوجوده ويُصَنّفه مع المَظاهر،يتخلّى في اللحظة نفسها عن كل إدّعاء،بمَقدُرة أو فعل وكل مَيْل لتصرّف ذاتي،ويتخلّى عن كل شيء إلى الله. وهذا قمّة التخلّي: أن يتخلّى عن كل فعل لوجوده بإضافته إلى الله،الفاعل الحقيقي في كل فعل..
_ (الإختيار) _
لقد خرج إبن عربي بنَفيه للإختيار الإلهي،عن الخطّين الصوفي والفلسفي في الفكر الذي سَبقه.
أما خُروجه عن الخطّ الصوفي: فذلك لأن الإختيار مرتبط بالحرية. والمُتصوّف،بخلاف علماء الكلام والفلاسفة،يُطلق حرية الله،حتى تَعُمّ المخلوقات في كُلياتها وجُزئياتها،دون أن تتعارض حُريته مع عَدله.
وخروجه عن الخطّ الفلسفي: يتلخص في أن الإختيار يُثبت مفهوم الممكن في البنيان الفكري. والممكن لم يزل موجوداً كمفهوم في الفكر الإسلامي،إلى أن أتى إبن عربي ونَفى الإختيار فتَبعه الممكن،الذي أصبح عنده واجباً. يقول إبن عربي: [الإمكان حُكم وَهْمي لا معقول،فما ثَمّ إلا واجب بذاته أو واجب به..].
إن الإختيار يقتضي الإنتقاء بين شيئين أو فعلين،وبالتالي رجوعاً إلى الذات،وهذا مُحال في الجناب الإلهي. إذن الإختيار عند إبن عربي ليس إنتقاءً بين مُمكنين،بل هو إرادة الله نفسها.
يُفرّق الشيخ الأكبر بين المشيئة والإرادة: فالمشيئة هي الوجود بأسره،ما ظهر منه وما لم يظهر،ممّا إستأثر به الحق في غَيبه. في حين أن الإرادة هي النسبة الإلهية التي خَصّصت شَطراً من الغيب بالظّهور. وهنا على مستوى الإرادة يبرُز الإختيار أنه ليس إختياراً،بل إرادة خَصّصت قِسماً من الغيب بالظهور.
فالمشيئة الإلهية في شمولها للوجود هي أحدية،أي أنها لا إختيار فيها. والإختيار يبرز على مستوى الظهور ليتّحد بالإرادة لأن موضوعهما واحد..
ويمكن تعريف الإختيار كالآتي: الإختيار هو تعلّق الذات الإلهية بالممكنات من حيث ما هي الممكنات عليه..
يقول إبن عربي: [ولو كانت المشيئة تقتضي الإختيار لجَوّزنا رُجوع الحق إلى نفسه،وليس الحق بمَحلّ للجواز،لما يطلبه الجواز من الترجيح من المُرجّح. فمُحال على الله الإختيار في المشيئة.. فالمشيئة أحديّة التعلّق،لا إختيار فيها..]،[وأما العلم بكونه تعالى مُختاراً،فإن الإختيار تُعارضه أحدية المشيئة. فنسبته (الإختيار) إلى الحق،إذا وُصف به،إنما ذلك من حيث ما هو الممكن عليه،لا من حيث ما هو الحق عليه..]،[تعلّقها (الذات) بالممكنات من حيث ما هي الممكنات عليه يُسمى إختياراً،وتعلّقها بالممكن من حيث تَقدّم العلم قبل كون الممكن يُسمى مشيئة،وتعلّقها بتخصيص أحد الجائزين للممكن على التعيّن يُسمى إرادة..]..
ينتقد عبد الكريم الجيلي موقف إبن عربي من الإختيار،قائلاً: [فاعلم أن الإرادة الإلهية المخصّصة للمخلوقات على كل حالة وهيئة،صادرة من غير عِلّة ولا بسَبب،بل محض إختيار إلهي،لأن الإرادة حُكم من أحكام العظمة أو وصف من أوصاف الألوهية.. وهذا بخلاف ما رأى الإمام محيي الدين بن عربي فإنه قال: “لا يجوز أن يُسمى الله مُختاراً،لأنه لا يفعل شيئاً بالإختيار،بل يفعله على حسب ما إقتضاه العالَم من نفسه..”. ولقد تكلّم إبن عربي على سِرّ ظَفر به من تجلّي الإرادة،وفاتَه منه أكثر مما ظفر به،وذلك من مقتضيات العظمة الإلهية،ولقد ظفرنا به،ثمّ عَثرنا بعد ذلك ــ في تجلّي العزّة ــ على أنه مُختار في الأشياء،مُتصرّف فيها بحكم إختيار المشيئة الصادرة لا عن ضرورة ولا مُريد،بل شأن إلهي ووَصف ذاتي..]..
لقد أوضح الشيخ الأكبر أن السّبب في نَفيه للإختيار هو أن المشيئة الإلهية واحدة،أما تعلّقها بالعالَم فلا يوقعها في جَبرية تحكُمها أعيان الممكنات،بل يُشير إلى تعلّق الإختيار الإلهي أو الإرادة الإلهية بالعلم الإلهي نفسه. فالإختيار مرتبط بالعلم،وما أعيان الممكنات إلا صورة العلم الإلهي..
_ الخَيْر _
إن نُموّ الشّرّ وتَرعرعه إلى جانب الخير،بل تآلفه معه في مذهب يُوحّد كل المَظاهر،مُعضلة فكرية.. فوجود الشرّ في فلسفة الوحدة والتجليات مُعضلة كُبرى. فلننظر كيف خَلصت عبقرية الشيخ الأكبر منها.
إن الوجود خَيْر كُلّه،والله هو الخير المحض المطلق،بمعنى أنه وجود مَحض. أما الشرّ فلا وجود له،إنه عَدم. وكل ما يُحكم عليه بأنه شرّ،هو حُكم نسبي يَخلُقه: الشرع والعقل والطّبع والعادات والمجتمع..
يقول إبن عربي: [.. فما ظهر العالَم عن الله إلا بصورة ما هو الأمر عليه،وما في الأصل شرّ،فإلى مَن تستند الشّرور،والعالَم في قبضة الخير المحض وهو الوجود التامّ. غير أن الممكن لمّا كان للعدم نظر إليه،كان بذلك القَدْر يُنسب إليه من الشرّ ما يُنسب إليه،فإنه ليس له من ذاته حُكم وجود الوجود لذاته،فإذا عَرض له الشرّ فمن هناك،ولا يستمرّ عليه ولا يثبُت فإنه في قبضة الخير المحض والوجود..]،[.. فالخير إذا أردت أن تعرفه،فاعلم أنه جماع مكارم الأخلاق،وهي معروفة عُرفاً وشَرعاً..]..
ويجدُر مُقارنة موقف إبن عربي من الخير والشرّ مع موقف إبن سبعين،الذي يقول: [إن الخير والشرّ لا فرق بينهما عند المحقق من حيث الحقيقة الوجودية،لأن الوجود قضية واحدة وهو الخير المطلق. وإننا بمَحض الوَهْم نُفرّق في عالَم الظواهر بين الخير والشر..]..
_ الخَيال _
المُترادفات: العالَم الأوسط،البرزخ الأعظم،الحضرة الوُسطى،حضرة الخيال.
تَدفّق الخيال عند إبن عربي سَيْلاً مُخصباً مُثمراً باسطاً حُكمه على كل العوالم،مُتداخلاً في كل الحقائق،مُشكّلاً عالَماً وَسطاً وحقيقة برزخية: بين عالَم المعاني المجرّدة وعالَم المحسوسات.
فالخيال ليس تَخيّلاً نَزوياً عابراً لا قيمة واقعية له،كما أنه ليس خيالاً خَلاّقاً كما عَرّفه الفنانون. بل طاقة وقوة ذات بُعد حقيقي واقعي،يَسعى إلى التحقّق في الحِسّ بشكل دائم أبديّ أزليّ،ينتمي إلى عالَم له مَقاييس خاصة به وحقائق وَسطية برزخية..
_ يُقسّم الشيخ الأكبر الخيال أربع مراتب: الخيال المطلق: هو الحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة،يَقبل التشكّل في صور الكائنات كلها على إختلافها،وليس ذلك إلا العَماء من حيث قابليته للتشكّل في صور الكائنات. الخيال المُحقّق: هو الخيال المطلق أو العماء نفسه،ولكن بعد قبوله صور الكائنات. الخيال المُنفصل: هو عالَم له حضرة ذاتية يظهر في الحِسّ ويُدرك مُنفصلاً عن شخص المُتخيّل النّاظر،كتصوّر جبريل في صورة دحية للنبي صلى الله عليه وسلم. الخيال المُتّصل: هو القوة المُتخيّلة في الإنسان،وما لها من طاقة على خلق صور تبقى ببقاء المتخيّل. _ يُقسّم إبن عربي الوجود شقّين: حقيقي وخَيالي. فالوجود الحقيقي هو الله،والخيالي هو كل ما سواه. وهذا يُرجعنا إلى الحقيقة الواحدة كما تتجلّى له بوجهيها: الحَقّي والخَلقي..
العالَم خَيال،ولكن ليس بالمعنى السّطحي العابر،بل بكل ما يحوي الخيال من طاقات إيجابية موضوعية ذات فعالية مشهودة في الحِسّ. وقد إستند إبن عربي في تصنيفه العالَم خيالاً إلى حديث شريف يقول: “إن الناس نِيّام فإذا ماتوا إنتبهوا”،ولا يخفى أن كل ما يُرى في حال النوم فهو خيال..
ويرى إبن عربي أن الخيال هو إكسير التّجسيد،بمعنى أن كل معنى يَتجسّد في عالَم الخيال،دون إستثناء،حتى أعلى المعاني مثل الألوهية. فالحق يتصوّر في صور المعتقدات في عالَم الخيال..
== حرف الدال ==
_ الدرّة البيضاء _
الدرّة البيضاء: إشارة إلى العقل الأول أو النور المحمدي في حال الرّتْق،وهي الحال التي يكون فيها العالَم بأسره مُجتمعاً في العقل الأول..
قال إبن عربي: [.. فحال الرّتْق هي كَوْن العالَم بأسره عَقلاً مَحضاً.. وذلك العقل الأول هو نور رسول الله صلى الله عليه وسلم..]،[فإن قُلت: وما الزّمرّدة الخضراء؟ قُلنا: النفس المُنبعثة عن الدرّة البيضاء. فإن قُلت: وما الدرّة البيضاء؟ قالنا: العقل الأول صاحب علم السّمسمة..]..
لم يُشر إبن عربي إلى السّبب في تسمية العقل الأول بالدرّة البيضاء،على حين نجد تفسير ذلك في كتاب (رشح الزّلال في إصطلاح المشايخ)،يقول: [الدرّة البيضاء: العقل الأول،فإنه نقطة مركز العماء،فأول مُنفصل من سَواد الغيب.. ولذلك وُصف بالبَياض ليُقابل بَياضه سَواد الغيب،فيتبيّن بضدّه كمال التّبيين. وأيضاً هو أول موجود ترجّح وجوده على عَدمه،والوجود بياض والعدم سواد..].
ويقول النابلسي في كتاب (ورد الوُرود): [والدُرّة بالضمّ: اللؤلؤة الكبيرة.. البيضاء أي الصافية النقيّة،كناية عن النور المحمدي الذي هو أول مخلوق من نور الله تعالى..]..
_ إدريس / إلياس _
لقد أفرد إبن عربي فَصّين كاملين لنبيّ واحد هو إدريس أو إلياس: “فَصّ حكمة قدّوسية في كلمة إدريسة” و”فص حكمة إيناسيّة في كلمة إلياسيّة”. وهذا الإفراد الذي خُصّ به إدريس قد يعود إلى أنه،في نظر الشيخ الأكبر،ينفرد عن الأنبياء بنَشأتين: الأولى كان فيها نبياً قبل نوح،ثمّ رَفعه الله مكاناً عَلياً وأعاده في نشأة أخرى رسولاً. ولا يزال حَياً حتى اليوم.
يقول إبن عربي: [فمن أراد العُثور على هذه الحكمة الإلياسية الإدريسية،الذي أنشأه الله نَشأتين: فكان نبياً قبل نوح،ثمّ وُفع ونَزل رسولاً بعد ذلك..].
__ ويُمكن التمييز بين موقفين لإبن عربي من إدريس،يَستتبعان المفهومين التاليين:
الموقف الأول: ينظُر إلى إدريس كشخص يَحُدّه زمان ومكان. إدريس وإلياس هما شخص واحد بنشأتين وظهورين على الأرض: الأول نشأة جسمانية كان فيها نبياً قبل نوح،ثمّ رفعه الله مكاناً عَلياً وأعادَه في نشأة روحانية في شخص إلياس،وهو لا يزال حَيّاً. ومثلُه في البناء الفلسفي للشيخ الأكبر كمثل عيسى في الفكر الإسلامي،فقد كان نبياً ثمّ رفعه الله إلى السماء وسيعود في آخر الزمان في شخص ختم الولاية العامة. إلا أن عيسى ليس له نشأتان،وهو لم يمُت بالتأكيد. وليس بإمكاننا أن نؤكد أن إدريس لم يمُت،بل ربما مات وأعاده الله في نشأة أخرى..
يقول إبن عربي: [إلياس هو إدريس،كان نبياً قبل نوح،ورفعه الله مكاناً عَلياً،فهو في قلب الأفلاك ساكن،وهو فلك الشمس..].
الموقف الثاني: ينظر إلى إدريس كرمز،وهنا يُقسّم قسمين:
القسم الأول: إدريس هو رمز للعقل الإنساني في حال تجرّده التام عن جميع علاقاته بالبَدن،أو هو العقل المَحض في تَطلّعه إلى المعرفة الكاملة بالله. وهو قُطب روحاني يُمدّ الأولياء..
إدريس يُشبه إلى حد بعيد نوحاً،وقد خصّ الشيخ الأكبر نوحاً ب”الحكمة السبّوحية” وإدريس ب”الحكمة القُدّوسية”،وغنيّ عن البيان أن التّسبيح والتّقديس هما من فِعل العقل الذي طَغى في دعوة نوح وإدريس.
ويضع إبن عربي في مُقابل نوح وإدريس: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي زاوَج بُعدَي المعرفة الإلهية. فنوح وإدريس للفُرقان والتّنزيه والعقل،وسيدنا محمد: للقرآن،والتنزيه في التشبيه والتشبيه في التنزيه،والعقل والوَهم..
القسم الثاني: إلياس ــ الذي هو إدريس ــ رمز للقَبض،في مُقابل الخَضر رمز البَسط.
يقول إبن عربي: [فإن قُلت: وما الغوث؟ قُلنا: صاحب الزمان وواحده،وقد يكون ما يُعطيه على يَد إلياس من حيث أنه القطب الروحاني. فإن قُلت: وما إلياس؟ قلنا: عبارة عن القبض،وقد يكون ما يُعطيه على يَد الخضر. فإن قُلت: وما الخضر؟ قلنا: عبارة عن البَسط..]..
بالنسبة لعلاقة إلياس بالقبض،يقول الجرجاني: [الإلياس: يُعبّر به عن القبض،فإنه إدريس. ولإرتفاعه إلى العالَم الروحاني إستهلكت قواه المزاجية في الغيب وقُبضت فيه،ولذلك عُبّر عن القبض به]..
ولإدريس حَشرين،كما هو الأمر بالنسبة لعيسى: يُحشَر في جماعة الأنبياء والرسل بلواء النبوة والرسالة،وأصحابه تابعون له. ويُحشَر أيضاً وَليّاً في جماعة الأولياء،تحت لواء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
يقول إبن عربي: [.. وما في الرسل،يوم القيامة،من يَتبعُه رسول إلا سيدنا محمد فإنه يُحشَر يوم القيامة،في أتباعه،عيسى وإلياس..]..
_ مَدْفَن الحَقّ _
يقول إبن عربي: [فقلوب الغافلين: مَدافن الحق،من حيث أن قلوبهم مَحلّ العلم به،ثمّ إنهم لا يُراعون حُرمته ولا يَقفون عند حُدوده،فهو فيهم كالميّت في قبره،لا حُكم له فيه.. كذلك حُكم الطبع إذا ظهر بخلاف الشرع،فإن الشرع ميّت في حَقّه في ذلك الزمان.. ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام مَيّتاً في موضع عايَنته بالمسجد الجامع بإشبيلية،فسألت عن ذلك الموضع فوجدته مَغصوباً،فكان ذلك موت الشرع فيه..]..
قلب الإنسان مَحلّ العلم بالحق،وهو الذي وَسعه من دون الكائنات جميعاً. ولكن وجوده في قلب الغافل،وجود ساكن لا فعالية إيجابية له،إذن فالحق فيه كأنه ليس فيه،وبالتالي: قلب الغافل: مَدفن الحق.
_ دَقيقة _
الدّقيقة: هي الحقيقة التي تَدِقّ على الفَهْم،وذلك لتَستّرها وخَفائها،فلا ينتبه إليها إلا أكابر العلماء.. أو هي حقائق وسطية تتمتّع بكل ما للحقيقة من خصائص كالتّأثير مثلاً..
نورد عن الدقيقة مَثلاً نأخذه من (الفتوحات):
المؤمن مَنصور: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويُثبّت أقدامكم)،فمجرد الإيمان ليس كافياً،بل لا بد من قوة الإيمان،بدليل أنه ما إنهزم نبيّ قط لقوة إيمانه بالحق.. ونرى في بعض المواقف أن الكافر ينصُره الله على المؤمن،وهنا يبرز مفهوم “الدّقيقة” عند إبن عربي: فالإيمان فعل مطلق أرسَله الله تعالى،لا يُخصّصه إلا قرائن الأحوال. لذلك نَسب الحق إلى الكافر فعل الإيمان ونَسب إلى المؤمن فعل الكفر،ليُقيم الحجة على المؤمنين لِما دَخلهم من الخَلَل في إيمانهم،فانهَزموا. فما إنتصَر الكافر على المؤمن،وإنما كان إنتصاره على وجه الخلل في الإيمان.
يقول إبن عربي: [.. فهذه حكمة تَسمية الله أهل الباطل مؤمنين،وأهل الحق كافرين. فلا تغفل يا وليّ على هذه الدّقيقة فإنها حقيقة،وهي المؤثّرة في أهل النار الذين هم أهلها..]..
_ دين _
نظرة إبن عربي إلى كلمة دين ذات وجهين: لُغوي وشَرعي..
_ يُفرّع إبن عربي المعنى اللغوي للدّين ثلاثة مفاهيم: الجَزاء،الإنقياد،العادَة. إمكانية الجزاء هي التي توجِد الدين،والعكس صحيح،فالدين هو الذي يَخلُق إمكانية الجزاء.. وفي إرجاع الدين إلى الإنقياد إلزاماً بمَضامين الشريعة كُلها،لأن الإنقياد فعل له غاية ووجهة،بل لا تظهر قيمته إلا في الغاية التي هي وِجهته.. فالإنقياد: إتّباع.. والعادَة هي مُعاوَضة بالمِثْل،مُشتقّة من فعل عادَ أي رَجع وتكرّر.. والدين (العادة): بمعنى أن الدين يَعود على الإنسان بما يقتضيه حالُه. وهذا المعنى يُقارب معنى الجزاء.. _ قَسّم الشيخ الأكبر الدين من الوجهة الشرعيّة دينَين: دين عند الله،ودين عند الخَلق.
الدين الذي عند الله: هي الشرع الإلهي الذي أنزله على أنبيائه.. وهو واحد يظهر في كل زمن بصورة شريعة نبيّ ذلك الزمن..
الدين الذي عند الخلق: هي النواميس التي لم يُرسِل بها الله رسولاً،بل سَنّها الخلق،فلمّا وافَقت الحُكم الإلهي إعتبرها الله ما شَرّعه،كالرهبانية..
_ وحدة أديان أم دين واحد؟: إن عبارة وحدة الأديان لم تَرد في جملة مؤلفات إبن عربي،بل إستخلصها مُتأخرون من أشعار وأقوال أوْحَت بها.. أولاً: لم يقُل إبن عربي بوحدة الأديان رغم محاولات الباحثين إستنطاقه ذلك،بل على العكس من ذلك أنه يُفرّق بين الأديان،من حيث هي صورة متمايزة مختلفة لذلك الدين الواحد الذي هو الشرع الإلهي المُتقلّب في مراتب الظهور بصور الأديان المختلفة.. والفرق بين وحدة الأديان والدين الواحد: أنه يُفرّقهما مفهوم الزمن: فالدين واحد تقلّب زمنياً في صور الأديان المختلفة،من يهودية ومسيحية. فلو قَبل الشيخ الأكبر بوحدة الأديان لوَجب عليه أن يقبل في هذا الزمن،الذي هو زمن الدين الإسلامي،كل الأديان الأخرى السابقة،يَقبلها كحقيقة راهنة حاكمة،وليس كحقيقة سابقة سالفة.. فإبن عربي لم يقل بوحدة الأديان،بل أشار إلى عقيدته في الدين الواحد الذي يَقبل في الزمن الواحد شريعة واحدة هي شريعة الزمن. وهذا الدين الواحد قد خُتم بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ثانياً: إعتمد القائلون بوحدة الأديان عند إبن عربي،غالباً،على نَصّين إشتهرا في هذا الموضوع،وهما: النص الأول: [عَقَد الخلائق في الإله عَقائداً /// وأنا شَهدت (عَقَدت) جميع ما عَقدوه]. النص الثاني: [لقد صار قلبي قابلاً كل صورة /// فمرعى لغزلان ودير لرُهبان ــ وبيت لأوثان وكعبة طائف /// وألواح توراة ومصحف قرآن ــ أدين بدين الحب أنّى توجّهت /// ركائبه فالحب ديني وإيماني]. في النصّ الأول: يُشير إبن عربي إلى المقام الذي عَمّ المعتقدات،أي المقام المحمدي.. فمن يَدين بالشرع المحمدي،لا بد له أن يعتقد بكل الشرائع التي سَبقته،من حيث أنه لا يَلغي ما قبله بل جاء مُتمّماً ومُكمّلاً وخاتماً لها. ومقامه يَعُمّ جميع المعتقدات،لأن الختم صفته: الجَمعيّة.. ففي الشطر الأول من النص الأول يُثبت إبن عربي إله المعتقدات. ويُؤكّد في الشطر الثاني على أنه عَقدها جميعاً أي يُشير إلى كَونه محمّدي المقام،له جَمعيّة الشرع المحمدي الذي عَمّ المعتقدات وإستوعبها جميعاً. والنص الثاني: لفَهم هذا النص تَجب الإشارة إلى نُقطتين: 1 أن الجدل الصوفي في نظرية المعرفة يتلخص في: أن الصوفي بقَدر ما يُفرّغ قَلبه من العلوم يَحصُل عليها. بل الإستعداد للعلم الإلهي (على عكس العلوم الأخرى) يقتضي نَقاوة القلب وفراغه. على حين أن العلوم الكسبية كلها ترتفع بتوافق إنسجامي مع إرتفاع درجة الثقافة والتحصيل.
2_ أن كمال كل عضو من الأعضاء،عند إبن عربي،ليس بتنمية مَواهبه وإكتساب قُدرات جديدة،بل العكس وهو رجوع به إلى حالة القبول المحض والقابلية التامّة.
ففي الشطر الأول (من النص الثاني) يُشير الحاتمي إلى بلوغ قلبه مرتبة الكمال،من حيث أنه صارَ قابلاً كل صورة. فهذه القابلية التامة هي كمال القلب. والنص صريح: لم يقُل “قَبِلَ” كل صورة،بل “قابلاً”. فهو هنا يَشرح حاله،ولا يُفيدنا النص في وحدة الأديان،بل نستفيد منه الإشارة إلى المقام الذي وَصل إليه إبن عربي مقام كمال القلب بقابليّته التامّة ليس أكثر.
قال الله تعالى: (قل إن كنتم تُحبون الله فاتّبعوني يُحببكم الله)،فدين الحُبّ هو هذا الحُبّ المُشار إليه في الآية “تُحبّون الله”.
أما قوله: “أنّى تَوجّهت ركائبه”: فذلك لأن الآية لم تُحدّد بوضوح وجهة الإتّباع ومضمون شرعته،بل ألصَقته بسيدنا محمد: فإتّسعت من ناحية الرّقعة،أي رقعة موضوع الإتباع أيّما إتّساع (قرآن،سنّة،كل ما نعرفه عن شريعته صلى الله عليه وسلم). وضاقَت من ناحية ثانية أبْعَد ضَيق (لا سبيل لحُبّ الله إلا إتباع سيدنا محمد / باب واحد فقط).
إذن إبن عربي يُقرّر أن: قَلبه أصبح قابلاً كل صورة،فهو يَدين بدين الحُبّ،فليَتجلّ له بما يُريد،ولا يتجلّى إلا في جمعيّة الإتباع المحمدي..
== حرف الذال ==
_ الذّكر _
_ نَستشفّ عند شيخنا الأكبر أبعاد نَظرة من سَبقه إلى الذّكر،فالذكر: حُضور يورث الشّهود والفَتح،وهو القرآن. يقول إبن عربي: [فذكر الله المُشار إليه: الحُضور الذي هو ضدّ الغفلة..]،[.. فإنه تعالى جَليس من ذَكره،والجليس مشهود للذّاكر،ومتى لم يُشاهد الذاكر الحق،الذي هو جليسه،فليس بذاكر،فإن ذكر الله سارٍ في جميع العبد،لا من ذَكره بلسانه خاصة..]،[.. والذكر: القرآن،وهو أعظم الذكر..]،[الذاكرون ثلاثة أقسام: ذاكر قائم،ذاكر قاعد،ذاكر على جَنبه..]. _ لا يقف إبن عربي عند حدود ما إستفاده من التصوف السابق،بل إستثمر كل الإرث الصوفي الفكري الإسلامي في نزعة توحيدية. ونستطيع أن ننظُر إلى الذكر من خلاله نَظرات ثلاثاً تُعطي أبعاد مَوقفه:
أ_ كل ما في الوجود يذكر بالحق،إذ نستطيع أن نعبُر من خلاله إلى الحق. فكل موجود هو مَجلى يوصل للمُتجلّي فيه.. قالت عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أنه كان يذكر الله على كل أحيانه..”..
ب_ الفاعل والمؤثّر على كل وَجه وفي كل شيء هو الحقّ.. فالذكر فعل للحق في مَحل هو العبد،وتنحصر هِمّة العبد في التجرّد الكُلّي عن كل تأثير لتَهيئة المَحلّ تَهيئة كُليّة. فالحق هو الذاكر (إسم فاعل) والعبد هو المذكور (إسم مفعول).. يقول إبن عربي: [.. ومتى ورد على الباطن ذكر مُعيّن،فليكُن السالك ساكناً،لا يُساعده بتَفعّله،بل يَسكُن ليكون المَحلّ مذكوراً لا ذاكراً. فإذا أعطى الوارد قوّته ذهب لنفسه. ومتى ساعدت الهمّة فإتّصف العبد بأنه ذاكر،فذلك الذكر المُعيّن،فقد تقيّد المحلّ وخرج عن التهيّؤ الكُلّي الذي يُعطي الإطلاق..].
ويُفرّق القونوي بين صورة الذكر ومعناه وباطنه،يقول: [فالإنسان لا يزال مُقبلاً من صورة الذكر إلى معناه وباطنه،ومن التلفّظ به إلى نُطق القلب بذلك الذكر أو غيره. وباطن الذكر غير معناه،وإنه عبارة عن التوجّه إلى المذكور من كونه مذكوراً ومُتوجهاً إليه. هكذا درجة فوق درجة،وفي كل درجة،يسقُط منه جُملة من أحكام كَثرته وصفات إمكانه..].
فالذكر الذي يحمل في حَناياه مفهوم “الفَقد والبُعد والإفتراق والتّثنيّة” بين الذاكر والمذكور،ترفُضه الوحدة الوجودية المُسيطرة على كيان الشيخ الأكبر الفكري. فالذكر هو الحُضور مع الحق،والفناء فيه،والتحقّق بالوحدة الذاتية معه.. يقول إبن عربي: [الذكر حجاب عن المذكور،بمنزلة الدّليل،والدليل متى أعطاك المدلول سَقط عنك.. فمتى كُنت مع المذكور فلا ذكر..]..
يقول إبن عربي: [بذكر الله تَزداد الذنوب /// وتَحتجب البَصائر والقلوب ــ وترك الذكر أفضل منه حالاً /// فإن الشمس ليس لها غُروب].
إزدياد الذنوب بالذكر يحتمل معنيين:_ أن الذكر يفترض الفَقْد الذي هو ذَنب._ أن الذكر يفترض تَثنيّة بين الذاكر والمذكور،لأنه إشراك المذكور في الوجود،وهذا الإشراك ذنب.
_ الذّوْق _
_ يُناقش إبن عربي أولاً الذّوق عند الصوفية،وماهيته.. يقول في تعريف الذّوق عندهم: [إن االذوق عند القوم: أول مبادئ التجلّي،وهو حال يَفجَأ العبد في قلبه،فإن أقام نَفسين فصاعداً كان شُرباً. وهَل بعد هذا الشّرب رَيّ أم لا،فذَوقهم (الصوفية) في ذلك مختلف]،[إعلم أن قولهم: “الذّوق أول مبادئ التجلّي” إعلام أن لكل تَجلّ مبدأ هو ذوق ذلك التجلّي،وهذا لا يكون إلا إذا كان التجلي الإلهي في الصورة أو في الأسماء الإلهية أو الكونية ليس غير ذلك..].. فالصوفية يربطون الذّوق بالتجلّي،ويجعلونه قبل: الشّرب والرّيّ. _ ويُتابع إبن عربي نَهج رَبط الذّوق بالتجلّي،فيُقيم علاقة جدلية بينه وبين التجلّي المحكوم للرياضة والمجاهدة. من ناحية: الذّوق يُعطي التجليالتنظير،ومن ناحية ثانية: التجلّي يُعطي الذّوق صبغَته.
يقول إبن عربي: [إن الذوق يختلف باختلاف التجلّي،فإن كان التجلي في الصور فالذّوق خيالي،وإن كان في الأسماء الإلهية والكونية فالذوق عقلي. فالذوق الخيالي أثرُه في النفس،والذوق العقلي أثره في القلب. فيُعطي حُكم أثر ذوق النفس المُجاهدات البدنية من الجوع والعطش.. ويُعطي حكم ذوق العقل الرياضات النفسية وتهذيب الأخلاق].
وينتُج عن إرتباط الذّوق بالتجليأن العلوم الناتجة عن التجلي هي علوم ذَوقيّ.
فالذّوق أصبح إشارة إلى: تَنظير التجربة أو المذهب الناتج عن تجربة صوفية معينة.. فالذوق لغة: علم مشترك بين أصحاب التجربة الواحدة،وكل علم لا يكون عن تَجلّ يَبدأ بالذّوق فليس من العلوم الذّوقية..
== حرف الراء ==
_ مِرآة _
لقد إستثمر إبن عربي صفة المرآة الوظيفية في صورة تمثيلية،شَرح على أساسها أحد أشكال العلاقة بين الحق والخلق: مُفسّراً بذلك سبب الخَلق من ناحية،وكيفية نُشوء الكثرة عن الوحدة من ناحية ثانية.
أولاً_ المرآة: صورة تمثيلية: وهي تُفسّر سبب الخلق،وكيفية نشوء الكثرة عن الوحدة.
1_ إستفاد إبن عربي من صفة التّرائي في المرآة ليُقدّم بها إلى الفكر الإنساني سَبباً لوجود العالَم. فقد شاء الحق أن يَرى عَيْن أسمائه وصفاته فأوجد العالَم مرآة.
يقول إبن عربي: [لما شاء الحق سبحانه من حيث أسمائه الحُسنى،التي لا يبلغها الإحصاء،أن يرى أعيانها،وإن شئت قلت أن يرى عَينه: أوجَد العالَم كُلّه وُجود شَبح مُسوّى لا روح فيه،فكان كمرآة غير مَجلُوّة. فاقتضى الأمر جَلاء مرآة العالَم،فكان آدم عَيْن جَلاء تلك المرآة..].
2_ حاول الشيخ الأكبر أن يبسُط مُعضلة الوحدة والكثرة المُتشاجرة بصورة تمثيلية (الرّائي والمَرئي): فالحق واحد تتعدّد صوره في المَرائي،فالمرائي مَظاهر لظاهر واحد هو الحق.
الحقيقة الوجودية واحدة تتعدّد صورها وتجلياتها ومظاهرها ومَرائيها،فهذه الكَثرة هي كَثرة إعتبارية لا مُستَند حقيقي لها.. فتتفاضَل المَرائي مَنشأ الكثرة المشهودة في العالَم: فمرآة الإنسان أفضل من مرآة العالَم..
يقول إبن عربي: [.. إن الإنسان: هو الكون بأسره من حيث هو ثَمرته،وهو سرّه من حيث إنفراده عنه،لأنه مرآة تَجلّي الحق بالعالَم بظهور أسمائه وصفاته،إذ لا يتمّ التجلي التامّ الكامل بكل الأسماء جُملة إلا بوجود آدم،أعني نوع الإنسان..]،[.. فإن الأنبياء أعْدَل مرآة منك (العبد). ثمّ لتَعلم أن الأنبياء قد فضُل بعضهم بعضاً،فلا بد أن يكون مَرائيهم مُتفاضلة. وأفضل المَرائي وأعدلها وأقومها مرآة سيدنا محمد،فتجلّى الحق فيها أكمل من كل تجلّ يكون. فاجتهد أن تنظُر إلى الحق المُتجلّي في مرآة سيدنا محمد ليَنطبع في مرآتك،فترى الحق في صورة محمدية برؤية محمدية،ولا تراه في صورتك..]..
فإبن عربي يفهم الآية: (وعلم آدم الأسماء كلها) بمعنى تَجلّى بها فيه تجلياً وجودياً وعليه تجلياً عرفانياً..
ثانياً_ المرآة: رمز ذو دلالات وإيماءات: يضع إبن عربي وَجهي الحقيقة الواحدة “حقّ ــ خَلق” في تَقابُل تَرائي..
نُلاحظأن المرآة في إضافتها إلى الخلق تأخذ بُعداً عرفانياً،وفي إضافتها إلى الحق تأخذ بُعداً أنطولوجياً.
فلا معنى للسؤال التقليدي: هَل رؤية الحق جائزة في هذه الدنيا؟. فالعارِف المُحقّق يَرى الحق في كل شيء،إذ كل شيء مَجلى للحق. ولكن ليست هذه الرّؤية هي المقصودة من السؤال،بل رؤية الحق في مرتبته وليس في تجلياته..
إن رؤية الحق في مرتبة ألوهيته لا تحصُل للعبد. بل في قمة عرفان العبد لا يَرى إلا حقيقته وصورته (صورة العبد). ولذلك يقول إبن عربي: [إن الحق مرآة العبد في رؤية نفسه]. وقمّة رؤية الحق هي رؤيته بالرؤية المحمدية في الصورة المحمدية..
يقول إبن عربي: [إن الحق مرآة العالَم،فلا يَرون فيها غير ما هي صورهم عليه،وهم في صورهم على درجات..]..
_ رَبّ / رُبوبيّة _
_ أفرغ إبن عربي،في الخطوة الأولى،مضمون ربّ من دلالاته الدينية وإيماءات لفظه إلى الألوهية،حاصراً معناه في أفُق لغوي،يَقبل الإشتراك بين الله والإنسان. فالربّ هو: المالك،المُصلح،السيّد،المُربّي،الثابت. هذا الإتّجاه اللغوي في تفسير لفظة ربّ أدّى إلى قول الشيخ الأكبر بالربوبية العامة التي هي ربوبية الأكوان والأسباب. _ بعدما أفرغ إبن عربي لفظ ربّ من دلالاته إلى الألوهية،نجده في الخطوة التالية يحصره في دائرتها. فالربّ فقط هو الله من حيث أسمائه.. فلما كان الإصلاح والتربية،إلى غير ما تتضمّنه كلمة ربّ من مفاهيم لغوية،تُفيد الأثر والتّأثير في المربوب: فإن “الربّ / الإسم الإلهي” و”الأرباب / الأسماء الإلهية”..
يقول إبن عربي: [.. اعلم أن إرتباط الموجودات إلى الوجود الواحد الحق،لا يكون إلا من حيث تَعيّناته التي هي أسماؤه. فكل موجود مرتبط بإسم من الأسماء الإلهية من جهة.. فكان ذلك الإسم ربّه في الحقيقة.. والإسم الله: ربّ جميع الموجودات من جهة جمعيته..]،[.. إن كل إسم إلهي يتضمن جميع الأسماء كلها،وإن كل إسم يُنعَت بجميع الأسماء في أفُقه،وإلا فكيف يَصحّ أن يكون ربّاً لعابده..]،[اعلم أن مُسمى الله: أحديّ بالذات،كُلّ بالأسماء. وكل موجود فما له من الله إلا ربّه خاصة،يستحيل أن يكون له الكُلّ. والسعيد من كان عند ربّه مَرضياً.. ولا يلزم إذا كان كل موجود عند ربّه مَرضياً،ان يكون مَرضياً عند ربّ عبد آخر،فما تَعيّن له من الكُلّ إلا ما يُناسبه،فهو ربّه.. فقد وقع التمييز بين العَبيد،فقد وقع التمييز بين الأرباب..]..
_ حَصر إبن عربي الربوبية في إطار الألوهية،لا يعني أنه يُرادف بينهما،ويمكن تلخيص موقفه في نقطتين: 1 أن الألوهية تتّفق والربوبية من حيث أنهما يطلبان المألوه والمربوب،في مُقابل الذات الغنية عن العالمين.
2_ أن الألوهية لها التنوّع في الأسماء والشّؤون،من حيث الجمعية التي للإسم الله. في مُقابل الربوبية التي لها الثّبوت [حقيقة كل إسم إلهي ثابتة ومُتميّزة،فالمُعزّ غير المُذلّ وغير الباسط]..
فالألوهية والربوبية مَجالي ذات الحق،وليستا على الحقيقة إلا عينها.
__ الربوبية العامة / ربوبية الأكوان ــ ربوبية الأسباب: إن الربوبية العامة تتمثّل في كل ما يُفتَقر إليه من الأكوان والأسباب،وهي حُجُب للحق تتمتّع بكافة صفات الحُجُب الإيجابية: فتَحجُب وتوصِل..
يقول إبن عربي: [.. وما من شيء من المخلوقات إلا وفيه نفس دَعوى ربوبية،لِما يكون عنه في الكون من المنافع والمَضارّ.. فهذا القدر فيه من الربوبية العامة،وبها يستدعي ذِلّة الخَلق إليه.. فما من شيء في الكون إلا وفيه ضَرر ونَفع،فإستجلب بهذه الصفة الإلهية نُفوس المُحتاجين إليه،لإفتقارهم إلى المنفعة ودفع المضارّ،فأدّاهم ذلك إلى عبادة الأشياء وإن لم يشعروا.. ولما علم الله ما أودَعه في خَلقه،قال: (ألا لله الدين الخالص) وهو الدين المُستخلص من أيدي ربوبية الأكوان،فإن الله إذا إغتنى بهم إستخلصهم من ربوبية الأسباب التي ذكرناها..]..
_ أربعة / تَرْبيع _
للشيخ الأكبر نظرية مُتكاملة في العدد،حيث يأخذ كل رقم دَوره في فلسفة مُتناسقة تُفسّر الوجود وتُبيّنه.
وبالنسبة للعدد أربعة أو التّربيع فهو مُخصّص للوجود. فقد لاحظ إبن عربي أن الله قد أقامَ الوجود على التّربيع،فكل موجود في كينونته مُربّع،وذلك لما يتمتّع به العدد أربعة من الإحاطة.
1_ الوجود على التّربيع: يقول إبن عربي: [.. لأن العالَم،من حيث حقيقته قامَ على أربعة أركان في صورته الجسمية والروحانية،فهو من حيث طبيعته مُربّع،ومن حيث روحه مُربّع. فمن حيث جسده ذو أربع طبائع عن أركان أربعة،ومن حيث روحه عن “أمّ،وأب،ونَفْخ،وتَوجّه”،فجاءته الرحمة من أربعة وجوه..]..
2_ الأربعة عدد مُحيط: يقول إبن عربي: [فليس إلا أربع فقط: شرق وغرب وإستواء وحضيض. أربعة أرباع،والأربعة عدد مُحيط لأنها مجموع البسائط..]،[.. ولا يصحّ أن يكون التركيب أكثر من أربعة أصول،فإن الأربعة هي أصول العدد،ورَكّب ما شئت بعد هذا. وما تجد عدداً يُعطيك هذا إلا الأربعة..].
3_ التّربيع يَتحكّم في كل قَيّومية وُجودية: يقول إبن عربي: [.. فمن الإلهيات: “علموإرادةوقُدرةوقَول”،عنها ظهر عالَم الأرواح الخارج عن الطبيعة.. ثمّ أظهر عن هذه الأربعة الإلهية “الطبيعة” على أربع. وعنها أظهر عالَم الأجسام كَثيفها ولطيفها،كما أظهر عن هذه الأربع الإلهية من عالَم التّدوين والتّسطير: “عقلاً،ونفساً،وطبيعة،وهَيولى” قبل ظهور الأجسام. وأظهر الأركان أربعة: النار،والهواء،والماء،والتراب. وأظهر النّشأة الحيوانية على أربعة أخلاط،وجعل لهذه الأخلاط أربع قوى: جاذبة،وماسكة،وهاضمة،ودافعة. فأقام الوجود على التربيع،وجعله لنفسه كالبيت القائم على أربعة أركان،فإنه: “الأول والآخر والظاهر والباطن”..]..
_ الرّجُل _
_ يضع إبن عربي الرجل في مُقابل المرأة،ولكنه تقابل صفاتي مَرتبي لا تقابُل جنسي. فالرجل هو من حَصّل صفة الرّجولة،وتحقّق بمقامها ومرتبتهاالظّهور بصورة الحق: التصرّف،الفعل،العدل..،ذَكراً كان أم أنثى.. يقول إبن عربي: [وما أراد تعالى بالرجال في هذه الآيات ــ (وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)،(رجال لا تُلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله)،(من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) ــ الذّكران خاصة،وإنما أراد هذا الصّنف الإنساني،ذَكراً كان أو أنثى..]،[فالرجل،كل الرجل،من ظهر بصورة الحق في عبودة محضة،فأعطى كل ذي حَق حَقّه..].. _ بعدما صَنّف إبن عربي الرجولة تصنيفاً صفاتياً مَرتبياً،يَرسُم بدقّة حُدود دولة أهل الله،داخلاً في أدقّ التفاصيل بإبداع جغرافي كوني.. ويُقسّم إبن عربي الرجال في دولته قسمين: رجال العدد ورجال المراتب / ذكرت المؤلفة: أسماءهم وأعدادهم ومراتبهم وأقسامهم..
_ الرحمة _
الرحمة هي مَنْح الوجود للمَوجودات،أو منح كل موجود وُجوده الخاص به في الصورة التي تقتضيها طبيعته ذاتها.
كل ثنائية عند إبن عربي هي تمييز إعتباري لا أكثر: الذات الإلهية من ناحية،والأسماء الحُسنى من ناحية ثانية.
إجتمعت الأسماء الحسنى في الحضرة الإلهية الذاتية،وبعدما أخذ كل إسم فيها مرتبته بَدأت تتفاخر بحقائقها. ثم لم تلبث أن تعطّشت إلى ظهور آثارها في الوجود،فلَجأت مُضطرة قاصدة إلى الذات الإلهية،سائلة إيّاها وجود الكون الذي يَظهر فيه حقائقها.
إن الذات الإلهية رَحِمَت الأسماء وقَبلت طَلبها بوجود العالَم وظهور أعيانها،وكان ذلك من حضرة الرحمة وفَيْض المِنّة..
نستخلص من هذا الموقف أن:
1_ الرحمة إحتفظت بنشأتها اللغوية “رأفة،رِضى”،فالحق رَأف بالأعيان،وقَبِلَ (رَضيَ) بوجودها العَيني.
2_ رغم نشأة الرحمة اللغوية،يُوحّدها إبن عربي بنتيجتها،أي أن نتيجة رحمة الحق الأعيان هو الوجود. إذن الرحمة هي الوجود،ومن هنا جاءت صيغتها الميتافيزيقية.وهذه النقطة الأخيرة تتَرفّع بالرحمة عن سَذاجتها اللغوية لتُعطيها صفات الوجود،من حيث سَريانه في جميع الموجودات،وقبوله لكل المُتناقضات،حتى ما يُخَيّل للناظر أنه يُناقض الرحمة نفسها كالآلام مثلاً..
يقول إبن عربي: [اعلم أن رحمة الله وَسعت كل شيء وُجوداً وحُكماً،وإن وجود الغضب من رحمة الله بالغضب.. ولما كان لكل عَيْن وُجود يَطلبه من الله،لذلك عَمّت وحمته كل عين،فإنه برحمته التي رَحمه به قَبل رغبته في وجود عَينه،فأوجدها.. فكل موجود مَرحوم.. واعلم أن الرحمة إنما هي في الإيجاد عامة..]،[وما ثَمّ إلا رحمة سابقة وغضب لاحق،ثم رحمة شاملة سارية في الكُلّ فهي لاحقة سابقة.. فبرحمته عَذّب من عَذّب،لأنه لولا العذاب لتَسرْمَد الغضب..]،[فللرحمة تَجلّ في صورة العذاب،ولها تَجلّ في صورة النّعيم،فقد قَبلت الصورتين المُتقابلتين،وهذا من أعجب الأمور..]..
_ الأسماء الإلهية،على كَثرتها،تَرجع إلى رَحمات أربع،تنقسم إليها رحمة الله،وهي: الرحمة الإمتنانية،الرحمة الواجبة،الرحمة السابقة،الرحمة الخاصة.. كما أن الرحمة في الإنسان تُقسّم إلى رحمتين: الرحمة الطبيعية،الرحمة الموضوعية.. _ الرحمة الخاصة: إن للحق رحمة عامة يَرحم بها الخلق جميعهم،دون أن تتقيّد بصفة أو نَعت في شخص المرحوم. وهذه الرحمة العامة الشاملة لجميع الخلق،يُقابلها رحمة خاصة بكل فرد من الموجودات،لا يُشاركه فيها أحد،تقتضيها طبيعته نفسها المُكوّنة لمُناسبة خاصة مع الحق،وهي واجبة.
ويرى الكوراني الشهرزوري أن رحمة الله العامة هي الإيجاد،وحمته الخاصة هي التوفيق،يقول: [وهو الله المنعوت بالرحمة العامة التي هي الإيجاد والإمداد،والخاصة التي هي التوفيق لما فيه السعادة الأبدية.].
يقول إبن عربي: [قال بعض الأعراب: “يا رب ارحمني ومحمداً،ولا ترحم معنا أحداً”،والنبي صلى الله عليه وسلم يسمعه،فقال النبي: “يا هذا لقد حَجّرت واسعاً”،يعني حَجّرته قَولاً وطَلباً. فإذا كان عند العارِف مثل هذا الكلام: الله يأخذه في الرحمة الخاصة التي يُناسب الله بها بين هذا القائل وبين سيدنا محمد،فشَرّك الرسول هذا الأعرابي في الرحمة التي يرحمه بها،التي لا يرحم بها غيره،فإن الغير ما له تلك المُناسبة الخاصة. فإن الرسول له مُناسبة بكل واحد واحد من الأمة التي بُعث إليها فآمَنت،فهو مع كل مؤمن من أمّته بمناسبة خاصة يُعَيّنها ذلك المؤمن..]،[فيرحَم الله العبد: إما بالرحمة الخاصة وهي الواجبة،أو بالرحمة العامة وهي رحمة الإمتنان.].
_ الرحمة السابقة: إن الرحمة السابقة نَمت جُذورها اللغوية من الحديث الشريف: “رحمتي سبقت غضبي”،ويحصرها إبن عربي بالإنسان من المخلوقات،وذلك يُفرّق بينها وبين الرحمة الواسعة الشاملة الإمتنانية التي تَسع كل شيء.. _ الرحمة الطبيعية ــ الرحمة الموضوعية: هاتان الرحمتان تتعلّقان بالرّاحمين من المخلوقات..
يقول إبن عربي: [.. الرّاحم منّا (المخلوقات) من له رحمتان: رحمة طبيعية،وهي ذاتية له إقتضاها مِزاجُه. ورحمة موضوعة فيه من الله بخَلقه على الصورة.. وبالرحمة الطبيعية تَقع الشفاعة من الشافعين،لا بالرحمة الموضوعة،فإن الرحمة الإلهية الموضوعة يَصحبُها في العبد العِزّة والسّلطان،فهي لا عن شَفقة،والرحمة الطبيعية عنها تكون الشّفقة.. فإن الرحمة الموضوعة لا تَقوم إلا بالخُلفاء،ألا تَرى الإنسان إذا رأى الخليفة يُعاقب ويَظلم ويَجور على الناس كيف يجد الشّفقة على المظلومين المُعاقبين ويقول: “ما عنده رحمة،ولو قُمت أنا مَقامه لرَحمتهم”،فإذا وَلِيَ هذا القائل ذلك المنصب حَجَبه الله عن الرحمة الطبيعية التي تورث الشّفقة،وجعل فيه الرحمة التي تصحبها العزّة والسّلطان،ف”يَرحم بالمَشيئة لا بالشّفقة”..]..
_ الرحمن ــ الرحيم _
إن الإسم الرحمن،من حيث أنه جامع للأسماء الإلهية كلها وله مرتبة الإحاطة والكمال بالنسبة إليها،يُرادف الإسم الله. ومن حيث أنه مُشتقّ من الرحمة،أي الوجود،يَقترب من الإسم الرحيم،ويفترق عنه بوَهْبه لمَرحوميه الرحمة الإمتنانية،في مُقابل رحمة الرحيم الواجبة.
يقول إبن عربي: [.. فإن هذين الإسمين اللذين هما (الله والرحمن): مرتبة الإحاطة والكمال بالنسبة إلى ما سواهما من الأسماء]،[.. فالرحمن هو إسم الحق تعالى من حيث أنه وجود مَحض،لأنه صيغة مبالغة من الرحمة التي وَسعت كل شيء،فكان إسماً للوجود من حيث كونه مُشتملاً غاية الإشتمال على جميع تَعيّناته،وأن جميع تَعيّناته إليه على السوا من حيث تَعيّنه: من حيث الهداية والإضلال والعفو واللطف والإنتقام والقهر.. وأما الإسم الرحيم: فهو أيضاً إسم للوجود،مُشتقّ من هذه الرحمة الواسعة الشاملة،لكن من حيث مَيْل عَيْن الوجود من إطلاقه الذي نِسبَته (الهداية والإضلال) إليه على السوا،إلى نَعته من حيث الهداية والنّورية والكشف..]،[الرحمن لإيجاد الأعيان،والرحيم لتَعيين المراتب]..
_ رداء _
المترادفات: رداء الكبرياء،رداء الحق.
رداء: مصطلح يُمكن إضافته إلى المفردات التي تشكّل عائلة حجاب،فالرّداء حِجاب،ولكن له مُواصفات خاصة إستفادها إبن عربي من موحيات الرّداء ومُواصفاته،ففارَق بذلك عمومية الحجاب إلى خصوصية لم تُخرجه عن معناه ولم تُفقده الإيجابية التي تميّز بها عند الشيخ الأكبر (حجاب موصل).
يرى إبن عربي إشتقاقين للرّداء: فالرداء من جهة مُستهلك إستهلاكاً كُلياً في المُتردّي فلا وجود ذاتي له. ومن ناحية أخرى الرداء على صورة المُتردّي،إذ لو لم يكن على صورته لما إرتداه.
وَجهان للرداء خاصة وللحجاب عامة،يتناوبان: السّتر والكَشف،بل يجمعان الستر والكشف معاً على المُتردّي / الحق.
1_ الرّداء من الرّدى / الهَلاك: يقول إبن عربي: [.. وإنما سمّاه رداء لأنه مُشتق من الرّدى المقصور،وهو الهَلاك،لأنه مُستهلك في الحق إستهلاكاً كلياً..]،[.. فإن قلت: وما الرّداء؟ قلنا: الظهور بصفات الحق في الكون. وإن قلت: وما الكون؟ قلنا: كل أمر وجودي،وهو خلاف الباطل..].
فالظهور بصفات الحق في الكون لا يكون إلا للفاني أو المُستهلك في الحق..
2_ الرّداء من التّردّي / صورة: يقول إبن عربي: [.. الكبرياء رداء الحق،وليس سِواك،فإن الحق تَردّى بِكَ إذ كنت صورته،فإن الرّداء بصورة المُتردّي،ولهذا ما يتجلّى لك إلا بكَ..]،[.. ما الرّداء؟ الجواب: العبد المخلوق على الصورة،الجامع للحقائق الإمكانية والإلهية،وهو المَظهر الأكمل الذي لا أكمل منه..].
3_ الرّداء: سِتْر وكَشف: يقول إبن عربي: [ولما كُنّا عَيْن كبرياء الحق على وجهه،والحجاب يَشهد المحجوب (الله)،فأثبت أنا نَراه.. وللرّداء ظاهر وباطن،فيَراه (الحق) الرداء بباطنه فيَصدُق: “تَرون ربّكم”،ويصدُق مُثبت الرّؤية. ولا يراه ظاهر الرداء،فيصدُق المُعتزلي ويصدق: “لن تراني”. والرّداء عين واحدة.. فلا يَشهد العالَم سوى الإنسان الذي هو الرداء،والرداء من حيث ظاهره يَشهد من يَشهده وهو العالَم..]..
_ الرّزق _
أرجَع إبن عربي الرزق من شُموله،إلى كل ما يَهبه الحق للمخلوق فيدخُل في مِلكيّته،إلى الغذاء المُحدّد بما تَتقوّم به نشأة الموجود وتَدوم قُوّته وحياته. وهو: محسوس ومعنوي..
يقول إبن عربي: [.. فإنه لن تموت نفس حتى تَستكمل رزقها،وليس رزقُك إلا ما تَقوم به نَشأتك ويدوم به وَقتك وحياتك. ليس رزقك ما جمعت وإدّخرت،فقد يكون ذلك لك ولغيرك..]،[.. فالرزق المحسوس للجُسوم،والرزق المعنوي للأرواح]..
الرزق يتلخّص في: إيصال الغذاء وسَريانه في ذات المُتغذّى به. وفعل التّغذية هذا ينطبق على وَجهي الحقيقة الوجودية الواحدة (الحق والخلق): الحق يتغذّى بالخلق،من حيث أنه لا ظهور للحق إلا في صورة خَلقية تُغذّيه بأحكامها،ولا بَقاء للألوهية إلا ببقاء المألوه،فالألوهية غذاؤها وُجود مألوهيها. والخلق يتغذّى بالحق،من حيث أنه لا يتقوّم وجوده وكِيّانه إلا بالحق،فالخلق مَظهر،والظاهر به هو الحق. فالحق: رزق كِيّان الخلق وغذاؤهم بالوجود.
يقول إبن عربي: [فهو (الحق) السّاري في مُسمّى المخلوقات والمُبدعات،ولو لم يكن الأمر كذلك ما صَحّ الوجود..]،[فأنت (العبد) غذاؤه بالأحكام،وهو (الحق) غذاؤك بالوجود.]..
يقول الأمير عبد القادر الجزائري،في قوله تعالى: (قل من يرزقكم من السماء والأرض): [.. الرزق من السماء: ما تنتفع به العقول من العلوم والأسرار. والرزق من الأرض: ما تنتفع به الأجسام.].
ويقول فريد الدين العطار،في مثَل “الفراشة ونور الشمعة”: [الفراشة تَعشق النور ويتأكّلها شَوق إلى معرفته التي دونها الفناء به،فتقوم سَكرى بالحُبّ وتَقذف بنفسها على لَهيب الشمعة،وللحظة يزداد نور الشمعة يُغذّيه جَسد مُحِبّته التي أسْعَدها أن تكون،ولو للحظة،ذات مَحبوبها. فالفراشة،في إحتراقها،كانت غذاء محبوبها،كانت محبوبها]..
وقد إستعمل الصورة التمثيلية نفسها (الفراشة والنور) أحمد الغزالي،وبالتعابير نفسها تقريباً..
_ رَقيقة _
الكون في تصوّر إبن عربي:كُلّ مُندمج مُتّصل،غير منقطع. فكل حقيقة أو مرتبة في العالم مُتّصلة بغيرها،تَستمدّ من الأعلى وتُمدّ الأدنى.. ومن إتّصال الكون وُجدت الرّقائق: وهي هذه الصّلات المُمتدّة بين الحقائق أو الذّوات،تُشبه في رِقّتها أشعّة الشمس في إمتدادها إلى البصر.. فكل حقيقة يَشعّ منها رَقائق تَربطها بالحقائق الأعلى والأدنى،وعلى هذه الرّقائق يَصل الإمداد العلمي والوجودي إلى الحقائق الأدنى.
ولا يخفى أهمية الإمداد في بُنيان فكري يقول ب”الخَلق الجديد”،فالإمداد هو عَصَب الخلق الجديد،لأن الممكن يسقط من ذاته في العدم لولا إمداده بالوجود في كل لحظة. لذلك،ومن أجل الإمداد،نرى إبن عربي يتصوّر إتّصالاً رَقيقاً بين الحقائق والمراتب يُشبه في وظيفته الأوردة والشرايين في الجسم البشري.
1_ صورة الحقيقة والرّقائق: يقول إبن عربي: [تمتدّ منه إلى قلبي رَقائقُه /// مثل إمتداد شُعاع الشمس للبصر].
ويقول: [فإن الرّقائق المُمتدّة بين القلوب وبين هذه المناظر: مُتّصلة إتّصال الدخان بالسّراج من رأس الفتيلة].
نُلاحظ في النّصين التركيز على: الإمتداد والإتّصال. فالرقيقة تمتد،ولكن الإمتداد وحده لا يكفي لإنجاز مهمّتها،لذلك لا بد من الإتّصال. وقد إستخدم إبن عربي صورتين: الشمس وأشعّتها،والنار ودُخانها،ليُعبّر عن فكرة الإنتشار والإتصال معاً.
2_ ماهيّة الرّقيقة: يقول إبن عربي: [.. وجعل تعالى الإنسان مجموع رقائق العالَم كُلّه،فمن الإنسان إلى كل شيء في العالم رقيقة مُمتدّة.. فما من شيء في العالَم إلا وله أثر في الإنسان،وللإنسان أثر فيه..]،[.. وكَشف له تعالى عن ذاته ورأى جميع العالَم في حَضرته،ورأى الرقائق بينه (العبد) وبين كل جزء من العالم،فعَمِدَ يُحْسِن من نفسه على تلك الرقيقة التي بين ما يُناسب من العالم وبين المناسب له..].
يظهر هنا بوضوح ماهية الرقيقة: من حيث أنه تَصل المناسب بالمناسب له،إتّصالاً له خصوصية يؤمّن تَبادُل التأثّر والتّأثير.
3_ وظيفة الرقيقة: يقول إبن عربي: [فالحق له تسعة أفلاك للإلقاء،والإنسان له تسعة أفلاك للتلقّي. فتمتد من كل حقيقة من التسعة الحَقيّة رقائق إلى التسعة الخَلقية (للنّزول،للإلقاء)،وتنعطف من التسعة الخلقية رقائق على التسعة الحقية (للعروج،للتلقّي)]،[.. وبين هذه الصور العلويات الفلكيات وبين الصور السفليات العنصريات: رقائق ممتدة للأسماء الإلهية والحقائق الربانية،وهي الوجوه الخاصة التي لكل ممكن الذي صَدر منه عن كلمة “كُن”،بالتوجّه الإرادي الإلهي الذي لا يعلمه المُسبّب عنه من غيره..]،[.. وما بَقي بأيدي المحققين إلا الفقه الإلهي الوارد بالأسرار،وهو المعروف عند أهل البصائر المجهول عند أهل الأبصار.. فمالِك زِمام حَقيقتك بيَد مالك رَقيقتك..]..
فالحقيقة من دون الرقيقة لن تُفارق العَدم،إذ لن يتوفّر لها الإمداد الوجودي أولاً والعلمي ثانياً..
_ يُحافظ إبن عربي على خاصية الإمتداد ــ الإشعاع في الرقيقة،فيجعلها في مقام الرّسُل. فالحقيقة تُشبه الذات،في مُقابل الرقيقة “إشعاعاتها ــ رُسلها”.. يقول إبن عربي: [.. كجبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل،وغيرهم من رؤساء الملائكة الكرام. فإن كلاً من هؤلاء الأربعة واقف بين يدي ربّه لا يشغله عنه بغيره. فهذه الحقائق الكُلية النورانية العلوية التي هي رقائق تلك الحقيقة المحمدية،عُيون تلك الأرواح التي هي الرقائق الجزئية..]،[.. الرقيقة المحمدية التي تمتد إليهم حروف عالَم الغيب منه صلى الله عليه وسلم،من كونه أوتي جوامع الكلم..].. _ يمتد إستعمال مفردة رقيقة عند إبن عربي،مُستنداً إلى صفة الإمداد العلمي،ليَشمل أنوار: الشّهود والتجلّي والخواطر،فيقول: رقيقة مَلكية،ورقيقة شيطانية. إذاً ليست الرقيقة هي طريق الإمداد النوري فقط،بل قد يكون إمداداً شيطانياً. وهذا لا يتنافى مع ماهية الرقيقة من حيث كونها موصِلَة فقط. فهي: طريق وتوصيل،بين ذات مُشعّة وأخرى جُزئية مُستقبلة،على أن يكون بينهما مُناسبة،تلك وظيفتها،ولا علاقة لها بمضمون الإمداد..
_ الرّوح _
الروح: هو حُصول الإستعداد من الصورة المُسوّاة لقبول التجلّي الإلهي الدّائم. وهو بذلك مبدأ الإختلاف وكَثرة الصور في التجلّي الواحد.. ويَفترق الروح عن الحياة من حيث الحُكم: فالحياة سارية في كل الكائنات،دائمة الحُكم،والروح مُتقطّع الحُكم.
يقول إبن عربي: [ومن شأن الحكم الإلهي أنه ما سَوّى مَحلاً إلا وقَبل روحاً إلهياً،عُبّر عنه بالنّفخ. وما هو إلا حُصول الإستعداد من تلك الصورة المُسواة لقبول الفيض والتجلي الدائم..]..
_ روح العالَم _
المُترادفات: قلب العالم،قلب الوجود.
يجعل إبن عربي الإنسان الكامل،لا الإنسان الحيوان،روح العالَم المقصودة ومَعناه.
أما سَبب إطلاق عبارة روح العالم على الإنسان الكامل: أن العالَم هو جسد لا ينبض إلا بوجود الإنسان الكامل،وبانتقاله عن هذه الدار الدنيا إلى الآخرة يَموت العالم..
وسبب تسمية الإنسان الكامل ب”قلب العالَم” هو تَقلّبه في كل صورة. وأما مضمون الصورة التشبيهية فيرجع إلى الأسباب نفسها التي سماه لأجلها روحاً للعالم. يقول إبن عربي: [.. فبالإنسان الكامل ظهر كمال الصورة،فهو قلب لجسم العالم الذي هو عبارة عن كل ما سوى الله.. وسَمّاه بالقلب لتَقليبه في كل صورة،وتَصريفه وإتّساعه في التّقليب والتّصريف..].
وتحديد روح العالم بالإنسان الكامل يُقيّده بتعدّد مفاهيمه التي يطرحها شيخنا الأكبر. فالإنسان الكامل هو أحياناً كل إنسان تحقّق بالكمال الإنساني،وأخرى هو شخص سيدنا محمد فقط.
يقول إبن عربي: [.. فلما أراد الله كمال هذه النشأة الإنسانية جَمع لها بين يَديه وأعطاها جميع حقائق العالم،وجعلها روحاً للعالم،وجعل أصناف العالم له كالأعضاء من الجسم للروح المُدبّر له،فلو فارق العالم هذا الإنسان مات العالم..]،[واعلم أن العالَم اليوم بفَقْد جَمعيّة سيدنا محمد في ظهوره روحاً وجسماً وصورة ومعنى: نائم لا مَيّت،وأن روحه الذي هو سيدنا محمد هو من العالم في صورة المَحلّ الذي هو فيه روح الإنسان عند النوم إلى يوم البعث الذي هو مثل يقظة النائم هنا.. فالعالم كله نائم من ساعة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم]..
__ الرّوح الكُلّ: تُرادف عند إبن عربي النفس الرحماني،يقول: [.. تَعيين الأرواح الجزئية المنفوخة في الأجسام المُسواة المُعدّلة من الطبيعة العنصرية،من الروح الكُلّ المُضاف إليه. ولذلك ذكر تعالى أنه خلقها قبل الأجسام،أي قَدّرها وعَيّنها،لكل جسم وصورة روحها المُدبّر لها،الموجود بالقوة في هذا الروح الكُلّ،وذلك هو النَفَس الرحماني..]..
== حرف الزاي ==
_ الزّمرّدة الخضراء _
أول الموجودات العقل الأول هو الدّرّة البيضاء،وثاني الموجادات النّفس الكُليّة هو الزّمرّدة الخضراء.
أما سبب تشبيهه النفس بالزمردة الخضراء،فذلك لأن الزّمرّد حَجر شفّاف شديد الخُضرة،وأشدّه خُضرة أصفاه جَوهراً. والنفس تَنزل عن العقل الأول في مرتبة النورانية،فعندما يُخالط النور الظلمة يَميل لونه إلى الأخضر الدّاكن. فالنفس لذلك زُمرّدة خضراء..
وقد رُمِزَ في بعض الكتب إلى النفس الكلية بالزمردة الخضراء والياقوتة الحمراء،دون أن تُشير إلى كيفية جمعها هذين الرّمزين على إختلافهما إلى مَرموز واحد.
ولم نَحظ بنصوص من إبن عربي تُشير إلى إعتباره الياقوتة الحمراء رمزاً للنفس الكلية،ولكن على الأرجح أنه رَمز بالياقوتة الحمراء إلى النفس الجزئية،وقد يكون اللون الأحمر إشارة إلى الشهوات المغروسة فيها..
_ الزّهْد _
إن كَلمتي زُهد وزُهّاد أصبحَتا عَلَماً على الطائفة الصوفية مع مَطلع النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة. ويرجع السّبب في تأخّر ظهورهما كمصطلح،أن الزهد في القرآن لم يُشكّل تَرغيباً لرُواد الروح الأوائل في الإسلام،من حيث أنه لم يَرد نص قرآني بحُبّ الله للزهاد كما ورد في التوابين والمُتطهرين وغير ذلك.
كان هؤلاء الروّأد مُمثّلين بطائفتين يُصوّرون الحياة الزّأهدة في عصر الرسول: طائفة القُرّاء وطائفة أهل الصُفّة. كما وُجد إلى جانب هاتين الطائفتين: طائفة التوابين والبكّائين،بصورة أفراد غير مُنتظمين في حَلقات.
وقد ظهرت حركة الزّهد بطابع سُنّي نَصّي طَوال حُكم بني أميّة،ثم تطوّرت بالتدريج إلى أقدم صورة نعرفها عن التصوف.
ومع تطور العرفان الصوفي تحوّل الزهد أولاً إلى أحد مقامات السلوك ليس إلا،ثمّ في مرحلة ثانية أصبح هو نفسه موضوع جَدل وشكّ.
ويُقرّر إبن عربي أن الزّهد،من حيث كونه خُلُق إنساني،يَعُمّ الباطن،وينعكس على الظاهر. فسُلطانه في الأصل على الباطن،أي على الطّلب وليس على المِلْك الذي هو من الظاهر. فالزهد خُلُق للعَبد غير مُتعدّي إلى غيره،كماله في باطن الإنسان،وهو من المقامات التي يتّصف بها العبد إلى حين موته.
يقول إبن عربي: [الزّهد لا يكون إلا في الحاصل في المِلك والطّلب (ملكيّة الزاهد وطلب الدنيا).. فالزهد في الطّلب: زُهد. لأن أصحابنا (الصوفية) إختلفوا في الفقير الذي لا مِلك له: هَل يَصحّ له إسم الزّاهد أو لا قَدَم له في هذا المقام؟ فمذهبنا: أن الفقير مُتمكّن من الرغبة في الدنيا والتعمّل في تحصيلها،ولو لم يُحَصّل. فتَركه لذلك التعمّل والطلب والرغبة عنه يُسمّى: زُهداً بلا شك]،[إن صاحب الذّوق لا بد من أن يرى لتَركه طلب الدنيا والرّغبة فيها أثَراً إلهياً في قلبه..]..
_ وللزّهد من حيث كونه مقاماً،وُجوه ومَراتب تَتبع: العوالِم (على مستوى الموضوع المَزهود فيه)،والإنسان (من حيث كونه في مقام الإسلام أو الإيمان أو الإحسان). يقول إبن عربي: [فأما في المُلك (عالَم المُلك) من كونه مسلماً،فالزهد في الأكوان،وهو الحجاب الأبعد الأقصى. وأما في الجبروت (عالم الجبروت) من كونه مؤمناً،فالزهد في نَفسه،وهو الحجاب الأدنى الأقرب. وأما في الملكوت (عالم الملكوت) من كونه مُحسناً،فالزهد في كُل ما سوى الله،وهنا يرتفع الحجاب عن الطائفة.].. _ وينفرد إبن عربي عن التصوف السابق في النظر إلى الزهد وتَعظيمه،بجعله من بدايات الطريق،يَترُكه الأكابر،لأنهم يتخلٌّون بالله في سلوكهم،والزّهد ليس له مُستند في الألوهية.
يقول إبن عربي: [وهو (الزهد) من المقامات المُستصحبة للعبد ما لم يُكشَف له،فإذا كُشف الغطاء عن عين قلبه لم يَزهد،ولا ينبغي له أن يزهد.. فإن العبد لا يَزهد فيما خُلق له،ولا يكون زاهداً إلا من يَزهد فيما خُلق من أجله (الدنيا).. لأنه ما لَيس لي لا أتّصف بالزهد فيه،وما هو لي لا يُمكنني الإنفكاك عنه،فأين الزّهد؟]،[لو رأيت الحق لم تَزهد،فإن الله ما زَهد في الخلق،وما ثَمّ إلا الله،فبمن تتخلّق في الزهد. فالزهد ليس له في العلم مرتبة،وتركه عند أهل الجمع مَفروض.]..
== حرف السّين ==
_ السُّبْخَة السّوداء _
السّبخة السوداء هي الهَباء الذي ظهر فيه صور أجسام العالم،أي هو الجسم الكُلّ. والصفة سوداء لظُلمته الطبيعية..
يقول إبن عربي: [السبخة: الهباء الذي فُتح فيه صور أجسام العالم]،[السبخة: الهباء المُسمّى بالهيولى]،[.. الجسم الكل مُظلماً،ولهذا شَبّهوه بالسبخة السوداء لهذه الظّلمة الطبيعية..]..
_ السّتْر _
السّتر عند إبن عربي هو الحجاب بما يَحويه من مُقوّمات إيجابية،حيث أنه دَليل على المَستور به. فالسّتر: حجابودَليل.
يقول إبن عربي: [إن الأمور كلها سُتور بعضها على بعض.. كون القلب وَسع الحق فهو سِتْر عليه،فإن القلب مَحلّ الصور الإلهية التي أنشأتها الإعتقادات بنَظرها وأدلّتها. فهي (الإعتقادات) سُتور عليها (الصور الإلهية)،لذلك تُبصر الشخص ولا تُبصر ما إعتقده،إلا أن يُرفَع لك السّتر بسِتر آخر وهو العبارة عن مُعتقده في ربّه. فالعبارة وإن دَلّت على ذات المُسمّى،فهي أعيان السّتور عليها.. فالسّتور وإن كانت دَلائل إجمالية،فالعالَم،بل الوجود كلّه،سِتر ومَستور وساتر.. فإن السّتر بَرزخ أبداً بين المَستور والمستور عنه،فهو مَشهود لهما.. قوله تعالى: (وما كان لبشر أن يُكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب) وهو السّتر،(أو يُرسل رسولاً) وهو ستر أيضاً،وليس السّتر هنا سوى عَيْن الصورة التي يتجلّى فيها للعبد.. فهذه كلها صور حِجابية..].
وهكذا: السّتر هو الحجاب الدّال على الحق،فهو مَجلى الحق.
_ السّجدة الكُليّة _
“السّجود” تَعبير كِيّاني جَسدي عن علاقة العابد بالمعبود،لذلك يأخذ السجود وجوهاً تتعدّد بتعدّد وجود السّاجد،فنوعية السّجدة تُحدّدها حَيثيّة سُجود الساجد. ويُميّز إبن عربي بين نوعين من السجود:
_ السّجود الكُلّي / السّجدة الكُليّة _ سُجود الإختصاص / سَجدة القلب.
فالإنسان إذا سَجد من حيث كونه مجموع العالَم كانت سجدتُه: السّجدة الكُلية،وهي سجدة العبد بجمعية حَقائقه التي هي مجموع حقائق العالم. أما إذا سجد من حيث الوجه الخاص الذي يربطه بالحق فهو: سجود الإختصاص / سجود القلب،وهي سجدة العبد حال فنائه بالحق،حيث لا أثَر لكَثرة.
1_ السجود الكُلي ــ سجود الإختصاص: يقول إبن عربي: [.. فله تعالى على العبد: سَجدتان،لكونه على حقيقتين. فاسجُد له من حيث كُليّتك (السجدة الكلية) سجود العالَم كله،فتَجدك قد إستوفيت حقائق سجودهم (أشخاص العالَم) في سَجدتك،وإن لم تجد ذلك فما سَجدت (السجدة الكلية). وإذا أردت أن تعرف ذلك فاصْغ في سجودك إلى ندائه،فإنه يُناديك في السجدة الكلية بلغة كل ساجد،وتعرف أنت ذلك إذا سمعته منه. واسجُد له أيضاً السجدة الثانية التي لا تُعَمّم،وهو سجود الإختصاص،فلا يُناديك في هذه السجدة إلا بما تختصّ به خاصيتك التي لا مُشاركة فيها،وهو سجود القلب..].
2_ سجود القلب / سجود الإختصاص: يقول إبن عربي: [.. فجعل تعالى القلب من عالَم الغيب،وجعل الوجه من عالم الشهادة،وعَيّن للوجه جهة يسجُد لها فسَمّاها بَيته وقِبلته (الكعبة)،أي يستقبلها بوجهه إذا صَلّى.. وعَيّن للقلب نفسه تعالى،فلا يقصد غيره،وأمره أن يسجد له: فإن سجد عن كشف لم يرفع رأسه أبداً من سَجدته،دنيا وآخرة. ومن سجد من غير كشف رفع رأسه،ورفعه الرأس هو المُعبّر عنه بالغفلة عن الله ونسيان الله في الأشياء. فمن لم يرفع رأسه في سجود قلبه فهو لا يزال يَشهد الحق دائماً في كل شيء،فلا يرى شيئاً إلا ويرى الله قبل ذلك]،[.. سُجود كُل قلب على حَدّ علمه،وعلمه على حدّ ما يتجلّى له..]..
فسُجود القلب هو في الواقعشُهود للحق.
_ السِرّ الأعجَميّ _
الأسرار الأعجمية هي الأسرار التي لا تُدرك إلا بالتعريف الإلهي،في مُقابل الأسرار العربية القابلة للإدراك بالفهم.
يقول إبن عربي: [.. وأما الأسرار الأعجمية فإنما سَميناها أعجمية لأن العربية من الأسرار هي التي يُدركها عين الفهم صوراً: كالآيات المحكمات في الكتب المنزلة. والأسرار الأعجمية التي تُدرك بالتعريف لا بالتأويل،وهي كالآيات المتشابهات في الكتب المنزلة،فلا يعلم تأويلها إلا الله أو من أعلمه الله،ليس للفكر في العلم بها دخول..].
_ سِرّ القَدَر _
سرّ القدر هو: القطب،صاحب الوقت،الظاهر بالصفات الإلهية..
يقول إبن عربي: [.. وهو مرآة الحق (القطب) ومَجلى النّعوت المقدسة،ومَجلى المظاهر الإلهية،وصاحب الوقت،وعين الزمان،وسِرّ القَدر..].
ولم نحصُل على نص يُبرّر التّسمية،إنما من الممكن إعطاء تفسير شخصي لهذه العبارة: فالقدر له تعلّق بالممكن،على حين أن القضاء لا علاقة له بالممكن بتاتاً. لذلك لم يقل الشيخ الأكبر عن صاحب الوقت أنه سرّ القضاء،فالقضاء للحق تعالى ويُنزّله على الممكن بقَدر. فإن كان القضاء لا يُمكن رَدّه،فالقدر قابل للزيادة والنقصان..
_ إسراء ــ عُروج _
_ الإسراء والمعراج النبوي: يقول إبن عربي: [فهو تعالى مَعنا أينما كُنّا.. فما نَقل الله عَبداً،من مكان إلى مكان،ليَراه،بل ليُريه من آياته.. وحديث الإسراء يقول: “ما أسريت به إلا لرُؤية الآيات،لا إلَيّ،فإنه لا يَحويني مكان،ونسبة الأمكنة إليّ نسبة واحدة”.. فلما أراد الله أن يُري النبي عبده محمداً صلى الله عليه وسلم من آياته ما شاء،أنزل إليه جبريل عليه السلام بدابّة يُقال لها البُراق،إثباتاً للأسباب وتَقويّة له ليُريه (العلم بالأسباب ذَوقاً)..]،[وأعطاه الله في نفسه (سيدنا محمد) علماً عَلمَ به ما لم يكن يعلمه قبل ذلك عن وحي،من حيث لا يدري وجهته. فطلب الإذن في الرؤية بالدخول على الحق،فسَمع صوتاً يُشبه صوت أبي بكر،وهو يقول له: “يا محمد قف إن ربك يُصلّي”،فأوحى الله عليه في تلك الوَقفة ما أوحى،ثم أمر بالدخول فرأى عين ما عَلم لا غير،وما تغيّرت عليه صورة إعتقاده.. وله صلى الله عليه وسلم أربعاً وثلاثين مرّة أسْرِيَ به فيها: إسراء واحد بجسمه،والباقي بروحه رؤيا رآها..]،[ألا تَرى النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المعراج قد فرضت عليه وعلى أمته خمسون صلاة،فهو معراج تَشريع،وليس للوليّ ذلك..]. يتّضح من النصوص الثلاثة السابقة: 1 أن الله أسرى بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ليُريه من آياته،وليس إليه.
2_ أن الإسراء تَعليم وعلم ذَوقي: فقد أرسل البُراق إثباتاً للأسباب والعلم بها ذَوقاً.
3_ أن الإسراء والمعراج هما في الحقيقة مرحلتان من مراحل اليقين:
_ الإسراء: عُبور من علم اليقين إلى عين اليقين،من حيث أن عين اليقين هو شُهود لعِلمه / فرأى عَيْن ما عَلم لا غير.
_ المعراج: عبور من عين اليقين إلى حق اليقين،من حيث أن حق اليقين هو العلم الذي يتبع الرّؤية أو العَيْن / وما تَغيّرت عليه صورة إعتقاده. إذن المعراج: وُصول إلى حَقّ اليقين،لأن طبيعة ما وَصل إليه: عقيدة،أي علم بعد عَيْن.
_ فرأى عين ما عَلم: علم ــ عَيْن (إسراء) _ وما تغيّرت عليه صورة إعتقاده: عَيْن ــ علم (حَقّ / عُروج).
4_ أن المعراج النبوي هو معراج تَشريع.. فالمعراج هو وُصول إلى حَقّ اليقين،ولكن لكل حقّ حقيقة،فما حقيقة حق اليقين هنا؟ إنه التّشريع. لقد إتّخذ التشريع هنا مرتبة حقيقة اليقين،من حيث أنه دليل واضح على كونه (أي المعراج النبوي) معراجاً حقيقياً جسمياً،لا من حَضرة التمثّل..
وبتلك الحقيقة ينفرد هذا المعراج النبوي عن بَقية الإسراءات والمَعارج النبوية نفسها،وعن إسراءات ومَعارج الإولياء.
_ الإسراء والمعراج الصوفي: إتّخذ الصوفية عامة من المعراج النبوي،أنموذجاً ومِثالاً ألْهَب هِمَمهم،فاندَفعوا في البداية مُحاولين السّير على القَدَم المحمدي،مُكتفين من المعراج بالفهم،فكان جُلّ ما وَصلوا إليه الدخول بعمق أكبر إلى حقيقة الشخصية المحمدية بما لها من أبعاد إنسانية وتجربة فكرية. ولكن مع تَقدّم التجربة الصوفية كان للمتأخرين منهم إسراءات ومعارج تَنوّعت بتنوّع وُتبهم ومقاماتهم،وإن كانت تختلف في طبيعتها ونوعيتها عن المعراج المحمدي.. يقول إبن عربي: [.. وأما الأولياء فلهم إسراءات روحانية برزخية يُشاهدون فيها معاني مُتجسّدة في صور محسوسة للخيال،يُعطَون العلم بما تتضمّنه تلك الصور من المعاني. ولهم الإسراء في الأرض والهواء،غير أنهم ليست لهم قَدم محسوسة في السماء،وبهذا زادَ على الجماعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسراء الجسم وإختراق السماوات والأفلاك وقطع المسافات حقيقة محسوسة،وذلك كله لوَرَثته معنى لا حِسّاً.. فمعارج الأولياء مَعارج أرواح،ورؤية قلوب،وصور بَرزخيات..]. تبرُز من النص السابق النقاط التالية التي تُفرّق بين المعراج النبوي والمعراج الصوفي: 1 أن المعراج الصوفي: معراج روحاني برزخي،أي أنه من ذاك العالَم الوَسطي حيث تتجسّد المعاني في صور يُحسّها الخيال،في مقابل المعراج النبوي حِسّي بالجسم.
2_ أن المعراج الصوفي: معراج علم وتَعليم،بل هو عُروج من علم إلى شُهود يُعطي علماً أعلى. على حين أن المعراج النبوي،إلى جانب صفته العلمية التعليمية،فهو معراج تشريع.
العُروج لا يفترض الإرتقاء والصّعود بالحِسّ أو بالخيال،بل أضحى تعريفه: النّظر إلى الحقّ،في مُقابل النّزول: النظر إلى الخلق.. يقول إبن عربي: [.. وإنما سُميَ النزول من الملائكة إليها عروجاً،والعروج إنما هو لطالب العُلوّ،لأن لله في كل موجود تَجلياً ووَجهاً خاصاً به يَحفظه. ولما كان للحق صفة العلوّ على الإطلاق،سواء تجلّى في السّفل أو العلو،فالعلو له. والملائكة إذا توجّهوا من مقامهم،لا يتوجّهون إلا لله لا لغيره،فلهم نَظر إلى الحق في كل شيء ينزلون إليه: فمن حيث نَظرهم إلى ما ينزلون إليه يُقال: “تتنزّل الملائكة”،ومن حيث أنهم ينظرون إلى الحق سبحانه عند ذلك الأمر يُقال: “تَعرُج الملائكة”،فهم في نُزولهم أصحاب معراج،فنُزولهم إلى الخلق عُروج إلى الحق.. فكل نَظر إلى الكون،ممّن كان،هو نُزول. وكل نَظر إلى الحق،ممّن كان،فهو عروج..]..
__ المعراج الصوفي خاصة هو عودة إلى البُطون وتحليل للأركان،في مُقابل التنزّل الذي هو ظهور وتَركيب..
لعل أروع ما كتبه إبن عربي عن المعراج رسالته (الإتحاد الكوني في حضرة الإشهاد العَيني)،التي يصف فيها معراجه،الذي هو في الواقع رجوع من ظاهره إلى باطنه،من كَثرته إلى وَحدته..
يقول إبن عربي: [.. فحَصلت في هذا الإسراء مَعاني الأسماء كلها.. فما كانت رحلَتي إلا فِيّ..]..
_ السّفَر _
لم يُضف إبن عربي شيئاً يُذكر على مضمون السفر كما وصل إليه من أسلافه،فالسفر هو: سَيْر القلب في توجّهه إلى الحق بالذّكر.. يقول إبن عربي: [ثمّ يَرحل العبد من مَنزل قَوله إلى منزل سَمعه ليسمع ما يُجيبه الحق تعالى على قوله،وهذا هو السفر..].
إتّفق كل من إهتمّ بإصطلاحات الصوفية على معنى السفر ومراتبه ومَقاصده ونهاية حَدّه،ننقُل نصوصاً منها بطريقة الدّمج في تعريف للجرجاني:
يقول الجرجاني في (تعريفاته): [.. السفر عند أهل الحقيقة عبارة عن: سَيْر القلب عند أخذه في التوجه إلى الحق بالذكر. والأسفار أربعة: السفر الأول: “السّير إلى الله”،وهو رفع حُجُب الكَثرة عن وجه الوحدة،وهو السّير إلى الله من منازل النفس بإزالة التعشّق من المظاهر والأغيار،إلى أن يصل العبد إلى الأفُق المُبين وهو نهاية مقام القلبومبدأ التجليات الأسمائية. السفر الثاني: “السّير في الله”،وهو رفع حجاب الوحدة عن وجوه الكثرة العلمية الباطنة،وهو السّير في الله بالإتّصاف والتحقّق بأسمائه،وهو السّير في الحق بالحق إلى الأفق الأعلى،وهو نهاية حضرة الوحدانية. السفر الثالث: هو زوال التقيّد بالضدّين،الظاهر والباطن،بالحصول في أحدية عين الجمع،وهو الترقّي إلى عين الجمع والحضرة الأحدية،وهو مقام “قاب قوسين” ما بَقيت الإثنينيّة،فإذا إرتفعت فهو مقام “أو أدنى”،وهو نهاية الولاية. السفر الرابع: عند الرجوع عن الحق إلى الخلق،وهو أحدية الجمع والفرق بشُهود إندراج الحق في الخلق وإضمحلال الخلق في الحق،حتى يرى العين الواحدة في صورة الكثرة وصورة الكثرة في عين الوحدة،وهو “السّير بالله عن الله للتّكميل”،وهو مقام البقاء بعد الفناء والفرق بعد الجمع.
فنهاية السّفر الأول: هو رفع حُجُب الكثرة عن وجه الوحدة. ونهاية السّفر الثاني: هو رفع حجاب الوحدة عن وجوه الكثرة. ونهاية السّفر الثالث: هو زوال التّقييد بالضدّين: الظاهر والباطن،بالحصول في أحديّة عين الجمع. ونهاية السّفر الرابع: هو أحدية الجمع والفرق،عند الوجوع من الحق إلى الخلق..]..
_ سالِك _
يرى إبن عربي للسّلوك مصدرين للتّسمية: _ الإنتظام / من سِلْك اللآلئ _ الإنتقال / مَشى على المقامات.
وهو: إنتقال بالمعنى وبالصورة وبالعلم.. لذلك تنحصر نُصوصه بهذين المعنيين.
يقول إبن عربي: [إن السّلوك هو الطريق الأقوم،فإذا إستقمت فأنت فيه سالك،أشتُقّ من سلك اللآلئ..]،[.. وما السّالك؟ قلنا: هو الذي مَشى على المقامات بحاله لا بعلمه،والحال هو العمل فكان له عَيناً..]،[السلوك إنتقال من منزل عبادة إلى منزل عبادة بالمعنى،وإنتقال بالصورة من عمل مشروع على طريق القُربة من الله إلى عمل مشروع بطريق القُربة إلى الله بفعل وتَرك. وإنتقال بالعلم من مقام إلى مقام ومن إسم إلهي إلى إسم ومن تجلّ إلى تجلّ ومن نفس إلى نفس،والمُنتقل هو السالك..].
__ أقسام السالكين: يقسم إبن عربي السالكين أربعة أقسام،بحسب رُتبتهم في العلم بالله: سالك بنفسه،سالك بربه،سالك بالمجموع،سالك لا سالك.
السالك بنفسه: هو الذي يُحاول التقرّب إلى الله إبتداءً،ويكون التقرّب بالفرائض والنوافل الموصلة إلى محبّة الله تعالى..
السالك بربّه: هو الذي أحَبّه الله فكانت عَينه ثابتة في العدم،والحق سمعه وبصره.. وهو التحقّق بقُرب النوافل..
السالك بالمجموع: هو السالك بنفسه أولاً،وبعد التحقّق بقُرب النوافل: ذاقَ كون الحق سمعه وبصره،فأضحى سالكاً بربّه. فكان بالعلم سالكاً بالمجموع.
سالك لا سالك: وهو من تنطبق عليه الآية القرآنية: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)..
_ الإسم _
_ ماهية الإسم: الإسم هو: ما يُطلق بالوضع على الحقيقة لتمييزها من أخرى،دون الإشارة إلى معنى قائم في ذات تلك الحقيقة. وبذلك يتميّز الإسم عن الصّفة والنّعت. يقول إبن عربي: [فالأسماء إنما هي موضوعة لله.. فإن عُقل من الإسم معنى في المُسمى يدُلّ عليه الإسم،فليس هو المقصود بالإسم،لأن أصل الوضع في الأسماء إنما هو لتمييز المُسمّى من مُسمى آخر خاصة. والأوصاف إنما هي لمَعانٍ تكون في الموصوف تُسمى صفات: كالعالِم إسم من قامت به صفة العلم،وهو وصف للعالِم ليس بإسم. وإسمه،مثلاً،عليّ أو زيد أو خالد،فهذا هو إسمه الذي يدلّ على عَيْنه خاصة،فإن سُمي بعالِم إبتداء كما يُسمى بزيد وعليّ فليس هو بمقصود للواضع إن سمّاه عالِماً لقيّام صفة العالِم (العلم).. فمتى ما تَوهّمها (صفة العلم) واضع الإسم فليس بمُسَمّ على الحقيقة وإنما هو واصِف،وهكذا في كل إسم يدل على معنى يَقوم بالمُسمى فهو وَصف في الحقيقة،والمُراد الصفة والعين من حيث تلك الصفة لا من حيث ذاتها. فهذا هو الفرق بين الإسم والصفة.. وأما النّعوت والفرق بينها وبين الأسماء والأوصاف،فإنها ألفاظ تدل على الذات من حيث الإضافة،كالأول.. فالأسماء للعَيْن،من غير أن تُعطي من الماهية شيئاً ولا من معانيها القائمة. والنّعت يدل على الماهية بوجه. والوصف يدل على معنى في الذات..]. _ حقيقة الإسم بالنسبة للمُسمّى: إن للإسم دَلالتين: دلالة على المُسمى،ودلالة على حقيقته هو..
بالنسبة لدَلالته على حقيقته: فلكل إسم حقيقة تُميّزه عن غيره من الأسماء.. فالأسماء الإلهية،على كَثرتها،ليس فيها مُترادفات..
تكلّم إبن عربي عن إختلاف الأسماء من حيث حقائقها،من خلال حادثة لأبي يزيد،يقول: [.. سَمع أبو يزيد البسطامي قارئاً يقرأ هذه الآية: (يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً) فبكى حتى ضرب الدّمع المنبر،وقال: “يا عجباً كيف يُحشر إليه من هو جَليسه”. فلما جاء زماننا سُئلنا عن ذلك فقُلت: ليس العجب إلا من قول أبي يزيد،فاعلموا أنما كان ذلك لأن المُتّقي جليس الجبار فيتّقي سَطوته،والإسم الرحمن ما له سَطوة،فلذلك يُحشَر إليه المُتّقي من الإسم الجبار الذي يُعطي السّطوة والهَيبة،فإنه جليس المُتّقين في الدنيا..].
يقول إبن عربي: [إذا قَصَدْتَ حقيقة الإسم وتَميّزه عن غيره،فإن له دَلالتين: دلالة على المُسمى به،ودلالة على حقيقته التي بها يتميّز عن إسم آخر]،[إن كل إسم يدلّ على الذات،وعلى المعنى الذي سيقَ له ويطلُبه (يطلب حقيقة الإسم). فمن حيث دلالته على الذات له جميع الأسماء،ومن حيث دلالته على المعنى الذي ينفرد به يتميّز عن غيره..]..
_ الإسم الإلهي _
_ لا يمكن فهم الإسم الإلهي عند إبن عربي إلا في علاقته بالمُسمّى..الإسم: هو الدّليل على المُسمّى والطريق إلى المُسمى،وهو المُسمى.. يقول إبن عربي: [ما أعجب مرتبة الإسم وما أعطى من الأثر في الرّسم،لا يُجيب الحق إلا من دعاه،ولا يُدعى إلا بأسمائه..]،[الإسم سُلّم إلى المُسمى..]،[الإسم هو المُسمى]،[الإختلاف في الإسم والمُسمّى والتّسمية،إختلاف في اللفظ].. _ الإسم هو: المُتحوّل والمُتغيّرفي مُقابل الثابت (الذات)،وأصل الكَثرة في مقابل الوحدة (الذات)،والنّسَب في مقابل العَين (الذات).
الذات واحدة،تتغيّر بتغيّر العَوالِم والحَضرات والمراتب. فالمُسمى واحد تَتوالى عليه الأسماء: محسوسات ومُتخيّلات ومذكورات ومحفوظات ومُتفكّرات ومعقولات وأسرار.. فالحقيقة واحدة بالذات،كثيرة بالأسماء..
يقول إبن عربي: [فوجود الكثرة في الأسماء،وهي النّسب،وهي أمور عَدمية،ليس إلا العَيْن الذي هو الذات]،[فمن وَقف مع الكثرة كان مع العالَم ومع الأسماء الإلهية،ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته. فأحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلٌبنا،أحدية الكثرة. وأحدية الله من حيث الغنى عنّا وعن الأسماء الإلهية،أحدية العَيْن.]،[وإن تعدّدت الأسماء فالمُسمى واحد،والمفهوم ليس بواحد. فالمفهوم من العالِم ما هو عين المفهوم من الحَيّ..]..
الأسماء عند إبن عربي: نِسَب معقولة بين الذات والعالَم،والنّسب بحدّ ذاتها لا تَقبل معنى الحُدوث ولا القِدَم،لأنها معدومة. ومن حيث أنه نسبة: تَقبل صفة الأمرين المعقولة بينهما أو تتبع أحدهما على الأقلّ..
_ الإسم هو المرتبة الوجودية التي تتجلّى فيها الذات،بحيث تكون حقيقة إلهية معقولة مُميّزة. يقول إبن عربي: [اعلم أن الإسم كُلّ تَجلّ ظهر من غيب الوجود وتَميّز عنه،فهو عَلامة على مُسماه ليُعرف بحسبها.. فالإسم الله هو الظاهر المُتميّز عن الحق باعتبار تَعيّنه في شأن كُلّي.. والملحوظ في التّسمية بالله الوجود مع المرتبة،وبالرحمن الوجود من حيث إنبساطه على العموم..]،[إنها نِسَب وأسماء (الأسماء الحسنى) على حقائق معقولة غير موجودة،فالذات غير مُتكثّرة بها،لأن الشيء لا يتكثّر إلا بالأعيان الوجودية لا بالأحكام والإضافات والنّسب..]،[ففي الإنسان قوة كل موجود في العالَم،فله جميع المراتب،ولهذا أختُصّ وحده بالصورة فجَمع بين الحقائق الإلهية،وهي الأسماء..].. _ المعنى الثالث للإسم الإلهي يتناول مَظهره: فالوجود بأسره مَظهر ومَجلى للأسماء الإلهية. ولذلك نُطلق تجاوزاً على العالَم لفظ الأسماء الإلهية،فالعالَم بأسره هو الأسماء التي أطلقها الله على نفسه. ويذهب إبن عربي إلى أبعد من ذلك: فكل إسم،حتى إسم العبد،هو من الأسماء الإلهية،ولا يُطلق على الكون إلا تَخلّقاً..
يقول إبن عربي: [لما شاء الحق سبحانه،من حيث أسماؤه الحسنى التي لا يبلغها الإحصاء،أن يرى أعيانها ــ أوْجَد العالَم،فكان كمرآة غير مَجلُوّة،فاقتضى الأمر جَلاء مرآة العالَم،فكان آدم عين جلاء تلك المرآة،فظهر جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء في هذه النّشأة الإنسانية]،[فإنه لا يُحمَد ولا يُمجّد إلا بأسمائه،ولا تُعقل مَدلولات أسمائه إلا بنا]،[وإنما وقع التكليف والخطاب من إسم إلهي على إسم إلهي في مَحلّ عبد كِيّاني]،[فالعالَم كله: أسماؤه الحسنى]،[ثم قال الحق لي: لولاك ما ظهرت المقامات ولا ترتّبت المنازل.. فأنت أسمائي ودَليل ذاتي.. من رآك فقد رآني..]..
ننقُل مقطعاً لإبن عربي له أهمية كبيره في موضوعنا،يقول: [نَعتُه (نَعت المُحبّ) بأنه سائر إليه (إلى الله) بأسمائه،وذلك أنه تجلّى له في أسماء الكون وتجلى له في أسمائه الحسنى. فتَخيّل في تجلّيه بأسماء الكون أنه نزول من الحق في حَقه،فلما تَخلّق بأسمائه الحسنى غَلبه ما جَرت عليه طريقة أهل الله من التخلّق. وهو يتخيّل أن أسماء الكون خلقت له لا لله،وأن منزلة الحق فيها بمنزلة العبد في أسمائه الحسنى. فقال: لا أدخل عليه (على الله) إلا بأسمائي (أسماء الكون)،وإذا خرجت إلى خلقه أخرُج إليهم بأسمائه الحسنى تَخلّقاً. فلما دخل عليه بما يظُنّ أنها أسماؤه،وهي أسماء الكون عنده،رأى ما رأته الأنبياء من الآيات في إسرائها ومَعارجها في الآفاق وفي أنفسهم،فرأى أن الكلّ أسماؤه تعالى،وأن العبد لا إسم له،حتى أن إسم العبد ليس له وأنه مُتخلّق به كسائر الأسماء الحسنى. فعَلم أن السّير إليه والدخول عليه والحضور عنده ليس إلا بأسمائه،وأن أسماء الكون أسماؤه.. وهذا مَجلى عزيز،وهذه طريقة أخرى ما رأيتها لأحد من الأولياء ذَوقاً،إلا للأنبياء والرسل خاصة.. وهذا المشهد يُعطي: أن كُلّ إسم للكون فأصله للحق،حقيقة،وهو للخلق لفظاً دون معنى،وهو به مُتخلّق..].
هذا المعنى يؤكّده القيصري بقوله: [وأن الأسماء تنقسم إلى ما له التأثير وإلى ما له التأثّر،فيجعل البعض منها فاعلاً مطلقاً والآخرقابلاً مطلقاً..].
يقول القيصري: [والذات مع صفة معيّنة وإعتبار تَجلّ من تجلياته،تُسمى ب”الإسم”. فإن الرحمن ذات لها الرحمة.. وهذه الأسماء الملفوظة هي أسماء الأسماء. من هنا يُعلم أن المُراد بالإسم عين المُسمى.. وقد يُقال الإسم للصفة،إذ الذات مُشتركة بين الأسماء كلها..]،[إن لكل إسم من الأسماء الإلهية صورة في العلم مُسمّاة ب”الماهية والعين الثابتة”،وأن لكل منها صورة خارجية مُسماة ب(المظاهر والموجودات العينية)،وأن تلك الأسماء أرباب تلك المظاهر وهي مربوبها..]،[.. إن الأعيان الثابتة في العلم،من حيث الباطن،أسماؤه تعالى. والموجودات الخارجية مَظاهرها]،[إن الأسماء الإلهية صور معقولة في علمه تعالى.. وتلك الصور العلمية من،حيث أنها عين الذات المُتجليّة بتعيّن خاص ونسبة معيّنة،هي المُسماة بالأعيان الثابتة.]..
يقول صدر الدين القونوي: [فكل ما ظهر في الوجود وإمتاز من الغيب،على إختلاف أنواع الظهور والإمتياز،فهو إسم.]،[اعلم أن الإسم في التحقيق هو التجلّي المُظهر لعَين الممكن الثابتة في العلم.. فالعين الممكنة التي هي المظهر: إسم للتجلّي المُتعيّن به وفي مرتبته.. والتّسمية عبارة عن نفس دلالة الإسم على الأصل الذي تعيّن منه]..
يقول عفيفي: [وإذا كانت الموجودات مُعتبرة صوراً للذات الواحدة،كما هي صور للأسماء الإلهية: أمكَننا أن نقول أنها هي الذات،أي أنها هي هو،بمعنى أنها مَجالٍ أو مظاهر لوجوده،لا بمعنى أن أي مَجلى منها هو الذات إطلاقاً كما قال المسيحيون في المسيح. وفي الوقت نفسه لا معنى لقولنا إن أي مَجلى من المَجالي هو غير الذات،لأنه لا يوجد غَيْر..]..
_ الإسم الإلهي هو كل مؤثّر في الكون،وكل ما يفتقر إليه الكون.. يقول إبن عربي: [.. فكل ما يُفتقر إليه فهو إسم لله تعالى،إذ لا فقر إلا إليه. فهو تعالى المُسمى بكل إسم لمُسمى في العالَم ممّا له أثر في الكون..].. _ إسم الإسم: هو اللفظ الموضوع للدلالة على الإسم. ويُلاحظ أن الإسم هنا يَقوم مقام المُسمّى،وإسم الإسم هو اللفظ كما تفهم اللغة معنى الإسم الذي يقترب من كلمة لفظ..
يقول إبن عربي: [هذه الأسماء اللفظية والمَرقومة التي عندنا: أسماء تلك الأسماء الإلهية].
يقول القونوي: [فكُل تَميّز وتعدّد،بحيث يُعلم منه حقيقة الأمر المُتميّز بذلك التمييز،فهو إسم،لأنه علامة على الأضل. واللفظ الدّال على المعنى الدّال على الأصل هو إسم الإسم.]..
_ الإسم الأعظم _
يمكن تقسيم معنى الإسم الأعظم عند إبن عربي إلى شقّين: المعنى الأول يُقارب المنقول في الأوساط الصوفية،والمعنى الثاني ينفرد بإبتداعه.
_ الإسم الأعظم بالمعنى الأول: هو الإسم الإلهي المُتمّم أسماء الإحصاء للعدد مائة،وهو يفعل بالخاصية. وبذلك يُغاير الإسم الله الذي يفعل بصدق المُتلفّظ به.. يقول إبن عربي: [ومعلوم عند الخاص والعام أن ثَمّ إسماً عاماً يُسمى الإسم الأعظم،وهو في آية الكرسي وأول سورة آل عمران]،[وجعل الله في كل جنة مائة درجة،بعدد الأسماء الحسنى والإسم الأعظم المَسكوت عنه،وهو الإسم الذي يتميّز به الحق عن العالَم]،[الإسم الأعظم: فإن قلت هو الإسم الله،قلت: لا أدري فإنه يَفعل بالخاصية،وهذه اللفظة (الإسم الله) إنما يفعل بالصّدق إذا كان صفة للمُتلفّظ بها،بخلاف ذلك الإسم]،[وأما تأثير الصدق فمَشهود،وقيل لأبي يزيد: أرنا إسم الله الأعظم،فقال: أسماء الله كلها عظيمة،فما هو إلا الصّدق. أصْدُق وخُذْ أيّ إسم شئت فإنك تفعل به ما شئت.].. ومعنى أن الإسم الأعظم يفعل بالخاصية: أنه في حال تركيب حروفه تنفعل عنه الأشياء التي يتوجّه إليها.. [والجدير بالذكر أن هذا الإسم الأعظم لا يَصل إلى معرفته إلا كبار الأولياء،وإن حَدث أن تَسرّب إلى دَخيل،إستطاع هذا الدّخيل أن يتصرّف بخاصيته كما يُريد،لأن صدق المُتلفّظ به ليس شرطاً لازماً. والحلّ الوحيد لمَنعه من ذلك يكون بسَلبه معرفته،أي بجَعله يَنسى حروف الإسم الأعظم].. _ الإسم الأعظم بالمعنى الثاني: هو عبارة تنقسم إلى كلمتين: إسموأعظم،ويكون المعنى هو أعظم دليل على المُسمّى..
ولما كان كل فرد من أفراد العالَم دليلاً على المُسمّى الذي هو الحق،والإنسان أكمل أفراد العالَم،فهو أكمل دليل.. فالإنسان هو إسم الله الأعظم.. وينفرد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المرتبة الإنسانية،فهو أعظم دليل على الله تعالى..
يقول إبن عربي: [.. وصلى الله على الإسم الأعظم،والرّداء المعلّم،والمُمدّ للهِمَم بالقيل الأقوم،سيدنا محمد الذي فُتِحَ به الكتاب وخُتِم].
يقول القيصري: [إن الحقيقة المحمدية صورة الإسم الجامع الإلهي..]،[وصلى الله على من هو الإسم الأعظم الناطق بلسان مرتبة “أنا سيد ولد آدم”..]..
ويقول الجرجاني: [الحقيقة المحمدية هي الإسم الأعظم]..
_ الإسم الجامع _
المترادفات: الإمام المُقدّم الجامع،جامع الأسماء،دليل الذات.
إن كل إسم من الأسماء الإلهية هو دليل على الذات،ولكن بنسبة معيّنة وحقيقة مميّزة.. ويبرُز الإسم الله جامعاً كل الحقائق الإلهية والأسماء،دالاً على الذات ليس بنسبة معينة أو حقيقة مُنفردة،لذلك يكون الإسم الجامع للأسماء هو الإسم الله.
يقول إبن عربي: [فالإمام المقدّم الجامع: إسمه “الله”،فهو الجامع لمعاني الأسماء كلها،وهو دليل الذات،جامع الأسماء..]،[الله: هو الإسم الجامع،فله معاني جميع الأسماء الإلهية]..
يقول القونوي: [وهذا الإسم (إسم الله) إسم جامع كُلّي،لا يتعيّن له من حيث هو حُكم.. وكل توجّه وسؤال وإلتجاء يُضاف إلى هذا الإسم،فإنه إنما يُضاف إليه بنسبة جُزئية مُقيّدة،بحسب حال المُتوجّه. فإنه إذا قال المريض مثلاً: “يا الله” فإنما يلتجئ إلى هذا الإسم من كونه شافياً..]..
_ أسماء الإحصاء _
أغلب الظن أن المنبع الذي نَهل منه إبن عربي مضمون هذه الكلمة هو الحديث الشريف: “إن لله تسعة وتسعين إسماً،مائة إلا واحداً،من أحصاها دخل الجنة”. ودليلنا لفظ الإحصاء المشترك بينهما.. يقول إبن عربي: [إن الأسماء الحسنى التي تبلغ فوق الإحصاء عدداً،وتنزل دون أسماء الإحصاء سعادة..]. فعندما تكون الأسماء الحسنى هي مظاهرها في الأكوان،يكثُر عددها بتعداد مظاهرها. وهنا تظهر أسماء الإحصاء بمنزلة أمّهات هذه المظاهر التي هي الأسماء الحسنى،وتكون دونها عدداً وأكثر منها سعادة..
فأسماء الإحصاء: هي الأسماء التي وَعد الحق تعالى مُحصيها بدخول الجنة،وعددها تسعة وتسعين إسماً.
يقول القونوي: [ثم إعلم أن الرحمة حقيقة واحدة كُليّة،والتعدّد المنسوب إليها المُشار إليه في الحديث: “إن لله مائة رحمة” راجع إلى مراتبها،وإختصاصها بالمائة إشارة إلى الأسماء الكلية المُحرّض على إحصائها،وهكذا الأمر في الدرجات الجنانية. فما من إسم من أسماء الإحصاء إلا والرحمة فيه حُكم]..
_ إسم ذات ــ إسم مَرتبة _
يقول إبن عربي: [أول الأسماء الإلهية: الواحد الأحد،وهو إسم مُركّب،لا نُريد بذلك إسمين. وإنما كان الواحد الأحد أول الأسماء،لأن الإسم موضوع للدّلالة،وهي العَلَميّة الدّالة على عين الذات،لا من حيث ما يوصف بها كالأسماء الجوامد للأشياء. وليس أخصّ في العلمية من الواحد الأحد،لأنه إسم ذاتي له يُعطيه هذه اللفظ بحُكم المطابقة.. ومدلول الله يطلب العالَم بجميع ما فيه،فهو له كإسم المَلك أوالسّلطان،فهو إسم للمرتبة لا للذات،والأحد إسم ذاتي لا يتوهّم معه دلالة على غير العين. فلهذا لم يصحّ أن يكون الله أول الأسماء،فلم يبق إلا الواحد حيث لا يعقل منه إلا العين من غير تركيب..].
_ الإستواء _
إن الإستواء فعل،والفعل نسبة بين الفاعل والمفعول،أي بين المؤثِّر والمؤثَّر فيه،وهنا بين المُستوي والمُستوى عليه. وتتعدّد الإستواءات بتعدّد المستوين والمُستوى عليهم،وتتنوّع. وبالتالي لا يمكن إعتبار الإستواء،كمصطلح،مُفرد له مضمون ثابت..
ويمكن تقسيم مجموع مُرادفات الإستواء،عند إبن عربي،إلى شقّين: الأول يجنح فيه إبن عربي إلى التأويل وأخذ الآيات العرشية بالمعنى المجازي،مُتابعاً بذلك خط المعتزلة. والثاني ينفرد به الشيخ الأكبر..
1_ الإستواء صفة الحق على العرش،لذلك تقبل التأويل. وقد يُراد بها: الإستقرار أو القصد أو الإستيلاء أو الثّبوت..
2_ الإستواء هو الظهور والتجلّي في المُستوى عليه. فالمُستوي “حَقّ”،والمُستوى عليه “عرش / خَلق”،والإستواء “تجلّي وظهور”..
في كتابه (الإسفار عن نتائج الأسفار) يذكر أنواع الأسفار،ويهُمّنا هنا السّفران الأولان وهما: سَفَر ربّاني من العَماء إلى عرش الإستواء الذي تَسلّمه الإسم الرحمن،سَفر الخلق والأمر،وهو سفر الإبداع.
ونلاحظ من الجو المُكتنف كلمة الإستواء،أنها تعني: ظهوراً وتَجلياً،وخاصة أن هذين السّفرين فقط يُبيّنان مَرحلتي الظهور: فالأول الفيض الأقدس،والثاني الفيض المُقدّس. أما بقية الأسفار فإنها بعد الوجود أو الظهور.
في حين أن إبن عربي ألْغَز وأشار،نجد الجيلي إستفاد من إشاراته ثُمّ أوضح فظهر معنى الإستواء والمُستوى عند الشيخ الأكبر،يقول الجيلي في كتابه (الإنسان الكامل): [وكان الإسم(الرحمن هو الظاهر في الربوبية بجميع مقتضيات الكمال،على نَظر تَمكّنه وإعتبار سَريانه في الموجودات. والإستيلاء حُكمه عليها وهو إستواؤه على العرش،لأن كل موجود يوجد فيه ذات الله سبحانه بحُكم الإستيلاء،فذلك الموجود هو العرش لذلك الوجه الظاهر فيه من ذات الحق تعالى.. وأما إستيلاء الرحمن فتَمكّنه تعالى بالقدرة والعلم والإحاطة من موجوداته،مع وجوده فيها بحُكم الإستواء المُنزّه عن الحُلول والمُماسّة..]،[فكانت الربوبية عَرشاً،أي مَظهراً ظَهر فيها،وبها نَظر الرحمن إلى الموجودات]..
_ الإستواء الإلهي ــ الإستواء الرّحماني _
يقول إبن عربي: [الإستواء الإلهي على العرش الإنساني،وهو بخلاف الإستواء الرحماني. فإن الإستواء الإلهي في نقطة الدائرة،وهو قوله تعالى: “ما وسعني أرضي ولا سملئي،ووسعني قلب عبدي المؤمن”. والإستواء الرحماني مُحيط للدائرة،وهو قوله تعالى (الرحمن على العرش إستوى). فالعرش في الإستواء الرحماني بمنزلة الحق في الإستواء الإنساني،والقلب في الإستواء الإلهي بمنزلة الحق في الإستواء الرحماني..].
1_ الإستواء الإلهي: هو تجلّي الحق على القلب الإنساني،وإتّساع هذا الأخير له.. والتقلّب الذي هو صفة للقلب مَكّنه من الإتّساع للحق،فلا مخلوق يتّسع لتَوالي تجليات الحق سوى هذا القلب الإنساني.
2_ الإستواء الرحماني: هو إستقرار وإستيلاء الحق على العرش. وقد خصّ إبن عربي الإستواء الرحماني بالعرش،لأن العرش هو الموجودات،والرحمن هو مُعطي الوجود للكائنات. إذن يَستوي على الموجودات التي يُمدّها بالوجود.
== حرف الشّين ==
_ المَشيئة _
“المشيئة” تتداخل مع غيرها من المفاهيم،فهي تتداخل مع “الإرادة والأمر والعلم” وغيرهما من النّسب الإلهية..
_ المشيئة والإرادة: التمييز بين المشيئة والإرادة ربما إستفاده إبن عربي من القرآن أو من الحلاج الذي سبقه إلى التمييز بينهما دون أن يوضح مضمونهما. وتتّفق المشيئة والإرادة في: أنهما نِسبتان من النّسب الإلهية: إن وحدة إبن عربي لا تَفسح في مجال الوجود إلا للذات الإلهية ونِسَبها..
_ أنهما صفتا الفعل: ترتبط المشيئة والإرادة إرتباطاً مباشراً بالتّكوين،وما الوجود بأسره إلا مَظهر لهما ومَجلى. وهذا ما يُميّز هاتين النّسبتين عن الأمر الإلهي،فالأمر الإلهي ــ الذي يقسّمه إبن عربي قسمين: تَكليفي وتكويني ــ لا يَنفُذ دائماً،بل تَنفُذ الإرادة والمشيئة.
يقول إبن عربي: [لا يغُرنك قوله: (لو شئنا)،(لو شاء). فإن المشيئة منه لا تتبدّل ولا تتردّد،فقد شاء ما شاء،وهي نافذة. فاثبُت واسكُن تحت مَجاري الأقدار..].
يميّز إبن عربي بين المشيئة الإلهية والقدرة الإلهية:
فالمشيئة الإلهية: تُشبه القانون العام للوجود أو القوة الإلهية التي تقضي بأن يكون كل ما في الوجود،فهي في الحقيقة عَيْن الله أو القوة الخالقة السارية في الوجود بأسره،الظاهرة في صور ما لا يُحصى عدده من مظاهر الكون،أو هي الذات الإلهية نفسها،وهي الوجود.
أما الإرادة: فهي النسبة التي تخُصّ الشيء الموجود،فهي أداة الخلق،أي إظهار أعيان الممكنات الثابتة في العدم.
وهكذا تشمل المشيئة كل الوجود،بينما ينحصر تعلّق الإرادة بالمعدوم. فلا شيء في الوجود يخرج عن سلطان المشيئة،إنها عرش الذات. بينما لا تظهر سُلطة الإرادة إلا في الإيجاد والخلق،بمعنى تخصيص الظهور لبعض الممكنات من عوالم ثبوتها.
_ المشيئة والأمر: يقسم إبن عربي الأمر الإلهي قسمين: تكليفي وتكويني. الأمر التكليفي يتوجه على الفعل عامة،وهو أشبه بقانون عام قد يُنفذه كل فرد وقد لا يُنفذه. أما الأمر التكويني فهو أمر فردي ينفُذ بالضرورة. أما المشيئة الإلهية فليس عندها إلا أمر واحد في الأشياء،يُنفّذ دائماً. فأمر المشيئة هو عين ما هي الأمور عليه،فيكون مُوازياً للأمر التكويني،فالأمر التكويني هو عين المشيئة. أما الأمر التكليفي فأحكامه وتَقاريره فقط من المشيئة.. حُكم المشيئة في الأمر التكليفي نافذ،ولكن ليس على مستوى الفرد الذي لا ينفذ فيه إلا الأمر التكويني،بل على مستوى الأحكام العامة. _ المشيئة والعلم: إن المشيئة في شُمولها للوجود تُغاير الإرادة،وتُلامس بذلك العلم الإلهي،لأن العلم الإلهي يَشمل كل الموجودات ونَراه يَبسط سُلطته على الممكنات..
ولكن ما يُميّز بينهما،إذا إستثنينا صفة الفعل: هو أن المشيئة تابعة للعلم،لأن الحق عز وجل يَشاء الأشياء على ما يعلمها،ويعلمها على ما تُعطيه من ذَواتها،ولا يخفى ما في ذلك من جَبرية أثارت نقد الباحث في إبن عربي..
ولكن يجب أن لا نغفل أننا إزّاء نظرية تَجد وحدة الوجود من البديهيات،فالمعلوم لا يخرج عن كونه مَجلى للعلم ومَظهراً. وهذا العلم نسبة معدومة،موجودة الحُكم،ترجع إلى الذات. فما حَكم على الله إلا الله وحده.فعند الشيخ الأكبر: “العالَم والمَعلوم والعِلم” واحد..
يقول إبن عربي: [فإن قُلت: فما فائدة قوله تعالى: (فلو شاء لهداكم أجمعين)،قُلنا: “لو” حرف إمتناع لإمتناع،فما شاء إلا ما هو الأمر عليه. ولكن عَيْن الممكن قابل للشيء ونَقيضه في حُكم دليل العقل،وأي الحُكمين المعقولين وَقع،ذلك هو الذي كان عليه الممكن في حال ثُبوته. فمشيئته أحديّة التعلّق،وهي نسبة تابع للعلم،والعلم نسبة تابعة للمعلوم،والمعلوم أنت وأحوالك..]،[.. فإنه تعالى لا يشاء إلا ما هي الأمور عليه،لأن الإرادة لا تُخالف العلم،والعلم لا يُخالف المعلوم،والمعلوم ما ظهر ووَقع..]..
__ تعريف المَشيئة: ويمكن الخُلوص ممّا تَقدّم إلى التعريف التالي:
المشيئة: هي نسبة إلهية أحدية التعلّق،تُمثّل القوة الفاعلة السارية في الوجود بأسره،القاضية بأن يكون كل ما في الوجود ــ مما هو بالقوة أو بالفعل ــ على ما هو عليه،وهي الوجود،أو كما يُسميها أبو طالب المكي “عرش الذات”..
إن المشيئة هي عرش الذات من حيث أن المتصوفة،وخاصة أصحاب وحدة الوجود،يَرمزون إلى الوجود بالعرش. فالمشيئة هي النّسبة الإلهية التي إستوت عليها الذات،فأظهرت الوجود بأسره.
_ الشّأن الإلهيّ _
في نصوص يُفسّر إبن عربي الشأن الإلهي بالإسم الإلهي،وفي نصوص أخرى يُشير إلى أن الشؤون الإلهية هي المُمكنات. إذن:
أ_ الشأن الإلهي: التجلّي الإلهي الدّائم بالوجود،فالحق شأنه أن يتجلّى مع الأنفاس في صور الكائنات. وهذا التجلّي مَدارُه الأسماء الإلهية،لأن الحق يتجلى من حيث أسمائه في الوجود. لذلك يُعبّر إبن عربي بالإسم الإلهي عن الشأن الإلهي.
وصورة الشأن الإلهي: هي صورة التجلي الإلهي أو صورة الإسم الإلهي،فتكون بذلك: المُمكن وشُؤونه،لأنه الصورة والمَحلّ الذي يتجلّى فيه الحق بأسمائه.
وهكذا تكون الشؤون الإلهية إحدى وَجهي الحقيقة الواحدة “الوجه الخَلقي” اللذين عَبّر إبن عربي عنهما بالثنائيات: الذات وأسماؤها،الذات وتجلياتها،الذات وشؤونها،الحق والخلق..
ب_ أما شأن الممكن: فهو التغيّر،إذ أن الممكن لا يثبُت على حال واحد نفسين فصاعداً (خلق جديد).. فصورة شأن الممكن: حالُه.
يقول إبن عربي: [فبالتجلي تَغيّر الحال على الأعيان الثابتة،من الثّبوت إلى الوجود،وبه ظهر الإنتقال من حال إلى حال في الموجودات.. فشأنه تعالى التجلي،وشأن الموجودات التّغيير بالإنتقال من حال إلى حال.. (كل يوم هو في شأن) أحوال إلهية في أعيان كيانية بأسماء إلهية نسبية عَيّنتها تغييرات كونية..]،[.. فشؤون الحق هي أحوال المسافرين،يُجدّد خَلقها لهم في كل زمان فرد،فلا يمكن للعالَم إستقرار على حال واحدة وشأن واحد.. فللحق شؤون،ولنا أحوال..]،[وتقلّب العالَم هو عين الآيات،وليست غير شؤون الحق التي هو فيها..]..
عَهدنا إبن عربي يُرجع الحقيقة الوجودية،في أول مرحلة،إلى وَجهين “حق خلق”،ثمّ في مرحلة ثانية يُلغي أحد هذين الوجهين،أو على الأصحّ يُضيفه إلى الأول على إعتبار أنه نسبة مفقودة العَيْن موجودة الحُكم. ونراه يعتمد هذا الأسلوب في الشأن الإلهي،فهو الوجه الثاني للحقيقة الوجودية الواحدة،وهو نسبة مفقودة العين موجودة الحكم،إذن طبيعته خَيال،لأن الخيال لا يُغيّر حقيقة الشيء،بل يُظهره للناظر في صور مُتنوعة.. يقول إبن عربي: [فحُكم الخيال مُستصحب للإنسان،في الآخرة،وللحق. وذلك هو المُعبّر عنهما بالشأن الذي هو فيه الحق من قوله: (كل يوم هو في شأن)،فلم يزل ولا يزال. وإنما سُمي ذلك خَيالاً لأنا نعرف أن ذلك راجع إلى الناظر لا إلى الشيء في نفسه،فالشيء في نفسه ثابت على حقيقته لا يتبدّل،لأن الحقائق لا تتبدّل،ويظهر إلى الناظر في صور متنوعة.. فنقول: قد تغيّر فلان من حال إلى حال ومن صورة إلى صورة،ولولا ما هو الأمر على هذا،لكان إذا تبدّل الحال عليه لم نَعرفه..].
وقد إقتفى الجيلي أثَر الشيخ الأكبر في (الشأن)،يقول: [أيام الحق تجلياته وظهوره بما تقتضيه من أنواع الكمالات،ولكل تجلّ من تجلياته تعالى حُكم إلهي هو المُعبّر عنه بالشأن،ولذلك الحُكم في الوجود أثر لائق بذلك التجلي. فإختلاف الوجود،أعني تغيّره في كل زمان،إنما هو أثر للشأن الإلهي].
_ الشّجرة _
_ لقد إستفاد إبن عربي من صفة التّشاجُر والإرتفاع في الشجرة ليُكنّي بها عن الإنسان الكامل.. فالشجرة بما تتمتّع به من كونها وحدة ذاتية،دَفعته إلى تشبيه الإنسان الكامل بها. فالشجرة هي وحدة متكاملة في نوعها: فيها الجذر والساق والأغصان والأوراق والزّهر والثّمر،بل فيها بَذْر شَجر يتولّد منها. إذن هي كاملة في نوعها النباتي.. يقول إبن عربي: [.. ألا ترى أنه ما وقع التّحجير على آدم إلا في الشجرة،أي لا تقرب التشاجر وإلْزَم طريقة إنسانيتك،ولا تُزاحم أحداً في حقيقته]،[الشجرة: الإنسان الكامل]،[فظهرت هذه الصورة المحمدية والشجرة الإنسانية الجامعة الكُلية،وقال لسان حالها: غَرستني يد الأحد في بُستان الأبد،أنا شجرة النور والكلام وقُرّة عين موسى عليه السلام. لي من الجهات اليَمين الأنفس،ومن الأمكنة الواد المقدّس،ولي من الزمان الآن،ومن المَسالك خَطّ الإستواء وإعتدال الأركان. فأنا الظلّ الممدود وكلمة الوجود،جوامع الكلم،معدن الأسرار والحكم]،[الشجرة هي الإنسان الكامل،مُدبّر هيكل الجسم الكُل. وإنما سُمي بالشجرة لإنبعاث الرّقائق المُنتشرة منه إلى ما في سِعَة الوجوب والإمكان من الأسماء والأجناس. فهو بحقيقته الجامعة ومرتبته الإحاطية: شجرة وَسطية،لا “شَرقية” وُجوبية،ولا “غَربية” إمكانية..].. وفي (لطائف الأعلام) يقول القاشاني: [الشجرة يَعنون بها الإنسان الكامل.. ويُطلقون الشجرة على الأسماء الإلهية لتَشاجُرها وتَقابُلها..]. _ وقد إستخدم الشيخ الأكبر رمز الشجرة للدلالة على الكون،فإذا هو يرى أن الكون كله شجرة..
يقول إبن عربي: [فإني نَظرت إلى الكون وتكوينه،وإلى المَكنون وتَدوينه،فرأيت الكون كله شجرة،وأصل نورها في حَبّة “كُنْ”..]..
_ شَرق ــ غَرب _
إن الحقيقة الوجودية واحدة عند إبن عربي تَظهر بوجهين: الظاهر والباطن..
فما ظَهر من الوجود هو “شرق / ظاهر”،وما بَطُن وخَفي منه فهو “غرب / باطن”..
يقول إبن عربي: [والشروق للظّهور وعالَم المُلك والشهادة،والغُروب للسّتر وعالم الغيب والملكوت]،[(رب المشرق والمغرب): فجاء بما يَظهر ويُستَر،وهو الظاهر والباطن..]،[وهذا البيت المعمور له بابان: يدخل فيه كل يوم سبعون ألف مَلك،يدخلون من الباب الشرقي لأنه باب ظهور الأنوار،ويخرجون من الباب الغربي لأنه باب ستْر الأنوار..]،[الشروق والغروب: وهو الوجدان والفَقْد]..
_ الشّطح _
يَقف المسلم العادي مُتحيّراً أمام جُمَل وكلمات تَصدُر عن بعض الصوفية في حال مُعيّن،كلمات تَفجأ بساطة الإسلام وإطلالته العقلية المقبولة. كلمات حتى الصوفية أنفسهم يتذبذبون: أنَقْبَل أم نرفُض؟
ونرى الطوسي صاحب (اللّمع) يُلخّص مَوقف معظم الصوفية الذين سَبقوا إبن عربي،يقول: [الشّطح معناه: عبارة مُستغربة في وَصف وَجْد فاض بقوّة،وهاجَ بشدّة غَليانه وغَلبته. فالشطح: لفظة مأخوذة من الحركة لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قَويَ وجدهم،فعَبّروا عن وجودهم ذلك بعبارة يَستغرب سامعها: فمَفتون هالك بالإنكار والطّعن عليها إذا سَمعها،وسالِم ناجٍ برَفع الإنكار عنها والبحث عمّا يُشكل عليه منها بالسؤال عمّن يَعلم عِلمها.. ألا ترى أن الماء الكثير إذا جَرى في نهر ضيّق فيَفيض من حافتيه؟ يُقال: شَطح الماء في النهر. فكذلك المُريد الواجد: إذا قَويَ وجْده،ولم يُطق حَمْل ما يَرد على قلبه من سَطوة أنوار حقائقه،سَطع ذلك على لسانه،فيُترجم عنها بعبارة مُستغربة مُشكلة على مفهوم سامعيها،إلا من كان من أهلها..].
فعلى حين يجعل الطوسي الشّطح صفة كمالية للوجدان،ويُدين المُنكر لهذه الأحوال،ويتوسّع في تبيان ما خَفي من معاني الشّطحات.. نَرى إبن عربي يقف في وجه هذا المَدّ الصوفي،الغريق في غَيْبة الوجدان،المُتوحّش في دروب التجربة،ليُعلن عَجز الشطح عن بُلوغ مقام المُحققين.
يقول إبن عربي: [الشطح عبارة عن: كلمة عليها رائحة رُعونة ودَعوى،وهي ناذرة أن توجد من المحققين].
وليس من شرط الدّعوى،الواردة في النص،أن تكون إدّعاء بالباطل،بل قد تكون دَعوى حَقّ. فإبن عربي يُدين هذه الدّعوى ولو كانت دعوى حق..
_ الشّعر ــ الشّعور _
الشعر والشعور عند إبن عربي مرتبة إجمال،في مُقابل البَيان والعلم مرتبة تَفصيل ويَقين. ويُستخدم في الأرجح:
في الخطاب: الشعر إجمال،في مُقابل البَيان تفصيل.
في الفتوح: الشعورإبهام،في مقابل العلم يَقين.
1_ الشعر والبَيان: يقول إبن عربي: [.. (ما عَلّمْناه الشعر): لأن القرآن أرْسِل مُبيّناً مُفصّلاً. والشعر من الشعور،فمَحلّه الإجمال لا التفصيل،وهو خلاف البَيان..]..
2_ الشعور والعلم: يقول إبن عربي: [.. فالشعور مع غَلق الباب،والعلم مع فَتح الباب.. وإنما حظّ الشعور من العلم أن يَعلم أن خلف الباب أمراً ما على الجُملة لا يعلم ما هو..]..
_ شَعائر الله _
شعائر الله هي الدّلائل عليه،الموصلة إليه.
ففي مذهب يرى إبن عربي أن كل موجود في العالَم هو تَجلّ إلهي،وتتحول بالتالي كل عَيْن في العالم إلى كونها من شعائر الله.
ثمّ في مرحلة ثانية نرى إبن عربي يَصطفي الإنسان من جملة العالَم،جاعلاً إيّاه أعظم دليل على الحق (أعظم شعائر الله).
ثمّ في مرحلة ثالثة يتحدّد الإنسان في كونه مَظهراً،لذلك يبقى الحق هو الدّليل على نفسه.
1_ شعائر الله: أعيان العالَم: يقول إبن عربي: [.. فليس في العالَم عَيْن إلا وهو من شَعائر الله،من حيث ما وَضعه الحق دَليلاً عليه..]،[.. شعائر الله أعلامُه،وأعلامه الدّلائل عليه الموصلة إليه..].
2_شعائر الله: الإنسان: يقول إبن عربي: [.. فقد وَصفك بالعظمة ونَدَبك إلى تعظيمه،فقال: (ومن يُعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب)،فأنت أعظم الشعائر..]،[.. [وعَلّمَك (الله) ما لم تكن تَعلم،وكان فضل الله عليك عظيماً. فكان الحق في هذا الموطن من شعائر نَفسكَ،فعرفت نفسك به كما عرفته بنفسك،فتأمّل. فاجتمعنا في الشّعائر،وإفترقنا في السّرائر. فلنا منه التجلّي،وله منّا الضّمائر]..
3_ الله هو الدّليل على نَفسه: يقول إبن عربي: [.. فرأيتم أن الصّفة تَطلُب مَوصوفها،فزِلْتُم أنتم (الإنسان) من كَونكم شَعائر الله،وصار الحق دليلاً على نفسه. إذا كان من المُحال أن يدلّ شيء على شيء دَلالة علم مُحقّق،فلا أدَلّ من الشيء على نفسه،إذا حَدّدت الأمر الظاهر تَرُدّه غامضاً..]..
_ الشّاهد _
الشاهد هو صورة المَشهد التي تبقى في النفس بعد المُشاهدة،وهو الذي يُعطي اللذّة،لذّة المشاهدة،لأن هذه الأخيرة فَناء لا لذّة فيها. والشاهد شرط لازم في صحة المشاهدة،فالمشاهدة التي لا شاهد يَبقى بعدها ليست بصحيحة..
1_ الشاهد: صورة المَشهد: يقول إبن عربي: [.. الشاهد هو بَقاء صورة المُشاهَدْ في نفس المُشاهِدْ.. ولما كان الشاهد حُصول صورة المَشهود في النفس عند الشّهود،فيُعطي خلاف ما تُعطيه الرّؤية..].
2_ الشاهد: لَذّة وعِلم: يقول إبن عربي: [.. شَواهد الحق في القلب من العلوم الإلهية والوَصايا الربانية.. وهذه الشّواهد هي التي تَبقى في قلب العبد بعد الإنفصال من مَقام المُشاهدة،وبه تَقع اللّذّة للعارفين،فيَتردّد الخطاب فيهم،من وجودهم لوجودهم..].
3_ الشاهد يَشهَد على صحّة المُشاهدة: يقول إبن عربي: [.. لتَعلم أن ما من مَشهد إلا وله أثَر يَجده صاحب ذلك المشهد عنده،وذلك الأثَر هو المُعبّر عنه بالمُشاهدة،لأن الفناء عندنا على ضَربين: فما وجدنا بعده الشاهد كان الفناء الصحيح،وما لم يوجد بعده الشاهد سَمّيناه نَومة القلب..].
_ بعد أن فَرّق إبن عربي بين المَشهود والشاهد،نَراه يَعود إلى وحدته الوجودية ليَجمع بينهما في مَقولة إلهية: فلا مَشهود ولا شاهد إلا الله. يقول إبن عربي: [.. فمن أعْرَض عن هذه المَشاهد ولم يُفرّق بين المَشهود والشاهد،فذلك الحائر الخاسر]،[.. [ولنَعلم أن التجلّي الإلهي في أعيان الممكنات أعطى النّعوت،فلا شاهد ولا مشهود إلا الله. فألسنة الشّرائع دَلائل التجليات،والتجليات دلائل الأسماء الإلهية..]. _ الشّهود: هو المُشاهدة نفسها.. يقول إبن عربي: [.. ذلك النور،ولولا ما هي النفوس عليه من الأنوار ما صَحّت المُشاهدة،إذ لا يكون الشّهود إلا بإجتماع النورين. ومن كان له حظّ في النور كيف يَشقى شقاء الأبد،والنور ليس من عالَم الشقاء..]..
_ المُشاهدة _
يتلوّن الفَتح عند الصوفية أشكالاً متنوعة،تختلف درجاتها ووجودها.. فالصوفي في مُجاهداته تَتوالى فُتوحه من: كَشف ومُشاهدة وإلهام وغيره.. والمشاهدة هي إحدى هذه الفُتوح..
_ المُشاهدة والرّؤية: المشاهدة رؤية في الأصل،إلا أنها رؤية يَسبقها علم بالمَرئي. لذلك يَحكُمها الإقرار والنّفي،على حين أن الرّؤية لا إنكار فيها. كما أن الرؤية لا تُفني،بل تُوفّر للرّائي العلم واللّذّة،على عكس المشاهدة / تُفني،لا لَذّة فيها ولا علم. وقد تَرد المشاهدة عند إبن عربي في سيّاق علمي يُفهَم منه أنها سَبيل المعرفة،فليس المقصود هنا المشاهدة بل الشّاهد،كما أن الشّاهد من ناحية أخرى يُشكّل فَرقاً جوهرياً بين الرؤية والمُشاهدة: الرّؤية لا شاهد لها،والمُشاهدة لا قيمة لها دون شاهد.. 1 المشاهدة والرؤية: يقول إبن عربي: [.. ولما كان الشاهد حُصول صورة المشهود في النفس عند الشّهود،فيُعطي خلاف ما تُعطيه الرؤية. فإن الرؤية لا يتقدّمها علم بالمَرئي،والشّهود يتقدّمه علم بالمَشهود وهو المُسمّى بالعقائد،ولهذا يَقع الإقرار والإنكار في الشّهود،ولا يكون في الرؤية إلا الإقرار.. سُميَ شاهداً لأنه يَشهد له ما رآه بصحة ما إعتقده،فكل مُشاهدة رؤية،وما كل رؤية مشاهدة.]..
2_ المشاهدة والفَناء: فلا لَذّة ولا علم: يقول إبن عربي: [.. ولا تغترّ بقول عارف حين قال: “لا يشغله شيء عن ربه،ولا يَشغله ربه عن شيء”،إنما أرادَ قوّة الحُضور لا المشاهدة،فما أشْهَدك قط إلا أفناك وأبقاك له،وما أبقاك لك. فخُذ ما لَك،واترُك ما له..]،[ليس مع المشاهدة فَهم.. الفهم تفتيش،والتّفتيش تَبديد،والتبديد لا يكون إلا في الأسماء والأغيار،كما أن الحَيْرة لا تكون إلا فيمن لا يتكيّف..]..
3_ الشاهد في المُشاهدة: يقول إبن عربي: [كل مُشاهدة لا يشهد شاهدها لا يُعوّل عليها..].
__ المشاهدة والكَشف: تختلف المشاهدة عن الكشف بأنها،في حقيقتها،عبارة عن مَشهد لذوات(روح تَجسّد،أنواع روحانية)،على حين أن الكشف هو رفع الحجاب والإطّلاع على كل ما وراءه من معاني وأسرار. فإن كانت المشاهدة تختص بالذّوات،فالكشف يختص بالمعاني والأسرار. [اعلم أن المكاشفة متعلّقها المعاني،والمشاهدة متعلقها الذوات. فالمشاهدة للمُسمى،والمكاشفة لحُكم الأسماء..].
وتتّفق المشاهدة مع الكشف في أنهما موصلان للمعرفة،المعرفة القابلة للإنكار والإقرار على ضوء العقيدة بخلاف الرّؤية.. [..فالمشاهدة طريق إلى العلم،والكشف غاية ذلك الطريق وهو حصول العلم في النفس. وكذلك إذا خاطَبك فقد أسْمَعك خطابه،وهو شهود سَمعي. فإن المشاهدة أبداً للقوى الحسيّة،لا غير،والكشف للقوى المعنوية..].
والكشف أتَمّ من المشاهدة وأعلى.. [.. والمكاشفة عندنا أتمّ من المشاهدة،إلا لو صَحّت مشاهدة ذات الحق لكانت المشاهدة أتمّ،وهي لا تصحّ،فلذلك قلنا المكاشفة أتمّ لأنها ألْطَف. فالمكاشفة تُلطّف الكَثيف،والمشاهدة تُكثّف اللطيف. فالمكاشفة إدراك معنوي،فهي مختصة بالمعاني..]،[.. المكاشفة ألْطَف من المشاهدة وأتَمّ،ولكل مشاهدة كَشف. فما من مشاهدة إلا وكَشفها أتمّ فيها وألطف. وقد تُكشَف ولا تُشاهد،وقد تُشاهد ولا تُكشف..].
يقول القيصري: [إن الكشف لغة: رفع الحجاب.. وإصطلاحاً: هو الإطّلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية والأمور الحقيقية،وجوداً وشهوداً. وهو: معنوي وصوري،وأعني ب”الصّوري” ما يحصُل في عالَم المثال من طريق الحواس الخمس: وذلك إما أن يكون على طريق المشاهدة كرؤية المُكاشَف صورة الأرواح المتجسّدة والأنواع الروحانية،وإما أن يكون على طريقالسّماع كسماع النبي صلى الله عليه وسلم الوحي النازل عليه كلاماً منظوماً أو مثل صلصلة الجرس.. إذ الشّهود من تجليات الإسم..].
_ مُشاهَدة ثُبوتية _
المشاهدة الثبوتية هي حال الأعيان الثابتة في عالَم الثّبوت،فالأعيان لم تَكتسب الوجود الذّاتي الحقيقي في أي حال من أحوالها،عند إبن عربي،سواء في حالتها الثبوتية أو في حالتها في الوجود الظاهر. فعندما تكون في عالم الثبوت يكون وجودها هو: شُهود ثُبوتي،وليس وجوداً ثبوتياً. كذلك في عالم الوجود الظاهر،فوجودها هو في الحقيقة: شُهود في الوجود،وليس وجوداً.
يقول إبن عربي: [.. فبَقاؤها (أعيان الممكنات) على حالة العدم أحَبّ إليها لو خُيّرَت،فإنها في مُشاهدة ثبوتية حالية،مُلتذّة بإلتذاذ ثُبوتي،مُنعزلة كل حالة عن الحالة الأخرى..]،[.. وأما العارفون المُكمّلون فليس عندهم غُربة أصلاً،وأنهم أعيان ثابتة في أماكنهم لَم يَبرحوا عن وَطنهم. ولما كان الحق مرآة لهم،ظَهرت صورهم فيه ظهور الصور في المرآة. فما هي تلك الصور أعيانهم،لكَونهم يظهرون بحُكم شكل المرآة. ولا تلك الصور عين المرآة،لأن المرآة ما في ذاتها تفصيل ما ظهر منهم وما هُم. فما إغتربوا،وإنما هم أهل شُهود في وجود. وإنما أضيف إليهم الوجود من أجل حدوث الأحكام..].
_ الشّيئيّة _
إن لفظ شيء يُرادف عند إبن عربي مفهوم العَيْن،فكل ما تَعيّن من الوجود وفي الوجود فهو شيء. فهو يُطلق لفظ شيء على “كلما سوى الله”،يقول: [أما نحن فلا نُثبت إطلاق لفظ الشيئية على ذات الحق،لأنها ما وردت ولا خوطبنا بها]..
كما أنه يُطابق العين،من حيث إطلاقه،على الماهية في حال ثُبوتها العلمي،قبل خروجها إلى الوجود العَيني.
فالشّيئية تُطلق على: العين الثابتة (شيئية ثبوت)،وعلى العين الموجودة المتحقّقة في الزمان والمكان (شيئية وجود)..
يقول إبن عربي: [.. فالفكر يقول في بَدء الخَلق: ما ثَمّ شيء،ثُمّ ظهر شيء لا من شيء. والشرح يقول،وهو قول الحق: بل ثَمّ شيء فصارَ كَوناً،وكان غَيباً فصار عَيناً]،[فلا يتّصف الوجود بالعدم،لأن العدم نَفي الشيئية،والشيئية معقولة: وجوداً وثُبوتاً،وما ثَمّ رُتبة ثالثة. فإذا سَمعت نَفي شيئية،فإنما يَنفي النّافي: عن شيئية الثّبوت شَيئية الوجود خاصة. فإن شيئية الثبوت لا تَنفيها شيئية الوجود. فقوله: (ولم تكن شيئاً) هو شيئية الوجود،لأنه جاء بلفظ “تَكُ” وهي حرف وجودي،فنَفاه ب”لَمْ”..]..
== حرف الصّاد ==
_ صاحب الوَقْت _
المُترادفات: شخص الوقت،سيّد الوقت،إمام الوقت،القُطب،الغَوث،صاحب الزمان،عين الزمان،نائب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
عبارة صاحب الوقت مؤلفة من لفظين،يكمُن كل غِناها في اللفظة الثانية “وقت”.. والوقت: هو الحال الحاكم..
_ يرى إبن عربي صاحب الوقت شخصاً مُفرداً مُتعيّناً في المكان والزمان،وهو بهذا المعنى يتّحد بالقطب،من حيث أن هذا الأخير واحد في وَقته وله التحكّم في العالَم بشَرع زمانه.. يقول إبن عربي: [ومنهم (أي خصوص الخصوص) من جُمعت له الحالات وأقيمَ مَقام الشفاعة،فهو: سيّد القوم وصاحب الوقت وخليفة الله في أرضه،ونايب سيد المُرسلين في أمّته،ووارث الإصطفا والإجتبا والخصوصية الآدميّة..]،[فالرجل الذي رأى الحقّ حَقاً فإتّبعه،وحَكَم الهَوى وقَمعه: فذلك سيد الوقت فإقتَد به،وذلك صورة الحق أنشأها الله صورة جسدية بعيدة المَدى لا يبلغ مَداها ولا يخفى طريق هُداها]،[فإذا أعطيَ الإنسان التحكّم في العالَم فهي الخلافة،فإن شاء تَحكّم وظَهر،وإن شاء سَلّم وتَرك التصرّف لربه في عباده،مع التمكّن من ذلك.. فتَلحق الأولياء الأنبياء بالخلافة الخاصة،ولا يَلحقونهم في الرسالة والنبوة فإن بابهما مَسدود..]. وهكذا نرى إبن عربي لم يُغلق أبواب السماءنهائياً في وجه الأرض وسُكانها بإنقطاع النبوة،بل إستبدل بها القطبية والخلافة. فالقطب هو نائب سيدنا محمد،وإن لم يرتفع إلى أفُق نُبوته ورسالته،إلا أن له التحكّم بشريعة سيدنا محمد من خلال زمانه. وهذه نقطة مهمة،ذات فعالية إيجابية بعيدة المَدى،من حيث أنها تُعطي الدين نَبضاً حَياً بتَفاعُله مع زمانه،وبذلك يتفادى إبن عربي جمود الشرائع ومَوتها في قوالب القوانين الثابتة.. _ إن صاحب الوقت بالمعنى الأول إنحصر بقطب الزمان الواحد الذي أعطي التصرّف في العالَم،وهو الخليفة.
ولكن الخلافة بإنقسامها قسمين: خلافة ظاهرة وخلافة باطنة،تشطر مفهوم صاحب الوقت شَطرين:
1_ صاحب الوقت في الباطن: هو القطب المُشار إليه سابقاً،وقد يكون كذلك هو صاحب الوقت في الظاهر،فيجمع بين الخلافتين..
2_ صاحب الوقت في الظاهر: وهو الخليفة الذي له التحكّم في الظاهر (منصب سياسي)..
__ وكما هي عادة إبن عربي في تنقّله بالمصطلح من إسم شخص مُفرد متميّز،إلى إسم يُطلق على كل من تَجلّت فيه صفة خاصة. نراه هنا بعد أن حَدّد صاحب الوقت بشخص القطب،يعود ليُطلقه على صفة. فالوقت: صفة الحُكم.. فكل ما حَكم على الإنسان فهو صاحب الوقت.
يقول إبن عربي: [.. كما أنه لا تكون غَيبة إلا بحضور،فغَيبتك من تَحضُر معه،لقُوّة سُلطان المشاهدة. كما أن سُلطان البقاء يُبقيك،لأنه صاحب الوقت والحكم..]،[.. فأصل الوقت من الكون لا من الحق،فصاحب الوقت هو الكون،فالحُكم حُكم الكون.]..
_ الصّدق _
تَصَدّر الصّدق،في أهميّته وأسبقيّته،أمّهات الأعمال والمَواجيد في السلوك الإسلامي عامة والصوفي خاصة. فلا يكاد نجد صوفياً لم يضعه في إطاره المناسب.
ويكفي للدلالة على مكانته أن الحكيم الترمذي في كتابه (ختم الأولياء)،حَلّل التجربة الصوفية أو الذّوق الصوفي بحسب معيارين: معيار الصدق ومعيار المِنّة. فالحياة الروحية أو النشاط الروحي عنده يتحقّق ويَظهر في مجالين: مجال الصدق،أي المجهود الإنساني البحت. ومجال المِنّة،أي العطاء الإلهي الفائق ونعمته السامية.
وقد سَبق حكيم ترمذ شيخنا الأكبر إلى جعل الصدق باباً للصدّيقية،فالصادق يتحوّل إلى صِدّيق،والصدّيقية مَقام.
يقول إبن عربي: [وأما الخمسة (أي الأعمال) الباطنة،التي تتوجّب على المُريد قبل وجود الشيخ،فهي: الصدق والتوكل والصبر والعزيمة واليقين. فهذه التسعة [أربعة ظاهرة: الجوع والسّهر والصّمت والعُزلة + خمسة باطنة] أمّهات الخير،تتضمّن الخير كُلّه،والطريقة مجموعة فيها،فالزَمها حتى تجد الشيخ].
ويكفي الصدق شرف مكانة،أنه الطريق إلى الصديقية التي عَرّفها إبن عربي بقوله: [نور أخضر بين نورين،يحصُل بذلك النور شُهود عَيْن ما جاء به المُخبر من خَلف حجاب الغيب بنور الكرم.]..
__ يجدُر التنبيه إلى مفهوم مُتفرّع عن الصّدق وتابع له،وهو الإخلاص. فعلى أهمية الإخلاص التي عرفها في التصوف قبل إبن عربي،ظَلّ فرعاً،وهو لا يوجد إلا بعد وجود العمل أو الفعل. فالإخلاص عند إبن عربي هو أشبه بالنيّة،لذلك إرتباطه بالعمل.
يقول إبن عربي: [وهو (أي الإخلاص) من الإستخلاص. فإن الإنسان قد يُخلص نيّته للشيطان،ويُسمى مُخلصاً،فلا يكون في عمله لله شيء. ويقد يُخلص للشّركة (للشريك مع الله)،وقد يُخلص لله. فلهذا قال تعالى: (مُخلصين له الدين) لا لغيره ولا لحُكم الشّركة..]،[.. والإخلاص عين النية.]..
_ الصراط المستقيم _
لقد حافظ إبن عربي على المعنى اللغوي للصراط،بمعنى طريق. ولكن كل عبقريته تجلّت في إضفاء الأسماء والصفات على لفظ صراط: صراط هُدى،صراط الله،صراط الربّ..
أما عبارة الصراط المستقيم فهي تَخسر كل ذاتية لها من حيث أن كل صراط،عند إبن عربي،هو مُستقيم..
_ إن تصوّر إبن عربي للصراط الحِسّي يوم القيامة تَصوّر يُزاوج بين شاعريته وموقفه الفكري،وهو يُسميه صراط هُدى. يقول إبن عربي: [.. واعلم أن الصراط الذي إذا سَلكت عليه،وثَبّتَ الله عليه أقدامك حتى أوصَلك إلى الجنة،هو صراط الهُدى الذي أنشأته لنفسك في دار الدنيا من الأعمال الصالحة،الظاهرة والباطنة. فهو في هذه الدار بحكم المعنى لا يُشاهَد له صورة حسيّة،فيُمدّ لك يوم القيامة جسراً محسوساً على مَتن جهنم،أوله في الموقف وآخره على باب الجنة،تَعرف عندما تُشاهده أنه صَنعَتُك وبناؤك،وتعلم أنه قد كان في الدنيا ممدوداً جسراً على متن جهنم طبيعتك..].. _ الصراط المستقيم عند إبن عربي هو: صراط الله،أي السبيل أو الطريق الموصل إليه..
فكل طريق أو صراط فهو مستقيم في حَق سالكه،وأنها كلها توصل إلى الله،ولذلك تتعدّد الطرق بتعدّد الخلائق..
أ_ صراط الله: هو الصراط المستقيم (الإستقامة المطلقة)،وهو صراط عام تَمشي عليه جميع الأمور فيوصلها إلى الله،يَعُمّ الشّقيّ والسعيد،من حيث نسبته إلى الإسم الجامع الله.. [صراط الله: هو الصراط العام الذي عليه تمشي الأمور فيوصلها إلى الله.. وهو الذي يقول فيه أهل الله: إن الطرق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق..].
ب_ صراط الرب: هو صراط الله،ولكن من حيث إسم من أسمائه تعالى،وهو يطلب المربوب ليجعله مُستقيماً على ضَوء التكليف.. [وأما صراط ربك: فقد أشار إليه تعالى بقوله: (فمن يرد الله أن يعديه يشرح صدره للإسلام) الآية.. وسُمي هذا الصراط صراط الرب لإستدعائه المربوب وجَعله مُستقيماً،فمن خرج عنه فقد إنحرف وخرج عن الإستقامة. وصراط الرب لا يكون إلا مع التكليف،فإذا إرتفع التكليف لم يبق لهذا الصراط عين وجودية،ولهذا يكون المآل إلى الرحمة..]. ويكون ذلك بانتهاء الحياة في هذه الدار الدنيا،فيرتفع أثَر الأسماء الإلهية ويكون المآل إلى الإسم الله أو الرحمن..
ج_ صراط العزيز / صراط التنزيه: يقول إبن عربي: [وأما صراط العزّة وهو قوله تعالى: (إلى صراط العزيز الحميد)،فلا يناله ذَوقاً إلا من نَزّه نفسه أن يكون رَبّاً أو سيّداً،وهذا عزيز،من حيث أنه عين الحق من خَلف حجاب الإسم.. وهذا الصراط العزيز الذي ليس لمخلوق قَدم في العلم به،فإنه صراط الله الذي عليه ينزل إلى خلقنا،وعليه يكون معنا أينما كُنّا.. وهو صراط نُزول لا عُروج لمخلوق فيه،ولو كان لمخلوق فيه سلوك ما كان عزيزاً. وما نَزل إلينا إلا بنا،فالصفة لنا لا له.. فنحن عَيْن ذلك الصراط.. ولما كان الإنسان الكامل صراط العزيز،فالحق سبحانه يختصّ بالنزول فيه..].
فالمخلوقات هي صراط الحق في ظهوره وتَجلّيه. وبما أن الإنسان هو أكمل مجلى ومظهر،وهو المقصود من العالَم،فهو صراط العزيز.
د_ الصراط الخاص / صراط سيدنا محمد: هو شرع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،الجامع لكل الشرائع،وهو القرآن.
يقول إبن عربي: [وأما الصراط الخاص وهو صراط النبي صلى الله عليه وسلم،الذي إختصّ به دون الجماعة،وهو القرآن: حبل الله المتين وشرعه الجامع،وهو قوله: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) يعني هذا الصراط المُضاف إليه..]..
_ الصّلاة _
إن إبن عربي لا يغفل عن وَجهي الصلاة اللذين أثبتهما القرآن: صلاة الحق ــ صلاة الخلق..
صلاة الحق: رحمته لعبده.. وصلاة العبد: مُشاهدته الحق..
يقول إبن عربي: [والصلاة من الله: الرحمة..]،[فقال صلى الله عليه وسلم: “وجعلت قرة عيني في الصلاة” وليس إلا مُشاهدة المحبوب التي تَقرّ بها عين المُحبّ،من الإستقرار.. ولذلك نُهيَ عن الإلتفات في الصلاة،وأن الإلتفات شيء يَختلسه الشيطان من صلاة العبد فيَحرمه مُشاهدة محبوبه..]..
__ لقد شرح إبن عربي صلاة الحق وصلاة الخلق من خلال فكره،بإرجاعهما إلى الفعل: يُصَلّي..
يقول إبن عربي: [فإنه تعالى أمرنا أن نُصلّي له وأخبرنا أنه يُصلّي علينا،فالصلاة منّا ومنه. فإذا كان هو المصلي فإنما يُصلي باسمه الآخر،فيتأخر عن وجود العبد: وهو عين الحق الذي يخلُقه العبد في قلبه بنظره الفكري أو بتقليده،وهو الإله المُعتقد.. فإن المُصلّي هو المُتأخّر عن السابق في الحَلبة. وقوله: (كل قد علم صلاته وتسبيحه) أي رُتبته في التأخر في عبادته ربه..]،[.. فأوجَب الحق على عباده التأخّر عن ربوبيته،فشَرع له (العبد) الصلاة ليُسميه بالمُصلي: وهو المتأخر عن رتبة ربه. ونَسب الصلاة إليه تعالى ليُعلم أن الأمر يُعطي تأخّر العلم الحادث به،عن العلم الحادث بالمخلوق..]..
_ الصّورة _
إستعمل إبن عربي ثلاث عبارات تتضمن لفظ صورة: _ صورة “مُفردة،مُضافة”: بشكل عام،تتّخذ معناها الخاص من إضافتها.
_ صورة الحق: وهي تَرد عنده في أكثر الأحيان مُعرّفة دون إضافة الصورة. _ صورة العالَم.
أ_ صوة / مُفردة،مُضافة: سارَ إبن عربي على الخطّ الأرسطي في التّفريق بين الصورة والهَيولى،أو الجسم والروح في الإنسان الواحد. ولكنه تَوغّل بها ولم يحصرها بالإنسان،بل عمّمها على مستويات الوجود كافة: العالَم،الحق،الخلق،المعاني..،فكانت الصورة: وُجوداً عَينياً للشيء،في مُقابل حقيقته وماهيته. أو مَظهراً له،في مُقابل الباطن.
يقول إبن عربي: [ثمّ أوجد الحق في هذا العَماء جميع صور العالم الذي قال فيه أنه “هالِك”،يعني من حيث الصورة،”إلا وجهه”،يعني إلا حقيقته فإنه غير هالك،فالهاء في “وجهه” تعود على الشيء..]..
ب_ صورة الحق / صورة الحق الظاهر،ظاهر الحق: يقول إبن عربي: [وإنما صَحّت الصورة لآدم لخلقه باليدين،فاجتمع فيه حقائق العالم بأسره،والعالم يطلب الأسماء الإلهية،فقد إجتمع فيه الأسماء الإلهية..]..
ولا يقصد إبن عربي من صورة الحق / صورة الله: الله من حيث ذاته،بل الحق كما هو في الإعتقادات.. يقول: [واعلم أن الله لما خلق آدم على صورته عَلمنا أن الصورة هنا،في الضمير العائد على الله،أنها: صورة الإعتقاد في الله الذي يخلقه الإنسان في نفسه من نظره أو توهّمه..].
ج_ صورة العالم: يقول إبن عربي: [الإنسان الحيوان: خليفة الإنسان الكامل،وهو الصورة الظاهرة التي بها جمع حقائق العالم. والإنسان الكامل هو الذي أضاف إلى جَمعية حقائق العالم،حقائق الحق،التي بها صحّت له الخلافة..].
يتّضح من النص أن صورة العالَم هي مُرادف لمُختصر العالم..
_ صورة الحق: إن صورة الحق ليس ضرورة في صيغة الإنسان الحَديّة،ينالها كل من دخل في نوع الإنسان. بل هي مرتبةوصفة لا يأخذها إلا الكامل من هذا النوع،وعندها يُسمى صاحب الصورة،صاحب العهد. مرتبيتها: التصرّف في المراتب الكونية كلها،لأنها مرتبة الخلافة. صفتها: كاملة جامعة: كاملة من حيث أن كل إنسان ينالها هو عالَم مُستقل،وكل ما عداه هو جزء من العالم. جامعة من حيث أن الإنسان المذكور يجمع في حقيقته كلية حقائق الخلق والحقّ. يقول إبن عربي: [فتَحار فيه (العالَم الإلهي) حَيرتك في الله،فحينئذ تعرف أنه قد حَصّل الصورة وأنه فارَق الإنسان الحيوان. ومتى لم يعرف الإنسان هذا،من نفسه ذوقاً وحالاً وكشفاً وشهوداً،فليس بالإنسان المخلوق على الصورة،الذي له الإمامة في الكون،صاحب العهد: فإن الله لا ينال عهده الظالمون،وليس عهده سوى صورته]. ومعنى أن الإنسان الكامل صورة الحق: أنه،وحده دون سائر المخلوقات،يُمكن أن نُطلق عليه جميع الأسماء الإلهية،ما عدا الوجودالذاتي. فصورة الحق هي مَظهره الصفاتي الأسمائي. يقول إبن عربي: [ولا خَلق الله الإنسان عَبثاً،بل خَلقه ليكون وَحده على صورته. فكل من في العالم جاهل بالكُلّ عالِم بالبعض،إلا الإنسان الكامل وحده فإن الله عَلّمه الأسماء كلها وآتاه جوامع الكلم،فكمُلت صورته،فجمع بين صورة الحق وصورة العالَم،فكان برزخاً بين الحق والعالم،ومرآة منصوبة يرى الحق صورته في مرآة الإنسان.. ومعنى رؤية صورة الحق فيه: إطلاق جميع الأسماء الإلهية عليه. فالإنسان مُتّصف،يُسمى ب”الحي،العالِم،المُريد،السميع،البصير،المُتكلّم،القادر”،وجميع الأسماء الإلهية تحت إحاطة هذه الأسماء السبعة]،[.. ولما كان إستناده (الحادث) إلى ما ظهر عنه لذاته،إقتضى أن يكون على صورته فيما يُنسَب إليه من كل شيء،من إسم وصفة،ما عدا الوجوب الذاتي،فإن ذلك لا يصح في الحادث..].. _ لقد إستعمل إبن عربي جُملة تمثيلات لتفسير نُشوء الكثرة عن الوحدة: “ظلال،مَرايا،صور..”،فكل ما سوى الحق هو صورة له. وتتفاضل الصور نَظراً لإستعداد المَحلّ المَنظور به،من حيث أن كل موجود يظهر بصورة الحق التي تقتضيها عَينه الثابتة.. إذن الصُور هي مبدأ الكثرة والتفاضُل في الوحدة الوجودية..
يقول إبن عربي: [وكل ما سوى الله قد ظهر على صورة موجوده،فما أظهر إلا نفسه،فالعالَم مظهر الحق على الكمال.. ثمّ إن الله إختصر من هذا العالم مُختصراً مجموعاً،يحوي على معانيه كلها من أكمل الوجوه،سَماه آدم،وقال أنه خلقه على صورته..]،[فإن رؤية الشيء نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه في أمر آخر يكون له كالمرآة،فإنه يُظهر له نفسه في صورة يُعطيها المَحلّ المنظور فيه..]،[الشخص وإن كان واحداً فلا تَقُل له ظلّ واحد ولا صورة واحدة.. فعلى عدد ما يُقابله من الأنوار يَظهر للشخص ظلالات،وعلى عدد المرايا تَظهر له صُور. فهو واحد في ذاته مُتكثّر من حيث تَجلّيه في الصور،أو ظلالاته في الأنوار هي المتعدّدة لا هو،وليس الصورة غيره]،[المُتحقّق منّا بالحق تَظهر صورة الحق فيه أكثر ممّا تظهر في غيره،فمنا من يكون الحق سمعه وبصره وجميع قواه..].
يقول الإمام الغزالي،في معنى حديث: “إن الله خلق آدم على صورته”: [الصورة إسم مشترك: قد يُطلق على ترتيب الأشكال،ووَضع بعضها على بعض وإختلاف تركيبها،وهي الصورة المحسوسة. وقد يُطلق على ترتيب المعاني،التي ليست محسوسة،بل للمعاني ترتيب أيضاً وتركيب وتَناسُب،ويُسمى ذلك صورة،فيُقال صورة المسألة كذا وكذا وصورة الواقعة.. والمُراد بالتّسوية في هذه الصورة هي الصورة المعنوية،والإشارة به إلى المُضاهاة.].
== حرف الطّاء ==
_ طريق _
إن لفظ طريق في التصوف يختصر جملة الطريق إلى الله،لذلك كان من الشمول بحيث تندرج تحته التجربة الصوفية بكاملها: إبتداء من تَنبّه القلب من غفلته،مُروراً بمُجاهدة النفس ورياضتها،وُصلولاً إلى النشاط الروحي وتفتّح فعاليته.
ويَخلُق وينمو من داخل هذا النشاط الروحي جُملة مصطلحات تُشكّل مُفردات التصوف العملي..
_ التّسليك: التّسليك هو: العملية التي يتولّى فيها المُرشد أو الشيخ مهمّة تَوصيل الفرد أو المُريد إلى الحضرة الإلهية. والتّسليك،بنظرة أخرى،هو: تربية الإنسان الروحية الذهنية،كما تظهر على مستوى السّلوك النفسي. فالنفس أسهل المَداخل لجُوانية الإنسان،كما أنه من ناحية ثانية،أقرب تعبير عن هذه الجُوانية. لذلك بَرز إهتمام الصوفية بالأحلام والرّؤى كمُؤشرات ومَفاتيح لأعماق النفس،وعلى أساسها يتدرّج التّسليك. والتّسليك،بلغة عصرية،هو: تدريس على المستوى العملي،يتمتّع بكل ما للتّدريس من مناهج وثوابت،لذلك تتعدّد الطرق الصوفية،فكل طريقة لها مناهجها وثوابتها.. ولم يهتمّ الصوفية،قبل القرن السابع الهجري،بتَدوين مُصنفات في السّلوك،بل دَوّنوا في الفكر الصوفي وعاشوا وفقاً للسلوك الصوفي. ولم تتعدّد المؤلفات في التصوف العملي والسّلوك إلا بعد القرن السادس والسابع الهجري،حيث دخل التصوف مرحلة التربية الصوفية ومناهج التّسليك،فكثُر مُريدو الصوفية وقَلّ مُفكروها. _ المُريد ــ المُراد: المُريد إسم فاعل من أراد.. فالوصول إلى معرفة الحق في المنهج الصوفي قائم على سلوك معيّن يَبدأ بالإرادة الذّاتية للفرد الذي يُريد الوصول،مُروراً بتقنية معينة على مستوى الإرادة [تحرير الإرادة من النفس وسُلطانها،بتَسليمها إلى الغير: المجاهدات والرياضات.]،وُصولاً إلى أدب الحضرة الإلهية حيث يُصبح المُريد مُؤهّلاً للتلقّي. وهنا ينتهي عمل الإنسان،إذ يستطيع أن يكتسب الأهلية..
يقول إبن عربي: [المُريد: هو المُتجرّد عن إرادته.. والمُراد: عبارة عن المجذوب عن إرادته،مع تَهيّؤ الأمور له،فجاوَز الرّسوم كلها والمقامات من غير مُكابدة].
_ الرياضة والمُجاهدة: يتّفق الصوفية،في كل نصوصهم،على ضرورة الرياضة والمجاهدة في طريق أهل الله. فهي المدخل الوحيد للتحكّم في النفس الإنسانية والسّيطرة عليها.. فمتى تَحكّم المُريد بنفسه لم يبق فيه من الشهوات ولا من الهوى ما يُثقل عليه قبوله من ربّه،فيَصبر ويَرضى. ولكن متى عَجز عن الرياضة،فإنما يَقبل أحكام الله تعالى مشيئاته على حَدّ الإيمان،على ثِقْل من نفسه،وتَنغيص وتَكدير من عَيشه.. فالرياضة والمجاهدة هما: المدخل الوحيد للوصول إلى نتائج السلوك الصوفي بشقّيه: العلمي والعملي،أي الوصول إلى العلم الصوفي (الشقّ العلمي)،والأحوال والمقامات (الشقّ العملي).. يقول إبن عربي: [ولما رأت عقول أهل الإيمان بالله تعالى أن الله قد طلب منها أن تَعرفه بعد أن عَرفته بأدلّتها النّظرية،عَلمت أن ثَمّ علماً آخر بالله،لا تَصل إليه من طريق الفكر. فاستعملت: “الرياضات والخلوات والمجاهدات،وقطع العلائق،والإنفراد،والجلوس مع الله بتفريغ المحلّ،وتقديس القلب عن شوائب الأفكار”،وإتّخذت هذه الطريقة من الأنبياء والرسل..]،[وذلك هو العلم الشرعي اللدُني،فإنه عن رياضة ومجاهدة..]. ويقول: [الرياضة: رياضة الأدب،وهو الخروج عن طبع النفس،وهي عبارة عن تَهذيب الأخلاق النفسية. والمُجاهدة: حَمل النفس على المَشاقّ البدنية ومُخالفة الهَوى على كل حال..]. ويقول: [ثمّ إن هذه المقامات: منها ما يتّصف به الإنسان في الدنيا والآخرة،ك”المشاهدة والجلال والجمال والأنس والهَيبة والبَسط”.. ومنها ما يتّصف به العبد إلى حين مَوته،ك”الزهد والتوبة والورع والمجاهدة والرياضة والتخلي والتحلي”،على طريق القُربة..]. _ الخوف والرجاء: تتدرج التجربة الصوفية،في مجاهداتها ورياضاتها،بين حَدّين: الخوف والرجاء. وهما مطلوبان لتَكامُلهما،وليس لتقابُلهما. لأن الخوف يُقابله الأمن،والرجاء يُقابله اليأس.. فهي حُدود أربعة: الخوف ــ الأمن / الرجاء ــ اليأس،تتحرّك بين قطبيهما (الخوف والرجاء) نَفس الصوفي. فلا يأخذه حَدّ يَعوق حركة سَيره،بل يظلّ سُلوكه حَيّاً بفضل هذه الحركة.
وقد لا تظهر هذه الحركة في كتابات الصوفية التي غالباً ما تطغى عليها صفة حال قائلها. ففي القرنين الأول والثاني للهجرة ظهر الخوف مُحتلاً مكاناً بارزاً مع الحسن البصري،ثمّ لم تَلبث أن خَفّت حدّته مع تطور التجربة الصوفية إلى الطمأنينة في القرنين الثالث والرابع للهجرة،وإحتلّت ألفاظ المحبة والشّوق نُصوص الصوفية بَدل الخوف. ومع إكتمال التجربة الصوفية في نصوص القرنين الخامس والسادس للهجرة تَوازن الخوف والرجاء جَناحي المُريد،بهما يقطع الطريق إلى الحق،ويُلازمان الإنسان إلى ما بعد الموت،إلى أن يضع أول قدم في الجنة..
_ المراقبة والحياء: نجد الحديث الشريف الذي يأمر بأن: “نعبُد الله كأننا نَراه،فإن لم نكُن نراه فإنه يرانا”: صورة تُفسّر المُراقبة عند الصوفية. فالمراقبة هي علم العبد بإطّلاع الله عليه في جميع أحواله. فحيث أنه علم فقط،فهو دون المشاهدة والمكاشفة.. والمراقبة تورث الحياء،صفة لا بد منها لإستكمال أدب الحضرة الإلهية.. المراقبة تتحدّد بكونها إيمان وعلم،فقط،بإطّلاع الرب على العبد في جميع أحواله،وهي هذا الحُضور الإيماني العلمي مع الحق. أما في المُشاهدة فهو أن يَنكشف له ما كان إيماناً وعلماً في المراقبة.. _ الرضا: لم يختلف الصوفية على ضرورة الرضا وأهميته في السلوك والسّير إلى الله،وإن كان إختلافهم في الجزئيات: هَل الرضا حال أم مقام؟ هل الرضا يَسبق القضاء أم يلحقه؟ هل الرضا يفترض أن يشمل القضاء والمَقضي به معاً؟ وهكذا..
فالرضا يرتبط بالقضاء من ناحية،وطاقة الفرد على الصبر عليه،وبالتالي الرضا به. ومن ناحية ثانية برتبط الرضا بحقيقة وجِدّية الإيمان بالعدل الإلهي..
_ الطيور الأربعة _
يرمز إبن عربي إلى مراتب وجودية أربع بأسماء أربعة من الطيور،ولم يكن رمزه هذا عبث،بل لصفة قاربت بين الطير والمرتبة الوجودية. والطيور الأربعة هي: العنقاء والورقاء والغُراب والعُقاب.
يقول إبن عربي: [.. وسَمّيت هذه الرسالة ب(الإتحاد الكوني في حضرة الإشهاد العيني)،بحُضور الشجرة الإنسانية والطيور الأربعة الروحانية..]،[أين أنت والغَريبة العنقاء،أين أنت والمُطوّقة الوَرقاء،أين أنت والغُراب الحالك،أين أنت والعُقاب المالك..]..
== حرف الظاد ==
_ الظِلّ _
إستعان إبن عربي بصورة الشيء والنور وظِلّه أو ظلاله،المُثلّثة العناصر،ليُفسّر: الخَلق والتكثّر،نَمطية العلاقة بين الحق والخلق،أحدية الفعل.
فالظّلّ لا يتمتّع بمضمون ذاتي عند إبن عربي،وما هو إلا صورة إستعارها ليُقرّب إلى الأذهان فكرته في الوجود الواحد المُتكثّر في المظاهر..
1_ الخلق والتكثّر: الوجود واحد يتكثّر في الصور التي يُعبّر عنها إبن عربي ب”المظاهر،المَجالي،الظّلال”. فالظلّ هو شكل الشيء عند مُقابلته النور.. فالظلّ تَدَنّ في المرتبة الوجودية،وإشارة إلى المرتبة الأدنى دائماً..
يقول إبن عربي: [.. ظلّ الأشخاص أشكالها،فهي أمثالها،وهي ساجدة بسُجود أشخاصها. ولولا النور،الذي هو بإزاء الأشخاص،ما ظهرت الظّلال..]..
2_ نمطية العلاقة بين الحق والخلق: يتصور إبن عربي العلاقة بين الحق والخلق كالعلاقة بين الصورة والأصل. فالصورة لا وجود لها في عَينها،وإنما تكتسب وجودها بوجود الأصل. وهي وإن كانت غير الأصل،إلا أنها موصلة إليه ودالّة عليه.
يقول إبن عربي: [وإنما جعل النهار ظِلاً لليل،لأن الليل هو الأصل. وكذلك الجسم هو الأصل،فإنه بعد التّسوية إنْسَلخ منه النهار عند التفتّح،فكان مُدرجاً فيه من أجل الحجاب،فلما أحسّ بالنفخة الإلهية سارع إليها فظهر ما كان مسلوخاً منه..]،[فإن الظلال لا يكون له عين بعدم النور.]..
3_ الظلال لا تُؤثّر في أحدية الفعل: يوحد إبن عربي الفعل في الكون بأجمعه،ويَنسبه إلى الحق فقط.. وليس أكمل من إستعارة الظلال في التعبير عن تبعية الصورة لفعل الأصل.. [ظِلّك على صورتك،وأنت على الصورة،فأنت ظِلّ. قام الدليل على أن التحريك للحق لا لك،كذلك التحريك لك لا للظلّ.]..
_ الظاهر ــ الباطن _
يُعدّ إبن عربي بحقّ من أبرع من مَشى على دَرب الحَرف بحَدّيه: الظاهر والباطن. يتكلّم بلسان الظاهر صفحات حتى يقول قارئه أنه ظاهري المذهب. ثمّ لا يلبث أن يتوغل في البطون،مُسترسلاً مع غيب صوفيته،حتى نقول أنه باطني المذهب..
يُردّد الحاتمي دائماً أنه محمدي المقام.. ولما كانت رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عامة إلى جميع البرية،عامّتها وخاصتها،كذلك يتوجه إبن عربي في كتاباته إلى العامة والخاصة..
في كتابه (المفردات القرآنية في ضوء التجربة الصوفية)،يُتَرجم الأب نويا التجربة لغة،بل تاريخ التجربة الصوفية،هو في الواقع،تاريخ لغة وتَطورها..
_ نَظر الشيخ الأكبر إلى “الأول والآخر” نَظرة قَبلية بَعدية،خارجة عن طبيعة الموضوع المطروح،فهما لا يدخلان في حَدّه.. على حين أن “الظاهر والباطن” يدخلان في حَدّ الإنسان،وبالتالي نظرة إبن عربي إليهما نَظرة تكوينية. فكل شيء في الوجود له ظاهر وباطن: الحق،الكون،الإنسان،المعاني،الأفعال.. [.. إن الحق وصف نفسه بأنه ظاهر باطن،فأوجد العالَم (عالم غيب وشَهادة): لنُدرك الباطن بغَيبنا،والظاهر بشَهادتنا..]،[فالكُلّ نِعمَته: ظاهرة وباطنة. فظاهرة: ما شوهدَ منها،وباطنة: ما عُلمَ ولم يُشهَد.].. _ الإسم الإلهي الظاهر: هو مَبدأ الصور وأصلها في العالَم. في مُقابل الإسم الباطن: مبدأ المعاني وأصلها. ونُلاحظ ثُنائية الصورة والمعنى.. [الإسم الظاهر الإلهي يُعطي الصُورفي العالَم كُلّه،والباطن يُعطي المَعاني التي تَستُرها الصور الظاهرة..].
ولم يُواظب إبن عربي على مَوقفه بأن الظاهر مبدأ الصور الوجودية،والباطن مبدأ المعاني. بل ها هو هُنا يجعل الظاهر عين الصور الوجودية والباطن المعاني نفسها. [صور العالَم هي ظاهر الحق،إذ هو الظاهر،وهو باطنها،إذ هو الباطن..]،[إن الله هو الظاهر الذي تَشهده العُيون،والباطن الذي تَشهده العقول.]..
يقول إبن عربي: [.. ولهذا الوجود الواحد: ظُهور،وهو العالَم. وبُطون،وهو الأسماء. وبَرزخ جامع فاصل بينهما،يتميّز به الظهور عن البطون،وهو الإنسان الكامل. فالظهور مرآة البطون،والبطون مرآة الظهور،وما كان بينهما فهو مرآة لهما جَمعاً وتفصيلاً..]..
_ هَل يتناقض إبن عربي بجَعله العالَم: حيناً هو الظاهر،وحيناً آخر هو المَظاهر؟ كلاّ،فقد رأينا أن كل شيء في الوجود له ظاهر وباطن. كذلك الإسم الظاهر له ظاهر وباطن: فظاهر الإسم الظاهر هو مَظهره،أي العالَم أو ظاهر الإنسان. وباطن الإسم الظاهر هو حقيقته كإسم إلهي،وهو باطن الإنسان.. _ الظاهر والمَظاهر: لقد مَيّز الشيخ الأكبر بين الظاهر والمظاهر،وبهذا التّفريق خَرج عن الوحدة الوجودية الصّرفة المُطلقة،ليُثبت إثنينية،ولَو إعتبارية،بين الحق والخلق. وهذه الإثنينية لن يلبث أن يُرجعها إلى وحدة حقيقية،لأن الوجه الثاني للحقيقة،أي الخلق،لا يُطلق عليه إسم الوجود إلا مجازاً.
وهذه المظاهر هي الموجودات،وهي سَبب الكَثرة المَشهودة. على حين أن الظاهر في جميع المظاهر هو واحد،وهو الحق..
يقول إبن عربي: [وهو الظاهر في عين كل مظهر من الممكنات.]،[عين الممكنات مَظاهر للحق الظاهر فيها،فلا وجود إلا لله ولا أثر إلا لها. فهي أشبه شيء بالعدد،فإنها معقول لا وجود له،وحُكمه صار ثابتاً في المعدودات..]،[فهو تعالى الظاهر من حيث المظاهر،وهو الباطن من حيث الهوية. فالمظاهر متعددة من حيث أعيانها،لا من حيث الظاهر فيها.. وإن تعدّدت المظاهر فما تعدّد الظاهر..]،[فإنه عين ما ظهر،وليس ما ظهر هو عينه. فإنه الباطن كما هو الظاهر في حال ظهوره..]،[فسبحان من أظهر الأشياء وهو عَينها.]..
== حرف العين ==
_ العَبْد _
_ المقصود من لفظ عبد،عند إبن عربي،لا ينحصر بالإنسان،بل ينسحب على كل مخلوق خَلقه الله: ملائكة،إنسان،حيوان،جماد.. يقول إبن عربي: [وأعني بالعَبد: العالَم كُلّه والإنسان]. _ لفظة عبد هي صفة وليست إسماً.. فالعبد صفة لها مُقومات: “الذُلّ والإفتقار والجَبر والجهل”. وكل هذه الصفات تتلخص في كونها تُشير إلى أحد وَجهي “حق ــ خلق” الحقيقة الوجودية الواحدة.. فكل صفة ذاتية للخَلق هي العبودية من أحد وجوهها..
_ وكما أن العبد ليس إسماً بل صفة.. كذلك نرى إبن عربي يجعله مرتبة،وليس ذاتاً. فالعبد هو مرتبة العبودية،في مقابل الربّ مرتبة الربوبية. وهاتان المرتبتان هما بخلاف كل المراتب،لهما التّقابُل المطلق،فلا يلتقيان أبداً من وجه واحد. مرتبة الربوبية يُميّزها التصرّف والفعل،في مقابل مرتبة العبد التي لها الإنفعال والتأثّر.. كما أن إبن عربي ظَلّ مُنسجماً مع وحدته الوجودية حتى في موقفه من التكليف،فالتكليف لا يدل بالضرورة على ذاتين: ذات مُكلِّفة وذات مُكلَّفة،بل يدل على مرتبتين يكون فيهما المُكلّف “إسماً إلهياً في مَحلّ عبد كياني”.يقول إبن عربي: [وإنما وقع التكليف والخطاب من إسم إلهي على إسم إلهي،في مَحلّ عبد كِيّاني. فسُمي العبد مُكلّفاً،وذلك الخطاب تَكليفاً..]. وحيث أن التكليف قد وَقع من إسم إلهي،فلذلك نجد لكل إسم إلهي عبودية تخُصّه يتعبّد بها مُتعَبّدوه [لكل إسم إلهي عبودية تخُصّه،بها يتعبّد له من يتعبّد من المخلوقين]. يقول إبن عربي: [.. لا جامع بين العبودية والربوبية بوجه من الوجوه،وأنهما أشدّ الأشياء في التقابل..]،[وأعظم المراتب: الألوهية،وأنزل المراتب: العبودية. فما ثَمّ إلا مرتبتان،فما ثَمّ إلا رب وعبد..].. العبد الرب أو الرب في عين عبد: عبارتان تُشير إلى مرتبة التصرّف التي ينالها العبد،وهي مرتبة ربوبية،وربما أنها ليست ذاتية للإنسان،فلا تنفي في إطلاقها عليه صفة العبد عنه،بل تُضاف إلى عبوديته. ولعل مصدر هذه العبارات: عبارة العبد الرباني الواردة في الأثر القائل: [يا عبدي أطعني أجعلك عبداً ربانياً تقول للشيء كُن فيَكون].. فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي له صفة برزخية بين الحق والخلق.. _ ونتساءل الآن: أين الحرية الإنسانية في نظام العبودية السّاري عند إبن عربي في كل ما سوى الله؟.
في الواقع،أن الشيخ الأكبر لا يترُك أمام الإنسان مجال الفعل الحُرّ.. فقد ألزَم الإنسان بنظام جَبري محدّد،أخضَعه فيه للعلم الإلهي المُتمثّل في إستعدادات الممكن الثابتة في عالَمها الخاص. فالإنسان في إفتقار ذاتي أزلي،وهذا الإفتقار هو عبودية / عبودية أزلية.
ولكن: هل يطمع الإنسان في العِتْق؟ وهنا تَكمُن بَراعة الشيخ الأكبر في جَعله العتق من العبودية هو كمال العبودية.. [.. فإذا وقف الممكن مع عَينه كان حُراً لا عبودية فيه،وإذا وقف مع إستعداداته كان عبداً فقيراً. فليس لنا مقام الحرية المطلقة..]،[فالحرية عند القوم: مَن لا يَسترقّه كَوْن إلا الله،فهو حُرّ عن ما سوى الله. فالحرية عبودية مُحقّقة لله،فلا يكون عبداً لغير الله..]..
فالحرية: هي تَحرّر من رِقّ الأكوان والأسباب،وإن كان تَحرّراً شُهودياً لا واقعياً حِسيّاً. إذ لا بد من عبودية الأسباب في هذا العالَم (طعام،شراب..)،فتكون هذه العبودية عن شُهود أنها عبودية للحق من خَلف حجاب السّبب. وتتمثّل تلك الحرية في فَراغ القلب من الأسباب..
فالعتق: عبودية كاملة.. كمال العبودية يُتيح العتق منها،فيخرُج العبد من دائرة الخَلق ليكون حَقاً كله. وذلك مقام قُرب النوافل الذي يتحقّق العبد فيه أن “الحق سَمعه وبَصره وسائر قواه”..
_ عبادة _
جعل إبن عربي العبادة فعلاً مُتبادلاً بين وَجهي الحقيقة الوجودية: الحق والخلق..
1_ عبادة الخلق: إن عبادة الخلق عبادة ذاتية،غير مخلوقة،لأنها عبارة عن إفتقار الممكنات: إفتقار في حال عَدمها (ثُبوتها) إلى مُرجّح،وإفتقار في حال وجودها العَيني إلى مُرجح كذلك لإستمرار هذا الوجود..
2_ عبادة الحق: إن عبادة الحق ليست بوجه من الوجوه كعبادة الخلق،وتَقريباً للأذهان: فكما نُضيف إلى الإنسان وإلى الحق فعل الصلاة،فنقول: إن الله يُصلّي،وإن الإنسان يُصلّي. ولكن الصلاة في هاتَين الحالتين تختلف أصلاً وتفصيلاً. كذلك عبادة الحق وعبادة الخلق تختلفان جملة وتفصيلاً.
فالخلق يَعبُد الحق بمعنى أنه يَفتقر إلى موجده ومُبقيه في الوجود العَيني،أما عبادة الحق فهي إفاضة الوجود على الممكنات. فالباطن يعبُد الظاهر،من حيث أنه يَتوق إلى ظاهره فيُظهره..
يقول إبن عربي: [وأما العبادة فمن حيث هي ذاتية فليست سوى إفتقار الممكن إلى مُرجح..]،[فإن العبادة لا تَصحّ من غير شُهود،وإن صَحّ العمل. فالعمل غير العبادة،فإن العبادة ذاتية للخلق..]..
_ العبادة الذاتية: هي العبادة الفطرية التي يقوم بها المُمكن / العبد،وتتلخّص في: إفتقار الممكن في حال عدمه،ووَعيه لهذا الإفتقار في حال وجوده العيني. _ العبادة الأمرية: وهي العبادة التي يقوم بها الممكن بأمر تكليفي وَضعي،من خلال النبوات والرسالات.
يقول إبن عربي: [.. فإن العبادة الأصلية هي التي تطلبها ذَوات الممكنات بما هي ممكنات. والعبادات الفرعية هي أعمال يفتقر فيها العبد إلى إخبار إلهي من حيث ما يستحقه سيّده وما تقتضيه عبوديته..]،[العبادة الذاتية: هي عبادة سارية في كل ما سوى الله..]..
_ العبودية: هي نسبة إلى صفة الإفتقار والتذلّل الذاتية في العبد. فالعبودية هي نسبة إلى الصفة دون النظر إلى شخص (السيّد)،أو بمعنى آخر: هي نسبة ذاتية بين العبد وصفة العبودية فيه،لا تؤدّي مفهوم العلاقة الكائنة بين موجودين: عبد ــ سيّد. _ العُبودَة: هي نسبة العبودية إلى السيّد الذي هو هنا الله،ولذلك صفة العُبودة للحق أكْمَل.
يقول إبن عربي: [.. والعبودية صفة العبد.. ولهذا يُنسَب عباد الله إلى العُبودة لا إلى العبودية،فهم عَبيد الله من غير نسبة،بخلاف نسبتهم إلى العبودية.. ففَرق بين ما يُنسَب إلى الصفة وبين ما يُضاف إلى الله،والعبودية نسبة إليها والعبودة نسبة إلى السيّد..]..
_ العَدَم _
يُطلق إبن عربي لفظ العدم دون تحديده بإطلاق أو إمكان،ويترك للقارئ أن يفهمه من خلال مضمون النص.
لذلك فالعدم ينقسم إلى قسمين: عَدم إمكاني / عَدم المُمكن،وعدم مطلق / عدم المُحال.
_ العدم الإمكاني: ومُرادفاته: العدم في القِدَم،عدم الممكن،الثّبوت،العدم الثّبوتي. إبن عربي تابَع المعتزلة فيما ذهبوا إليه من أن المَعدوم: شيء وذات وعَيْن،وأن له خصائص وصفات. فالمعدوم عنده عَيْن ثابتة معدومة: ثابتة في وجودها في علم الله القديم،معدومة أي مَسلوب عنها الوجود الخارجي في زمان ومكان. إذن: المعدوم له وجود عقلي مُتميّز في علم الله.. والعدم الإمكاني هو الثّبوت.. يقول إبن عربي: [ذلك أن الموجودات لها أعيان ثابتة في حال إتّصافها بالعدم الذي هو للممكن لا للمُحال..]،[والممكنات في حال عدمها مُهيّأة لقبول الوجود..]،[فمن كان وَطنه العدم في القِدَم،كانت غُربته الوجود]… _ العدم المطلق / عَدم المُحال: هو الشرّ المحض والظلمة المحضة،وهو الباطل في مُقابل الوجود: الخير المحض،النور المحض،الحق.
وهكذا بَدل أن يوضّح إبن عربي مفهوم العدم،يُحيلنا إلى صُور ثلاث: “شَرّ،ظُلمة،باطل”،لنَستنتج من خلالها مَقصده. وكل ما نَصل إليه هو أن العَدم سَلْب،وأن الكَونية السلبيّة هي القاعدة لكل شرّ.
يقول إبن عربي: [إن العدم هو الشرّ المحض،وهو قول المحققين المتقدمين والمتأخرين،ولكن أطلقوا هذا اللفظ ولم يُوضحوا معناه. قال لنا بعض سُفراء الحق (أي: الوارد): إن الخير في الوجود والشر في العدم.. فالحق تعالى له إطلاق الوجود من غير تقييد،وهو الخير المحض الذي لا شَرّ فيه. فيُقابله إطلاق العدم الذي هو الشر المحض الذي لا خير فيه..]،[فإن العدم المُحال ظُلمة،وعدم المُمكن ظلّ لا ظُلمة..]..
__ عَدم العَدم: هو الوُجود لأنه إنتفاء نسبة العدم.. وقد أطلقه إبن عربي على علم الله الذي يَحوي أعيان الممكنات الثابتة والتي عنها وُجد العالَم،فالعالم ظهر من وجود علمي إلى وجود عيني..
_ العَذاب _
_ إستعمل إبن عربي لفظ عذاب مُتتبّعاً المفهوم اللغوي القرآني،في مُقابل النّعيم،وهو غير المُلائم للطّبع،وسَببه التّطهير لأن الحق لم يبتدئ العبد بالعذاب.. [فليس النعيم إلا المُلايم،وليس العذاب إلا غير المُلايم كان ما كان..].. _ إن العذاب والنار وكل مشتقاتهما الموحية بالألَم وجَزاء الآخرة على سوء الأعمال،ليس لها الإستمرارية الزمنية إلى ما لا نهاية مثل النّعيم والجنة. فلا بُدّ أن تنسحب عليها سِعَة الرّحمة فتنقلب نَعيماً: فيَتنعّم أهل النار في النار.. [ولهذا سُمي العذاب عَذاباً لأنه يَعْذُب في حال ما عند قوم ما،لمِزاج يَطلُبه..]..
_ عَذْراء _
العَذراء عند إبن عربي صفة وليست شَخصاً: إنها كل حقيقة عالية لم يكشفها أحد أو كل شخص خَبّأه الحق عن خَلقه وحَجبه عنهم.. [وأما الكبريت الأحمر والإكسير الفعّال المُنزّه عن القافات،والمالك لجميع الصفات،والعَريّ عن جميع الآفات: فهو العروس العذراء،المَخبو عن العين في حجاب الصّون في غيابات الكون،تَجده في الدكان مُضطجعاً تَنوشه الكلاب أو بَهلولاً يُرمى بالحجارة لا يُعبأ به ولا يُنظَر إليه،حَجبه الحق غَيْرة..].
_ الأعراس الإلهية _
_ الأعراس الإلهية: هي التجليات أو الواردات بالحقائق والمعاني،حين تَنزل بقلب العبد. سُميَت الأعراس من التّعريس،وهو نُزول المُسافر في مَنزلة معلومة.. وإلهية: لأن الله هو الذي أسْفَرها وأنزلها.. يقول إبن عربي: [.. وأما الأعراس الإلهية فهي مُشتقة من التّعريس وهو نُزول المُسافر في منزلة معلومة في سَفر. والأسفار: معنوية وحسية. فالسّفر المحسوس معلوم. والسفر المعنوي ما يَظهر للقلب،أبداً على التّتالي والتّتابُع. فإذا مَرّت بهذا القلب عَرَست به فكان منزلاً لتَعريسها.. وإنما نُسبت إلى الله لأن الله هو الذي أسفرها وأظهرها لهذا القلب،وجعله منزلاً لها تعرس فيه..]. _ عَرائس الحق: يخُصّ إبن عربي فئة من الأولياء بعبارة عرائس الحق.. [.. وأما حال الغَيْرة من الحق،وهي ضِنّته بأوليائه،حيث سَترهم عن سائر عباده فحَبّب إليهم السّتر،ووَفّقهم للمعرفة بحُكم المواطن،فإتّصفوا بصفة سيّدهم،فكانوا عنده خَلف حُجُب العَوائد،فهم: ضَنائن الله وعَرائسه..]..
_ عَرش _
يَرد مُفرد عرش عند إبن عربي مُعرّفاً ومُنكراً:
أ_ المُعرّف: هو عرش الرحمن المُشار إليه في الآية: (الرحمن على العرش استوى).. وهو مرتبة وجودية،أول عالَم الخَلق،يتلوها الكُرسي.
ب_ المُنكر: لا يتمتّع بمضمون ذاتي يدل على ذات واحدة متميّزة،بل يأخذ معناه من المُضاف إليه،وله نسبتان:
_ ففي نسبته إلى الأعلى يتحول عرش إلى إسم مَحلّ (مُستوى) للتنزّل والظهور والتجلّي،مثلاً: عرش الفصل والقضاء الذي هو تنزّل إلهي ومَظهر..
_ وفي نسبته إلى الأدنى يتحول عرش إلى صفة تُفيد الهَيمنة والإحاطة والإستيلاء والمُلك،مثلاً: عرش الرحمن،أي العرش مُعرّفاً،يُحيط بكل الموجودات،ولإحاطته أخذ إسم عرش..
يقول إبن سودكين: [الطور السابع طَور خَفاء مطلق وفناء في الفناء،واحدية لا نِسَب ولا إضافة ولا تعيّن،بل التعيّن فيع عين ذاته،ويجوز أن يُقال له طَور عَرشي لأنه مَظهر الرحمن.. الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثمّ استوى على العرش،أي تَجلّى الله تعالى بالقلب المحمدي بالتجليات التامّة..]..
_ عرش الله: يقول إبن عربي: [وكل ما سوى الله عَرش له عُلُو قَدْر ومكانة في قلوب العارفين به،من علماء النظر وغيرهم من العلماء..].. وعرش الله على التخصيص هو الإنسان من حيث كونه مَظهراً للإسم الجامع الله،فهو مُستوى الإسم الجامع.. يقول إبن عربي: [فكان الإنسان عرش الله،أعني بالإنسان هاهُنا الوجود المطلق من حيث إعتبار الصور الإنسانية فيه،والإنسانالكامل والي هذا التأليف ولأجله سَجدت الأكوان..].. _ عرش الحياة: عبادرة يُطلقها إبن عربي على العرش المُشار إليه في الآية: (وكان عرشه على الماء). فهو عرش الهُوية / عَرشه،وهو عرش الحياة لأنه في الماء،والماء أصل الحياة: (وجعلنا من الماء كل شيء حيّ).. [.. عرش الحياة وهو عرش الهوية،هو عرش المَشيئة،وهو مُستوى الذات.. (وكان عرشه على الماء): أي أظهر الحياة فيكم ليَبلوكم..]..
_ عرش الرحمن: هو المشار إليه في الآية: (الرحمن على العرش استوى).. فهو أول شكل قَبلَ الهَباء (الفلك الأول). وهو لأوليّته الشكل المُحيط بكل أشكال الموجودات،إليه تنتهي الأشكال والموجودات المُتشكّلة.. وهو المرتبة الوجودية المُحيطة.. وحيث أنه أول عالَم الخَلق فالكلمة فيه أو الأمر لم ينقسم بعد،وأول إنقسام للأمر الإلهي في الكُرسي موضع القدمين.. _ عرش الروح: مستوى الروح الإنساني ومَحل ظهورها هو : النفس الناطقة.. [.. فسَماها النفس الناطقة وهي عرش الروح،والعقل صورة الإستواء..]..
__ عرش القرآن: هو قلب المؤمن الذي وَسع إستواء الحق..
_ الأعراف _
يتّفق إبن عربي مع المفسرين بوجود الأعراف المنصوص عليه في القرآن،ويجعله الموطن الخامس من مَواطن القيامة السبعة..
أما رجال الأعراف فإنه يستفيد من بَرزخية سور الأعراف بين الجنة والنار بيجعل أهله لا صفة لهم.. [ورجال الأعراف هم رجالالحَدّ،قال تعالى: (وعلى الأعراف رجال)،أهل الشمّ والتّمييز،والسراح عن الأوصاف،فلا صفة لهم]..
_ العصمة _
_ توقّف إبن عربي عند النظرة الكلاسيكية إلى العصمة،ورأى أنه: كمال التوفيق من الله،وضمنها عدّة وجوه: 1 عصمة المَحلّ من إلقاء الشيطان،وهي للأنبياء،والحفظ للأولياء.
2_ عصمة الصورة من أن يتمثّل بها الشيطان،وهي لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقط.
3_ عصمة القلب من خاطر السّوء للأولياء.
4_ عصمة المَحلّ (أي الإنسان) من أن يقوم به ذنب. (نَصّ عليها القرآن في حقّ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم).
قال الله تعالى: (ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر): لم يفهم إبن عربي من هذه الآية وجود ذنب ومغفرته،بل رآى أن هذه الآية تؤكّد عَدم قيام الذّنب. وحتى لا تفقد معناها فَسّرها بالسّتر،أي غَفر: سَتر. فالحق غَفر ما تأخّر من ذنب سيدنا محمد،والمعنى بلغة إبن عربي: أن الحق سَتر سيدنا محمد عن عَين الذّنب فلا يَجده ليَقوم به.
_ بعدما أكّد الشيخ الأكبر فيما تقدّم مُناقضة العصمة للذنب،نجده هنا يُؤالف بينهما. فالعصمة لا تنفي بالضرورة حُدوث الذنب،بل تنفي إستمرار وَصف المُذنب به. فالمعصوم قد يحدُث عنه ذنب،ولكنه ذنب له قابلية المغفرة،بل أكثر من ذلك يحمل في طَيّاته بُذور التبديل إلى حَسنات.. ويُطلق إبن عربي على هذه المعصية إسم المعصية الحيّة،وهي التي لا تحدُث عن غَفلة،بل يُصاحبها حُضوره،ويُفسّر حُدوثها قَدَر المُذنب.. _ يُميّز إبن عربي بين صورة المعصية وحقيقتها: فالمعصوم قد تظهر فيه صورة المعصية،إلا أنه في الواقع لا أثر للمُخالفة فيه. وهذا يعني أن المعصوم هو من تَحقّق بالإفتقار المَحض،فلم يُفارق عَدمه الثّبوتي في وجوده العَيني،بل بَقي مَحلاً تتقلّب فيه الصور دون أن تُؤثّر فيه. فهذا العبد وإن وقع منه معصية فلِقَدَر إستوجبها،فيأتيها عن شُهود وحُضور،لا عن غفلة..
_ العقل الأول _
_ أطلق إبن عربي على أول مخلوق ظهر في الوجود عَشرات الأسماء،منها: العقل الأول.. وهذه الكثرة في الأسماء أضحت من معالم تفكير شيخنا الأكبر البارزة. فبُنيانه الفلسفي قائم على حقيقة واحدة تتعدّد أسماؤها بتعدد وجوهها،دون أن تتعدّد هي في ذاتها. ولكن هذه الكثرة الأسمائية ليست سَفسطة كلامية قَوامُها الترادُف التام الكامل،بل نشأت من إختلاف النظرة إلى هذه الحقيقة،ومن صلة هذه الوجوه بوجوه حقائق أخرى.. فمثلاً: أول مخلوق هو قلم من وجه يُغاير الوجه الذي يُسمى من أجله عقلاً،وهكذا.. [ نُلاحظ أن نصوص تصوف القرون الأولى للهجرة نَبتت في أرض التجربة الصوفية وإزدهرت في ظِلّ المَواجيد،فكانت بالتالي مصطلحاتها لغوية تَكثّفت فيها مَرائي وأبعاد نفسية (المحبة،المَحق) أو ثمرات مُشاهدة وكَشف (لَوامع،بَوارق).. فلا نجد في تلك الفترة المصطلحات الكونية التي ستُغرق كتب الصوفية في مَطلع التصوف الفكري. وبعدما كان تصوف المواجيد يكاد يصل إلى وضع إسم لما يُصادفه،يتدفّق التصوف الفكري سَيلاً من المصطلحات والتّسميات،فيَضع للمُسمى الواحد عَشرات الأسماء. وها هو عبد الحق بن سبعين يُجاري إبن عربي في هذا المضمار،فيُطلق أحياناً على المرتبة الوجودية الواحدة تسميات كثيرة،تختلف في ظاهرها وتتّفق في مدلولها،مثال ذلك: المُبدع الأول أو العقل الكُلّي،يقول: [ العقل الكُلّي هو أول موجود أوْجَده الحق سبحانه،وهو جوهر بَسيط فيه صورة كل شيء. وهو “الكلمة المُردّدة،الفصل المانع،المُحب بذاته،الإنيّة المتعلقة،نَديم الدّهر،والد النفس،المُفارق على الإطلاق،صاحب الوجهين إذا إستفاد أفاد،الإنفصال الصادق،الإنزعاج المُتعدّي،العلم المُتّصل..” إلخ..]..]. أما السبب في إطلاق عبارة العقل الأول على هذه الحقيقة،فمن حيث أنه: أول من عَقِل عن الحق من الأرواح المُهيّمة ــ عَقل نفسه وموجده والعالَم..ــ فإنتقش به،بذلك التجلّي،علم ما يكون إلى يوم القيامة،ففارَق صفة الهَيمان ليَكتسب إسم العقل.. _ إن العقل الأول،وإن كُنا نستطيع أن نُثبت أنه يُرادف الإنسان الكامل بطريق الإستدلال،إلا أنه لم يصل إلى مرتبته [رتّب إبن عربي العالَم،أي المُمكنات،ترتيباً ثلاثياً: على أساس الظهور،المكان الوجودي،المكانة. ]. وذلك أن الإنسان الكامل له الصورة،أي صورة الحق،على حين أن العقل الأول هو جُزء من الصورة..
يقول إبن عربي: [فلما خلق الله الإنسان الكامل أعطاه مرتبة العقل الأول،وعَلّمه ما لم يَعلمه العقل،من الحقيقة الصورية التي هي الوجه الخاص له من جانب الحق،وبها زاد على جميع المخلوقات،وبها كان المقصود من العالَم. فلم تَظهر صورة موجودة إلا بالإنسان،والعقل الأول على عِظَمه جُزء من الصورة..]،[.. أخبر صلى الله عليه وسلم أن: “أول ما خلق الله دُرّة بيضاء” الحديث،فتلك الدّرّة هي العقل الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم: “أول ما خلق الله العقل” الحديث،وذلك العقل هو نور رسول الله الذي أخبر عنه فيما رواه جابر: “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر” الحديث..]..
_ إن عبارة العقل الأول وإن كان إبن عربي يُرجعها إلى مَنشأ سُنّي،فطابعها الأفلوطيني لا يُنكر.. إلا أن فيوضات الواحد عند إبن عربي هي مَظاهر لهذا الواحد وحُجُب،وبذلك لا تنفصل عنه،بل هي وجه ظاهر له.. يقول: [ونسبة الأولية للحق لا تكون إلا في المظاهر،فظهوره في العقل الأول،الذي هو القلم الأعلى،وهو أول ما خلق الله. فهو (الحق) الأول من حيث ذلك المظهر،لأنه أول الموجودات عنه.. فالأول هو الله،والعقل حجاب عليه..].. _ العقل الأول هو مرتبة الفعل،في مُقابل النفس واللوح مرتبة الإنفعال. أو هو مرتبة الذكورة،في مقابل مرتبة الأنوثة..
_ العَماء _
المترادفات: نَفَس الرحمن،الحق المخلوق به،الخيال المطلق،عين البرزخ،مرتبة الإنسان الكامل،حقيقة الحقائق.
يقول إبن عربي: [العماء الذي هو أول ظرف قَبِلَ كَينونة الحق: وَرد في الصحيح أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين كان ربنا قبل أن يخلُق خَلقه؟،قال: “كان في عَماء،ما فوقه هواء وما تحته هواء”. وإنما قال هذا من أجل أن العماء عند العرب: هو السحاب الرقيق الذي تحته هواء وفوقه هواء،فلما سمّاه بالعماء أزالَ ما يَسبق إلى فَهم العرب من ذلك..].
يقول القيصري: [.. حقيقة الوجود إذا أخذت بشَرط أن لا يكون معها شيء،فهي المُسماة عند القوم ب: المرتبة الأحدية المُستَهلكة جميع الأسماء والصفات فيها،وتُسمى: جمع الجمع،حقيقة الحقائق،العَماء..].
والشهرورزي يَرى في (تنبيه العقول) أن: [العماء هو: ظاهر الحق،الخيال المطلق،صورة النفس الرحماني..].
ويقول النابلسي: [العماء كناية عن حضرة علم الله تعالى..].
أما الجيلي فيُفرد للعَماء الباب التاسع من (الإنسان الكامل)،حيث يشرحه قائلاً: [إن العماء عبارة عن حقيقة الحقائق التي لا تتّصف بالحَقيّة ولا بالخَلقية،فهي ذات محض،لأنها لا تُضاف إلى مرتبة،لا حقية ولا خلقية. فلا تقتضي،لعَدم الإضافة،وَصفاً ولا إسماً. هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “ما فوقه هواء ولا تحته هواء” يعني: لا حَقّ ولا خَلق،فصار العماء مُقابلاً للأحدية..].
والقاشاني في (لطائف الأعلام) يقول: [العماء هو الحضرة العمائية التي عُرفت بأنها هي النفس الرحماني والتعين الثاني،وأنها هي البرزخية الحايلة بكثرتها النّسبية بين الوحدة والكثرة الحقيقيتين.. وأنها مَحلّ تفصيل الحقائق التي كانت في المرتبة الأولى شؤوناً مُجملة في الوحدة. فسُميت بهذا الإعتبار بالعماء وهو الغَيْم الرقيق،وذلك لكون هذه الحضرة برزخاً حايلاً بين إضافة ما في هذه الحضرة من الحقائق إلى الحق وإلى الخلق،كما يحول الغيم الرقيق بين الناظر وبين نور الشمس..].
_ سَبب تَسمية العماء بإسم نَفس الرحمن: كان الحق كَنزاً مَخفياً لم يُعرَف،أحَبّ أن يُعرف،فبهذا الحُب وَقع التنفّس وظَهر نَفس الرحمن. فكان صورته العماء من حيث أن العماء،الذي هو السّحاب،يتولّد من الأبخرة،ونَفس الرحمن بُخار رحماني. فأول صورة قَبلها النّفَس هي العماء،بل العماء هو عَيْن النفس الرحماني. ومن العماء،وفيه،ظهر كل ما سوى الله،من حيث أن المخلوقات كلمات الله،فتَظهر كظهور الكلمة في نَفَس المُتكلم.. _ العماء هو الحق المخلوق به: من حيث أن العماء هو صورة تنفّس الحق (تنفّس الحق حَقّ)،ومن حيث أن العماء جوهر العالَم الذي قَبل صُوَرها جميعاً..
يقول إبن عربي: [فكان العماء المُسمى بالحق المخلوق به،فكان ذلك العماء جوهر العالم فقَبل صور العالم وأرواحه وطبائعه كلها،وهو قابل إلى ما لا يتناهى.. فالعماء تَنفّسه (الحق) والصور المُعبّر عنها بالعالَم من كلمة “كُن”..]..
_ العماء هو عالَم الثّبوت بالنسبة للممكنات جميعاً،إذ فيه تَثبُت صور الموجودات كُلها،وثُبوت صور الممكنات فيه أعطاه الوجود العَيني.. ومن هذه الحيثية،أي كَون العماء: ثبوت بالنسبة للممكنات،ذَهب البعض إلى أن العماء هو علم الحق.. يقول إبن عربي: [فلمّا سَمعنا (الممكنات) كَلامه (كلام الحق: كُن)،ونحن ثابتون في جوهر العماء،لم نتمكّن أن نتوقّف عن الوجود. فكُنا صُوراً في جوهر العماء،فأعطينا بظهورها في العماء الوجود للعماء،بعدما كان معقول الوجود حَصل له الوجود العيني].. _ يتميّز العماء بالنقاط التالية:
1_ أنه أصل العالَم،إذ عنه ظَهر.. 2_ أنه عالَم الثّبوت بالنسبة للممكنات.. 3_ أنه يكون في القديم قديماً وفي المُحدَث مُحدثاً..
__ إن العماء هو الخيال المطلق: وذلك لإتّساعه لصُور الكائنات كلها..
العماء هو أوّل كَينونة وأيْنيّة للحق،وأوّل مَظهر إلهي ظَهر،ومنه ظهر كل ما سوى الله،وهو مُستوى الإسم الربّ..
_ العَنْقاء _
إستفاد إبن عربي من فُقدان وجود العنقاء الحِسّي،ليُطلقه على الهَباء الذي لا وجود لعَينه.. [فإن قُلت: وما العنقاء؟ قُلنا: الهباء،لا موجود ولا معدوم،على أنها تتمثّل في الواقعة..]..
_ عَيْن ثابتة _
المُترادفات: المُمكن،المَعدوم.
يُطلق إبن عربي لفظ المُمكن على معنى مُغاير لمفهوم الفلاسفة. فالمُمكن عنده واجب الوجود بغيره،فالإمكان ليس له صفة إختيارية،بل هو واجب..
_ إبن عربي أول مفكر إسلامي طَرح عبارة عين ثابتة الإصطلاحية،وإن كان قد إستقاها من مصادر شتّى: فلسفية (أفلاطون،أرسطو،إبن سينا)،وكلامية (المعتزلة). ووَسمها بصبغته الشخصية ذات الفعالية الموحدة. يقصد إبن عربي بالعَيْن: الحقيقة والذات / الماهية. ويقصد بالثّبوت هنا: الوجود العقلي أو الذهني،في مُقابل الوجود الذي يُقصد به التحقّق خارج الذهن في الزمان والمكان.. ظهر في الفكر الإسلامي،تحت تأثير الفلسفة الأرسطية،هذا التفريق بين الماهية والوجود،أي: بين الشيء من حيث هو حقيقة معقولة يُمكن أن تتحقّق في الخارج ويُمكن أن لا تتحقق،وبين الشيء من حيث وجوده في العالَم الخارجي.. ماهية الشيء غَير وُجوده.. فعندما يتكلّم إبن عربي على الأعيان الثابتة إنما يُقرّر وجود عالَم معقول توجد فيه حقائق الأشياء أو أعيانها المعقولة،إلى جانب العالَم الخارجي المحسوس الذي توجد فيه أشخاص الموجودات.. وهذه الأعيان الثابتة في وجودها العقلي،المَسلوب عنه صفة الوجود الخارجي،كثيراً ما يَصفها إبن عربي بالمعدومات أو بالأمور العَدمية. _ الوجود والعدم الثّبوتي نسبتان وإضافتان تُطلقان على العَيْن،وليستا صفتين ترجعان إلى الموجود،فالثّبوت أمر وجودي عَقلي لا عَيني.. [فما من صورة موجودة إلا والعَيْن الثابتة عَينُها،والوجود كالثوب عليها..]،[والثّبوت أمر وُجودي عَقلي لا عَيني،بل نسبي..]..
__ تُشكّل الأعيان الثابتة: مرتبة بين الحق في غَيبه المطلق وبين العالَم المحسوس: فهي من ناحية أوّل تَنزّل من تنزّلات الحق من مرتبة بُطونه،إنها الفيض الأقدس الذي يُمثل ظهور الحق بنفسه لنفسه في صور الأعيان الثابتة. وهي من ناحية ثانية المِثال الثابت في علم الله،المعدوم في العالَم الخارجي،والذي له الأثر في كل موجود،بل هو أصل الموجودات.. [.. فقد ثَبت كَونه (الحق) مُخترعاً لنا بالفعل،لا أنه إخترع مِثالنا في نفسه الذي هو صورة علمه بنا. إذ كان وجودنا على حَدّ ما كُنا في علمه،ولو لم يكن كذلك لخَرجنا إلى الوجود على حدّ ما لم يعلمه.. وقد دَلّ البُرهان على وجودنا من عدم،وعلى أنه عَلمنا وأراد وُجودنا،وأوجدنا على الصورة الثابتة في علمه بنا،ونحن معدومون في أعياننا. فلا إختراع في المثال،فلم يبق إلا الإختراع في الفعل،وهو صحيح لعَدم المثال الموجود في العين..]..
فالأعيان الثابتة رغم ظهورها في الوجود الخارجي لم تُفارق إمكانها،فهي رغم كَونها أزلية من حيث ثبوتها في علم الله ما شَمّت رائحة الوجود..
يرى إبن عربي أن الأعيان الثابتة أزليّة قديمة،لأنها موجودة منذ الأزل في العلم الإلهي.. فالعالَم عنده قديم حادث: قديم في ثُبوته،حادث في وُجوده.. فعالَم الثبوت هو العلم الإلهي / الحضرة العلمية،التي ظهر عنها كل موجود في العالَم. وهو عالَم بسيط مُفرد،يحوي كل موجود: “كُلّي،معنوي،عقلي،جُزئي” ظَهر في عالمنا المحسوس..
إن العالَم الحِسّي الذي يُمثّل تنزّلاً ثانياً من تنزلات الحق في طريق ظهوره (فيض مُقدّس) لا يُلغي بوجوده عالَم الأعيان الثابتة.. فإبن عربي إحتفظ في تركيبه الميتافيزيقي للعالَم بعالَمين مُتوازيين،حتى في الجزئيات: أحدهما عالم الثبوت الأصل في كل ما يَظهر في الآخر العالَم المحسوس.. فالعبد له وجود في هذا العالم المحسوس،وله ثُبوت في عالم الأعيان الثابتة،في آن واحد،وإن كان لا يُحس ثبوت عينه.. فالحق يتجلّى،على الدوام ومع الأنفاس،في صور الأعيان الثابتة (فيض أقدس) وفي صور الأعيان الموجودة (فيض مُقدّس)..
== حرف الغين ==
_ الغُراب _
إن دَفْق شعرية إبن عربي تتسرّب إلى كل الأشياء: غَيْم،نَجم،شجر،طير،حيوان.. وتَقتبسها وتستعملها ككِنايات.. ولكن هذه الكنايات لم يتخذها إعتباطاً ولا إصطلاحاً محضاً،بل جَرّد هذه الأشياء من كينونتها وجَعلها صفات..
فالغُراب لم يعُد طائراً،بل إشارة إلى السّواد والغُربة.. ومن ناحية ثانية: يتميّز الجسم الكُلّ في فلسفته بهاتين الصفتين،فالغُراب كناية عن الجسم الكُل. يقول إبن عربي: [الغُراب: الجسم الكُل.]..
يقول الجرجاني في تعريفاته: [الجسم الكل: هو أول صورة قَبله الجوهر الهَبائي،وبه عَمّ الخَلاء. وهو إمتداد مُتوهّم من غير جسم،وحيث قَبل الجسم الكل من الأشكال الإستدارة عَلم أن الخلاء مُستدير. ولما كان هذا الجسم أصل الصور الجسمية الغالب عليها غَسق الإمكان وسَواده،فكان في غاية البُعد عن عالَم القُدس وحضرة الأحدية،يُسمى بالغُراب الذي هو مثل في البُعد والسواد].
وفي (لطائف الأعلام) يقول القاشاني: [الغراب هو الجسم الكُلّي،يُسمى بذلك إشتقاقاً من الغُربة،فإنه موضع غُربة النفوس عن عالَمها القُدسي. والغراب مشهور بالبُعد والغُربة،وهو يَنْعق بين ورق الحمام وهي النّفوس.].
ويقول الكمشخانوي في (جامع الأصول): [الغراب: هو كناية عن الجسم الكُلّي،لكَونه في غاية البُعد من عالم القدس والحضرة الأحدية،ولخُلوّه عن الإدراك والنورانية. سُمي بالغراب الذي هو مثل في البُعد والسواد]..
_ الغَيبة _
_ يستعمل إبن عربي مُفرد الغيبة بالمضمون الذي سبقه إليه الصوفية،أي: غَيبة القلب عن علم ما يَجري من أحوال الخَلق،لإشتغال الحِسّ بما وَرد عليه،ثمّ قد يَغيب عن إحساسه بنفسه وغيره بوارد قويّ.. وهو من الأحوال. يقول إبن عربي: [ومنهم (الرجال) من يُنَفِّس الرحمن عنه ذلك الضّيق بمُشاهدته عالَم الخيال،يَستصحبه ذلك دائماً،ولا تكليف عليه ما دام في تلك الحال (الغيبة): بغَيبته عن إحساسه في الشّاهد..].. _ الغيبة من المُفردات التي تُشكّل حَداً في علاقة جدلية مع مُفرد آخر وهو الحُضور.. الغيبة والحُضور كالفناء والبقاء تماماً،معنيان مُتضايفان،إذ كلما كانت الغَيبة كُلية كان الحُضور كُلياً،كلما غاب العبد عن الخَلق كلما حَضر مع الحق..
يقول الكمشخانوي: [الغَيبة: هي غَيبة السّالك عن رُسوم العلم لقُوة نور الكَشف. وصورتها في البدايات: الغيبة عن رسوم العادات،وفي الأبواب: الغيبة عن تَمتّعات الدنيا ولَذّاتها،والمَيل إلى زخارفها ومُشتهياتها،وفي المعاملات: الغيبة عن الخلق وأفعالهم والنّظر إلى أمورهم وأقوالهم،وفي الأخلاق: الغيبة عن النفس وأهوائها،وعن صفاتها ودَواعيها وآرائها،وفي الأصول: الغيبة عن القصد عن سوى المقصود،وقَصر الهِمّة في السّير على سَمْت الوِرْد المورود،وفي الأدوية: الغيبة عن ظلمات وألَم النفس بالإستغراق في نور القُدس،وفي الأحوال: الغيبة عما يجول بينه وبين المحبوب في تباريق تَجلّي المطلوب،ودرجتها في الحقائق: الغيبة عن الأكوان والإمكان بشُهود نور الأزل بالعيّان،وفي النهايات: الغيبة عن الغيبة لسُقوط التنويه من الحضرة..]..
== حرف الفاء ==
_ فَتْح _
نَظر إبن عربي إلى الفتح نَظرتين:
1_ نظرة عرفانية: لم يتخطّ بها أفُق من سَبقه من المتصوفين،وكانت عباراته فيها مستمدة منهم: فتح حَلاوة،فتح عبارة،فتح مُكاشفة.. وهذا الفتح هو إنساني علمي،إنه فتح عرفان.
2_ نظرة إيجادية: تُذكّرنا بالتجلّي الوجودي عنده،وهي نظرة خاصة،شديدة اللّصوق بمذهبه في التجليات والفيوضات. لذلك جاءت عباراته فيها إصطلاحية خاصة: المفاتح الأول،المفاتح الثواني،مفاتح الأسباب.. وهذا الفتح هو إلهي إيجادي لا قَدم لمخلوق فيه،إنه فتح خَلق وإيجاد..
_ الفتح الإيجادي: لقد إستعمل إبن عربي صورة تمثيلية قَوامها: الفاتح،المفتاح،الفتح،المَفتوح،وذلك ضرب تشبيه لعملية الخلق كما يُصورها مذهبه في التجليات.. الفاتح: الله دائماً.. المفتاح: يتغيّر بتغيّر المَفتوح،ولا يفتح إلا ما إختصّ به فقط: المفاتح الأول،المفاتح الثواني،مفاتح الأسباب.. الفتح: حركة إلهية،هي حركة المفتاح عند الفتح. وهو حال تعلّق التكوين بالأشياء،إنه فعل خَلق،ومن هنا إختصاصه بالله فقط: (لا يعلمها إلا هو).. المفتوح: الغَيْب. ولكن الغيب عبارة عن باب أو ستر ليس هو المقصود بالفتح،بل المقصود ما وراءه،أي المَغيب. فالفتح يَسعى إلى إظهار المَغيب وإن كان مُتعلّق المفتاح هو الباب.. بالنسبة لأنواع المفاتح كما يُقرّرها إبن عربي: فالوجود المطلق تدرّج في تعيّناته من الوحدة المطلقة إلى الكثرة الوجودية،تدرجاً إقتضاه المنطق الوجودي لا الواقع المَوجود،فكان: الفيض الأقدس،ثمّ الفيض المقدس. أ الفيض الأقدس: هو تجلّي الذات الأحدية لنفسها في الصور المعقولة للكائنات،أي في القوابل / الأعيان الثابتة. وهذا الفيض هو في الواقع فتح،فهو أول فتح،من حيث أنه أول فيض وأول تجلّ،وبالتالي مَفاتحه هي المفاتح الأول ولا يعلمها إلا الحق لأنها في وَحدانيته حيث لا قَدم لمخلوق،وهي أسماؤه الذاتية.
يقول إبن عربي: [إن الأسماء الحسنى التي تبلغ فوق أسماء الإحصاء عدداً،وتنزل دون أسماء الإحصاء سعادة،هي المؤثرة في هذا العالَم،وهي المفاتح الأول التي لا يعلمها إلا هو.]..
يقول القيصري: [إن حضرة الأسماء أعلى الحضرات وأقدمها،وأعالي هذه الحضرة هي أمهات الأسماء الإلهية التي هي: الحياة والعلم والإرادة والقدرة والقول والجود والإحسان،وهذه كالظلالات والسّدَنة للأسماء الذاتية التي هي المفاتح الأول،وهي الحقائق الكلية التي ليس فوقها إلا الحقيقة المطلقة والهوية الكبرى وهي أحدية جمع تلك الحقائق.].
يقول الجيلي: [مفاتيح غيب الغيب: هي أمهات الأسماء دائمة الصفات،وهذه الأسماء هي التي يُسميها الإمام إبن عربي بالمفاتيح الأول.].
يقول القاشاني: [المفاتح الأول: هي مفاتح الغيب،أي: هي معاني أصول الأسماء،أو هي باطن أصول أئمة الأسماء أي الأسماء الأول الذاتية،التي هي عين التجلّي الأول: تجلي الحق لنفسه بنفسه لنفسه،وراء عالم المعاني أو الصور. وسُميت هذه المفاتح الأول باعتبار كينونتها في وحدانية الحق..].
ب_ الفيض المُقدّس: هو تجلّي الحق في صور الكثرة الوجودية،أو هو ظهور الأعيان الثابتة التي كانت نتيجة أول فتح،في العالَم المحسوس،بعدما كانت معقولة. وهذا الفيض هو فتح لغَيب،ومفاتحه هي المفاتح الثّواني من حيث أنه ثاني فتح. وهذه المفاتح هي: الأسماء الإلهية التي أظهرت الوجود من عقلي إلى عَيني،وهي المُؤثّرة في الكون،ولذلك يُسميها إبن عربي ب”مفاتيح غيب الإيجاد العيني”..
يقول إبن عربي: [واعلم أن المفاتيح الأول لا يعلمها إلا هو،وأما المفاتيح الثواني فمعلومة لنا،وهي أسماؤه،وبها فتح غيوب الممكنات فظهرت في أعيانها بعدما كانت غيباً عدمياً.]،[فكان أول خَلق خَلقه الله من النفس الرحماني،الذي هو العماء القابل لفَتح صور العالَم فيه: العقل وهو القلم، ثم النفس وهو اللوح..].
يقول الجيلي: [مفاتيح الغيب هي الأسماء التي أظهرت صور الكائنات من الغيب إلى الشهادة،وهي أسماء الأفعال،ويُسميها الشيخ الأكبر المفاتيح الثواني.].
_ الفتح العرفاني: الخَلق عند إبن عربي هو سلسلة من الفتوحات أو التجليات.. وبما أن الإنسان هو آخرها،نَراها تَنقلب عنده ومعه من فتح إيجادي إلى فتح عرفاني،وينقلب الغيب مفتاحاً والمفتاح غيباً. فكل فتح يتنزّل من الحق إلى الإنسان: فتح إيجادي،وكل فتح يعرج به الإنسان إلى الحق: فتح عرفاني.. يقول إبن عربي: [ونَزلت (وما نَزل) من المفاتيح عن هذه المفاتيح الثواني،درجة بعد درجة،فهو مفاتيح الأسباب،وما أشبه ذلك،إلى آخر سبب. فهذه تُسمى: مفاتيح غيب الإيجاد العيني. ثمّ ينعكس الأمر بعد الوجود،فإن آخر موجود الإنسان،وهو الذي يعكس فيَرُدّ الغيب مفتاحاً والمفتاح غيباً.. فهذه تُسمى: مفاتيح غيب الوجود العرفاني عند الصوفية،ومفاتيح الوجود العلمي والوجودي عند المحققين].. أما مفاتح الغيب العرفاني فهي إستعدادات القوابل: [وأما مفاتح الغيب فلا تُعلَم إلا بإعلام الله.. واعلم أن الإعلام أظهر لنا أن الإستعدادات من القوابل هي مفاتح الغيب،لأنه ما ثَمّ إلا وَهْب مطلق عام وفَيْض جود. ما ثَمّ غيب في نفس الأمر ولا شهود،بل معلومات لا نهاية لها. فالمفتاح: إستعدادك للتعلّم وقبول العلم. والفتح: التعليم. والفتوح: الباب الذي كُنت واقفاً معه.. فالإستعداد غير مُكتسب،بل هو منحة إلهية،فلهذا لا يعلمه إلا الله. فيُعلَم أن ثَمّ مفاتح غيب،لكن لا يُعلم ما هو مفتاح غيب خاص في مفرد من الغيب. فإذا حَصل الإستعداد من الله تعالى حَصل المفتاح وبَقي الفتح حتى يقع التّعليم. فالتعليم هو عين الفتح..]. وفي الفرق بين الفتح والفُتوح،يقول إبن عربي: [وإذا وَرد الفتح على إختلاف ضُروبه،تَعيّن على هذا العبد إقامة الوَزن بالقسط،فيُقيم الوزن هذا العبد بين حاله الذي هو عليه وبين الفتح: فإذا كان الفتح مُناسباً للحال فهو نتيجة حاله،فيُقيم عند ذلك وزناً آخر وهو أن ينظُر في مقدار الفتح وقوة الحال: فإن ساواه فهو نتيجة بلا شك،فليحذر هذا العبد مَكر الله في هذا الفتح فإنه نتيجة في غير موطنها (الآخرة موطن النتائج).. فإن كان الفتح مما يُعطي أدباً وتَرقياً،فليس بمَكر،بل هو عناية من الله تعالى بهذا العبد حيث زاده فَتحاً.. وإن أقام الوزن بين مقدار الفتح وقوة الحال،ورأى الفتح فوق الحال،فيُنزل منه مقدار الحال،وما زاد فذلك هو الفتوح.]. أما أنواع الفتوح والفتح: فنكتفي بتعدادها كما هي عند إبن عربي: أنواع الفتوح: [ فتوح العبارة في الظاهر _ فتوح الحَلاوة في الباطن _ فتوح المُكاشفة بالحق: فالمكاشفة سَبب معرفة الحق في الأشياء،فلا يُعرف في الأشياء إلا مع ظهورها وإرتفاع حُكمها. ].
أنواع الفتح: [ _ فتح عن قَرع: وهو ليس مطلوب القَوم. _ فتح إبتداء،لا عن قَرع. ].
ووَرد في (لطائف الأعلام) للقاشاني: [الفتوح،فتوح العبارة،فتوح الحَلاوة،فتوح المُكاشفة،فتوح المضيق،فتوح التولّد،فتح الفَهم،فتح الإسلام،فتح العقل،فتح النفس،فتح الروح،فتح القلب،الفتح المُبين].
_ الفُتُوّة _
شغل موضوع الفتوة الإسلامية ونظامها المُستشرقين،فكَتبوا مقالات ومؤلفات تهتمّ بهذا النظام: من ناحية صلته بالفروسية المسيحية (كما فعل فون هامر)،أو من ناحية ما تمتاز به الفتوة من صفات عامة. ثمّ ظهورها في صورة الفتوة الأرستقراطية في عهد الخلفاء العباسيين. ثمّ إنتشارها بين طبقات الشعوب الإسلامية الوسطى في ندوات أهل الحرف والصناعات (كما فعل فون هامر وتور ننج). أو من ناحية صلة الفتوة بالتصوف في كلمات عابرة قد تخلو أحياناً من دقّة التحليل (كما فعل هورتن)،أو من ناحية صلة الفتوة بالملامتية (كما فعل ريتشارد هارتمان).
ويبقى كتاب أبو العلا عفيفي (الملامية والصوفية وأهل الفتوة) خَير دليل إلى الآن في هذا الموضوع.
لكن إبن عربي لم يهتمّ بنظام الفتوة هذا،بل إستعار صفات هذه الفئة: “الكرم،المروءة،الشجاعة” ليجعلها صفات مقام خاص سَمّاه مقام الفتوة / مقام القوّة.. [اعلم أن للفتوة مقام القوة.]..
_ الفَرديّة _
يرى إبن عربي أن لفظ فرد إستحقّ هذه التسمية لنَعت إنفرد به عن أمر آخر.. لقد إنفرد عن الشّفع بالتشبّه بالأحدية..
يُشبه الأحدية بأنه مرتبة متميّزة في الأعداد،وبأنه الواحد الذي يُعطي للإثنين مرتبة الفردية. ويختلف عن الأحدية بأنه لا يكون إلا بعد ثُبوت الإثنين.. [ولما كان الفرد لا يكون إلا بعد ثبوت الإثنين،ضَعُف عن عِزّة الوحدانية..]..
ويجعل إبن عربي الفردية مبدأ وأصل كُل نتاج في العالَم المحسوس والمعقول،وهو يُرادف بينها وبين التثليث بهذا المعنى.. [والثلاثة أول الأفراد،فظهر التكوين عن الفرد لا عن الواحد..].. الفردية تظهر في الأعداد،وبذلك تُشبه الأحدية التي تظهر في الأعداد،من حيث أن الواحد ليس عدداً وإنما له ظُهور في الأعداد.. فالواحد الذي يُثلّث الثلاثة هو الفرد..
_ الأفراد _
مُرادفات: الأخفياء،أفراد الوقت،أعيان الأولياء،الأبرياء.
الأفراد،عند إبن عربي،هم من رجال المراتب. فالسالك يتقلّب في المراتب: كالزهد والولاية.. فكل مرتبة من هذه المراتب،لا تخلو من رجال يحفظونها في كل زمان،وهم لا يتقيّدون بعدد مخصوص،في مُقابل رجال العدد..
وتتوالى الأسماء عند إبن عربي على هذه الطائفة: فهم الأفراد لأنه ليس لهم حُكم العُموم.. وهم الأخفياء لأنهم الذين لا يعرفهم الأبدال ولا يَشهدهم الأوتاد.. وهم أفراد الوقت لأنهم خارجون عن نظر القطب صاحب الوقت،فلا يحكُمهم ولا يتصرّف بهم،بل القطب منهم.. وهم أعيان الأولياء لأنهم الخاصة فيهم.. وهم من جنس البشر كالملائكة المهيّمون من جنس الملائكة.. وهم الأبرياء فلا يَرى العالَم عليهم من أثر التقريب شيئاً..
_ فَضيحة الدّهر _
المُحِبّ مَهتوك السّتْر،فلا يستطيع كتماناً. لذلك يَنعته إبن عربي بفضيحة الدهر.. [.. نُعت المُحبّ بأنه مَهتوك السّتر،سِرّه عَلانية،فضيحة الدهر،لا يَعلم الكتمان..].
_ الفطرة _
الفطرة التي يولَد كل مولود عليها هي الإقرار بالربوبية،وهو أول ميثاق أخذه الحق على البشر حين أشهدهم على ربوبيته فقالوا: “بَلى”.. يقول إبن عربي: [والفطرة (علم التوحيد): التي فَطر الله الخَلق عليها،حين أشهدهم،حين قبضهم من ظهورهم،وقال لهم: (ألست بربكم؟ قالوا: بَلى)،فشاهَدوا الربوبية قبل كل شيء،وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة”،وهو الميثاق الخالص لنفسه..]،[فالعبد طاهر الأصل،في عبوديته،لأنه مخلوق على الفطرة،وهي إقرار بالعبودية للرب سبحانه.]..
_ الفقر _
ينظُر إبن عربي إلى الفَقْر من وجهتين مختلفتين،دون أن يُنبّه إلى ذلك،إذ إنه ينظر إليه من الوجهة الوجودية ومن الوجهة السلوكية.
1_ الفقر الوجودي: الفقر هنا صفة ذاتية للممكن في جميع أحواله (ثُبوت،وجود عَيني): فهو في حال ثبوته يَفتقر إلى مُرجّح،وإذا وُجد إفتقر إلى مرجّح لإستمرار وُجوده.. فالفقر نَعت ذاتي للمَعدوم والموجود،يَشمل كل الخَلق..
2_ الفقر السّلوكي: إذا كان الفقر الأول (أي الفقر الوجودي) فقر عام واجب،فالفقر السلوكي هو فقر خاص عَرضي،وإن كان في الواقع شُهوداً للفقر الأول..
وتقريباً للأذهان نُعطي مَثلاً: مَعيّة الله فهي عامة بدليل الآية: (وهو معكم أينما كنتم)،وهي خاصة بدليل الآية: (إن الله مع الصابرين). فمعية الحق العامة لم يَستحقها العبد بفعل أو صفة،إنها مَعية وُجود. أما الثانية فهي مَعية خاصة إستحقها العبد لصفة نفسية قامت به.. كذلك الفقر الأول العام هو فقر ذاتي لا فَضل فيه للعبد ولا تَعمّل يَفترض مَثوبة خاصة أو ثَمرة مُعيّنة.. والفقر الخاص هو سُلوك نفسي ومُجاهدة..
_ الفَيْض _
حاول إبن عربي أن يفسّر فعل الخَلق ووجود المخلوقات إلى جانب الحق في الوجود،دون أن يخرج عن الوحدة الوجودية. فأتى بمفردات وصور تُحافظ على وحدة الوجود عبر إثنينيّته المشهودة “خالق ــ خَلق”: المَرايا،الصُور،المَجالي،الفُيوضات.. فالخَلق في مذهب إبن عربي ليس إيجاداً من العدم،بل هو ظُهور وتَجلّ إلهي فيما لا يُحصى عدده من صور الموجودات. فقولنا: الحق يَخلُق المخلوقات بلغة إبن عربي هي: يَتجلّى في صورتها.
وهذا الفيض الإلهي على نوعين يُشكلان مرحلتين في منطق النظام الوجودي لا في واقع الأمر: الفيض الأقدس والفيض المقدس.
والفيض الأقدس يَسبق الفيض المقدس في منطق الوجود،على أن حقيقة الأمر عند الشيخ الأكبر هو أن الفيض دائم مُستمر..
[ على الرغم من إستعمال إبن عربي لغة الفلسفة الأفلاطونية المُحدَثة وأساليبها في التعبير عن الخَلق باصطلاح الفيض،إلا أن مذهبه في الفيض مُتميّز عن هذه الفلسفة من حيث أن الفُيوضات عنده ليست إلا تجليات لحقيقة واحدة في صور مختلفة،على حين أنه عند أفلوطين سلسلة من الوجودات يَفيض كل منها عن الوجود السابق عليه ويتّصل به إتّصال المعلول بعلّته،فالفيوضات الأفلوطينية وإن كانت ترجع إلى أصل واحد فهي ليست هذا الواحد ولا مَظهراً له..].
_ الفيض الأقدس: هو مرتبة العَماء،وهو تجلّي الذات الأحدية لنفسها في صور جميع الممكنات التي يتصوّر وجودها فيها بالقوة. فهو أول درجة من درجات التعيّنات في طبيعة الوجود المطلق،ولكنها تعيّنات معقولة لا وجود لها في عالَم الأعيان الحسيّة،بل هي مجرد قَوابل للوجود. وهذه الحقائق المعقولة أو الصور المعقولة للممكنات هي التي يُطلق عليها إبن عربي إسم الأعيان الثابتة للموجودات. ويُضيف إبن عربي أحياناً على عبارة الفيض الأقدس كلمة الساري فيقول الفيض الأقدس السّاري،وذلك لأن الفيض الأقدس هو أول بالنسبة للمُقدّس،وكل أول سارٍ. _ الفيض المقدس: هو تجلّي الواحد في صور الكثرة الوجودية،أي ظهور الأعيان الثابتة من العالَم المعقول إلى العالَم المحسوس،أو ظهور ما بالقوة في صورة ما بالفعل،وظهور الموجودات الخارجية على نحو ما هي عليه في ثبوتها الأزلي.
وكما قُلنا أن الفيض الأقدس هو تجلي الحق لذاته في الصور المعقولة للكائنات،نستطيع أن نقول هنا أن الفيض المقدس هو تجلي الحق في صور أعيانها،فهو بذلك الدرجة الثانية من درجات التعيّن في طبيعة الوجود المطلق.
الفيض الأقدس والفيض المقدس يُرادفان تَجلي الغيب وتجلي الشهادة: فالتجلي الإلهي في الغيب هو تجليه لذاته في ذاته في الصور المعقولة لأعيان الممكنات،وتجليه في الشهادة هو ظهوره في صور أعيان الممكنات في العالم الخارجي.
يقول إبن عربي: [إن لله تَجليّين: تجلي غيب وتجلي شهادة. فمن تجلّي الغيب يُعطي الإستعداد الذي يكون عليه القلب،فإذا حَصل للقلب الإستعداد،تَجلى له التجلّي الشّهودي في الشّهادة فرآه،فظهر بصورة ما تجلى له..].
__ الفيض الدّائم: لا يَصل فِعْل الخَلق إلى غايته بالفيض المقدس،إذ لو تَوقّف عنده لإتّصف المخلوق بالغنى عن الخالق: فالفيض المقدس يوجد أعيان المخلوقات في العالَم المحسوس،ولكن طبيعة هذه المخلوقات الفَناء،فهي لا تَلبث أن تَفنى،من حيث أن لها الثّبوت في العَدم. إذن لا بدّ من خَلق مُستمر وفَيض دائم / خَلق جديد يوجد هذه المخلوقات في كل لحظة،لأنها تَفنى في كل لحظة.
فالفيض الدائم هو تجلّي الحق المُستمر في صور العالَم المحسوس أو هو إستمرار ودَوام الفيض المقدس. فإبن عربي لم يُجرّد فعل الخلق من فعاليته،بل هو الفعل الوحيد المُستمر،فالله خالق على الدّوام..
يقول إبن عربي: [فسبحان من عَيّن الأعيان بالفيض الأقدس،وكَوّن الأكوان بالفيض المقدس.]،[والحق تعالى وَهّاب على الدوام،فَيّاض على الإستمرار،والمَحلّ قابل على الدّوام.]..
== حرف القاف ==
_ قُبّة أرين _
يُشير إبن عربي بعبارة قبّة أرين إلى:
أولاً: إلى نقطة في الأرض يَستوي معها إرتفاع القُطبين،فلا يأخذ هناك الله من النهار ولا النهار من الليل.
ثانياً: إلى صفة في الأشياء عامة،بمعنى: الإعتدال أو مَحلّ الإعتدال.
يقول إبن عربي: [قال الشادي: إجتمع أربعة نفر من العلماء في قُبّة أرين تحت خط الإستواء..]،[أرين: محلّ الإعتدال في الأشياء.].
_ القَبْض ــ البَسْط _
القبض والبسط حالان للإنسان بَعد تَرقّيه عن الخوف والرجاء،وقَبل تحقّقه بالهَيبة والأنس.
يتميّز القبض والبسط أنهما يتعلّقان في وقتهما بحسب الوارد،على حين أن الخوف والرجاء لهما تعلّق بالمستقبل.
ويرى إبن عربي أن البسط من المقامات التي يتّصف الإنسان بها في الدنيا والآخرة،أما القبض فيُلازم الإنسان إلى أول قَدم يَضعه في الجنة ويَزول عنه..
_ قَدَم / على قَدم _
_ القَدَم ليست عُضواً،بل صفة،وهي الثّبوت. يقول إبن عربي: [“يضع الجبار فيها قَدمه” الحديث،القدم: الجارحة. ويُقال: لفُلان في هذا الأمر قَدم أي ثُبوت.. الجارحة تَستحيل على الله تعالى.]،[والقدم: الثبوت.].. يقول القاشاني: [القدم: يُشيرون به إلى ما ثَبت للعبد في علم الحق،يُكنّى به عن آخر صورة من تعيّناته سبحانه الكاملة وتنوّعات ظُهوراته الكُلية الشاملة تعالى تَقدّس.. وهو المُشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: “حتى يضع الجبار فيها [النار] قَدمه”..]. _ على قَدم: إستعمل إبن عربي عبارة “على قدم” و”قَدم” للإشارة إلى القَدميّة،وهي: إقتفاء الأثر للتحقّق بمُماثلة صفاتية. مثلاً يقول: فُلان على قَدم سيدنا محمد،وهذا يعني أن المذكور هو محمدي،أي أنه سار على أثَر أقدام سيدنا محمد في الطريق إلى الحق،وذلك بُغية الوصول إلى التحقٌّ بعَينه فيُصبح عين سيدنا محمد: عين صفات لا عين ذات..
يقول إبن عربي: [.. قلوب الأفراد من رجال الله،كالخضر وأمثاله،وهم على قدم سيدنا محمد..]،[وله (صاحب مقام النبوة العامة / الوليّ) درجات الإتباع،وهو تابع لا متبوع،ومحكوم لا حاكم. ولا بد له في طريقه من مُشاهدة قَدم رسوله وإمامه،لا يمكن أن يغيب عنه حتى في الكَثيب.]..
_ القرآن _
ورد اللفظان قرآن وفُرقان في الكتاب العزيز للدلالة على التنزيل.. ولكن إبن عربي يُفرّق بينهما..
_ القرآن هو الجَمع،في مُقابل الفُرقان الذي هو التّفرقة. ويرى إبن عربي أن إختصاص سيدنا محمد،من دون سائر الحقائق،بالقرآن: يعود إلى ما في دَعوته إلى الحق من الجمع بين التنزيه والتشبيه. في مُقابل دعوة غيره (فُرقان / تَنزيه).. يقول إبن عربي: [وقال التنزيل بلسان نوح: (دعوت قومي ليلاً ونهاراً فلم يزدهم دعائي إلا فراراً).. وعَلِمَ العلماء بالله أنهم (قوم نوح) إنما لم يُجيبوا دَعوته لما فيها من الفُرقان،والأمر قُرآن لا فُرقان،ومن أقيمَ في القرآن لا يُصغي إلى الفُرقان وإن كان فيه. فإن القرآن يتضمّن الفُرقان،والفرقان لا يتضمن القرآن. ولهذا ما إختصّ بالقرآن إلا سيدنا محمد،إنه أوتي جوامع الكلم..]. _ إن القرآن هو الإجمال،في مقابل الفرقان / بَيان،تَفصيل.
يقول إبن عربي: [.. كالمُتّقي إذا إتّقى الله جعل له فرقاناً،وهو علم يُفرّق به بين الحق والباطل في غوامض الأمور ومهمّاتها عند تفصيل المُجمَل وإلحاق المُتشابه بالمُحكَم في حَقّه..][(خلق الإنسان علمه البيان): وهو الفرقان.]..
_ إن القرآن هو الإنسان،من حيث أنه جامع في ذاته لما تَفرّق من حقائق العالَم. وهو على الأخصّ الإنسان الكامل أو سيدنا محمد،للجَمعيّة التي يتّصف بها.. يقول إبن عربي: [ولا يَعرف ما قُلناه إلا من كان قرآناً في نفسه.]،[فمن أراد أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم،ممّن لم يُدركه من أمّته،فلينظر إلى القرآن..].. _ القرآن الكبير: لقد إستعمل إبن عربي لفظ قرآن كمُرادف لكلمة جامع: فالإنسان قرآن،أي جامع في ذاته لكل الحقائق (نسخة الحق،نسخة العالَم). وهو قرآن صغير في مُقابل القرآن الكبير / العالَم.
يقول إبن عربي: [فالوجود كله: حروف وكلمات وسور وآيات،فهو القرآن الكبير.]،[.. ولا يحجب عن ملاحظة المختصر الشريف ــ أي الإنسان ــ من هذا المَسطور،الذي عبارة عنك. فإن الحق تارة يتلو عليك من الكتاب الكبير الخارج ــ أي العالَم ــ،وتارة يتلو عليك من نَفسك،فاستمع..].
_ القُربان الأكرم _
إن الإنسان هو القُربان الأكرم إلى الله تعالى،فبه يتقرّب المخلوقات ــ ممّا هم دونه ــ إلى الحق. وكل ذلك لجمعيته لحقائق العالَم وحقائق الحضرة الإلهية.. [إن الإنسان بنفسه هو الطلسم الأعظم والقُربان الأكرم،الجامع لخصائص العالم،فهو قُربة إلى مُكوكب الكواكب سبحانه..].
_ القُطب _
المترادفات: الغوث،الخليفة،قطب الزمان،قطب الوقت،واحد الزمان،شخص الوقت،صاحب الوقت،عبد الله،الحجاب الأعلى،مرآة الحق.
_ قطب: نَكرة مُضافة: يستعمل إبن عربي لفظة قطب: نكرة مضافة. وهي في هذه الحالة تكتسب معناها وشخصها من إضافتها،والقطب هنا يؤخذ بالمعنى اللغوي الهندسي،فيكون: كل شخص يَدور عليه أمر من الأمور أو مقام من المقامات أو حال من الأحوال.. والقطب بهذا المعنى يَقبل الكثرة والتعدّد في الزمان الواحد.. يقول إبن عربي: [وما أعني الأقطاب الذين لا يكون في كل عصر إلا واحد،وإنما كل من دار عليه أمر جماعة من الناس في إقليم وجهة: الأبدال في الأقاليم السبعة،لكل إقليم بَدل هو قطب ذلك الإقليم.. وكذلك أصحاب المقامات،فلا بد للزهاد من قطب يكون المَدار عليه في الزهد في أهل زمانه،وكذلك في التوكل والمحبة والمعرفة وسائر المقامات والأحوال..]،[ولقد أطلعني الله تعالى على قطبالمُتوكلين فرأيت التوكل يدور عليه كأنه الرّحى حين تدور على قُطبها..]. _ قطب: مُعرّفة مطلقة: كما يستعمل إبن عربي لفظة قطب: معرّفة مطلقة،أي غير مُضافة. وهي هنا تُفيد شخصاً معيناً “القطب” في مرتبة معينة “القطبية”. ونُقسّم موقف الحاتمي منها شقّين:
أولاً: القطب هو واحد من آدم إلى يوم القيامة،لم يَتلَقّ القطبية من قطب سَبقه،بل هو القطب الواحد،وهو رسول حيّ بجسمه في هذه الدار الدنيا.
ثانياً: القطب هو واحد في الزمان الواحد،يتعدّد على مَرّ الأزمنة،يتلقّى مرتبة القطبية من القطب الذي ينتقل بالموت إلى العالم الآخر. وهو ليس برسول،بل من الأولياء بصورة عامة،ومن الأفراد بصورة خاصة. وهذا القطب هو: الغوث وصاحب الوقت وغيرها من المصطلحات التي أشرنا إليها في مرادفات القطب.
لكن الواقع هو أن هذا القطب ليس القطب حقيقة،بل نائب له،وهو يعلم بتلك النيابة. أما القطب الحق فهو الرسول المُشار إليه..
يقول إبن عربي: [وهم (الرسل) الأقطاب والأئمة والأوتاد الذين يحفظ الله بهم العالَم،كما يحفظ البيت بأركانه. فلا يخلو هذا النوع الإنساني أن يكون فيه رسول من رُسل الله،إلا أن ذلك الرسول هو القطب المُشار إليه،الذي ينظر الحق إليه،فيُبقي به هذا النوع في هذه الدار. فلا بد من أن يكون الرسول الذي يحفظ الله به هذا النوع الإنساني (القطب) موجوداً في هذا الدار بجسده وروحه يتغذّى،وهو مَجلى الحق من آدم إلى يوم القيامة.. والأرض لا تخلو من رسول حَيّ بجسمه،فإنه قطب العالم الإنساني..]،[ولكل واحد من هؤلاء الأربعة (إدريس،إلياس،عيسى،الخضر) من هذه الأمة في كل زمان،شخص على قلوبهم (على قَدم) مع وُجودهم: هم نُوّابهم. فأكثر الأولياء،من عامة أصحابنا،لا يعرفون القطب والإمامين والوَتد،إلا النُوّاب لا هؤلاء المُرسلين. ولهذا يتطاول كل واحد من الأمة لنَيل هذه المقامات (القطبية،الإمامة،الوتدية)،فإذا حصلوا أو خُصّوا به،عَرفوا عند ذلك أنهم نُواب لذلك القطب. ونائب الإمام يعرف أن الإمام غيره،وأنه نائب عنه..]،[.. إدريس عليه السلام،وهو القطب الذي لم يمُت إلى الآن،والأقطاب فينا نُوابه.].
_ القُطبية هي مرتبة ومقام،نستطيع أن نُعرّفها بلغة عصرية،إذا أمكن التعبير،فنقول: إنها بمثابة السلطة التنفيذية للعلم الإلهي الذي يُمثّل السلطة التشريعية.. القطبية أو خلافة الدولة الباطنة هي مرتبة ينالها القطب،تُخوّله التصرّف في الكون،ولكنه تصرّف تنفيذي يَحكُمه العلم الإلهي. فالقطب هو واحد في الزمان،وله رقائق مُمتدة إلى جميع قلوب الخلائق،يستطيع من خلالها أن يُمارس صَلاحياته،من حيث أن حوائج العالَم أجمعه تتوقّف عليه.. وما أن يُوَلّى القطب القُطبية يُبايعه،في مبايعة عامة،كل مكلّف،أعلى وأدنى،ما عدا المُهيّمين من الملائكة والأفراد من الأولياء الذين لا يدخلون تحت دائرة تصرّفه. يقول إبن عربي: [.. لا يكون في الزمان إلا واحد يُسمى الغوث والقطب،وهو الذي ينفرد به الحق ويَخلو به دون خَلقه،فإذا فارق هَيكله المُنوّر إنفرد الحق بشخص آخر،لا ينفرد بشخصين في زمان واحد.. وذلك العبد عَيْن الله في كل زمان،لا ينظُر الحق في زمانه إلا إليه،وهو الحجاب الأعلى..]،[القطب: وهو عبد الله وهو عبد الجامع،فهو المنعوت بجميع الأسماء تخلّقاً وتحققاً. وهو مرآة الحق،ومَجلى النّعوت المقدسة،ومجلى المظاهر الإلهية،وصاحب الوقت..]،[القطب مركز الدائرة ومُحيطها ومرآة الحق،عليه مَدار العالَم. له رقائق ممتدة إلى جميع قلوب الخلائق،بالخير والشر على حد واحد،لا يترجّح واحد على صاحبه. وهو عنده لا خير ولا شر،ولكن وجود..]،[فمنزل القطب: حضرة الإيجاد الصّرف،فهو الخليفة. ومقامه: تنفيذ الأمر وتَصريف الحُكم،وبيده خزائن الجود،والحق له مُتجلّ على الدّوام.. ولا بد لكل قطب عندما يَلي مرتبة القطبية،من أن يُبايعه كل سرّ وحيوان وجماد،ما عدا الإنس والجان،إلا القليل منهم.. القطب الذي تتوقف عليه حوائج العالم،من أوله إلى آخره..].. القطب هو الحجاب الأعلى على الحق،من حيث أنه آخر حجاب لا يستطيع الإنسان أن يتخطّاه. فالحق يُنفّذ أحكامه وعلمه من خَلف حجاب القطب أيضاً،فهو آخر الحُجُب. ومن ناحية ثانية يُمكن تفسير العُلُوّ هنا بعُلو المكانة.. _ قُطب الأقطاب: هو الحقيقة المحمدية،لأنه القطب الذي تَدور عليه حقائق الأقطاب كلها،من حيث أنه مصدر كل شيء ومنبع كل علم،وهو المُفيض والمُمدّ لكل الأقطاب..
_ القلب _
سار الصوفية على النّهج القرآني في جعل القلب: مَحلّ الكشف والإلهام.. إدارة المعرفة.. المرآة التي تتجلّى فيها معاني الغيب وتتنزّل عليها الحِكَم.. فهو باختصار: تلك القوة الخَفيّة التي تُدرك الحقائق الإلهية،إدراكاً واضحاً جَلياً لا يُخالطه شكّ..
_ سبب التّسمية: القلب ضد العقل (أحديّ النظرة).. يقول إبن عربي: [والقلب ما سُمي إلا بتقلّبه في الأحوال والأمور،دائماً مع الأنفاس.]،[(إن في ذلك لذكرى لمن له قلب): لتَقلّبه في أنواع الصور والصفات. ولم يقل “لمن له عقل” فإن العقل قَيْد،فيحصر الأمر في نَعت واحد،والحقيقة تأبى الحصر في نفس الأمر. فما هو ذكرى لمن له عقل،وهم أصحاب الإعتقادات..].. فالتّقليب هو سبب تسمية القلب قلباً.. وعلى قدر خوف المؤمن من تقليب القلب،تأتيه الطمأنينة من إسمه تعالى الرحمن،فلا يكون تقليبه إلا من رحمة إلى رحمة. [.. وفي “حديث الأصابع” بشارة إلهية،حيث أضافها إلى الرحمن،فلا يُقلبه إلا من رحمة إلى رحمة. وإن كان في أنواع التقليب بَلاء،ففي طَيّه رحمة غائبة عنه،يعرفها الحق.. فإنك إذا علمت ما ذكرناه،عَلمت من هو قلب الوجود.].. _ مكانة القلب من الإنسان: يقول إبن عربي: [فقد ثبت أن القلب رئيس البدن،وهو المُخاطب في الإنسان،وهو العقل الذي يَعقل عن الله،وهو المُطاع الذي قال في رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد،وإن فسدت فسد الجسد،ألا وهي القلب”..]،[الزاجر: واعظ الحق في قلب المؤمن،وهو الداعي إلى الله.]..
_ القلب: محل الكشف والإلهام: يقول إبن عربي: [فهذه الحقيقة القلبية الأحدية الجمعية الكمالية،والمرآة المجلية التي وَسعت الحق سبحانه،ولذلك مدحها بقوله تعالى: “لم يسعني سمائي ولا أرضي،ووسعني قلب عبدي المؤمن”.]،[فإن القلب مَحل الصور الإلهية التي أنشأتها الإعتقادات بنظرها وأدلّتها،فهي سُتور عليها،لذلك تُبصر الشخص ولا تُبصر ما إعتقده،إلا أن يُرفع لك السّتر بستر آخر..].. _ القلب: محلّ السّعة الإلهية / البيت العتيق،البيت المعمور: يقول إبن عربي: [واعلم أن القلب وإن كان محلّ السّعة الإلهية،فإن الصّدر محلّ السّعة القلبية..]،[ثمّ رأيت البيت المعمور فإذا به قلبي.]،[البيت العتيق القديم،وهو قلب العارف التقيّ النقيّ،الذي وسع الحق سبحانه حقيقته.]..
_ القلب: كتاب الحسنات والسيئات / أم الكتاب: يقول إبن عربي: [والقلوب هي الكُتب التي سُطّر فيها الحسنات والسيئات.]،[(وعنده أم الكتاب): وهو القلب..].. _ وجه القلب: مرآة تَجلّي: يقول إبن عربي: [.. ثمّ صَرفت عنه وجه قلبي،وأقبلت به على ربّي..]،[إن القلب،على خلاف بين أهل الحقائق والمكاشفات،كالمرآة المُستديرة لها ستة أوجه،وقال بعضهم ثمانية.. ثمّ نقول: وقد جعل الله في مُقابلة كل وجه من وجوه القلب،حضرة من أمهات الحضرات الإلهية تُقابله. فمتى جَلي وجه من هذه الوجوه،تَجلّت تلك الحضرة فيه..]..
_ عين القلب: يقول إبن عربي: [عين قلبك،في المثال،كعين وجهك. فلا ترى إلا بعد نفوذه السّبع الطّباق التي جُعلت جُنّة بينه وبين الآفات.. فإذا نفذ هذه الطباق وتصفّح هذه الأوراق،حينئذ ينفذ إلى أول منزل من منازل الغيب..].. _ قلب الوجود / قلب العالَم / قلب الجمع: هو الإنسان الكامل.. [قلب الوجود الذي يُمدّ عالم صورته،التي هو لها قلب وأجزاؤها كلها،وأنه هو قلب الجمع،وهو ما جمعته هذه الصورة الوجودية من الحقائق الظاهرة والباطنة..]..
_ القلم الأعلى _
_ التّسمية وسَببها: إن أول موجود عَقِلَ عن الحق ومنه إنبعث العالَم بأسره،يُسميه إبن عربي جُملة أسماء لا تؤثّر في وَحدة عَينه،فهو: العقل الأول،الحق المخلوق به،القلم الأعلى،الروح الكُلي،سلطان عالَم التدوين والتسطير.. وهي على كثرتها لا تَقدح في وحدة عين المُسمى،كما لا تؤثر في وحدة الحق كَثرة أسمائه. وهذه الأسماء خَلقتها الوُجوه أو النّسب المُتكثّرة لهذه العين الواحدة: فهذا المخلوق يُسمى عقلاً من وجه يُغاير الوجه الذي من أجله يُسمى قلماً.. فمن أيّ الوجوه إستحقّ هذا المخلوق إسم القلم؟. لقد نظر الشيخ الأكبر إلى الوجود على أنه كتاب مسطور: كل حقيقة مُفردة فيه هي حَرف،وكل حقيقة مُركبة هي كلمة. ويُسمى هذا العالَم: عالَم التدوين والتسطير. فالأول في هذا العالَم هو القلم،وبواسطته حَصل الأثر وكان الوجود (الكتاب). يقول إبن عربي: [ولما ظهر هذا الحق المخلوق به السماوات والأرض،الذي هو لَوح الألوهية وقَلمها الأعلى..]،[والقلم هو الذي خَطّ اللوح أو الذي يُخَطّ به،أقسم به تعالى لكثرة فوائده..]،[نقول في العقل الأول عقلاً لمعنى يُخالف المعنى الذي لأجله نُسميه قلماً،يُخالف المعنى الذي لأجله نُسميه روحاً،يُخالف المعنى الذي لأجله نسميه قلباً. والعين واحدة والحكم مختلف،ولذا تنوّعت الأرواح والصور.. كذا الحق،وإن كان واحد العين،فهو المُسمى بتسعة وتسعين إسماً لعَين واحدة وأحكام مختلفة..] يُعرّف الجيلي القلم الأعلى قائلاً: [إن القلم عبارة عن أول تعيّنات الحق في المظاهر الخَلقية على التمييز،وقولي “على التمييز”: لأن الخَلق له تعيّن إبهامي أولاً في العلم الإلهي،ثمّ له وجود هو مُجمل حُكمي في العرش،ثم له ظهور تفصيلي في الكرسي،ثم له ظهور على التمييز في القلم الأعلى. لأن ظهوره في تلك المَجالي الأول،جميعها،غيب،ووجوده في القلم وجود عَيني مُميّز عن الحق.. والقلم الأعلى أنموذج ينتقش ما يقتضيه في اللوح المحفوظ،كالعقل فإنه أنموذج ينتقش ما يقتضيه في النفس. فالعقل بمثابة القلم،والنفس بمكانة اللوح..].. فعل الكتابة أعطاه الإسم: [وأول مُتعلّم قَبل العلم بالتعلّم،لا بالذات،العقل الأول،فعَقل عن الله ما عَلّمه،وأمره أن يكتُب ما عَلمه في اللوح المحفوظ الذي خَلقه منه فسَمّاه قَلماً..].. ويقول الشيخ الأكبر وهو يُصوّر،بجمال ورَوعة،بَدء وجود عالَم التدوين والتسطير،أي عالَمنا: [ثمّ غَمَس الحق قلم الإرادة في مدادالعلم،وخَطّ بيمين القُدرة في اللوح المحفوظ المَصون: كل ما كان وما يكون وسيكون وما لا يكون،ممّا لو شاء،وهو لا يشاء،أن يكون،لكان كيف يكون..]. جعل إبن عربي القلم والمداد بمثابة الإرادة والعلم،ولا يخفى ما في هذا التشبيه من دلالة تصويرية. فالعلم الإلهي (المشيئة) أشمل وأوسع من الإرادة،إذ أن الإرادة لها التخصيص بالوجود من معلومات العلم. كذلك القلم ليس له شُمول المداد،بل يخُصّ من ذاك المداد بعض الكلمات بالوجود العيني.. _ القلم هو مَحلّ التفصيل بالنسبة للمداد مَحلّ الإجمال،وهو محلّ الإجمال بالنسبة إلى اللوح محل التفصيل.
من يقرأ إبن عربي: جاعلاً حيناً القلم محل التفصيل،وحيناً آخر محل الإجمال،يظن أنه يتناقض. فيجب الإنتباه،دائماً،للوجه والنّسبة اللذين يقصدهما. فكأني بفلسفته كلها فلسفة نِسَب وإضافات،لا تَستقلّ حقيقة عنده بماهية محددة ثابتة،بل كل حقيقة هي مجموعة: أسماء ونِسَب وإضافات..
يقول إبن عربي: [القلم محل التفصيل،والنون محل الإجمال،واللوح محل التدوين.]،[وليس فوق القلم موجود مُحدَث يأخذ منه يُعبّر عنه بالدواة،وهي النون. وإنما نونه التي هي الدواة،عبارة عمّا يَحمله في ذاته من العلوم بطريق الإجمال،من غير تفصيل،فلا يظهر لها تفصيل إلا في اللوح الذي هو اللوح المحفوظ. فالقلم محل التجميل،والنفس (اللوح المحفوظ) محل التفصيل..]
_ بعدما إحتفظ القلم بذاتية وشخصية خاصة،إذ كان عبارة عن حقيقة مُنفردة لها صفات وخصائص معينة،سيُصبح صفة تُطلق على كل من تحقّق بها،وهي صفة الفعل في مُقابل صفة الإنفعال / لوح،أو صفة الذكورة في مقابل صفة الأنوثة.. كل من حاز صفة الفعل فهو قلم وإن كان لَوحاً،حتى القلم الأعلى يُصبح لوحاً إذا نَظرنا إليه من حيث تأثير الحق به وإنفعاله عنه. وهكذا كل أثَر في الكون هو نتيجة عن مقدمتين،هما بلغة إبن عربي: فاعل ومُنفعل أو قلم ولوح. ولا يكون الأثر إلا بحركة مخصوصة بين القلم واللوح،يُعبّر عنها الشيخ الأكبر بلفظ نكاح. وتتعدّد الأقلام والألواح في الوجود،إذ أنها تُخلق عند كل فعل أو أثر.. يقول إبن عربي: [وهذا اللوح المحفوظ هو أيضاً قلم لما دونه،وهكذا كل فاعل ومنفعل: لوح وقلم.]،[والطلبة والتلامذة للشيخ المحقق: ألواح منحوتة منصوبة لرَقمه وكتابته،وقبائل مستعدة لنَفخه. فلا يزال ينفُخ فيهم أرواح الأسرار ويخُط فيهم حروف المعاني القدسية.]،[اللوح مَحلّ الإلقاء العقلي،هو للعقل (الأول،الأعلى) بمنزلة حواء لآدم..]،[والقلم المُخطط لهذا الشخص الإنساني (في لوح الوجود)،قَلمان: قلم يُسمى النّفخ،والقلم الذي هو الذكر،وأول من كتب به أبو البشر في لوح أم البشر. والقلم الرجل،واللوح المرأة. وقد يكون الرجل لَوحاً (مُنفعلاً،أنثى) للقلم المُعبّر عنه بالنّفخ،كمريم وعيسى. فما سَلم من خَط هذا القلم المحسوس في اللوح المحسوس خاصة،إلا ثلاثة: آدم خَلقه الله تعالى بيده،وحواء وعيسى من نصف هذا الخطّ..]،[كان ذلك اللوح مَوضعاً ومَحلاً لما يَكتُب فيه هذا القلم الأعلى الإلهي.. فكان بين القلم واللوح نكاح معنوي معقول،وأثَر مَشهود (الطبيعة الكُلية)..]. يقصد إبن عربي بالقلم المحسوس واللوح المحسوس: الفاعل والمُنفعل المحسوسين،أو الرجل والمرأة.. آدم لم يُخلَق عن أم وأب محسوسين،أي رجل وإمرأة. وحواء وُجدت عن أصل واحد محسوس هو آدم،فسَلمت من نصف هذا الخط. وعيسى وُجد عن أصل واحد محسوس كذلك وهي مريم،فسَلم من نصف هذا الخطّ.. _ فرّق الشيخ الأكبر بين القلم (بصيغة المفرد) والأقلام (بصيغة الجمع).. وقد جعل القلم الأعلى في مُوازاة اللوح المحفوظ،كما جعل الأقلام في موازاة ألواح المحو والإثبات. فما يكتبه القلم الأعلى محفوظ عن المحو،وما تكتبه الأقلام يتردّد بين المحو والإثبات.. ويجعل إبن عربي عدد الأقلام 360،وهو الرقم نفسه الذي يجعله في موضع آخر وُجوه القلم الأعلى. فالأقلام هي وُجوه القلم الأعلى..
_ الحال / المقام _
كثُر الجدال في الحال والمقام،فهما رَديفان لا يكادان يفترقان،في التصوف قبل إبن عربي.. وقد إستوعب الشيخ الأكبر كل ثقافة عصره بما تحمله من تُراث،وأضاف إليها جديداً من تفرّده الشخصي بفكره المميّز..
1_ الحال: يورد إبن عربي إشتقاقين للفظ الحال،مستنداً إلى نظرتين يتبنّاهما في الغالب:
الأول: الحال أصله حَلّ: قال به من رأى دَوام الأحوال،دون أن يَشهد أنها أمثال تَتعاقب (خلق جديد).
الثاني: الحال أصله حالَ،يَحول: قال به من رأى زَوال الأحوال،في مقابل ثَبات (المقام).
وكما يتبنّى رأي السّلف في إشتقاق الحال،نراه يتتبّعهم في مضمونه: فيجد أنه المُتحوّل في مقابل الثابت (مقام)،المَوهوب في مقابل المُكتسب (مقام).. [الحال: ما يَرد على القلب من غير تَعمّل ولا إجتلاب،فتتغيّر صفات صاحبه له،واختلف في دوامه.. والأحوال مَواهب لا مَكاسب..]..
_ تجاوز إبن عربي الإشتقاق إلى الإعتبار الزمني،مُستنداً إلى النحو،سواء من جهة الفعل أو الإسم. فالحال: هو الحاضر الدائم المُستمر.. والحال: هو ظهور العبد بصفة الحق في التكوين ووجود الآثار عن همّته.. ويحتفظ الحال عند إبن عربي هنا بصفات: الترجّح والنقص والزّوال،رغم أنه تَخلّق،ولذلك نراه يَضعه في مقابل العلم الذي له الثبات والكمال. فالعلم مقام،والتصرّف حال.. وتنشأ علاقة جدلية بين الحال والمقام،كلما تَرسّخ السالك في المقام نَقص في الحال،والعكس بالعكس.. يقول إبن عربي: [الحال: ظهور العبد بصفة الحق في التكوين ووجود الآثار عن همّته،وهو التشبّه بالله المُعبّر عنه بالتخلّق بالأسماء،وهو الذي يُريده أهل زماننا اليوم بالحال..]،[فإن الله لا يُعطي العلم إلا من يُحب،وقد يُعطي الحال من يُحب ومن لا يُحب،فإن العلم ثابت والحال زائلة..]،[الكامل كلما عَلا في المقام نقص في الحال،كما أن المشاهدة تُغني عن رؤية الأغيار،كذلك المقام يَذهب بالأحوال.].. _ الأحوال أمور عدمية: ليس لها عين،وإنما لها حُكم. وهي مبدأ التمييز بين الأعيان وأصله.. [الأحوال هي أحكام المعاني المعقولة أو النّسب،وهي: العلم والقدرة والبياض والسواد والحماسة..]،[الأعيان لا تنقلب من حال إلى حال.. ولولا الأحوال ما تميّزت الأعيان،فإنه ما ثَمّ إلا عين واحدة تميّزت بذاتها عن واجب الوجود،كما إشتركت معه في وجوب الثبوت.. فالأحوال لهذه العين كالأسماء الإلهية للحق..]..
_ يخرج إبن عربي عن السلف الصوفي فيما يتعلّق بالأحوال والمقامات،فالمنازل عنده لا تُحدّدها أرقام،رغم محاولاته المتعددة لحَصرها في إطار معلوم.. والسبب أن الأحوال والمقامات عنده تدور حول الحقائق،فكل حقيقة،بما تحويه هذه الكلمة من شعاب وأبعاد،لها حال أو مقام يَستتبعه علم.. وهو هنا يستعمل الحال والمقام على الترادف،ليُعبّر عن كشف أو شهود أو رؤية لحقيقة معينة منفصلة متميزة،هذا الشهود أو هذه الرؤية يستتبعها علم.. _ الحال هي الصلة أو الرابطة الوجودية التي تَصل المخلوق بخالقه.. وهي تركيب عضوي طبيعي فعّال،في مقابل التركيب اللغوي المَقول.. [ما من مخلوق إلا وله حال مع الله..]،[والدعاء على نوعين: دعاء بلسان نُطق وقَول،ودعاء بلسان حال..]..
2_ المقام: نستخلص مما تقدّم بحثه لدى الكلام على الحال،أن المقام يتحدّد كالآتي: إنه تحصيل شُهود أو كَشف لحقيقة معيّنة مميّزة،والترسّخ في هذا التّحصيل تَرسّخاً علمياً بحيث لا يَصحّ الإنتقال عنه..
يقول إبن عربي: [ولشيوخنا في هذا المقام (التوبة) حُدود أذكر منها ما تيسّر،وهكذا أفعل إن شاء الله في كل مقام إذا وَجدنا لهم فيه كلاماً. على أنه إذا سُئلوا عن ماهية الشيء لَم يُجيبوا بالحَدّ الذاتي،إنما يُجيبون بما يُنتج ذلك المقام فيمن إتّصف به،فعَين جوابهم يدُلّ على أن المقام حاصل لهم ذَوقاً وحالاً..].
_ المقام مُكتسب ثابت،في مقابل الحال (وَهْب). وهو يوجد بوجود المُقيم.. [وكل مقام في طريق الله تعالى فهو مُكتسب ثابت،وكل حال فهو مَوهوب غير مُكتسب غير ثابت،إنما هو مثل بارق بَرَق،فإذا بَرق: إما يَزول لنَقيضه وإما أن تتوالى أمثاله..]،[فإن النّقلة في المقامات ما هي بأن تترُك المقام،وإنما هو بأن تُحصّل ما هو أعلى منه،من غير مُفارقة للمقام الذي تكون فيه. فهو إنتقال إلى كذا،لا من كذا،بل مع كذا..].. السالك في مقام معيّن لا يُخلّف وَراءه المقامات التي تحقّق بها،بل يحملها في أعماقه.. [المناظر العُلى،من حيث هي مناظر،لا وجود لها إلا بوجود الناظر. كالمقامات لا وجود لها إلا بوجود المُقيم..]. هذا النص يوضح أن المقام حقيقة معنوية يوجدها المُقيم،فالتوبة مثلاً لا وجود لها بمعزل عن التائب،بل التائب هو الذي يخلقها بإقامته فيها.. _ لو أردنا أن نستقصي مقامات الشيخ الأكبر،لإستوجب أن نُفرد لها بَحثاً خاصاً،فهو قد أضاف إلى (منازل السائرين) المئة مئات.. فإبن عربي يُناقش آراء المتقدمين في المقامات ويَشرحها،دون أن يتنصّل من النصوص،بل العكس،طريقته في شرحها توحي بأنها جزء لا ينفصل من فتوحاته أو أنها في الواقع بدايات مقاماته،مثلاً: يشرح ويُحدّد مقام التوبة عند السلف،دون أن ينتقد أو يتنصل من إلصاق الكلام به. ثمّ في مرحلة ثانية ينتقل بالمقام إلى مرتبة أعلى..
إبن عربي،من ناحية،بنزعته الموحّدة،يَستوعب كل كَثرة ظاهرة. ومن ناحية ثانية يتميّز عن السّلف بنظرة خاصة إلى الأمور..
يتكلم إبن عربي على: [مقام التوكل،ومقام ترك التوكل. مقام الشكر،ومقام ترك الشكر..] وهكذا يُعدّد المقامات جميعاً،مع المقامات التي تَعلوها،وهي مقامات تَركها.
أما السّبب الذي يدعو السالك إلى الترقّي عن المقام بتَركه،فهو رؤيته لإفتقاره وإمكانه. فالسالك ثابت في عَدمه،لا وجود له مع الحق.. ويمكن على هذا الأساس تلخيص كل المقامات بمقام واحد: هو مقام الإفتقار والعبودية..
فالسالك إلى الحق في مقام عَبْد،مهما تنوّعت الأسماء. ولذلك يجد إبن عربي أن الطريق إلى الله لا نهاية له،مع أن المقامات تتناهى.. [ولقد إتّفق لي في بدايتي في طريق الله،وما ثَمّ إلا بداية،وأما النهاية فمَقولة غير معقولة]،[وإن كانت الواردات الإلهية لا تتناهى،فالمقامات بلا شك تتناهى..].
_ مقام: إلهي،ذاتي،رحماني،رباني _
_ المقام الإلهي: هو كل مقام أو إسم للحق من حيث نسبة الألوهة.. [..الحُبّ مقام إلهي،فإنه وَصَف به نَفسه وتَسمّى بالودود..]. _ المقام الذّاتي: هو كل مقام للحق من حيث الذات الغنية عن العالمين،لا من حيث نسبة معينة كالألوهة،ولا من حيث إسم أو صفة معينان.. [.. الحرية مقام ذاتي لا إلهي،ولا يتخلّص للعبد مُطلقاً،فإنه عبد لله عُبودية لا تَقبل العِتْق.. فلا حرية مع الإضافة والربوبية،والألوهية إضافة. ولما لم يكن بين الحق والخلق مُناسبة ولا إضافة،بل هو الغنيّ عن العالمين،فلا يَربطها كَوْن..].
_ المقام الرباني: هو دون المقام الإلهي،وهو يتعلّق بالحق من حيث الإسم الرب.. _ المقام الرحماني: هو مقام الحق من حيث الإسم الرحمن..
يقول إبن عربي: [وكل مقام فإما: إلهي أو رباني أو رحماني،غير هذه الثلاث حضرات لا يكون،وهي تَعُمّ جميع الحضرات،وعليها يدور الوجود،وبها تَنزّلت الكتب،وإليها ترتقي المعارج..]..
_ مَقام القُربة _
مقام القُربة: هو مرتبة بين مقام الصدّيقية والنبوة،إنه النبوة العامة لا نبوة التشريع. وهو المُشار إليه ب”السِرّ”،يتحقّق به الأفراد..
يقول إبن عربي: [فليس بين النبوة،التي هي نبوة التشريع،والصديقية: مقام ولا منزلة. فمن تَخطّى رقاب الصديقين وَقع في النبوة الرسالية،ومن إدّعى نبوة التشريع بعد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فقد كذب وكَفر. غير أن ثَمّ مقام القُربة وهي النبوة العامة،لا نبوة التشريع. ومقام القُربة هو للأفراد: دون نبوة التشريع في المنزلة عند الله،وفوق الصديقية في المنزلة عند الله. وهو المُشار إليه ب”السِرّ” الذي وَقر في صدر أبي بكر الصديق،ففَضُل به الصديقين..]،[فليس بين أبي بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم رجل،لأنه صاحب صدّيقية وصاحب سِرّ،فهو من كَونه صاحب سرّ بين الصديقية ونبوة التشريع.]..
وقد خَصّص إبن عربي رسالة لهذا المقام سَمّاها (كتاب مقام القربة)،يَحدوه في ذلك أن السلف لم يُشر إلى هذا المقام،بل أنكره بعضهم كالغزالي. ولن يتّضح تماماً هذا المقام إلا بمعرفة الأفراد ومقامهم عند الشيخ الأكبر..
يقول إبن عربي في خاتمة كتاب (مقام القربة): [إنتهى بعض الغرض من هذا الكتاب وبَيان هذا المقام (القُربة)،وكنت ما رأيت أحداً من أصحابنا نَبّه عليه ولا نَدَب إليه،بل مَنع من ذلك أكثرهم لعَدم الذّوق،فبَقيت به وحيداً وبين أقراني فريداً،لا أستطيع أن أفوه به من أجل مُنكريه،إلى أن وَقفت لأبي عبد الرحمن السُلمي في بعض كُتبه (أغاليط الصوفية) عليه نَصّاً وسَماه مقام القربة فسُررت..]..
_ مقام قُرب النوافل ــ مقام قُرب الفرائض _
_ قُرب النوافل: هو قُرب أنتجته عبودية الإختيار: من حيث أن النوافل لم تُفرَض على العبد،بل إختارها.. ولذلك هذا القُرب هو دون قُرب الفرائض. وصورة قُرب النوافل: أن يُصبح الحق سَمع العبد وبَصره وسائر قواه.. فهو مقام إتّصاف المخلوق بصفات الحق. _ قُرب الفرائض: هو قُرب أنتجته عبودية الإضطرار: من حيث أن الفريضة واجبة على العبد.. ولذلك هذا المقام هو أعلى من مقام قُرب النوافل،لأن الإضطرار في العبودية أعلى وأرفع،والحاكم فيها هو الحق.
وصورة قُرب الفرائض: أن يُصبح العبد سَمع الحق وبَصره.. بل ويُريد الحق بإرادة العبد. فصورة هذا المقام هي عكس صورة قُرب النوافل (لا يوجد نصّ جَليّ في القرآن والحديث،بل إشارات).. فهو مقام إتّصاف الحق بصفات المخلوق.
يقول إبن عربي: [واعلم أنك إذا ثابَرت على أداء الفرائض فإنك تَقرّبت إلى الله بأحَبّ الأمور المُقرّبة إليه،وإذا كنت صاحب هذه الصفة: كُنت سمع الحق وبصره،فلا يسمع إلا بك ولا يُبصر إلا بك،فيَد الحق يدك: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم) فبأيديهم بايَع تعالى،وهم المُبايعون. وهذه هي المحبّة العظمى (محبة الفرائض) التي ما ورد فيها نص جَليّ،كما ورد في النوافل. فإن للمُثابرة على النوافل حُبّاً إلهياً منصوصاً عليه،يكون الحق سمع العبد وبصره،كما كان الأمر بالعكس في حُب أداء الفرائض. ففي الفرض،عبودية الإضطرار،وهي الأصلية،وفي الفرع،وهو النّفل،عبودية الإختيار.. ففي أداء الفرض “أنتله”،وفي النفل “أنت لك”..]،[.. “ما تَقرّب إليّ أحد بأحبّ مما افترضته عليه” فجعله أحبّ إليه. ثمّ قال: “ولا يزال العبد يتقرّب” الحديث،فهذا نتيجة النوافل،فما ظنّك بنتيجة الفرائض وهي أن يكون العبد سمع الحق وبصره،فيُريد الحق بإرادة العبد. وفي النوافل يُريد العبد بإرادة الحق..]..
_ الإستقامة _
هناك نوعين من الإستقامة عند إبن عربي: إستقامة أولى يتّفق بها مع من سَبقه من مفكري الإسلام،وإستقامة ثانية يَنفرد بها تُناسب مذهبه ومنهاجه الفكري.
_ الإستقامة بالمعنى الأول: هي إستقامة على الشرع والمنهاج المحمدي،الذي يؤدّي إلى النجاة في الآخرة.. يقول إبن عربي: [خَطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطاً،وخط عن جنبتي ذلك الخط خُطوطاً. فكان ذلك الخط شرعه ومنهاجه الذي بُعث به،وقيل له: قُل لأمّتك تَسلك عليه ولا تَعدل عنه. وكانت تلك الخطوط شرائع الأنبياء التي تَقدمته،والنوامس الحكمية الموضوعة. ثمّ وضع يده على الخط وتَلا: (وأن هذا صراطي مستقيماً) فأضافه إليه،ولم يقل “صراط الله”.. وهذا معنى الإستقامة المتعلّقة بالنجاة..].. _ الإستقامة بالمعنى الثاني: تَطلبها حكمة الله،وهي نَعت إلهي وكَوني سارٍ في كل كَون. فالإستقامة: ظهور حقيقة المُستقيم. وإستقامة الشيء: ما خُلق له.
يقول إبن عربي: [اعلم وفقك الله،أن الله أخبر نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم في كتابه أنه قال: (إن ربي على صراط مستقيم) فوَصف نفسه بأنه على صراط مستقيم. ثمّ إنه ما قال ذلك إلا بعد قوله: (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها)،فما ثَمّ إلا من هو مُستقيم على الحقيقة.].
الإستقامة،على الحقيقة،تَعُمّ كل كَون،لأن الرب على صراط مستقيم،وكل دابة ناصيتها بيده،فتَتبعه في الإستقامة..
يقول إبن عربي: [فيُنسَب الإعوجاج والإستقامة للماشي بالمَمشي به،لا إلى من مَشى به. والماشي بالخَلق إنما هو الحق،وذكر أنه على صراط مستقيم. فالإعوجاج قد يكون إستقامة في الحقيقة،كإعوجاج القوس فإستقامته التي أريد لها إعوجاجه. فما في العالَم إلا مستقيم،لأن الآخذ بناصيته هو الماشي به،وهو على صراط مستقيم..]،[.. إعوجاج القوس إستقامته لما أريد له،فما في الكون إلا الإستقامة.]،[العارف من عَرف الإستقامة في الإعوجاج.]..
نلاحظ أن الإستقامة هنا على صعيد الوجود،لا علاقة للأخلاق والشرع بها كما هو المفهوم العام لهما.. فمُراعاة المراتب الكونية أدّت بإبن عربي إلى القول بأن طرق الإستقامة لا تُحصى،لأنها إظهار لحقيقة المُستقيم،والحقائق تتعدّد بتعدّد الكائنات [وطريق الإستقامة لا تَتقيّد مَراتبه ولا تنضبط،لن تُحصوا طُرق الإستقامة فإنها كثيرة.]
وهذه النظرة من الخطورة بمكان.. فإن كان الكائن شريراً فإستقامته عين إظهار شَرّه.. لأن الفعل نفسه يصدُر من شخصين مختلفين يُؤدّي إلى نتائج مُغايرة،والسبب في ذلك هو الشخص مَحلّ الفعل. فالوَعْي هو ما يُميّز بين شخص وآخر: فإن كان الفعل ذَنباً ثَبَت للإنسان في عَينه الثابتة،فلا مَفرّ له منه،ولكن مُراقبته لوقوع الفعل ووَعيه للمُخالفة،هو إستقامة.
يقول إبن عربي: [فمن إزداد علماً إزداد حُكماً،فانظُر فيما أمرت به أو نُهيت عنه،من حيث أنك مَحلّ لوجود عين ما أمرت به أو نُهيت عنه. فمُتعلّق الأمر عند صاحب هذا النظر أن يُهيّء مَحلّه بالإنتظار،فإذا جاء الأمر الإلهي فينظر أثره في قلبه أولاً: فإن وجد الإباية قد تَكوّنت في قلبه فيَعلم أنه مخذول،وأن خذلانه منه لأنه على هذه الصورة في حضرة ثُبوت عَينه التي أعطت العلم لله به.. فلا نزال نُراقب حُكم العلم فينا من الحق حتى نعلم ما كنا فيه،فإنه لا يحكُم فينا إلا بنا.. ومن كان هذا حاله في مُراقبته،وإن وَقع منه خلاف ما أمر به،فإنه لا يضرّه ولا ينقصه عند الله،فإن المُراد قد حصل الذي يُعطي السعادة وهو المُراقبة لله في تكوينه،وهذا سِرّ القدر لمن فَهمه.. فمن كان هذا حاله فقد فاز بدرجة الإستقامة..]..
يقول إبن عربي: [جَعلنا الله ممّن لَم يَعدل عن إستقامته (حقيقته) إلا بإستقامته (الشرع الإلهي)،آمين بعزّته].
== حرف الكاف ==
_ كتاب _
_ إستعمل إبن عربي الأصل كَتَب بصيغة الفعل،بمعنى أوْجَب.. [.. (سنكتب ما قالوا): أي سنوجبه..].. _ الكتاب: هو مرتبة الجمع والضمّ،فكل ما ضُمّ وجُمع فهم كتاب.. [.. والكتاب ضَمّ الحروف بعضها إلى بعض،وفي إنضمامها فَهم المعاني..]..
_ الكتاب: هو حروف مرقومة،أضيفت صفة الرّقم هنا على المعنى السابق،فلا يكفي الجمع والضمّ.. [اعلم أن الكلام على قسمين: كلام في مواد تُسمى حروفاً،وهو على قسمين: إما مرقومة،أعني الحروف،وتُسمى كتاباً. أو مُتلفّظاً بها،وتُسمى قولاً وكلاماً..].. _ الكتاب: يُفيد أحياناً الأمر أو القضاء وأجله.. [وكل شيء إلى أصله يعود وإن طالت المُدّة. فإنها أنفاس معدودة وآجال مضروبة محدودة،يبلغ الكتاب فيها أجله،ويرى كل مؤمل ما أمّله..]..
_ تتعدّد الكُتب عند إبن عربي نَظراً للمعاني السابقة: 1 الكتاب الإلهي: هو العلم الإلهي.. [وقال الشاهد: كتاب الله: علمه،وله تنفيذ الحكم في خَلقه. فما حَكم عليك به فأنت له.]..
والكتاب الإلهي هو الموجودات: [.. لأنه ما كل مُفصّل حَكيم.. ورحمته بالآيات والموجودات،التي هي الكتاب الإلهي،وليس إلا العالَم دليل على علمه بمن أنزله،وليس إلا الرحمن الرحيم..]..
2_ الكتاب الجامع: هو آدم الذي جمع بذاته الحقائق المتفرقة في العالَم.. [.. فالعالَم كله تفصيل آدم،وآدم هو الكتاب الجامع. فهو للعالَم كالروح من الجسد،فالإنسان روح العالَم والعالم الجسد..].
3_ كتاب الوجود: هو الوجود نفسه،من حيث أن إبن عربي يُشبّهه بالكتاب.. [.. فهي فاتحة الكتاب،لأن الكتاب عبارة ــ من باب الإشارة ــ عن المُبدع الأول. فالكتاب يتضمن الفاتحة وغيرها،لأنها منه. وإنما صحّ لها إسم الفاتحة من حيث أنها أول ما افتتح بها كتاب الوجود..].
4_ كتاب الرب: الإنسان،أو ذاته على الخصوص،هي كتاب الرب.. [.. وأن الإنسان في نفسه: كتاب ربه.]..
5_ الكتاب الكبير: هو العالَم،في مقابل القرآن (الكتاب الصغير).. [ولا تظن أن تلاوة الحق عليك،وعلى أبناء جنسك،من هذا القرآن العزيز خاصة. ليس هذا حظ الصوفي،بل الوجود بأسره :(كتاب مسطور في رقّ منشور) تَلاه عليك سبحانه وتعالى،لتَعقل عنه إن كنت عالماً. ولا تُحجَب عن ملاحظة المُختصر الشريف،من هذا المسطور،الذي هو عبارة عنك. فإن الحق تعالى: تارة يتلو عليك من الكتاب الكبير الخارج،وتارة يتلو عليك من نَفسك..].
6_ الكتاب المرقوم: يستعمل إبن عربي عبارة “كتاب مرقوم” مُعرّفة ومُنكرة. المُعرّفة: تُشير إلى الوجود بأسره،والمُنكرة: هو الكلام المرقوم..
_ مُعرّفة: [.. والوجود كتاب مرقوم: يَشهده المقربون،ويَجهله من ليس بمُقرّب. وتَتويج هذا الكتاب إنما يكون بمن جمع الحقائق كلها،وهي علامة موجِدِه. فالإنسان الكامل الذي يدُلّ بذاته،من أول بديهة،على ربّه،هو تاج المُلك..].
_ مُنكرة: [فجعل الله القلب،الذي في داخل الجسم في صدره: مُصحفاً وكتاباً مرقوماً،تنظُر فيه النفس الناطقة،فتتّصف بالعلم وتتحلّى به،بحسب الآية التي تنظُر فيها. فتفتقر إلى هذا المَحلّ لما تَستفيد بسَببه،لكَون الحق إتّخذه مَحلاً لكلامه ورَقمه فيه..].
7_ كتاب مسطور: يستعمل إبن عربي عبارة “كتاب مسطور” بالمضمون نفسه الذي إستخدم فيه عبارة “كتاب مرقوم”: فهي مُعرّفة الوجود،ومنكرة الكلام المَسطور بالتّسطير.
[إن الوجود كتاب مسطور في رق منشور،وهو الكتاب الذي قَرأه المحققون،وأقراه المُطرقون،وفَهمه العارفون. فأسرار الحق في حروف الكتاب،ولا يعرفها أحد سوى أهل اللّباب..]،[واعلم أن كل قلب كتاب مسطور،لكل ما فيه: من الخواطر والعلوم. وله طبقات،نَظير أوراق المصحف..].
8_ الكتاب المُبين: هو أم الكتاب..
9_ الكُتب المُنزّلة: [الكتب المنزلة: الكتاب المُنير،المبين،المحصي،العزيز،المرقوم،المسطور الظاهر،المسطور الباطن،الجامع. فالمُنير: لأهل الحُجَج. والمُبين: لأهل الحقائق. والمُحصي: لأهل المُراقبة. والعزيز: لأهل العصمة. والمرقوم: للمُرسلين والوَرثة. والمسطور الظاهر: تأويلاً وإعتباراً لأهل الإيمان. والمسطور الباطن: إعتباراً إيضاً لأهل الإباحة. والجامع: للروحانيين المَلكيين.].
10_ الكُتب كَثيرة: [الكتب كَثيرة: كتاب الرحمة المطلقة،كتاب الغضب المطلق،كتاب الرحمة المقيّدة،كتاب الغضب المقيّد،الكتاب المحفوظ،كتاب المحو،كتاب أسماء المرحومين،كتاب أسماء الأشقياء،كتاب الإحصاء،الكتاب المُبين،الكتاب الحكيم،الكتاب المرقوم،الكتاب المسطور،الكتاب العزيز،الكتاب الناطق.. وما منها من كتاب إلا لأمر يُنفّذه في خَلقه،فيُحفَظ عنده،فإنه لا يُبدّل..].
_ الكَثرة _
لا تكاد تَخلو فلسفة من مشكلة الوحدة والكثرة،وتفسير صُدور الكثرة عن الوحدة..
_ لا يستطيع الشيخ الأكبر أن ينفي الكثرة المرئية في الوجود،كما أنه لم يتخلّص منها بجَعلها وَهْماً.. فالكثرة موجودة،ولكن في مراتب وجودية لا تتنافى ووحدة الوجود عنده. توجد الكثرة في مرتبتين: الأولى: مرتبة الوجود المعقول،وهي هنا كثرة معقولة (كثرة الأسماء الإلهية). والثانية: مرتبة الوجود الظاهر الحِسّي،وهي هنا كثرة مشهودة (كثرة صور الموجودات / كثرة المَظاهر). فالكَثرة معقولة ومشهودة،ولكنها ليست موجودة كما يفهم الشيخ الأكبر الوجود الحق.. يقول إبن عربي: [.. والكثرة معقولة بلا شك،ولكن: هَل لها وجود عَيني أم لا؟ فيه نَظر.. فأثْبت الكثرة في الثّبوت وانْفها في الوجود،وأثْبت الوحدة في الوجود وانْفها في الثبوت..]،[وصاحب التحقيق يَرى الكثرة في الواحد،كما يعلم أن مدلول الأسماء الإلهية،وإن إختلفت حقائقها وكَثُرت،أنها عَيْن واحدة. فهذه كثرة معقولة في واحد العين (الذات الإلهية)،فتكون في التجلّي كثرة مشهودة في عين واحدة (عين الممكن)..].. _ الكثرة المشهودة الظاهرة للأعيان،سَببها الكثرة المعقولة،وهي كثرة الأسماء الإلهية والصفات. فعَن الواحد لا يَصدُر إلا واحد،فما صَدر عن الواحد إلا عَيْن الممكن (واحدة). أما كثرة الخَلق فمَنشؤها كثرة الحق،أي كثرة أسمائه.
فكل من قال بالكَثرة: فقد نَظر إلى الحقيقة الوجودية من حيث ظهورها في العالَم،وهي كثرة في الأعيان. ومن حيث تَجلّيهافي الأسماء الإلهية،وهي أيضاً كثرة معقولة.
وأما من قال بالوحدة: فقد نظر إلى الحقيقة الوجودية من حيث ذاتها التي لا كثرة فيها،فهي تتعالى حتى على الكثرة الإعتبارية العقلية،التي هي كثرة الإتّصاف بالأسماء،فهي غَنية حتى عن الأوصاف.
فمن قال بالكثرة وحدها فهو مَحجوب،لأنه لا يرى سوى وجه واحد من الحقيقة. وكذلك من قال بالوحدة،دون الكثرة،لأنه لا يرى سوى الوجه الآخر من الحقيقة.. أما العارف بالأمر،على ما هو عليه،فيُشاهد الوحدة في الكثرة،والكثرة في الوحدة،أو وحدةالكثرة،وكثرة الوحدة..
يقول إبن عربي: [.. ألا تَرى أن الحكماء قد قالوا: “لا يوجد عن الواحد إلا واحد،والعالَم كثير فلا يوجد إلا عن كثير”،وليست الكثرة إلا الأسماء الإلهية،فهو واحد أحدية الكثرة..]،[.. فما صَدر عن الواحد إلا واحد،وهو عَيْن المُمكن. وما صَدرت الكثرة،أعني أحكامه،إلا عن الكثرة،وهي الأحكام المنسوبة إلى الحق،المُعبّر عنها بالأسماء والصفات. فمن نظر إلى العالَم من حيث عَينه،قال بأحديته. ومن نظره من حيث أحكامه ونِسَبه،قال بالكثرة في عين واحدة..]،[الوحدة التي لا كثرة فيها مُحال.]،[الشخص وإن كان واحداً،فلا تقل له ظل واحد ولا صور واحدة.. فعلى عدد ما يُقابله من الأنوار يَظهر للشخص ظلالات،وعلى عدد المرايا تظهر له صور. فهو واحد من حيث ذاته،مُتكثّر من حيث تَجلّيه في الصور أو ظلالاته في الأنوار،فهي المُتعدّدة لا هو،وليست الصور غيره.]..
__ الكثير الواحد: [فكما أن للكثرة أحدية تُسمى أحدية الكثرة،كذلك للواحد كثرة تُسمى كثرة الواحد.. فهو (الحق): الواحد الكثير،والكثير الواحد..]،[.. فمعلوم أن زيداً حقيقة واحدة شخصية،وأن يده ليست صورة رجله ولا رأسه ولا عينه ولا حاجبه. فهو الكثير الواحد: الكثير بالصور،الواحد بالعين. وكالإنسان: واحد العين بلا شك،ولا نشُكّ أن عمراً ما هو زيد ولا خالد ولا جعفر،وأن أشخاص هذه العين الواحدة لا تتناهى وجوداً. فهو وإن كان واحداً بالعين،فهو كثير بالصور والأشخاص.].
_ كَرامة _
لم تختلف نصوص المؤرخين للصوفية في إقرار الكرامة للأولياء،مع تمييزها عن المعجزة. فالطوسي والقشيري،إلى آخر من نقل عنهما،فَرّق المعجزة عن الكرامة،مُستمداً ذلك من دَور كل منهما في النبوة والولاية.
ومن أبرز أخطائهم: ربط الكرامة بالولاية،مع أنهم يُناقضون أنفسهم في غير مكان،بإيرادهم أن الكرامة قد تحتوي المكر والإستدراج،وأن الولاية ليس من شروطها الكرامة الظاهرة. ويرجع سبب هذا الخطأ إلى:
أولاً: مفهوم الولاية نفسه. فالولاية قد أطلقت جزافاً،في نصوص الصوفية ــ خاصة بعد السابع الهجري ــ على مظاهر وأفراد. فكل من ظهر بصَلاح وتقوى أو خرق عادة وتقريب أو تصدّى لتربية المريدين،يُطلق عليه الوليّ،وما هو بوَليّ،لأن الولاية تَعيينإلهي.. [فينبغي أن لا يُطلق ذلك الإسم (الوليّ) على العبد،وإن أطلقه الحق عليه فذلك إليه تعالى.]..
ثانياً: أن الكرامة نشأت وترعرعت في أوساط العامة،بعيداً عن الحِسّ النّقدي الصوفي.. فالوليّ أو الصالح يَكتُم الكرامة،وبالتالي تُتناقل وتتسرّب بعيداً عنه،مُحمّلة بالكثير من الأساطير والخرافات..
يقول إبن عطاء الله في (الحكم): [ربما رُزق الكرامة مَن لم تَكتمل له الإستقامة.].
يقول الشيخ زروق تَعليقاً على هذه الحكمة: [الكرامة أمر خارق للعادة،غير مقرون بالتحدّي،ولا خال عن الإستقامة،ولا مُستند للأسباب. يُظهره الله تعالى على يد من أراد إختصاصه من أهل طاعته في البداية أو في النهاية أو بينهما. فهي تدلّ على إختصاص صاحبها،لا على إستقامته. فيتعيّن تعظيمه وإحترامه،لا تَقديمه وإتباعه،إلا أن يظهر عليهكمال الإستقامة وهي: الإستواء في إتباع الحق،ظاهراً وباطناً،علة منهج السواد،بلا عِلّة. فهي (الإستقامة): توبة بلا إصرار،وعمل بلا فتور،وإخلاص بلا إلتفات،ويقين بلا تردّد،وتوكل بلا وَهَن.. فهذه الكرامة الحقيقة،لا غيرها.. والحاصل: أن ظهور الكرامة،وإن دَلّ على الإستقامة،فلا يدل على كمالها..].
_ تتعدّد العوالم في تصوّر إبن عربي: فعالَم مَبني على صفة القدرة،وعالم مبني على الحكمة وربط الأسباب بمُسبباتها.. فالعادة،في عالمنا هذا،هو النظام المُرتّب المعروف،من زمان ومكان وتوالي. وهذا النظام هو بالوضع الإلهي،لذلك تبقى القدرة الإلهية هي الوحيدة الحاكمة،فكما تَضع النظام تَخرقه. وخرق العوائد أقسام ثلاثة مختلفة عند إبن عربي: المعجزة،الكرامة،السحر. المعجزة للأنبياء،والكرامة للأولياء والصالحين،والسحر للعامة. 1 السببية وعالَم الحكمة: [فانظر في سرّ هذا الأمر (سَريان الأحوال): أنه ما ظهر شيء من ذلك إلا بحركة محسوسة،لإثبات الأسباب التي وَضعها الله،ليُعلم أن الأمر الإلهي لا ينخرم.. فيَعرف العارف،من ذلك،نِسَب الأسماء الإلهية وما إرتبط بها من وجود الكائنات،وأن ذلك تقتضيه الحضرة الإلهية لذاتها.. وأن الأسباب لا تُرفع أبداً.].
لذلك يستعمل الصوفية وإبن عربي جُملة خرق العادة وليس رفع العادة أو إزالتها،فما هو إلا خرق لهذا النظام بتدخّل سبب ظاهر لا علاقة له بهذا النظام.. [سَرى الإقتدار الإلهي في كل شيء: فلا شيء ينفع إلا به،ولا يضُرّ إلا به،ولا ينطق إلا به،ولا يتحرّك إلا به. وحجب الله العالَم بالصُور فنَسبوا كل ذلك إلى أنفسهم وإلى الأشياء،والله يقول: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله).]..
2_ خرق العوائد: المعجزة،الكرامة،السحر: [الثلاثة أقسام في خرق العوائد هي: المعجزات والكرامات والسحر،وما ثَمّ خرق عادة أكثر من هذا..]..
يميز إبن عربي بين الكرامة والمعجزة من ناحية،وبين الكرامة والسحر من ناحية أخرى..
الفرق بين الكرامة والمعجزة: أن الكرامة تصدُر عن قوة همّة العبد،وعلى علم منه. على حين أن المعجزة لا نَصيب لهمّة النبي فيها،فهو (النبي) العبد المحض الكامل العبودية،ولا يتدخّل النبي مطلقاً في مَنشأ المعجزة ولا علم له بها إلا بالتعريف الإلهي..
أما الفرق بين الكرامة والسحر: أن للكرامة حقيقة وجودية،على حين أن السحر ليس له حقيقة وجودية،وإنما يظهر على مستوى الصورة والرّائي..
__ يُمثّل الإرث مكاناً بارزاً في تصوف الشيخ الأكبر،فنراه يتكلم على العلم الموروث. ولا يَخفى أهمية العلم لإنفعال الأشياء عنه (قال من عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) فهذا علم إنفعل عنه الشيء.
وهكذا الكرامات: فالوليّ فيها مع النبيّ بحُكم التبعيّة (القَدميّة)،وهي تتنوّع في التابعين بتنوّع معجزات الأنبياء المتبوعين،فهناك العيسوي والموسوي والمحمدي..
_ الكمال _
كانت رؤية إبن عربي للكمال: رؤية أنطولوجية وعرفانية،لا رؤية خُلقية.
فالكمال: هو التحقيق الوجودي،لا الكمال الخُلقي أي الأمر المحمود عُرفاً وعَقلاً وشَرعاً. وعلى ذلك يكون الكامل هو من كان في ذاته صورة جامعة لكل الحقائق.
وهذا الكمال الأنطولوجي يَستتبع كمالاً عرفانياً،من حيث أن التجلّي له وجهان: وجودي وعرفاني. والكمال العرفاني هو في الواقع: وَعْي الكمال الأنطولوجي.
يقول إبن عربي: [إن كمال الوجود،وجود النقص فيه. إذ لو لم يكن،لكان كمال الوجود ناقصاً،بعَدم النّقص فيه. والكمال المطلق لله سبحانه وتعالى]،[.. إن النقص من كمال الوجود،لا من كمال الصورة.. “لو لم يكن في الوجود نَقص // لزال عن رُتبة الكمال”. وإن كان كذلك،فاجْهَد أن لا يصدُر منك صورة إلا مُخلّقة في غاية الكمال،في قول وعمل. ولا يغُرنّك كون النقص من كمال الوجود،لأن ذلك من كمال الوجود،ما هو من كمال ما وُجد عنك..]..
يُنظر كلامنا عن “الإنسان الكامل”..
_ الكَنْز _
_ الكنز الخَفيّ: هو البُطون،وهو ذات الحق الأزلية القديمة،المُعرّاة عن النّسب والإضافات. والمصطلح حَديثي ورد في الحديث القدسي: “كنت كنزاً مَخفياً” الحديث.. والصفة الكنزية تبقى حتى بعد ظهور العالَم،فالحق لا يُعرف من حيث ذاته،ولكن يُعرف من حيث صفاته وأسمائه المُتجليّة في الوجود.. [معنى كَون الحق كَنزاً أي باطناً،هو: إتّحاد الأسماء في الدلالة على مُسمى واحد،هو الذات عَريّة عن الأحكام والنّسب والإضافات..]. _ الكنز المُطلسم: عبارة أطلقها إبن عربي على الحضرة المحمدية.. [وصلى الله على أول الأوائل في التّعيين: صاحب الحقيقة الذاتية،والذات الكلية،والرّتبة العَلية،والحضرة السنيّة،والدنيا والدين،اللؤلؤ المعظّم المكنون،والكنز المُطلسم المخزون..].
ويقو عبد الغني النابلسي،في شَرحه “الصلاة الكبرى” لإبن عربي،مُبيّناً المقصود من الكنز المطلسم: [الكنز: الأمر المُختَفى في صور الكائنات الفانية العديمة.. المُطلسم: من الطلّسم،كلمة أعجمية،يستعملها العرب بمعنى: الخَفاء والكَتْم. وطلسم مَقلوب حروفه “مسلط”. والمسلط: الرّصد،فإن هذا الكنز الإلهي واجب مَخفي بأستار الإمكان،مرصود بالمهالك الرديّة. فالطلسم: رَصد على الكنز،فلا ينفكّ إلا بمتابعة الشريعة والحقيقة..].
_ الكَون الجامع _
_ يُفرّق إبن عربي بين: الكون والعَيْن والوجود. الكون هو كل ما تَكوّن في الوجود الظاهر،على حين أن العين لفظ يشمل الأعيان الثابتة والأعيان المُتعيّنة في الوجود الظاهر. فالكون يُستشفّ منه وجود مُتحيّز،في حين أن العين يُستشفّ منها ماهية. الكون هو الصفات الخَلقية،في مقابل مجموع الصفات الحَقية (الحضرة الإلهية).. والوجود واحد،يتكثّر في صور الأكوان.. _ الكون الجامع: عبارة يُطلقها إبن عربي على الإنسان الكامل،من حيث أنه جمع في كونه جميع حقائق الحضرتين: الحقية والخلقية.
والكون الجامع يُرادف في فلسفته: “المُختصر الشريف،والكلمة الجامعة،وصورة الحضرتين،ونُسخة الحق والعالَم” وما إلى ذلك من العبارات التي إستخدمها للتعبير عن صفة: الجمعية التي تحقّق بها الإنسان الكامل.
يقول إبن عربي: [لما شاء الحق سبحانه أن يرى عَينه،في كون جامع،يَحصر الأمر كله. أوجد العالم كله،وجود شَبح مُسوّى لا روح فيه،فكان كمرآة غير مَجلُوّة،فكان آدم عين جَلاء تلك المرآة..]،[فالإنسان أكمل مَجالي الحق،لأنه المختصر الشريف،والكون الجامع لجميع حقائق الوجود ومراتبه،وهو العالَم الأصغر الذي إنعكست في مرآة وجود كل كمالات العالَم الأكبر..]،[الكون الجامع هو الإنسان الكامل.]..
_ كُنْ _
مرادف: كلمة الحضرة،كلمة التكوين.
_ كُنْ: هي لفظة أمر وجودي،لا يكون عنها إلا الوجود. وهي واحدة تتعدّد بأشخاصها. يقول إبن عربي: [و”كن” حرف وجودي،فلا يكون عنه إلا الوجود،ما يكون عنه عدم،لأن العدم لا يكون لأن الكون وجود.].. _ لفظة كُنْ: إشارة إلى اليَدين،التي يرى إبن عربي أنهما تُعبّران عن صفتي الفاعلية والمفعولية أو حَضرتي الوجوب والإمكان.. [فإن الحق سبحانه قد عَبّر عنهما،أعني فاعلية ومفعولية: باليدين تارة،والحرفين اللذين هما “كن” تارة..]..
فقد جعل إبن عربي “كُنْ”: أصل الكون،مُنسجماً مع موقفه من الموجودات التي هي كلمات الله.. ولذلك رأى في “كن” الصفتين التي ينتُج عن تقابلهما،إنقسام المخلوقات بين: الهُدى والضلال،الكفر والإيمان.. [فالموجودات كلها كلمات الله التي لا تنفد،فإنها عن كن،وكن كلمة الله..]..
== حرفاللاّم ==
_ اللوح المحفوظ _
المترادفات: كُلّ شيء،النفس الكلية.
يقول إبن عربي: [هذه النفس التي هي اللوح المحفوظ،وهي من الملائكة الكرام،وهو المُشار إليه ب”كل شيء” في قوله تعالى: (وكتبنا له في الألواح من كل شيء)،وهو اللوح المحفوظ.].
_ اللوح المحفوظ: مرتبة وجوديةتُثنّي القلم الأعلى،فتكون بذلك أول مخلوق إنبعاثي يَتبوّأ مرتبة الإنفعال،في مقابل القلم (فاعل) ــ الأنوثة في مقابل الذكورة ــ التفصيل في مقابل الإجمال.. يقول إبن عربي: [وإسم اللوح المحفوظ عند العقلاء: النفس الكلية،وهي أول موجود إنبعاثي،مُنفعل عن العقل. وهي للعقل بمنزلة حواء لآدم،منه خلق،وبه زوج فثنى.]،[اللوح مَحل الإلقاء العقلي،وهو للعقل بمنزلة حواء لآدم. وسُميت نَفْساً: لأنها وجدت من نَفَس الرحمن،فنَفّس الله بها عن العقل،إذ جعلها محلاً لقبول ما يُلقى إليها،ولَوحاً لما يُسطّره فيها.].. _ اللوح المحفوظ: محلّ حَصر ما في العالَم من العلوم،إلى يوم القيامة. وهو موضع تنزيل الكُتب،يُمدّ الألواح (ألواح المحو والإثبات) التي تتنزّل منها الشرائع والصحف..
_ يُفارق اللوح المحفوظ القلم الأعلى: بأن له،عند الفعل صفتين: صفة علم وصفة عمل،أو الفاعلية والإنفعالية. وذلك أنه عند الفعل: مُنفَعل بالنسبة للقلم،وفاعل بالنسبة لما يَليه وهو الطبيعة. على حين يَظهر القلم: فاعلاً. لذلك جعل إبن عربي شهود الحق في المرأة أكمل شهود،لأنه: شهود الحق من حيث هو فاعل مُنفعل.. يقول إبن عربي: [ثمّ أوجد (الحق) فيه (اللوح) صفتين: صفة علم وصفة عمل. فالصفة العالمة أب،فإنها المؤثرة. والصفة العاملة أم،فإنها المؤثَّر فيها،وعنها ظهرت صور العالَم].. _ أشار إبن عربي باللوح المحفوظ إلى الإنسان،من حيث أنه جمع في كونه كل الأسماء والنّعوت،فكان مُختصراً شريفاً. وهو يعني الإنسان الكامل الذي حَفظ هذا الجمع عن المحو والإثبات.
يقول إبن عربي: [فقال: (بل هو قرآن مجيد) أي: جمع شريف،يعني ما هو عليه من الأسماء والنعوت. (في لوح محفوظ) وهو: أنت،إشارة وإعتباراً..]..
ويتّضح معنى ألواح المحو والإثباتبما يُقابلها في العالَم الأصغر / الإنسان..
يقول إبن عربي: [العبد هو: محلّ الإلقاء الإلهي،من خير وشر شرعاً. وهو: لوح المحو والإثبات (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب). فيخطُر للعبد خاطر أن يفعل أمراً ما من الأمور،ثم ينسخه خاطر آخر،فيمحو الأول ويُثبت الثاني. هذا ما دام العبد مُهتمّاً لخواطره محجوباً.. فإذا أيّد بالعصمة إن كان نبياً،وبالحفظ إن كان وليّاً: عاد قَلبه لوحاً محفوظاً مقدساً من المحو،فلا يُقال فيه: أنه لوح محو وإثبات،لأنه صاحب كشف..]،[وللقلب وجهان: ظاهر وباطن. فباطنه: لا يقبل المحو،بل هو إثبات مُجرّد مُحقّق. وظاهره: يقبل المحو،وهو لوح المحو والإثبات..]..
__ يتردّد كثيراً عند الشيخ الأكبر أن: كل أوّل يَسري فيما بعده،وبما أن القلم واللوح هما أول عالَم التدوين والتسطير،فلذلك حقيقتهما سارية في كل المخلوقات. فكل مخلوق،دونهما،يجمع في ذاته حقيقة الأنوثة وحقيقة الذكورة،حقيقة الفعل وحقيقة الإنفعال.. [القلم واللوح: أول عالَم التدوين والتسطير،وحقيقتاهما ساريتان في جميع الموجودات،عُلواً وسُفلاً ومعنى وحساً.]..
لقد كان علم النفس الحديث،إلى سنوات خَلت،يَفصل بين حقيقة الأنوثة وحقيقة الذكورة في الإنسان،إلى أن توصّل الآن إلى النتيجة التالية: [أن كل إنسان،ذكراً أو أنثى،يحمل في ذاته صفتي الأنوثة والذكورة معاً.]..
_ المَلاميّة _
المترادفات: الضنائن،الأمناء،عرائس الله،الأخفياء،الأبرياء،الأفراد،مقام القُربة في الولاية،رجال المُطّلع.
الملاميّة: قبل إبن عربي: فرقة صوفية حارَبت تَشوّف النفس الإنسانية،بمُداومة مَلامتها وإجتلاب الملامة لها. لا يظهر عليهم (الملاميون) من تَقواهم شيء،يُخفون تَقرّبهم إلى الله وقُربهم عن أعين الخلق مَخافة رِضى النفس وكِبرها..
رَكّز إبن عربي على صفة هذه الطائفة وهي: مُحاولة إخفائهم مَقامهم عن الخَلق،ليجعلهم في ترتيب رجاله مُرادفين للأخفياء. أي أنه أضاف إلى مُحاولتهم إخفاء مقامهم عن الخلق،أن الحق من جانبه سَترهم عن خَلقه. فكان سَتْرهم مقامهم عن الخلق يُقابله: سَتر الحق لهم..
يقول إبن عربي: [الملامية: هم الذين لم يظهر على ظواهرهم مما في بواطنهم أثر البتّة. وهم أعلى الطائفة،وتلامذتهم يتقلّبون في أطوار الرجولية..]،[والملامية: لا يتميزون عن واحد من خلق الله بشيء،فهم المجهولون،حالهم حال العوام..]،[.. فحَبس تعالى ظواهرهم (الملامية) في خَيمات العادات والعبادات من الأعمال الظاهرة،والمُثابرة على الفرائض منها والنوافل. فلا يُعرفون بخرق عادة،فلا يُعظّمون ولا يُشار إليهم بالصلاح الذي في عُرف العامة،مع كونهم لا يكون منهم فَساد. فهم الأخفياء الأبرياء الأمناء في العالَم،الغامضون في الناس. ولا يدوم التجلي إلا لهذه الطائفة على الخصوص،فهم مع الحق في الدنيا والآخرة على ما ذكرناه من دوام التجلّي. وهم الأفراد..]..
_ لَيْل _
_ الليل والنهار: من الثنائيات التي يُكثر إبن عربي من إستعمالها: ليل نهار،غيب شهادة،بطون ظهور،جسم روح: والتي يجعلها وَجهي كل نَشأة أو حقيقة. 1 الليل والنهار: الجسم والروح: [فليل هذه النّشأة: جسمه الطبيعي. ونَهاره: ما نَفخ فيه الروح العقلي.]،[وموسى أعطاني الكشف والإيضاح،وتقليب الليل والنهار. فلما حَصل عندي،زالَ الليل وبَقي النهار في اليوم كُله،فلم تغرُب لي شمس ولا طَلعت. فكان لي هذا الكشف إعلاماً من الله أنه لا حَظّ لي في الشقاء في الآخرة.].
2_ الليل والنهار: الحس والعقل،الصورة والروح،الغيب والظهور: [ونوح دَعا قومه “ليلاً”: من حيث عقولهم وروحانيتهم،فإنها غيب. “ونهاراً” دعاهم أيضاً: من حيث ظاهر صورهم وحِسّهم. وما جمع نوح في الدعوة.. على حين: فما دعا سيدنا محمد قومه “ليلاً ونهاراً”،بل دعامه “ليلاً في نهار،ونهاراً في ليل”..]،[فإن الليل لا يُعطي للناظر في نَظره سوى نَفسه،فهو يُدرَك ولا يُدرَك به،فإنه غيب وظلمة،والغيب والظلمة يُدركان ولا يُدرك بهما..]..
_ الليل بمعنى الغُروب،وتأخذ وجهين: إما بغُروب الليل يَحدُث ضدّه.. وإما يحتفظ غروب الليل بمعنى الغيب،دون نظر إلى ظلمة.. 1 الوجه الأول: [.. ثم جاء بينهما فَترات (القرن الأول ــ القرن الرابع) وحَدثت أمور،وإنتهت أهواء،وسُفكت دماء،وعاثَت ذئاب في البلاد،وكثر الفساد إلى أن طَمّ الجور وطَما سَيله،وأدبر نهار العدل بالظلم حين أقبل ليله..].
2_ الوجه الثاني: [فإن مثل هذا النور المصباحي يُنفّر ظلمة الليل،بل هو عين نُفور ظلمة الليل،مع بقاء الليل ليلاً. فإنه ليس من شرط وجود الليل وجود الظلمة،وإنما عين الليل: غروب الشمس حين طلوعها،سواء أعْقَب المَحل نور آخر سوى نور الشمس أو ظلمة. فوقع الغلط في ماهية الليل ما هي؟..]..
__ تتردّد عند إبن عربي عبارتان: الليل الإنساني ــ الثّلث الأخير أو الثلث الباقي من الليل الإنساني أو الثلث الأخير من الليل.
يرى إبن عربي أن النشأة الإنسانية بجميعها: ليل،وقد قَسّمه ثلاث أثلاث:
الثلث الأول: هو الهَيكل الترابي،أي الجسد. الثلث الثاني: روحه الحيواني،أي النفس. الثلث الأخير: الروح المنفوخ،أي الروح.
وهذا الثلث الأخير فيه يتنزّل الحق. (حديث النزول الإلهي في الثلث الباقي من الليل الإنساني)..
يقول إبن عربي: [النشأة الإنسانية بجميعها ليل،وفي الثلث الآخر منها يكون النزول الإلهي،ليُنيله أجزَل النّيل. ولم يكن الثلث الآخر إلا الروح المنفوخ الذي له الثبات والرسوخ والعُلو على الثّلثين: فالثلث الأول هَيكله الترابي،والثلث الثاني روحه الحيواني،والثلث الأخير به كان إنساناً..]..
_ ليلة القدر _
بالإضافة إلى مضمونها العام الوارد في القرآن،يُضيف إبن عربي معنى جديداً. فليلة القدر هي: الإنسان المُتحقّق بإنسانيته الجامعة للصورة الإلهية والحقائق الكونية.. [فأنت ليلة القدر لأنك: من طبيعة وحَق. فشَهد لك بعِظَم القدر قبل نزول القرآن عَليك..].
== حرف الميم ==
_ المدينة الفاضلة _
المدينة الفاضلة: عبارة أشار بها إبن عربي إلى الإنسان الكامل المخلوق على الصورة.. [.. لا يَخفى،على ذي عَينين،الفرق بين: الذهب واللجين،أي الإنسان الحيوان من الإنسان المخلوق على صورة الرحمن،هو: النسخة الكاملة والمدينة الفاضلة..].
هذا المعنى للمدينة الفاضلة يُشير إلى موقف خاص لإبن عربي،يتميّز عن موقف الفلاسفة. فعلى حين إختار الفلاسفة،كالفارابي وغيره،مدينة أفلاطون وأرسطو: وحدة الإصلاح المَرجُوة في فلسفة السياسة،جعل إبن عربي الفرد هو نواة الإصلاح ووَحدته في فلسفة إجتماعيى ــ سياسية. ومن إصلاح الفرد ينتشر إصلاح المجموع..
_ المَوْت / شُهود الرّفيق _
لا يَحلو الكلام في الموت إلا عند الصوفية،فهم الطائفة الوحيدة تقريباً التي نظرت إليه بإشتياق وحَنين..
_ يُصوّر إبن عربي الجسم والروح،كالمدينة والقرية،بالنسبة لواليها. فهو الوالي / الروح المُحكّم فيها،يُدبّر أمورها ويَرعى مَصالحها. والموت: عَزْل لهذا الوالي،وفي عَزله: إطلاقه من قَيْد الحُدود،دون إنقطاع أثره في الوجود. فما الموت إلا: إنتقال مخصوص على وجه مخصوص.. يقول إبن عربي: [وليس الموت بإزالة الحياة،ولكن الموت: عَزْل الوالي..]،[الموت فينا: فَراغ لأرواحنا من تدبير أجسامنا..].. _ الموت: تَفريق لأجزاء الإنسان،ورَدّ كل جزء إلى أصله.. [.. جاء الموت بما فيه،فأخْلى البلد وفَرّق بين الروح والجسد،ورَدّ كل شيء إلى أصله: فألحَق الجسم مع أترابه بتُرابه،وعَرَج بالروح..]..
_ المَوتات الأربع: من المصطلحات الموروثة في السلوك الصوفي: الموتات الأربع: الأبيض والأسود والأحمر والأخضر. وأول من أطلقها حاتم الأصَمّ (ت 237هـ)،إذ يقول: [من دَخل في مذهبنا فليَجعل في نفسه أربع خصال من الموت: موتاً أبيض،وموتاً أسود،وموتاً أحمر،وموتاً أخضر. فالأبيض الجوع،والأسود إحتمال الأذى،والأحمر مُخالفة النفس،والأخضر طَرح الرّقاع بعضها على بعض.].. ولم يُضف إبن عربي جديداً هنا.. يقول إبن عربي: [.. فإن لأهل الله أربع موتات: موت أبيض: وهو الجوع. وموت أحمر: وهو مخالفة النفس في هَواها. وموت أخضر: وهو طرح الرقاع في اللباس،بعض على بعض. وموت أسود: وهو تحمل أذى الخلق،بل مطلق الأذى..]. ويقول: [.. سرّ الموت: كَرباته وكَشف حَسراته. فأبيضُه: ألَم حِسّي. وأحمره: ألَم نفسي. وأسوده: مَرض عقلي. وأخضره: مثل زَهر النبات،لما فيه من شَتات..]،[.. الجوع حِلْيَة أهل الله،وأعني بذلك جوع العادة،وهو الموت الأبيض.. وأما الموت الأسود لإحتمال الأذى،فإن في ذلك غَمّ النفس،والغَمّ ظُلمة النفس،والظلمة تُشبه في الألوان: السّواد.. وموت أحمر: مخالفة النفس،شَبيه بحُمرة الدّم،فإنه من خالَف هَواه فقد ذَبَح نفسه.. وموت أخضر: وهو لباس المرقّعات،إلا المُشهّرات. كان لعمر بن الخطاب ثَوب يَلبسه فيه ثلاث عشرة رقعة،إحداها قطعة جلد،وهو أمير المؤمنين. وإنما سُميت لَبس المرقعات موتاً أخضر لأن حاله حال الأرض في إختلاف النبات فيه والأزهار،فأشبه إختلاف الرّقاع..].. _ الموت المعنوي: هو وُصول العبد إلى مقام تَنقطع عنه أوصافه،ويقوم الحق مَقامه في جميع الحالات،بل هو فَناء العبد وبَقاء الحق،في مُقابل الموت الحسّي / إنتقال..
يقول إبن عربي: [.. فكما أن من مات بصورته: إنقطعت جميع أوصافه المحمودة والمذمومة. كذلك بالموت المعنوي تنقطع عنه جميع أوصافه المحمودة والمذمومة،ويقوم الله تعالى مَقامه في جميع الحالات.. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “موتوا قبل أن تموتوا”،وقال صلى الله عليه وسلم: قال الله تعالى: “لا يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أحبّه،فإذا أحببته كنت له سَمعاً وبصراً ويداً” الحديث..]..
== حرف النون ==
_ نونْ _
نونْ: هي علم الإجمال: الدواة التي تَحوي في مِدادها إجمالاً: الحروف صور العالَم،في مُقابل: القلم / حضرة التفصيل.
يقول إبن عربي: [القلم: علم التفصيل.. النون: علم الإجمال..]،[.. فالنون جسماني،مَحلّ إيجاد مَواد الروح والعقل والنفس ووُجود الفعل. وهذا كله مُستودع في النون،وهي كُلية الإنسان الظاهرة،ولهذا ظَهرت.]..
_ نُبوة _
النبوة من المفردات والأفكار التي جَلبت للشيخ الأكبر مُختلف التّهَم،تَدرّجت في ألوانها من الإستياء إلى التكفير.. ومصدر هذا الغَلط ومَنشأه:
1_ إن المُطالع لكتبه أخذ عبارة مِثل: الوَليّ أعلى من النبي،قاطعاً إيّاها عن سيّاقها الفكري..
يقول إبن عربي: [.. وإذا سَمعتم لفظة من عارف مُحقق مُبهَمة،وهو أن يقول: الولاية هي النبوة الكبرى،والوليّ العارف مَرتبته فوق مرتبة الرسول.. فالنبي صلى الله عليه وسلم له مرتبة “الولاية والمعرفة والرسالة”. ومرتبة الولاية والمعرفة: دائمة الوجود. ومرتبة الرسالة: مُنقطعة. فهو صلى الله عليه وسلم من كَونه “وَلياً وعارفاً” أعلى وأشرف من كونه “رسولاً”. وهو الشخص بعَينه وإختلفت مَراتبه،لا أن الوليّ منّا أرفع من الرسول،نعوذ بالله من الخذلان..].
2_ إن النبوة والولاية عند إبن عربي،كلتاهما أخذت معنى له أصوله اللغوية ــ الدينية،بَعيداً عن مُحملاته المعهودة والمعروفة..
أ_ النبوة: لا تُفهم عامة خارج أشخاص،أنبياء الشرائع والأنبياء المُرسلين. إنها مضمون ونَمط إتّصال بين الحق والخلق بَعْدي. على حين أنها عند إبن عربي مضمون ونَمط قَبْلي ــ إن صَحّ التعبير ــ تتحقّق في الأشخاص. فهي موجودة في بُنيانه الفكري كمرتبة وجودية وإمكانية نَمط وجودها في الإنسان (تحقيق / تَجسيد). لذلك يَظلّ قِبْلَة نَظر إبن عربي هذه المرتبة الوجودية،وليس أشخاصها..
ب_ الولاية: تُفهَم عامة مَنسوبة إلى هذا النّمط من الرجال الذين مارسوا التديّن والتقوى والوَرع،فظَهرت عليهم من الآثار ما لَفت نظر العموم،فخَصّوهم بالألقاب،ومنها: الوَليّ.. ففُصلت الولاية عن النبوة،وحُصرت بالأتقياء من البشر من غير الأنبياء.
على حين أن إبن عربي جعل الولاية كالنبوة: مرتبة وجودية لها خصائص مميزة،تتحقّق في الأنبياء المُرسلين والأنبياء غير المرسلين والأتقياء من عامة المسلمين.. والولاية بهذا المضمون هي ما أشار إليه بالنبوة العامة..
_ أشار إبن عربي إلى النبوّة بمعناها اللغوي،أي الرّفعة،يقول: [.. وأما النبوة،التي هي غير مهموزة،فهي الرّفعة. ولم يُطلق على الله منها إسم لا يَتسمّى بالنبيّ،ولها في الإله إسم “رفيع الدرجات”..]. _ النبوة: هي الإنباء الإلهي والإنزال الرباني،أو التنزّل المَلَكي عموماً. فالنبوة عامة،بهذه الصّفة،غير منقطعة،تَستمرّ في الظهور بصورتين: 1_ الولاية 2_ الوراثة. ومن أبرز خصائصها أنها: دون تَشريع،يَحكُمها شرع آخر الأنبياء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وهنا يستعمل إبن عربي جُملة مُفردات للإشارة إلى هذه النبوة،فيُسميها: [النبوة الباطنة،نبوة عموم،نبوة الإخبار،نبوة عامة،الوراثة النبوة،النبوة المطلقة،النبوة السارية،نبوة الوارث،نبوة الوَليّ،النبوة القمرية.]. هذه الأسماء تُشير إلى نُبوة الأنبياء والوَرثَة [وقد أطلق الغزالي على هذه النبوة العامة إسماً مُماثلاً (النبوة المُكتسبة).]،في مُقابل نبوة الأنبياء / لها شرع مخصوص،التي يُطلق عليها أيضاً جُملة مفردات هي: [نبوة التشريع،نبوة التكليف،النبوة الخاصة،النبوة المُقيّدة،نبوة مُكمّلة،نبوة رسالية،نبوة شمسية،النبوة الظاهرة.]..
يقول إبن عربي: [.. فالنبوة الظاهرة ــ نبوة الأنبياء ــ هي التي إنقطع ظهورها. وأما الباطنة ــ نبوة الأولياء والورثة ــفلا تزال في الدنيا والآخرة،لأن الوحي الإلهي والإنزال الرباني لا يَنقطعان إذ كان بهما حفظ العالَم.]،[لَئن لَم تَنْتَه لأمْحُوّن إسمك من ديوان النبوة،أي: أرْفَع عنك طريق الخَبر،وأعطيك الأمور على التجلّي. والتجلي لا يكون إلا بما أنت عليه من الإستعداد الذي به يقع الإدراك الذّوقي.]،[ثمّ إستقاموا على طريقهم التي شَرع الله لهم المَشي عليها،تتنزّل عليهم الملائكة،وهذا التنزّل هو النبوة العامة،لا نبوة التشريع،تتنزّل عليهم بالبِشْر،أي لا تخافوا ولا تحزنوا..]،[.. وأما النبوة العامة: فأجزاؤها لا تنحصر ولا يضبطها عدد،فإنها غير مؤقتة،لها الإستمرار دائماً،دنيا وآخرة..]،[.. فقد يكون الوَليّ: بَشيراً ونَذيراً،ولكن لا يكون مُشرّعاً. فإن الرسالة والنبوة والتشريع قد إنقطعت،فلا رسول بعده صلى الله عليه وسلم ولا نبيّ،أي: لا مُشرّع ولا شريعة..]،[والولاية لها الأوليّة،ثُمّ تَنصحب وتثبُت ولا تزول. ومن درجاتها: النبوة والرسالة،فينالها بعض الناس. وأما اليوم،فلا يَصل إلى درجة النبوة ــ نبوة التشريع ــ أحد،لأن بابها مُغلق،والولاية لا تَرتفع دنيا ولا آخرة. ومن أسمائه “الوَليّ”،وليس من أسمائه “نبيّ” ولا “رسول”. فلهذا إنقطعت النبوة والرسالة لأنه لا مُستند لها في الأسماء الإلهية،ولم تنقطع الولاية فإن الإسم الوليّ يَحفظها..]،[.. نبوة الوارث قمرية،ونبوة النبي والرسول شمسية..]،[الأنبياء ــ نبوة عامة ــ على نوعين: أنبياء تشريع وأنبياء لا تشريع لهم. وأنبياء التشريع على قسمين: أنبياء تشريع في خاصتهم غير رُسل،كقوله: (إلا ما حَرّم إسرائيل على نفسه)،وأنبياء تشريع في غيرهم وهم الرّسل..]،[فإن تلك النبوة ــ نبوة التشريع ــ ليس لنا فيه قَدم..].
__ النبوة: مقام عند الله يَناله الخاصة من البشر،يُعطى للنبي المُشرّع،ويُعطى إرثاً للتابع لهذا النبي. والنبوة هنا لم تُعطَ معناها الخصوصي الذي إنقطع،بل حافظت على معنى النبوة العامة. أما النبوة التي إنقطعت،والتي يشملها الحديث: “فلا نبي بعدي”،فهي ذَوق العبودية الكاملة التامة..
يقول إبن عربي: [.. فإن النبوة التي إنقطعت بوجود رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي نبوة التشريع،لا مَقامها..]،[.. وفي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد إنقطعت نبوة التشريع،فلا نبيّ بعده،يعني: مُشرّعاً أو مُشرّعاً له.. وهذا الحديث قَصَم ظهور أولياء الله،لأنه يتضمن إنقطاع ذَوْق العبودية الكاملة التامة..]..
_ النّفَس الرحماني / العَماء _
_ ماهية النَفَس الرحماني: عبارة عن الجوهر الذي تَفتّحت فيه صور الوجود بأجمعها،وهو يَحتويها صور الوجود بالقوة،كما يحتوي نَفس الإنسان جميع ما يَصدُر عنه من كلمات وحُروف. النفس الرحماني أطلقه إبن عربي على الوجود في صورته الأولى قبل أن تظهر فيه أعيان الممكنات. أي: هو سابق لمَرحلتي وجود المُمكن: الثّبوت (عالَم الثبوت)،والظهور في الأعيان (العالَم الخارجي). ولا يخفى ما للنّفَس من علاقة: بالكلام من جهة،وبالنّفخ من جهة ثانية.. وقد فسّر إبن عربي بهما (الكلام والنّفخ) الخَلق والمخلوقات.. يقول إبن عربي: [.. وليست الطبيعة على الحقيقة إلا النفس الرحماني،فإنه فيه إنفتحت صور العالَم،أعلاه وأسفله،لسَريان النّفخة في الجوهر الهيولاني في عالم الأجرام خاصة..]،[والكلمات كظهور العالَم من العماء،الذي هو نَفَس الحق الرحماني،في المراتب المُقدّرة في الإمتداد المُتوهّم لا في الجسم..]،[فالكلمات عن الحروف،والحروف عن الهواء،والهواء عن النفس الرحماني..].. _ مُبرّرات التّسمية: يقول إبن عربي: [ولهذا الكَرب تَنفّس،فنَسب النَفَس إلى الرحمن،لأنه رَحم به ما طلبته النّسب الإلهية من إيجاد صور العالَم،التي قُلنا هي ظاهر الحق،إذ هو الظاهر..]..
فالكَرْب: موجود على مستوى الأسماء الإلهية التي تطلب الكون لظهور ربوبيتها.. [فأول ما نَفّس عن الربوبية بنَفسه المنسوب إلى الرحمن،بإيجاده العالَم الذي تطلبه الربوبية بحقيقتها وجميع الأسماء الإلهية..].
والتنفّس: الذي وَقع،كانت صورته العَماء من حيث أن العماء،الذي هو السحاب،يتولّد من الأبخرة،ونفس الرحمن بُخار رحماني. فالعماء أول صورة قَبلها النَفَس..
فسبب نسبة هذا النّفَس إلى الإسم الإلهي الرحمن: لأن إبن عربي يَحصر معناه ب”الوجود والإيجاد”.. [فهذا اللوح مَحلّ الإلقاء العقلي،هو للعقل بمنزلة حواء لآدم. وسُميت نَفْساً لأنها وُجدت من نَفس الرحمن،فنَفّس الله بها عن العقل إذ جعلها: مَحلاً لقبول ما يُلقى إليها،ولَوحاً لما يُسطّره فيها..]..
__ يستعمل إبن عربي النَفَس مُضافة إلى الألوهية لا إلى الرحمن،ويَجعلها أنفاس [نفس الرحمن لا يقبل الجَمع.].
يقول إبن عربي: [فإن قلت: وما النَفَس؟ قُلنا: روح يُسلّطه الله على نار القلب ليُطفي شَررها،لأجل سُلطان الحقيقة.]،[.. للأنفاس الإلهية مَعارج،تَعرُج عليها،إلى المَكر..]..
_ النِكاح _
النكاح عند إبن عربي: هو إزدواج شيئين لنتاج ثالث،على أي صعيد كان. وهو ما يُسميه أحياناً ب”التثليث”،ولذلك تتعدّد أنواع النكاح عنده بتعدّد توجّهات النتاج بين كل طرفين.
1_ النكاح: التثليث / النكاح المعنوي: تناسُل المعاني،النكاح المعقول: يقول إبن عربي: [فقام أصل التكوين على التثليث،أي من الثلاثة من الجانبين: من جانب الحق ومن جانب الخلق. ثمّ سَرى ذلك في إيجاد المعاني بالأدلّة،وهو أن يُركّب الناظر دَليله من مقدمتين،كل مقدمة تحوي على مُفردين،فتكون أربعة..]،[لما لم يصح وجود العين الحادث،المُعرّض للحوادث،إلا بوجود الإثنين والثالث،وذلك بتركيب المقدمات،لظهور المُولدات بنكاح محسوس ومعقول،على وجه وشرط معقول ومنقول..]،[.. (هو الذي يُصوركم في الأرحام كيف يشاء)،فمن الأرحام ما يكون خَيالاً،فيُصوّر فيه المُتخيلات كيف يشاء،عن نكاح معنوي وحَمْل معنوي،يفتح الله في ذلك الرّحم (الخيال) المعاني.. فيُريك الإسلام فيه والقرآن: سَمناً وعَسلاً..]،[.. وهو التناسل الذي يكون في العلوم،بمنزلة التناسل الذي يكون في النبات والحيوان،وهذا هو تناسل المعاني. ولهذا قَبلت المعاني الصور الجسدية،لأن الأجسان: مَحلّ التوالد..]..
2_ النكاح الإلهي: التناسل الإلهي: يقول إبن عربي: [.. فأما الإلهي (النكاح) فهو: توجّه الحق على الممكن في حضرة الإمكان بالإرادة الحُبيّة: “أحببت أن أعرف” الحديث،ليكون معها الإبتهاج..]،[.. ولا ظهر العالَم إلا عن هذا التوجه الإلهي على شيئية أعيان الممكنات،بطريق المحبة،للكمال الوجودي في الأعيان والمعارف،وهي حال تُشبه النكاح..]..
3_ النكاح الغيبي: نكاح المعاني: يقول إبن عربي: [فنزل النكاح الغيبي،وهو: نكاح المعاني والأرواح،ويختص بهذا المنزل علم التجلّي الإلهي..]..
_ نَهْر _
يتحول كل شيء،في عالَم إبن عربي،إلى صفة أو جَمعيّة صفات،تَعبُر به إلى الرّمز،فإذا عالَمه عالم رُموز،عالَم صفاتي.
النهر: مثلاً،ليس عنده مُجرّد ماء يجري،بل يُحلّل أجزاء هذه الصورة،ثمّ ينظُر في كل جزء (الماء ــ الجريان) على حِدَة. يستنبط صفات الجزء،ثمّ يؤلّف صورة جديدة تُمثّل: جَمعية صفات أجزائها.. ويمكن أن نحصر نصوص إبن عربي في النهر بصفتين:
الأولى: إمكانية الشّرب المُتمثّلة في مياه النهر،أعطَت هذا المصطلح بُعداً لا منتاهي الأجزاء،تحُدّه طبيعة الإنسان فقط. فكل ما للإنسان فيه نَصيب من: علم أو عمل،هو نَهر،فهو مَشرب الإنسان العلمي والعملي،من خير أو شرّ..
الثانية: جَريان النهر أعطت النهر طاقة الفصل عن الإنسان،وعدم قابلية الإحتواء. فالإنسان يأخُذ نَصيبه من النهر ولا يَمتلكه..
وهكذا تتكاثَر مفردات إبن عربي في النهر: فالدنيا نَهر يَجري نحو الآخرة..ونَهر الدنيا: مَلذّاتها العابرة.. وهكذا..
[نهر الحياة،نهر الماء،نهر البَلوى،نهر اللّبن،نهر العَسل،نهر الخمر،نهر القرآن: نهر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم..].
_ نهر البَلوى: هو التعرّض للفتنة والإختبار،لكأنما الإبتلاء بالنعمة والنّقمة: فتنة جارية في البشر.. _ نهر الحياة: عبارة رمزية يُطلقها إبن عربي،من باب التمثيل الوجودي،ليُصوّر تَنزيلاً لسيدنا جبريل.. فجبريل لا ينزل إلا على قلوب الأنبياء.. وحيث أن الأولياء علومهم من مشكاة النبوة،فلا بد من أن تكون الملائكة التي تتنزّل على قلوبهم،أدنى في المرتبة الوجودية من جبريل مع أنها منه.. لذلك يُصوّر إبن عربي ذلك فيَرى: أن الهي جعل لجبريل،كل يوم،غَمْسة في نهر الحياة / المُحيي،وعندما يخرج من غمسته يَنتفض كالطائر،فتتناثَر قطرات ماء نهر الحياة،خالقة ملائكة (سبعين ألف مَلَك)،تتنزّل على قلب المؤمن (البيت المعمور)..
_ نهر الخمر: علم الأحوال المُؤثّر في ذائقه.. _ نهر الدنيا: الدنيا،عند إبن عربي،ليست دار قرار،هي نهر يجري إلى الآخرة..
_ نهر القرآن: إشارة إلى علوم القرآن التي يأخذ الإنسان منها نَصيبه،دون أن يستطيع إمتلاكها كُلياً. فكلما إزداد الإنسان علماً بالقرآن،تَفتّحت في القرآن آفاق لا متناهية. ومن ناحية أخرى،عند إبن عربي،النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هو القرآن. وعلم النبي لا يُحيط به الإنسان ولا يتحقّق فيه كُلياً،بل كلما عَلم من العلوم المحمدية شيئاً،تفتّحت في الشخصية المحمدية وكينونتها آفاق لا متناهية. فلم يُحط بالقرآن إلا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.. _ نهر اللّبَن: يستفيد إبن عربي من إيحاءاته العلمية،فيجعله رمزاً للأسرار..
_ نهر العَسل: علم الوحي.. _ نهر الماء: علم الحياة..
_ نُوّاب سيدنا محمد _
الأنبياء والرسل جميعاً هم: نُوّاب سيدنا محمد،من حيث أنه مبعوث إلى الناس كافة. فكل نبيّ نابَ عنه في زمن من الأزمان،وعندما ظهر بنفسه لم يبق لغيره حُكم.. [.. فهي شرائع سيدنا محمد بأيدي نُوابه،فإنه المبعوث إلى الناس كافة. فجميع الرسل: نُوابه بلا شك،فلما ظهر بنفسه لم يبق حُكم إلا له،ولا حاكم إلا رجع إليه..]،[.. فسيدنا محمد: أبو الوَرثة،من آدم إلى خاتم الأمر من الوَرثة. فكل شرع ظهر وكل علم،إنما هو ميراث محمدي في كل زمان ورسول ونبيّ.. فظهر حُكم الكل في الصورة الآدمية والصورة المحمدية..]..
_ نور _
_ النور: إسم من أسماء الله تعالى،يجعله إبن عربي في رؤيته: 1 مبدأ الخلق أو مبدأ ظهور التعيّنات. 2_ مبدأ الإدراك أو العقل السّاري في الوجود.. / فهو أصل نور الوجود ونور الشّهود..
يقول إبن عربي: [والله تعالى أخرجنا من ظلمة العدم إلى نور الوجود،فكُنا نوراً بإذن ربنا.. فنُقلنا من النور إلى ظلمة الحَيرة..]،[.. ولولا النور ما ظهر للممكنات عَيْن..]،[ولكن باسم النور وَقع الإدراك،وإمتدّ هذا الظلّ على أعيان الممكنات في صورة الغيب المجهور..]،[.. من عرف نفسه عرف ربه،فيَعلم أنه الحق. فيخرج العارف المؤمن الحق بوَلايته،التي أعطاه الله،من ظلمة الغيب إلى نور الشهود. فيَشهد ما كان غيباً له،فيُعطيه كونه مَشهوداً..]..
_ حيث أن إبن عربي يَجعل الإسم النور مبدأ الوجود والإدراك،لذلك كل وجود أو خير فهو نور،لأصله الإلهي،في مقابل العدم والشرّ / ظلمة،أصل كَوني. يقول إبن عربي: [.. فالوجود: نور. والعدم: طلمة. فالشرّ عَدم. ونحن في الوجود: فنحن في الخير..]،[وما الظلمة والنور،اللذان عنهما الظلّ والضيّاء؟ قُلنا: النور كل وارد إلهي (نور) يُنفّر الكون (ظلمة) عن الظلمة..]،[والروح: نور. والطبيعة: ظلمة.].. _ الإنسان: في فكر إبن عربي تَمتّع بمكانة خاصة،فهو صورة للحضرتين: الإلهية والكونية. لذلك جمع في ذاته صفة الحضرتين،فهو: نور وظلمة،أو هو النور المُمتزج..
_ إستفاد إبن عربي من إسم النور وأهميته: صورتان تَخدُمان فكرته في الوجود الواحد. فالوجود الحقيقي واحد،يتكثّر في صور الممكنات. كما أن النور واحد،يتكثّر في الظلال.. _ يستعمل إبن عربي لفظ نور،يجمعها أنوار،في سياق معرفي إنسجاماً مع الإسم النور: مبدأ الإدراك. فتكون الأنوار هنا بمعنى الحقائق..
__ النور: مبدأ الخلق والإدراك،هو في الأمر نفسه: يُفني ولا إدراك فيه،بل يُدرك الإنسان في الضيّاء..
_ النار _
_ النار: هي إحدى مَنزلي الآخرة منزل الأشقياء،في مقابل الجنة وطريقها. وهي نار أعمال الإنسان الظاهرة والباطنة،أي هي نتيجة أعمال وليست إبتداء من الله ولا ميراثاً كالجنة. وهي دار غضب،لها مائة دَرك. يقول إبن عربي: [وليس في النار: نار ميراث،ولا نار إختصاص. وإنما ثَمّ نار أعمال..]،[وإن لم يخرج صاحب الكبيرة من النار لأنها موطنه ومنها خُلق،حتى لو أخرج منها في المآل لتَضرّر ــ فله فيها نَعيم مُقيم لا يشعر به إلا العلماء بالله..].. فلا يدوم شَقاء أهل النار في النار،بل سُرعان ما يتحوّل بالرحمة إلى نعيم مُقيم،دون أن يخرجوا من النار.. _ النار تنحصر في أنها: نار أعمال،وبما أن أعمال الإنسان تنقسم: ظاهرة وباطنة،كذلك جزاء تلك الأعمال (النار) ينقسم ظاهراً وباطناً..
نار الله: نار مُمثّلة نتيجة أعمال معنوية باطنة،مثل الجهل والكفر والنفاق.. ونار جهنم: نار لَهب نتيجة أعمال حسية ظاهرة..
فسبب المؤاخذات الإلهية في الآخرة: أعمال الإنسان في الدنيا،الظاهرة والباطنة..
يقول إبن عربي: [فنار جهنم: لها نضج الجلود وحَرق الأجسام. ونار الله نار ممثلة مجسدة،لأنها نتائج أعمال معنوية باطنة..]،[(نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة): والأفئدة باطن الإنسان،فهي تَظهر في فؤاد الإنسان،وهي النار الباطنة..]،[وعن النار الباطنة ظهرت النار الظاهرة،والعبد منشأ النارين في الحالين..]..
== حرف الهاء ==
_ الهَباء _
_ الهَباء: هو المادة المُحدثة التي خَلق الله فيها صور العالَم،فهي الجوهر المُظلم قَبل صور أجسام العالم. وهي ما يُسميها الفلاسفة الهيولى ــ في مقابل الصورة ــ وتختلف في ماديتها عن الجسم الكُل الموجود المُتعيّن،في أنها غير مُتعيّنة،جوهر يَقبل المعاني. والهباء من حيث كونه المادة المُظلمة التي أوجد الله فيها صور العالَم،أضحت مُرادفاً لمادة،ويُضاف إليها الصفة: طبيعي أو صناعي،بحسب درجة وجود الصور التي قَبلتها. فإن قَبلت الصور الطبيعية فهي الهباء الطبيعي،وإن قَبلت الصور الصناعية فهي الهباء الصناعي.. [والجسم القابل للشكل هو هَباء،لأنه الذي يقبل الأشكال لذاته،فيظهر فيه كل شكل وليس في الشكل منه شيء.. والأركان هباء للمُولدات،وهذا هو الهباء الطبيعي. والحديد وأمثاله هباء لكل ما تصوّر منه من سكين وسيف وسنان وقدوم ومفتاح،وكلها صور وأشكال،ومثل هذا يُسمى الهباء الصناعي..]. 1 الهباء: مادة صور أجسام العالم: يقول إبن عربي: [.. الهباء الذي فتح الله فيه صور أجسام العالَم،المُنفعل عن الزمرّدة الخضراء.]..
2_ الهباء: له التشكّل في الصور،ولكن لا يتحول عن كينونته: يقول إبن عربي: [والجسم القابل للشّكل هو هَباء،لأنه الذي يقبل الأشكال لذاته،فيظهر فيه كل شكل،وليس في الشكل منه شيء وما هو عين الشكل.]..
3_ الهباء: الهيولى: يقول إبن عربي: [.. وفيه علم ما يبدو للمُكاشَف إذا شاهَد الهباء،الذي يُسميه الحكماء الهيولى،من صور العالَم،قَبل ظهور أعيانها في الجسم الكُل..]،[فالطبيعة والهَباء: أخ وأخت لأب واحد وأم واحدة. فأنكح الطبيعة الهَباء،فولد بينهما (صورة الجسم الكل)،وهو أول جسم ظَهر. فكان الطبيعة الأب فإن لها الأثر،وكان الهباء الأم..]..
_ الهَجير _
الهَجير: هو ما يُلازمه العبد من الذكر على طريق الإكثار،بلسان الباطن والقلب،لا مجرد القول باللسان،بنيّة الفتح..
يقول إبن عربي: [اعلم أن الهجير هو الذي يُلازمه العبد من الذكر،كان الذكر ما كان،ولكل ذكر نتيجة لا تكون لذكر آخر..]،[فالهَجير هو الكثرة من الذكر دائماً.]..
_ هُدى _
_ الهُدى: هو أن يَهتدي العبد إلى الحَيْرة.. [فالهُدى: هو أن يهتدي الإنسان إلى الحَيرة،فيَعلم أن الأمر حَيرة. والحيرة قَلق وحركة،والحركة حَياة.].. _ الهُدى التّبياني / الهُدى التوفيقي: الإسم الإلهي الهادي هو أصل الهداية في الأكوان،وهو الهادي على الحقيقة من خَلف حُجُب الرسل والأنبياء.. أما الرسل والأنبياء فمن حيث كونهم هُداة،لهم التبليغ والإبانة فقط (هُدى تبياني)،وليس لهم توفيق البشر إلى الهداية،فهذا للحق فقط..
_ المَهْديّ _
_ فكرة المهدي تَضرب عُمقاً في جذور الفكر الإنساني،لكأنها محفورة في قَوالبه (الفكر ــ نفسية). فالكل،على إختلاف مذاهبهم وتنوع عقائدهم،ينتظر يوماً موعوداً يَعُمّ فيه العدل ويرتفع الظلم من العالم.. ولذلك لا نستطيع أن نقول إن فكرة المهدي هي إسلامية فقط أو شيعية أو صوفية خاصة.. ولن نتعرّض لما تحويه هذه الفكرة للأوساط الفقيرة والمظلومة من جوانب نفسية تعويضية،لأننا نُفرّغ فكرة المهدي من دلالتها الفلسفية.. _ إهتمّ الفكر الشيعي بالمهدي،والفرق الوحيد بينه وبين الفكر الصوفي: أن المهدي في الفكر الشيعي هو شخص معيّن بذاته،وجد في زمان سابق،وبالتالي طرح أمامهم مشكلة هذه الغيبة الطويلة.. على حين إحتفظ في الفكر الصوفي بصورة بسيطة نراها عند إبن عربي..
_ المهدي: خليفة لله،نَصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على إمامته،فالعالَم كله بانتظار ظهوره. إسمه: إسم رسول الله،وهو من آله.. [هذا الخليفة (المهدي) من عزّة رسول الله صلى الله عليه وسلم،من ولد فاطمة،يُواطئ إسمه إسم رسول الله،جدّه: الحسن بن عليّ بن أبي طالب.. كما أنه ما نَصّ رسول الله على إمام من أئمة الدين،يَرثُه ويَقفو أثَره ولا يُخطئ،إلا المهدي خاصة. فقد شَهد بعصمته في أحكامه..]. _ يظهر المهدي بكل صفات الولاية من فعل،فيُبدّل الأحكام في العالَم:من الجور إلى العدل ومن الجهل إلى العلم ومن الفقر إلى الغنى ومن الضعف إلى القوة.
وهذا التبديل أعطاه الحق القُدرة عليه،فهو: وَليّ وخليفة وإمام،يُضاف إلى ذلك طاقة الهداية التي إكتسبه الإسم المهدي..
__ المهدي يظهر بالولاية (إرثاً محمدياً)،بكل ما تحويه من أبعاد: فعل وعرفان. في مقابل النبي سيدنا محمد،ظَهر بالنبوة (ولايته باطنة)..
يقول إبن عربي: [ينفُخ المهدي الروح في الإسلام،يَعزّ الإسلام به بعد ذُلّه. يُظهر من الدين ما هو الدين عليه في نفسه،ما لو كان رسول الله لحَكم به. يرفع المذاهب من الأرض،فلا يبقى إلا الدين الخالص. أعداؤه مُقلّدة العلماء أهل الإجتهاد..].
يفصل إبن عربي هنا بين: الكلمة أو النص،والشخص ــ الإنسان. فالمسلم اليوم،ولو إتّبع السنة المحمدية،يفهمها على أنها كلمات وأفعال. والمطروح هنا: الشخص نفسه،لأنه روح الكلمة والفعل،هو الثابت في تحولها. هذه الروح التي لا يفهمها المسلم اليوم،لأنه أسير الكلمات والأفعال. كما أنه من ناحية ثانية: الكلمات والأفعال تأخذنا إلى الماضي،فهي عودة إلى الوراء. على حين أن الشخص طاقة حركية مُتطوّرة،تتفاعل مع الزمن..
_ الهِمّة _
_ الهمّة: قوّة أو طاقة فعّالة في الإنسان،لها مصدران فيه: أصل الجِبلّة والتربية والإكتساب. ولم نَر،قبل إبن عربي،من نَبّه على مَصدري الهمّة،فأعطى الإستعداد والتربية حَقّهما. ووجود الهمّة في أصل الجبلّة: إمكان،لذلك تَمام وجود الهمّة في العبد هو: تَفتّح إمكاناتها من خلال تعلّقاتها ودَور العشق فيه.. يقول إبن عربي: [واعلم أن وجود هذه الهمّة في العبد على نَوعين،ولها مرتبتان: همّة تكون في أصل خِلقة العبد وجٍبلّته. وهمّة تحصُل له بعد أن لم تكن،فإذا عَلمها الإنسان من نفسه صَرّفها فيما أراد من الموجودات،كنُطق عيسى في المهد،بأمر الله،وهمّة مريم.. إنها (أي الهمّة)،عندنا،كلها أسباب،يفعل الحق سبحانه وتعالى الأشياء عندها،لا بها..]،[فقول لوط: (لو أن لي بكم قوة) أي: همّة فعّالة.]،[وقد نَبّه الرسول على الترقّي في تأثير الهِمَم،بقوله: “تعلّموا اليقين فإنّي مُتعلّم معكم”،وقوله في عيسى: “لو إزداد يقيناً لمَشى في الهواء”..].. ويقول: [اعلم أنه لما إصطحب الألف واللاّم “لا” صَحب كل واحد منهما مَيل،وهو الهوى والغرض،والمَيل لا يكون إلا عن حركة عشقية. فكان اللاّم،في هذا الباب،أقوى من الألف لأنها أعْشَق: فهِمّتها أكمل وجوداً وأتَمّ فعلاً.. وهذا كله (مَيْل الألف واللاّم لبعضهما) تُعطيه حالَة العشق،والصدق في العشق يورث التوجّه إلى طَلب المعشوق،وصدق التوجّه يورث الوصال من المعشوق إلى العاشق.]. يتّضح هنا أن الهمّة في الأصل: طاقة محضة ــ عامة،غير مُوجّهة في الإنسان،تَقبل التعلّق. ومن قبولها للتعلّق يَظهر دور الإكتساب والتربية فيها،وإمكانية التوجيه الموصلة لتفتّح إمكاناتها كافة.. والإرادة تُوجّه الهمّة في تعلّقاتها.. ولا يخفى علاقة الإرادة بالمريد،وبالتالي دَور التّسليك في الوصول بالهمّة إلى مقام الفعل. وفي نصّ الشيخ الكمشخانوي،في رَسمه صورة الهمّة في ترقّيها ما بين البدايات والنهايات،نَرى جدلية علاقة الترقّي بين الهمّة والإرادة،يقول: [الهمّة: هي التوجّه إلى الحق بالكُلية،مع الأنَفة من المُبالاة بحظوظ النفس من الأغراض والأعواض،وبالأسباب والوسائط كالعمل والأمل والوثوق به. وصورتها في البدايات: عقد الهمة بالطاعة،والوفاء بعهد التوبة. وفي الأبواب: تعلّق القلب بالنعيم الباقي،وصَرف الرّغبة عن الفاني،والجدّ في الطّلب عند التواني. وفي المعاملات: همّة باعثة على الإستقامة في العمل،مع دوام المراقبة وقوة الثّقة بالله في التوكل والتّسليم. وفي الأخلاق: صَرف الهمّة بالكُلية إلى إحراز السعادات والكمالات. وفي الأصول: همّة جاذبة صاحبها إلى جناب الحق بقوة اليقين وروح الأنس،مانعة عن الفتور في السّير والزّيغ عن القصد. ودرجتها في الأحوال: صيرورة الهموم هَمّاً واحداً،باستيلاء العشق. وفي الولايات: همّة تتصاعد عن الأحوال والمقامات إلى حضرة الأسماء والصفات. وفي الحقائق: همّة تَعلو الصفات،وتَنحو عن النّعوت نحو الذات. وفي النهايات: لا همّة إلا التأثّر بمؤثريّة الحق في جميع الممكنات..].. _ تَبرُز ممّا سَبق أهمية تعلّقات الهمّة،إذ هي الأساس في: [إختلاف الهِمَم ــ تَرقّي الهِمَم ــ إسقاط التعلّقات نفسها،الواحد تلو الآخر ــ الحُكم على الهمم.]..
1_ إختلاف الهمم: الهمّة طاقة فقط،لذلك تتشعّب باختلاف تعلّقاتها،تَبعاً لإرادة صاحبها.. فالهمّة تَفعل في ميدان تعلّقها.. وهذا لا يعني أن الهمّة سلبيّة لا تؤثّر في صاحبها،لأن الهمة في وَجهها المغروس في جبلّة الإنسان تُؤثّر فيه إن كانت قويّة..
يقول إبن عربي: [إن إختلاف الهمم باختلاف المَطامع،لأن الهمم متعلّقة بها. ولولا المطامع لإنقطعت الهمم،ولولا الهمم لبطلت الأعمال..]..
2_ الترقّي الهمَم،وترقي الهمم: الهمَم من تعلّقها: بالأعلى دون الأدنى تترقّى،وبالثابت دون الفاني تُحصّل السعادة..
يقول إبن عربي: [وكيف لا تُخترق هذه المقامات وتُخصّ بهذه الكرامات،وهمّة ذلك الشخص: بُراقُك،فما مَرّ البُراق ببَيت مُشيّد إلا وإخترقه وخَرقه..]،[.. يقولون: الهمّة على ثلاث مراتب: همّة تَنبّه،وهمّة إرادة،وهمّة حقيقة.]..
3_ إسقاط التعلّقات: كنتيجة طبيعية لتَرقّي الهمّة: تسقُط التعلّقات،حتى لا يبقى تعلّق للهمّة سوى الحق،وتصير الهموم هَماً واحداً.. وفي هذه المرحلة يظهر: الفعل والتأثير بالهمّة لقيامها في مقام الجَمعية..
4_ الحُكم على الهمم: إن الهمّة كقوة باطنة في الإنسان،لا تتحقّق إلا بمتعلقاتها،وبالتالي ظهورها لا يكون إلا في مستوى التعلّق بالذات.. فالهمّة في البدايات لها صورة تختلف عن صورتها في الولايات،عن صورتها في الحقائق..
_ إن الهمّة من حيث كونها طاقة لها: الفعل. وهي موجودة في كل إنسان،وفعلها في كل إنجاز واضح.. ولم يزد الصوفية على أنهم إستفادوا من الهمّة كطاقة،ونَقلوا فعلها من مستوى الظاهر ــ تأثيرها بالإنسان،ومن خلاله بالأشياء المحسوسة،إلى مستوى الباطن ــ الإنسان يفعل بالهمّة ما لا يُمكن فعله إلا بالأسباب. وعندما حَقّق الصوفية هذه النّقلة ظَهرت الهمّة: أداة تأثير وفعل.. وأخذت وجه الكرامة وخَرق العادة.. [ولست أعني بالكرامات إلا ما ظهر عن قوة الهمّة.].. يقول إبن عربي: [الهمة: كل ما لا يتوصّل إليه شخص إلا بجسمه أو بسبب ظاهر،ويتوصّل إليه النبيّ والوليّ بهمّته،وزيادة. والزيادة هي الأمور الخارجة عن مقدور البشر رأساً..]،[فصاحب الهمّة له الفعل،بالضرورة،عند المحققين. هذا حظّ الصوفي ومَقامه..]،[بالوَهْم يَخلُق كل إنسان،في قوة خَياله،ما لا وجود له إلا فيها،وهذا هو الأمر العام. والعارف يخلُق بالهمّة ما يكون له وجود من خارج مَحلّ الهمّة،ولكن لا تزال الهمّة تَحفظه.].. _ الفعل بالهمّة والفعل بالحَرف: يقول إبن عربي: [.. وهذا الفعل بالحرف المُستحضر يُعبّر عنه بعض من لا علم له بالهمّة وبالصدق. وليس كذلك: وإن كانت الهمّة روحاً للحرف المُستحضر،لا عين الشكل المُستحضر..]،[فمن عَلم،من المحققين،حقيقة “كُن”،فقد عَلم العلم العيسوي. ومن أوجَد بهمّته شيئاً من الكائنات،فما هو هذا العلم (العلم العيسوي).]..
فالفعل بالحرف لا يستلزم همّة الشخص الناطق بالحرف.. ومن هنا الأسماء التي إستحقّتها الهمّة: الصدق وغيره،لأن الفعل لها..
_ البُعْد العرفاني في فعل الهمّة: وهنا تَظهر الهمّة: أداة معرفة عند الصوفي.. [.. فالْزَم الخلوة،عَلّق الهمّة بالله الرحمن،حتى تَعلم.]،[فيحصُل لصاحب الهمّة في الخلوة مع الله وبه،من العلوم ما يَغيب عندها كل مُتكلم على البسيطة،بل كل صاحب نَظر وبُرهان ليست له هذه الحالة،فإنها وَراي النظر العقلي.].. _ ظهرت الهمّة من خلال التعريفات أنها: أداة تأثير وفعل يستخدمها الصوفي،فالصوفي إذن: موجود،يختار ويَفعل. وهذا يُنافي ما يطلبه في سلوكه إلى الله،أي الفناء وتَرك الإختيار.
ينتُج عن ذلك أن: الفعل بالهمّة والعرفان في علاقة جدلية،يَنقُص أحدهما فيَزيد الآخر. وهكذا حتى نَصل إلى: تَمام قُدرة الفعل بالهمّة،وإنتفاء الإختيار فيه بتأثير العرفان..
يقول إبن عربي: [فإن قُلت: وما يمنعه (النبيّ لوط) من الهمّة المُؤثّرة،وهي موجودة في السالكين من الأتباع،والرسل أولى بها؟ قُلنا: صَدقت،ولكن نَقصك علم آخر،وذلك أن المعرفة لا تَترك للهمّة تَصرّفاً،فكلما عَلت معرفته (الإنسان) نَقص تصرّفه بالهمّة.]،[وأما نحن (إبن عربي وأمثاله) فما تَركناه (التصرّف) تَظرّفاً ــ وهو تركه إيثاراً ــ وإنما تركناه لكمال المعرفة،فإن المعرفة لا تَقتضيه بحُكم الإختيار. فمتى تَصرّف العارف بالهمّة في العالَم فعَن أمر إلهي وجَبر،لا إختيار.]..
__ لا بد من التنويه بأن الهمّة موجودة بأسماء مختلفة عند كل طائفة،وهذه الأسماء مَنبعها: خاصيّتها في الفعل. فهي عند المتكلمين الإخلاص،وعند الصوفية الحُضور،وعند العارفين الهمّة. أما إبن عربي فيُفضّل أن يُسميها العناية الإلهية،وربما مرجع ذلك إلى أن إمكاناتها في أصل الجبلّة: عناية إلهية..
_ الهُو _
الهُو: إعتبار الذات الإلهية من حيث كونها غَيباً،لما يتضمّنه الضمير “هو” من الإشارة إلى غائب. فالهو: دَليل الذات التي لا تُشهَد أبداً،وهو الحضرة الأسمائية.
يقول إبن عربي: [.. فإن قُلت: وما الهو؟ قُلنا: الغيب الذاتي الذي لا يصح شهوده،فليس ظاهراً ولا مظهراً..]،[فإن الهوية معلومة غير مشهودة،وهي التي يَنطلق عليها إسم الهو.]..
== حرف الواو ==
_ ميثاق ــ ميثاق الذرّية _
المترادفات: إيمان الذر،قبضة الذرية،الميثاق الأول،فطرة “بَلى”،الميثاق الخالص لنفسه.
_ إحتلّت “آية الميثاق” مَكاناً مرموقاً في الفكر الصوفي،فقد أقام الجنيد بُنيان تصوفه النظري والسلوكي عليها. فهذه الآية تدل دلالة واضحة عنده على وجود للإنسان يكون فيه: موجوداً لرَبّه فقط،مفقوداً لكل ما عداه. فمن الناحية السّلوكية: أضحى السلوك الصوفي لديه محاولة للعودة بالإنسان إلى هذه الحالة التي كان عليها قبل أن يوجد لنفسه،إلى حالة الميثاق. ومن الناحية النظرية: الميثاق هو الأساس الذي فسّر على ضوئه نظريته في: الفناء والتوحيد والألوهية. _ لم يكن إبن عربي غريباً على الأهمية التي طرحتها آية الميثاق في الفكر الصوفي. فهو،وإن لم يجعلها أساساً في بنية تصوفه الفكري والسلوكي،فقد تَبنّاها،جاعلاً حالة العبد في الميثاق،بما يُميّزها من الإقرار بالربوبية: الفطرة التي يولد عليها الإنسان،فطرة “بَلى”..
يقول إبن عربي: [.. وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “كل مولود يولد على الفطرة” وهو الميثاق الخالص لنفسه..]،[.. فلو تَجلّى تعالى لهم (للخلق) في الصورة التي أخذ عليهم الميثاق فيها،ما أنكره أحد. فبعد وقوع الإنكار،تحوّل لهم في الصورة التي أخذ عليهم فيها الميثاق،فأقرّوا به لأنهم عرفوه..]..
__ وَثيقة الحق: هي الكُتب الإلهية التي فصّلت حقوقه تعالى على عباده،والحقوق التي كَتبها على نفسه تُجاهَهم.. [.. والكتب الإلهية: وثائق الحق على عباده،وهي كتب مُواصفة وتحقيق: بما له عليهم،وما لهم عليه مما أوجبه على نفسه لهم،فضلاً منه ومِنّة،فدخل معهم في العُهدة فقال: (أوفوا بعهدي أوف بعدكم).]..
_ الوُجود _
_ لقد تكلّم إبن عربي على الوجود بلغة التجربة الصوفية والمقامات،يقول عن طبقة أنهم: أهل الوجود أو أهل الكشف والوجود،ويريد بذلك الذين يجدون الحق في وَجدهم.. يقول إبن عربي: [ما حَصل على الوجود إلا من زَهد في الموجود.]. فالوجود هنا مقام قابل للتحصيل،ثَمنه الزّهد في الموجود،بمعنى الموجودات،أي كل ما سوى الله.. ويقول: [.. فمن إدّعى سماع الإيقاع في الأسماع وما له وجود،فهو من أهل الحجاب،والمحجوب مَطرود. هل ظهر عن “كُن” إلا الوجود،وهذا سارٍ في كل موجود..]. نلاحظ هنا أن الحاتمي ينتقل من الوجود الحاصل في الوَجد الناتج عن السماع،إلى الوجود الحاصل في التعيّن الخارجي الناتج عن كلمة الحضرة “كُن”.. إن الوجود الحاصل في الوجد نَتج عن السّماع،كما نتج الوجود الحاصل في التعيّن الخارجي عن السّمع،أي سَمْع الممكن أمر الحق بلفظ “كُن”. فالسّمع يُوازي السّماع،والوجود في الوَجد يُقابل الوجود في العَين الخارجية.. _ إستعمل إبن عربي لفظ الوجود للدلالة على: تعيّن الأشخاص في الوجود الخارجي،في مقابل عالَم الثّبوت. وبذلك يكون الوجود هنا هو العالَم المحسوس،في مقابل العالَم المعقول / ثُبوت..
يقول إبن عربي: [.. الثّبوت: بَسيط مُفرد،غير قائم شيء بشيء. وفي الوجود ليس إلا التركيب،فحامل ومحمول..]،[وقد صحّ وصفه بالعدم والوجود معاً،في زمان واحد،وهذا هو الوجود الإضافي..].
مثال: العدم والوجود في زمان واحد،قولنا: زيد،في عَينه،موجود في السوق معدوم في الدار. فهو موصوف بالوجود والعدم معاً،في زمان واحد..
_ إنفراد نظرة إبن عربي إلى الوجود،نُلخصها في النقاط التالية: 1 الوجود والجنس: لم يجعل إبن عربي الوجود جنساً يتحقّق بأشخاصه،ولا يوجد خارجاً عنهم. بل على النقيض من ذلك،جعل الوجود عكس الجنس:
الجنس: وَحدته إعتبارية وكَثرته حقيقة،كما أنه لا يوجد خارج أعيان أشخاصه. في حين أن الوجود: وحدته حقيقة وكثرته إعتبارية،ولا يتحدّد وجوده بوجود أشخاصه..
يقول البرزنجي في شرح كلام إبن عربي: [إسم الجلالة الله: أحديّ الذات،كُلّي الصفات والأسماء. أي: وَحدته ذاتية وكثرته إعتبارية،فهو عَين كل من تعيّناته من حيث الظهور فقط،لا من حيث الحقيقة. إذ الحقيقة: ذاتية. وعَينه،تعيّنه الخارجي: إعتبارية. فهو عكس الجنس،وبيانه: أن الجنس إعتباري الوحدة والذات،ذاتي الكثرة والتعيّنات،فهو عين كل من تعيّناته بذاته.. فمن قال: الوجود عَين تعيّناته بالحقيقة،فقد إلتَبس عليه الأمر،لعَدم الفرق بين التعيّنين،لما بين حُكمي الوجود والجنس من اللّبس الخَفيّ. فالوجود ذاتي،وتعيّناته إعتبارية. والكُلّي إعتباري،وتعيّناته ذاتية. فإفترقا من حيث الحقيقة والعَين (التعيّن)،وإتّحدا من حيث الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة..].
إذن: الوجود،عند إبن عربي،ليس جنساً أشخاصه الموجودات.
2_ الوجود بين القدم والحدوث: لقد دَرجت الفلسفة وعلم الكلام على التّفريق بين وجود القديم ووجود الحادث [يرى النابلسي: أن المتكلمين خَلطوا بين وجود وموجود.]. لكن الشيخ الأكبر لم يُتابع هذا الخطّ،بل نجده يقف الوجود على القديم ويَنفي وجود الحادث.
فليس هناك وجود حادث،بل هناك موجودات حادثة. وهنا يُفرق بين الوجود والموجود: فالموجودات ليست موجودة بوجود حادث،بل هي موجودة بالحق.. الموجودات ليس لها وجود،بل هي ثابتة في العدم لم تُفارقه.. وإذا أطلق إبن عربي،أحياناً،على الموجودات صفة الوجود،فهو محض إشتراك لفظي لا معنوي. فالوجود للحق والعدم للممكن..
ومن هنا برزت كل الصفات التي ألحقها على وجود الممكن ــ في مقابل الوجود الحقيقي / الوجود المطلق والصّرف،الذي هو للحق ــ مثلاً: [الوجود الخيالي،الوجود الإضافي،الوجود المقيّد،الوجود الإمكاني،الوجود المُستفاد،الوجود المُستعار،الوجود المَجاز.] وما إلى ذلك من عبارات تدل على طبيعة وجود الممكن..
وهكذا تخلّص إبن عربي من مشكلة وجود المخلوقات،بأن جعلها ثابتة في العدم لم تُفارقه،واضعاً إيّاها أمام إفتقارها الدائم المُستمرّ إلى الحق،من حيث أنه خالق على الدّوام (خلق جديد)،ويكون وجودها هو وجود الحق ليس إلا..
يقول إبن عربي: [.. ليس إلا وجود الحق.. والموصوف بإستفادة الوجود هو على أصله،ما إنتقل من إمكانه،فحُكمه باقٍ وعَينه ثابتة.. فقَبلَ التكوين،وقبوله للتكوين أن يكون: مَظهراً للحق،فهذا معنى قوله “فيكون”،لا أنه إستفاد وجوداً،وإنما إستفاد حُكم المَظهريّة.. فهو تعالى عَين كل شيء في الظهور،ما هو عين الأشياء في ذواتها سبحانه وتعالى،بل هو هو،والأشياء أشياء..]،[الحق هو الوجود،والأشياء صُور الوجود.]..
وفي تصنيف الموجودات،يقول إبن عربي: [.. الموجودات وأصنافها،وهي على أقسام: 1_ وجود مطلق: لا يُعقل ماهيّته،ولا يجوز عليه الماهية،وهو الله تعالى. 2_ موجود مجرّد عن المادة: وهي العقول المُفارقة،الروحانية القابلة للتشكيل والتصوير،وهي المُعبّر عنها بالملائكة. 3_ موجود يَقبل التحيّز والمكان: وهي الأجرام والأجسام. 4_ موجود لا يقبل التحيّز بذاته ولكن يقبله بالتبعية: وهي الأعراض..].
نُلاحظ كيف أن إبن عربي: عندما تكلّم على الله إستعمل لفظ الوجود،وعندما أشار إلى كل ما سواه أطلق لفظ موجود..
يقول البرزنجي: [فلا وجود حقيقي،لا يقبل التبديل،إلا ذات الحق تعالى. فما في الوجود المحقق إلا الله تعالى،وأما ما سواه ففي الوجود الخيالي. فكل ما سوى الحق فهو في مقام الإستحالة..]..
_ الوجه الخاص _
وردت عبارة الوجه الخاص،عند إبن عربي: نكرة ومُعرّفة.
_ الوجه الخاص: معرّفة: إن الإمداد الإلهي للممكنات بوجهيه: الوجودي والعلمي،دائم مُستمر مع الآنات. وهذا الإمداد الإلهي يكون إما: بتوسّط الأسباب بين الحق والعبد (الأنبياء،الملائكة..). وإما مباشرة من الحق إلى العبد،وهو المقصود ب”الوجه الخاص”. إذ لكل ممكن أو عبد وجه خاص بينه وبين الحق يَصله منه الإمداد الوجودي والعلمي،وهذا الوجد والإمداد غَيب لا يعلم كُنهه أحد.. ونصوص إبن عربي في هذا الوجه الخاص / المعرّف،تتلخّص في المواضيع التالية: [باب خاص إنتفت فيه الوسائط،إمداد خاص من الوجه الخاص،الوجه الخاص في الكشف والشهود،الوجه الخاص في الأحوال،الوجه الخاص: غيب،سِرّ إلهي.] يقول إبن عربي: [.. وهذا العارف هَمّه،أبداً،مصروف إلى الوجه الخاص الإلهي،الذي في كل موجود.. فينظُر في ذلك الأمر من حيث الصورة الأولى الإلهية،ويَترك الوسائط..]،[.. فإذا أوحى الله إلى الرسول البشري،من الوجه الخاص بارتفاع الوسائط،وألقاه الرسول علينا: فهو كلام الحق لنا من وراء حجاب.]،[إن لله تعالى في كل موجود وجهاً خاصاً،يُلقي إليه منه ما يشاء،ممّا لا يكون لغيره من الوجود. ومن ذلك الوجه: يَفتقر كل موجود إليه..]،[.. فالنيّة في الأعمال لا تكون من العبد إلا من الوجه الخاص،لأنها غيب.].. _ الوجه الخاص: نَكرة: إستعمل إبن عربي عبارة الوجه الخاص نَكرة: للإشارة إلى تَعيين الألوهية بوجه من وجوهها،أي: إسم من أسمائها،في مقابل الإسم الجامع الله..
يقول إبن عربي: [فعَلمنا أن الصبر إنما هو: حَبس النفس عن الشّكوى لغير الله. وأعني بالغَير: وَجهاً خاصاً من وجوه الله. وقد عَيّن الله الحق وجهاً خاصاً من وجوه الله،وهو المُسمى: وجه الهوية،فتدعوه من ذلك الوجه في رفع الضرّ،لا من الوجوه الأخر المُسماة أسباباً..]..
_ التوجّه الإلهي _
التوجه الإلهي: هو تعلّق خاص لإيجاد المخلوقات من كونه تعالى مُريداً. فالتوجه الإلهي أحد أركان التثليث المُعتبرة في الإنتاج عند إبن عربي: ذات،قُدرة،توجّه إرادي..
يقول إبن عربي: [قال تعالى: (كل في فلك يسبحون) فكل حركة توجه إلهي،أي: تعلّق خاص من كونه مُريداً..]،[فلولا التوجّهات ما ظهرت الكائنات.]،[.. ظهرت الأشياء بثلاث إعتبارات،وهي أصل النتاجات كلها،وهي: الذات،القادر،التوجّه. فبهذه الثلاثة الوجوه ظهرت الأعيان..]..
_ وحدة الوُجود _
إن عبارة وحدة الوجود إبتدعها دارسو إبن عربي،أو بالأحرى صَنّفوه في زُمرة القائلين بها.. مُستدلّين بجُمل أمثال: [الوجود كله واحد،وما ثمّة إلا الله،وما في الوجود إلا الله.] للقول بأنه من أنصار وحدة الوجود،وحدة تُفارق وحدة الماديين بتغليب الجانب الإلهي فيها..
عبارة وحدة الوجود لا تدخُل ضمن مصطلحات إبن عربي،إذ أنها،من ناحية،لم تَرد عنده مطلقاً،ومن ناحية ثانية هي تُشكّل تياراً فكرياً له جدوره البعيدة في تاريخ النظريات الفلسفية.. ولكننا لم نَستطع أن نتغافل عن بَحثها بحُجّة أنها تدخُل ضمن نظريات شيخنا الأكبر بالنظر لأهميتها عنده،إذ فيها تتبلور مصطلحاته وتتكشّف،ويتجلّى وجه إبن عربي الحقيقي،فنَلمس فيه: الفكر والمنطق،إلى جانب الشهود والتصوف.
يقول إبراهيم مدكور: [ليست فكرة وحدة الوجود وَليدة التاريخ المتوسط والحديث،وإنما تصعد إلى الفكر القديم،شرقياً كان أو غربياً. فعُرفت لها صُور في البراهمية والكونفوشية،كما بَدت لها مظاهر في الفلسفة الأيّونية. وأوضَح ما تكون لدى الرواقيين والأفلوطينيين،الذين شاءوا أن يرُدّوا الكون إلى أصل إلهي. وأساسها نَزعات دينية وإتجاهات صوفية،لا تُسَلّم إلا بما هو إلهي وروحي. ثمّ عَمّقتها نظرات فلسفية وبحوث عقلية تُحاول أن توفّق بين الواحد والمتعدّد،وأن تربط اللاّنهائي بالنهائي والمطلق بالنّسبي،فأضحَت باباً من أبواب الفلسفة الإلهية،سَبيلاً لتصوير عقيدة التوحيد تصويراً عقلياً لا يُسلّم إلا بوجود واحد.].
_ وحدة وجود أم وحدة شهود؟: يعود تردّد الباحث بين الوحدتين إلى أنهما يتطابقان في النتيجة،فكلتاهما ترى أن الوجود الحقيقي واحد وهو الله. ولكن صاحب وحدة الشهود يقولها في غَمْرة الحال،على حين يُدافع عنها إبن عربي في صَحْو العلماء وبُرود النظريين. تختلف وحدة إبن عربي عن وحدة شهود غيره،بسبب جوهري،وهو أن الشيخ الأكبر لم يَقطفها ثَمرة فَيْض فناء في الحق ــ فناء أفناه عن رؤية كل ما سوى الحق،فقال بعدم كل ما سواه ــ كلاّ،فهو يَرى الكثرة،وشُهوده يُعطيه الكثرة،وبَصره يَقع على الكثرة،فالكثرة عنده موجودة. وهنا نستطيع أن نقول أن وحدته على النقيض من وحدة الشهود،تُعطي: كَثرة شُهودية.. ولكن إبن عربي لا يقف مع الكثرة الشهودية (المَشهودة)،بل يجعلها كثرة معقولة لا وجود حقيقي لها. وهي،إذا أمكن التعبير،بلغتنا: خداع بَصر،وبلغة إبن عربي: خيال.. ويستحسن ألا نفهم موقف إبن عربي على أنه نظرية فلسفية،قامت على دَعائم منطقية ومقدمات فكرية. فهو،وإن كان قد جعل الكثرة معقولة مشهودة وغير موجودة،فهذا الإرجاع ليس تعمّلاً فكرياً،لأن النظر الفكري كما يقول شيخنا الأكبر يُعطي وجود المخلوقات.. وأن الذي يُعطي الوحدة الوجودية هو الشّهود. وهنا نُلاحظ أن إبن عربي،من ناحية،قد بايَن وحدة الشهود بإثباته الكثرة الشهودية المَرئية،ومن ناحية ثانية وَصَل بالشهود إلى تقرير الوحدة الوجودية. وكان الشهود الأول رؤية عادية،على حين أن الشهود الثاني هو مرتبة من مراتب الكشف الصوفي. يقول إبن عربي: [.. ما في الوجود إلا الله،العَيْن وإن تكثّرت في الشهود فهي أحدية في الوجود.]،[.. الدليل يُعطي وجودي.. والشهود يَنفي وجودي.. الوجود لله،فإستفدت من الحق: ظهور حُكمي بالصورة الظاهرة،لا حُكم ظهور عَيني.. فالشّهود يُعارض الأدلّة النّظرية.].. ونستطيع أن نُلخص موقف إبن عربي أنه: شُهود لوحدة الوجود.. ويُستشفّ من هذه العبارة أنه زاوَج بين الفكر والتصوف في ذاته،فإتّحدا بحيث يُشرّف كل منهما على الآخر.. فهو وإن كان قد تَوصّل إلى الوحدة الوجودية بعلم اليقين،غير أن دَعائمها لم تترسّخ إلا في عين اليقين. توضيحاً للكلام نقول: أن وحدة الوجود عند إبن عربي: إن كانت ثَمرة فكر فطري،أرجَع الكثرة المشهودة إلى حقيقتها الواحدة. فهي في اللحظة الثانية شُهود لهذا النظر الفكري. ولكن تآلَف الفكر مع الشهود،فدَعّم كل منهما الآخر،حتى صَعُب التّفريق بين حدود كل منهما. وإن كُنا نظُن بأسبقية الفكر على الشهود،أسبقية يتطلبها مَنطقه في تقديم علم اليقين على عَينه. ولكن علم اليقين هذا ليس ثَمرة التفكّر الفلسفي الحُر،فالواقع أن إبن عربي مفكّر مقيّد بالكتاب والسنة،ولا يمكن أن يُقال عنه مفكر حُرّ. فعلم اليقين عنده هو ثمرة التفكّر في الكتاب والسنة،ليس إلا. فتكون وحدة الوجود عنده ثمرة تفكره في الكتاب والسنة،ثمّ شُهود لهذا التفكر.. يقول إبن عربي: [.. الوجود كله هو واحد في الحقيقة،لا شيء معه. فما ثَمّ إلا غيب ظَهر،وظُهور غاب.. فلو تتبّعت الكتاب والسنة،ما وَجدت سوى واحد أبداً،وهو الهو..]. _ صورة وحدة الوجود: حاوَل كل من خاضَ غمار الشيخ الأكبر أن يُظهر غموض وحدته الوجودية. فقال بعضهم أن مفتاح هذا الغموض في تفسير سورة الإنشراح للقاشاني،إذ تتكرّر في هذه السورة الآية: (إن مع العسر يسراً) مرتين على التوالي.. ويُشير القاشاني إلى تعلّق هاتين الآيتين بمرحلتين من مراحل التحقّق الروحي للنبيّ: الصعود والنزول. وهما للوَليّ،إذ لا يصل إلى مقام الوارث الكامل للنبيّ إلا بتحققه بهما،وهذه حالة إبن عربي.
في مرحلة التحقق الصاعدة يكون النبيّ محجوباً بمعرفة الكثرة،وهذا أول إحتجاب وأول عُسر. وعندما يصل إلى معرفة الواحد،يكون بالنسبة له أول يُسر. وهنا معرفة الله تحجُب عنه معرفة الكثرة،وهذا ثاني إحتجاب وثاني عُسر،إذ هو هنا محجوب بالحق عن الخلق،ولا يستطيع أن يحتمل عِبء النبوة. فيَشرح الله صَدره ويُزيل الإحتجاب الثاني بالحق عن الخلق،أي العُسر الثاني،ويحصُل ثاني يُسر،ويَستطيع كَوْنه أن يجمع الواحد والكثير،ويَسع صَدره الحق والخلق،ببُعْد أنطولوجي جديد يُسميه القاشاني “الوجود الموهوب الحَقّاني”. ومعرفة النبيّ هنا كاملة: معرفة الكثير بمَعزل عن الواحد،ومعرفة الواحد بمعزل عنالكثير،ومعرفة جامعة للواحد والكثير.
وهذه المعرفة الجامعة هي معرفة الوارث الكامل أو الإنسان الكامل،وهنا يَكمُن تفسير وحدة وُجود إبن عربي،كما تتجلّى في فصوص الحكم وغيره من كُتبه.
أما النابلسي فيرى أن مفتاح وحدة الوجود يكمُن في مفهوم: الوجود الحقيقي،فالممكن لا وجود له مُستقلّ عن الحق..
والواقع أن وحدة الوجود هي ثَمرة من ثمار التوحيد عند شيخنا الأكبر،فالتوحيد أعمّ مفهوم في الفكر الإسلامي من حيث أنه رَكيزة العقيدة،بل هو العقيدة ذاتها.. وإبن عربي،بالذات،لا بد أنه مَرّ بأكثر من توحيد،أو بالأحرى بأكثر من صيغة ومفهوم للتوحيد (توحيد العامة،توحيد الخاصة..)،في تاريخ حياته السلوكية الفكرية.. ومن هنا نشأ الخلاف بين دارسيه: فجعل البعض نتائجه نظريةفلسفية،والبعض الآخر جعلها ثمرة سلوك. والأجدى أن نعترف بتكامل الشيخ الأكبر،تكامُلاً يضُمّ في حناياه الفناء والبقاء،فلا نُغلّب حالاً على حال..
1_ المُمكن: إن الممكن قد يُطلق عليه إبن عربي إسمالموجود،ولكن لا ينعته أبداً بالوجود،بل يجعله ثابتاً في العدم.. إذن وحدته الوجودية ليست قائمة على رؤية الوحدة في كثرة المظاهر،بل على نَفْي وجود الكثرة. فالكثرة مشهودة معقولة،غير موجودة.
2_ الحق: إن الحقّ هو الظاهر في كل صورة والمُتجلّي في كل وجه،وهو الوجود الواحد،والأشياء موجودة به،معدومة بنفسها. ولكن لا ينحصر وجود الحق ويتحدّد بظهوره في المظاهر،بل هو وجود مُتعال خاص به. وبهذا الوجود المُتعال للحق يُفارق إبن عربي وحدة الوجود المُلحدة. فالحق عند إبن عربي مطلق بالإطلاق الحقيقي.
يقول البرزنجي في شرحه مفهوم المطلق عند إبن عربي: [ومطلق بالإطلاق الحقيقي: الذي لا يُقابل تَقييد القابل لكل إطلاق وتقييد. فإطلاقه عَدم تقييده بغيره في عين الظهور بالقيود،لا عدم ظهوره في القيود،ولا عدم ظهوره إلا في القيود. فله التفرّد عن الظهور في الأشياء بمقتضى: “كان الله ولم يكن شيء غيره”،وله التجلي فيما شاء من المظاهر بمقتضى: (وهو معهكم إينما كنتم). ولكن لا يتقيّد بذلك،فإنه من وراء ذلك بمقتضى: (والله من ورائهم مُحيط).]..
يرى البرزنجي أن الوجودية طائفتان: مَلاحدة وموحّدة.. المَلاحدة تَرى [أن الباري تعالى ليس موجوداً في الخارج بوجود مستقل،مُمتاز عن عالَمي الأرواح والأشباح،بل هو مجموع العالَم. فالعالم هو الله والله هو العالم،وليس ثَمّة شيء غير العالم يُقال له الله. وهذا كُفر صَريح.]..
كما يُشير دلادرير إلى أن الدراسات الحديثة المتعلّقة بإبن عربي،قد بَرهنت على صحّة إيمانه وعقيدته. وخاصة: أبحاث بركهارت،فالسن،كوربان،المستشرق الياباني إيزتسي..
3_ الخَلق: إن فعل الخَلق لم يحدُث في زمن معيّن،ويوجِد المخلوقات. بل هو فعل مُستمر دائم مع الأنفاس،وهو تجلّي الحق الدائم في صور المخلوقات. فالمخلوقات في إفتقار دائم للحق،إذ أن لها العدم من ذاتها..
4_ الحق والخلق: ويَظهر غِنى شيخنا الأكبر في الصور التمثيلية المتعددة التي حاول بها أن يُقرّب إلى الأذهان علاقة الحق بالخلق.. ولن نستطيع هنا أن نُحصي هذه الصور التمثيلية بكاملها،بل نكتفي بإيراد بعضها:
[الغذاء والمُتغذّي،النور والظلّ،الشمس ونورها،الحقيقة والخيال،قوس قزح،الصور والمَرايا..].
5_ حقيقة وحدة الوجود: إن إبن عربي نفسه،وإن كان قد لامَس وحدة الوجود،إلا أنه في حَيْرة أمام حقيقتها.. فهو في حيرة أمام طبيعة إدراك الأعيان الثابتة لذاتها،وإدراك بعضها لبعض. إلا أنه لم يشكّ لحظة في أنها: معدومة العَيْن،ثابتة في العدم..
يقول إبن عربي: [.. ولذلك الوجود الخيالي،يقول الحق له “كن” في الوجود العيني،”فيكون” السامع هذا الأمر الإلهي وجوداً عينياً يُدركه الحسّ.. وهنا حارَت الألباب: هَل الموصوف بالوجود المُدرك بهذه الإدراكات،العين الثابتة إنتقلت من حال العدم إلى حال الوجود؟ أو حُكمها تعلّق تعلّقاً ظهورياً بعين الوجود الحق،تعلق صورة المَرئي في المرآة،وهي في حال عدمها كما هي ثابتة،فتُدرك أعيان الممكنات بعضها بعضاً في عين مرآة الوجود الحق،والأعيان الثابتة هي على ما هي عليه من العدم؟ أو يكون الحق الوجودي ظاهراً في تلك الأعيان،وهي له مظاهر،فيُدرك بعضها بعضاً عند ظهور الحق فيها،فيُقال قد إستفادت الوجود،وليس إلا ظهور الحق؟..]..
__ ونَختتم كلامنا بمقطع لإبن عربي،يَظهر فيه نَفَس النّفري واضحاً،يتكلّم فيه عن تردّد الوجود والفَقْد بين الحق والخلق،يقول: [.. ثم قال لي: الوجود مِنّي لا منك،وبِكَ لا بي. ثمّ قال لي: من وَجَدك وَجدني،ومن فَقدك فقدني. ثمّ قال لي: من وَجدك فَقدني،ومن فقدك وجدني. ثمّ قال لي: الوجود والفَقْد لكَ لا لي. ثمّ قال لي: الوجود والفَقْد لي لا لَك. ثم قال لي: كل موجود لا يَصحّ إلا بالتّقييد فهو لَك،وكل وجود مطلق فهو لي. ثم قال لي: وجود التّقييد لي لا لَك..]
الوجود منّي لا منك،وبكَ لا بي: الوجود في الممكن ليس عَينه،بل هو قائم به: “منّي” أي من الحق،وبكَ أي بالخلق.. والوجود لا يكون بالحق،لأنه عينه. فالوجود في واجب الوجود هو عينه: “لا بي” أي لا يقوم بي لأنه عَيني،فلا ثُنائية بين الوجود وواجب الوجود.
من وَجدك وجدني،ومن فقدك فقدني: من حيث أن المخلوقات هي فعل الحق،وبالتالي دَليل يوصل إليه..
من وجدك فقدني،ومن فقدك وجدني: فقوله “من وجدك فقدني” أي من أثبت لك وجوداً حقيقياً إحتجب به،وبالتالي فَقدني.. وقوله “من فقدك وجدني” أي من أثبَتك في عدمك رأى أنّني القيّوم في الصور،عندها وَجدني..
كل موجود لا يصحّ إلا بالتّقييد فهو لَك،وكل وجود مطلق فهو لي: أي أن للحق الوجود المطلق،في مقابل الوجود المقيّد للخَلق..
وجود التقييد لي لا لَك: أي أن الوجود أينما ظهر فهو لي بالحقيقة. فالوجود الحق هو لله،حتى الوجود المقيّد..
_ الواحد _
_ إستعمل إبن عربي لفظ واحدإشارة إلى: واحد الزمان،الذي هو القطب.. _ إن الواحد ليس بعدد عند إبن عربي،بل هو أصل الأعداد،ويستصحبها في مراتب الظهور. وقد إستفاد من علاقة الواحد بالأعداد ليُفسّر علاقة الحق بالخلق.. [.. إستصحاب الواحد للأعداد،مثل قوله: (وهو معكم أينما كنتم) أي ليس لكم وجود معيّن دون الواحد..]،[.. الألف يَسري في مخارج الحروف كلها،سَريان الواحد في مراتب الأعداد..].
_ لقد جعل إبن عربي الواحد إسماً للذات،في مُقابل الأحد / صفة.. يقول القاشاني: [الأحد: هو إسم الذات باعتبار سُقوط جميع الإعتبارات وإنتفاء جميع التعيّنات عنها. وذلك بخلاف الواحد: فإن الذات إنما تُسمى به باعتبار ثُبوت جميع الإعتبارات والتعينات التي لا تتناهى..]. أحدية العين وَقْف على الحق،لا يتّصف بها الخلق. على حين أن هذا الأخير يشترك مع الحق في صفة أحدية الكثرة.. يقول إبن عربي: [يُدعى صاحبها (صاحب حضرة التوحيد) عبد الواحد،وإذا أراد الصفة يُقال له عبد الأحد.]،[فالذات غير مُتكثّرة بها (بالأسماء الإلهية)،لأن الشيء لا يتكثر إلا بالأعيان الوجودية،لا بالأحكام والإضافات والنّسب. فما من شيء معلوم إلا وله أحدية بها يُقال فيه أنه واحد..]،[أشهَدني الحق بمَشهد الأحدية،ثم قال لي: أنت الواحد وأنا الأحد،فمن غابَ عن الأحدية رآك ومن بَقي معها رأى نفسه.].. _ الوحدانية والواحدية: نسبة إلى الإسم الواحد.
ف”الوحدانية”: هي في جَناب الحق: كَونه واحد بلا وحدانية. وتتميّز الوحدانية عن الأحدية في أنها كالربوبية تَطلُب المربوبين. ففي الوحدانية يَشهده الجميع،على حين أن الأحدية ذاتية للذات الهوية،ولها الغنى على الإطلاق..
يقول إبن عربي: [.. علم التوحيد الإسم منه: وَحداني،فالتوحيد وَصفه. وفوقه علم الإتّحاد،فالوَصف منه مُتّحد. وفوقهما علمالوحدانية،فالإسم منه واحد. وفوق ذلك علم الأحدية،الإسم منه أحد. هذه أسماء لها صفات..]،[.. هو الواحد بلا وحدانية،وهو الفرد بلا فردانية. ليس مُركباً من الإسم والمُسمى،فلهذا هو الإسم والمُسمى..]،[حِجابه وحدانيته،لا يَحجُبه شيء غيره. حجابه وجوده،تَستّر بوحدانيته..]،[.. لا تَعرف وحدانية الحق سبحانه إلا من وحدانيتك (العبد)،فإن لكل شيء في نفسه وحدانية،بها يمتاز عن غيره. فمن وَقف على هذه الصفة منه وتَحقّقها،تَحقّق وحدانية الحق وعَلم أن لله تعالى وَصفاً ذاتياً،لا يَصحّ أن يتّصف به سواه. غير أن لكل موجود سواه سبحانه وحدانية،وله صفات مُشتركة،إلا الحق سبحانه فإن له وصف الوحدانية وليس له من يُشاركه فيه سبحانه.]،[فإن الأحدية مَوطن الأحد،عليها حجاب العزة لا يُرفَع أبداً،فلا يراه في الأحدية سواه لأن الحقائق تأبى ذلك.. إن الإنسان مخلوق على الوحدانية لا على الأحدية،لأن الأحدية لها الغنى على الإطلاق..]،[.. فإن كمال الوحدانية في سَريان أحديته في العقائد،فإن الوحداني هو الذي يطلب الموحدين،والأحدية لا تطلُب ذلك..]..
__ الواحد الكثير: لقد نظر إبن عربي إلى الوحدة الظاهرة في كل واحد،فرأى أنها في الحقيقة هي وَحدة كَثرته،لا وحدة صافية نَقيّة. إذن كل واحد هو الواحد الكثير: الحق،الإنسان،العالَم،النفس..
يقول إبن عربي: [إن الله هو الحق المُبين،أي الظاهر. فهو الواحد الكثير..]،[فما خَرج عنه عز وجل شيء،بل الكل منه إنبعث وإليه ينتهي.. فمُحيطه أسماؤه،ونُقطته ذاته. فلهذا هو الواحد العدد والواحد الكثير. فما كل عين له ناظر،إلا عين الإنسان. ولولا إنسان العَيْن ما نَظرت عين الإنسان،فبالإنسان نَظر الإنسان،فبالحق ظهر الحق..]..
فالواحد الكثير: هو ما كانت عَيْن كَثرته واحدة،ولا تَظهر وحدته إلا في الكثرة.. [واحد الكثرة: عين كَثرته واحد.]..
_ أحدية الأحد ــ أحدية الكثرة _
مُترادفات أحدية الأحد: الأحدية،الأحدية الذاتية،أحدية العَيْن.
مُترادفات أحدية الكَثْرة: أحدية التمييز،أحدية الجمع،أحدية الأسماء.
الأحدية نسبة إلى الإسم الأحد،الذي يتتبّع إبن عربي النّهج القرآني فيُطلقه على الله: (قل هو الله أحد)،وعلى كل ما سوى الله: (ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً).. والتمييز بين الأحديتين: الأحدية معرّفة،واحدية نكرة..
الأحدية المُعرّفة: هي لله فقط،لا قَدم لمخلوق فيها. وهي التي ينطبق عليها ما قاله الجيلي والكمشخانوي والقاشاني..
والأحدية النكرة: هي أحدية الكثرة. إذ لاحَظ إبن عربي أن كل كَثرة لا بد لها،لكي يَستقيم وجودها،من أحدية تحفظ لها هذا الوجود،وتُميّزه عن غيره من الموجودات. وهي ما أشار إليها الجيلي ب”الهَيئة المخصوصة الجدارية”،فالكثرة لا توجد في كونها إلا بأحديتها. مثلاً: الجدار،لا يوجد بمجموع الطين والآجر والجصّ والخشب،بل لا بد من تركيب خاص يوجِدُه،هو أحديّته المتميّزة عن مجموعه. وتكون الأحدية: تركيب المجموع تركيباً خاصاً..
والكثرة في الواحد: هي وجوهه ونِسَبه المتعدّدة. فالألوهية،مثلاً،واحدة،إلا أنها مُتكثّرة بأسمائها ونِسَبها وإعتباراتها..
لقد رأى إبن عربي أحديتين: رأى أولاً أحدية الذات الإلهية فسَمّاها الأحدية،لإنفرادها.. ثمّ نظر إلى الكثرة المَشهودة في الكون،ورأى أنها لا تَقوم إلا بأحديتها،فسَمّى هذه الأحدية أحدية،وذلك لإشتراكها مع أحدية الأحد التي إنفرد بها،بصفة التّمييز.. فسَبب تسمية وحدة الكثرة بالأحدية لصفة الإنفراد..
واحدية الكثرة هذه ضرورية في نظام إبن عربي الفكري،إذ منها يَعْبُر الإنسان إلى معرفة أحدية الواحد. فالأحدية جَعلها الحق سارية في كل ما سواه ليَتذوّق منها الأحدية..
__ يقول الجيلي في الأحدية: [الأحدية: عبارة عن مَجلى الذات،ليس للأسماء ولا للصفات ولا لشيء من مؤثراتها فيه ظهور. فهي إسم لصَرافة الذات المجردة عن الإعتبارات الحقية والخلقية. ليس لتجلّي الأحدية في الأكوان مظهر أتمّ منك،إذا إستغرقت في ذاتك ونَسيت إعتباراتك وأخذت بك فيك عن ظواهرك،فكُنت أنت في أنت من غير أن يُنسَب إليك شيء مما تستحقه ــ فهذه الحالة من الإنسان أتمّ مظهر للأحدية في الأكوان.. وهو أول تنزّلات الذات من ظلمة العماء إلى النور المَجالي،فأعلى تجلياتها هو هذا التجلي لتَمحّضها وتنزّهها عن الأوصاف والأسماء،بحيث وجود الجميع فيها،لكن بحُكم البُطون في هذا التجلي لا بحُكم الظهور..].
ويُعرّف الكمشخانوي الأحدية قائلاً: [هي الإسم باعتبار الصفة،مع إسقاط الجميع من الصفات والأسماء والنّسب والتعيّنات.].
ويتكلّم القاشاني على الأحدية قائلاً: [الأحدية الذاتية: إعتبار الذات من حيث لا نسبة بينها وبين شيء أصلاً،وبهذا الإعتبار المُسمى الأحدية تقتضي الذات الغنى عن العالَمين. ومن هذا الوجه لا تُدرك الذات ولا يُحاط بها بوجه من الوجوه،لسُقوط الإعتبارات عنها،وهذا هو الإعتبار الذي به يُسمى الذات أحداً،ومُتعلّقه بُطون الذات وإطلاقها.. والأحدية الصفاتية: إعتبار الذات من حيث إتّحاد الأسماء بها والصفات،وإنتشاؤها عنها. وهذا الإعتبار يُسمى أيضاً بواحدية الذات،وبهذا الإعتبار تتّخذ الأسماء على إختلافها ويدُلّ كل إسم عليها..]..
نورد بعض النصوص المتفرقة لإبن عربي حول الأحدية،يقول:
[اعلم أن الإسم الأحد يَنطلق على كل شيء،من مَلك وفلك وكوكب وطبيعة وعُنصر ومَعدن ونبات.. مع كونه نَعتاً إلهياً في قوله: (قل هو الله أحد)،وجعله نَعتاً كونياً في قوله: (ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً).. فنَكّر أحداً: فدخل تحته كل شيء له أحدية،وما ثَمّ شيء إلا وله أحدية..]،[فإن الذات المقدسة،من حيث أحديتها،ليست مصدراً لشيء،ولا مُتّصفة بصفة ولا مُسماة بإسم،أصلاً البتّة.]،[كان الإيجاد بالفردية لا بالأحدية.]،[.. لم تُعبد الذات مُعرّاة عن وَصفها بالألوهية،ولم تُعبد الألوهية من غير نِسبتها إلى موصوف بها. فلم تَقُم العبادة إلا على ما تقتضيه حقيقة العبد،وهو التركيب،لا على ما تقتضيه حقيقة الحق وهو الأحدية..]،[فإن الأحدية لا تثبُت إلا لله مطلقاً،وأما ما سوى الله فلا أحدية له مطلقاً.]،[أحدية الله من حيث الأسماء الإلهية التي تطلبنا: أحدية الكثرة. وأحدية الله من حيث الغنى عنّا وعن الأسماء: أحدية العين.]،[اعلم أن مُسمى الله “أحديّ بالذات،كُلّ بالأسماء”. وكل موجود فما له من الله إلا ربه خاصة،يستحيل أن يكون له الكل. وأما الأحدية الإلهية فما لواحد فيها قَدم..]،[وينفرد الحق بالأحدية (أحدية الذات)،لا أحدية الكثرة التي هي أحدية الأسماء]،[فإن العبد أعطي الكثرة لتكون الأحدية له تعالى. وأعطي كل مخلوق أحدية التمييز لتكون عنده الأحدية ذَوقاً،فيَعلم أن ثَمّ أحدية،ليعلم منها الأحدية الإلهية حتى يَشهد بها الله تعالى. إذ لو لم يكن لمخلوق أحدية ذوقاً يتميّز بها عما سواه،ما عَلم أن لله أحدية يتميز بها عن خلقه..]،[وعَلمت أحدية الواحد من أحدية الكثرة.]..
ويقول الجيلي في التفريق بين الأحدية والواحدية والألوهية: [.. الأحدية: لا يظهر فيها شيء من الأسماء والصفات،وذلك عبارة عن محض الذات الصّرف في شأنه الذاتي. والواحدية: تظهر فيها الأسماء والصفات مع مؤثّراتها،لكن بحُكم الذات لا بحُكم إفتراقها،فكل منها فيه عين الآخر. والألوهية: تظهر فيها الأسماء والصفات بحكم ما يستحقه كل واحد من الجميع،ويظهر فيها أن المُنعم ضدّ المُنتقم،وكذلك باقي الأسماء والصفات،فتَشمل الألوهية بمَجلاها أحكام جميع المَجالي.. فلهذا كانت الأحدية أعلى من الواحدية لأنها ذات مَحض،وكانت الألوهية أعلى من الأحدية لأنها أعطت الأحدية حَقّها..].
_ التوحيد _
_ التوحيد محور العقيدة الإسلامية وشعارها.. ولكن يُلاحظ أن مباحث اللاّهوت في الإسلام،عند الأشاعرة والماتريدية خاصة،إكتفت بمعالجة مشكلة التوحيد من الناحية النظرية فقط،أي دراسة الوحدة الإلهية وإقامة البراهين عليها من الوجهة النقلية والعقلية. في حين أن المشكلة ذاتها ظهرت في حقل التصوف بمثابة وَعي شامل للوحدة الإلهية وشَهادة صادقة عنها.. وقد ظهرت فكرة التوحيد،في حقول المعارف الصوفية قبل إبن عربي،بصورتين كانتا تعبيراً صادقاً لأحوال رجال التصوف في شؤونهم الوجدانية وأذواقهم الروحية. فهناك أولاً ما يُمكن تَسميته ب”التوحيد الإرادي”: وهو إدراك للوحدة الإلهية ووَعي بها في مستوى الإرادة. وصاحب هذا المقام تَذوب إرادته في إرادة الله،وفي هذا التّسامي بإرادة العبد في إرادة الرب يتحقّق الكمال للإنسان في أسمى صُوره ومَعانيه.. ثمّ هناك “التوحيد الشّهودي”: وهو تحقق بالوحدة المطلقة في ذُرى المُشاهدة والتأمّل.. والذي يُميّز هذا اللون من التوحيد عن نظيره الأول: هو أن الحقيقة الإلهية لا تظهر في هذا المقام (التوحيد الشّهودي) في مَظهر “أمر ونَهي / شريعة وقانون” يَخضع لها العبد وتَتلاشى إرادته فيها،بل تتجلّى في صورة ذات مقدسة يَهيم في جَمالها ويتعشّق كمالها ويَفنى في وجودها.. وكما في التوحيد الأول (الإرادي): فناء إرادة العبد في إرادة الرب،معناه تَسامي الإرادة البشرية إلى قمة الإرادة الإلهية. كذلك الشأن في التوحيد الشهودي: أن فناء وجود العبد المعنوي في بحر الوجود الحقيقي،معناه تَسامي الوجود الإنساني المحدود إلى سماء الوجود الإلهي اللاّمحدود.. ومع إبن عربي ظهر لون ثالث من التوحيد الصوفي هو التوحيد الوجودي.. _ التوحيد على درجات ثلاث: قد تكون درجات يترقى فيها السالك،وقد تكون عبارة عن تنوّع المُوحّدين إليها.
التوحيد الأول: هو توحيد العامة،من حيث أنهم يَصلون بالإستدلال إلى وحدانية الله. وهو توحيد علماء الرسوم كما يقول الحاتمي..
التوحيد الثاني: هو في الواقع قُرب النوافل،من حيث أنه حال يُصبح فيه الحق نَعتاً للمُوحِد.
التوحيد الثالث: هو توحيد وجودي أنطولوجي،تُصبح فيه صيغة الشهادة لا موجود إلا الله.
يقول إبن عربي: [التوحيد: علم،ثم حال،ثمّ علم. فالعلم الأول توحيد الدّليل: وهو توحيد العامة،وأعني بالعامة علماء الرسوم. وتوحيد الحال: أن يكون الحق نَعْتُك،فيكون هو لا أنت في أنت: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). وتوحيد المُشاهدة: فترى الأشياء من حيث الواحدانية،فلا ترى إلا الواحد،وبتجلّيه في المقامات يكون الوجدان،والعالَم كُله وجدان..]..
__ لا يستمر إبن عربي في رؤيته الشاملة للتوحيد،بل يتخطّى المرتبتين،الأولى والثانية،ليغرق في التوحيد الثالث “توحيد المشاهدة”. فالتوحيد أصبح عنده وحدة الوجود. والشرك أن تُثبت للحق شَريكاً،لا في الألوهية،بل في الوجود..
يقول إبن عربي: [التوحيد أن يكون هو الناظر وهو المنظور..]،[.. ما كان وحده لا شَريك له،وإن شريكه هو الذي وُجوده بذاته لا بوجود الله. ومن كان كذلك لم يكن يحتاج إليه،فيكون رباً ثانياً،وذلك مُحال. فليس لله تعالى شَريك،ومن جَوّز أن يكون مع الله شيء يقوم بنفسه فهو مُشرك..]..
وقد نظر الشيخ الأكبر إلى القرآن فوَجد فيه التوحيد قد نَصّه الحق على ستّ وثلاثين صيغة،فجعل كل صيغة توحيداً خاصاً له إسم مُعيّن..
_ الإتّحاد _
إن الإتّحاد الذي يُصَيّر الذاتين واحدة،مُحال عند إبن عربي..
يقول إبن عربي: [.. واحذر من الإتحاد،فإن الإتحاد لا يَصحّ. فإن الذاتين لا تكون واحدة،وإنما هما واحدان،فهو الواحد في مرتبتين..]،[.. إذا كان الإتحاد يُصيّر الذاتين ذاتاً واحدة فهو مُحال،لأنه إن كان عين كل واحد منهما موجوداً في حال الإتحاد فهما ذاتان،وإن عُدمَت العين الواحدة وبَقيت الأخرى فليس للأول حَدّ. فإن كان الإتحاد بمنزلة ظهور الواحد في مراتب العدد فيَظهر العدد،فقد يصحّ الإتحاد بهذا الوجه،ويكون الدليل مُخالفاً للحِسّ فيكون له وجهاً كالكناية.. وقد يكون الإتحاد عندنا عبارة عن: حُصول العبد في مقام الإنفصال عنه بمُهمّته وتَوجّه إرادته،لا بمُباشرة ولا مُعالجة. فبظهوره بصفة هي للحق تعالى حقيقة تَسمى إتحاداً،لظهور حق في صورة عَبد ولظهور عبد في صورة حق.. وقد يُطلق الإتحاد في طريقتنا لتَداخُل الحق في الأوصاف والخلق،فوَصفنا بأوصاف الكمال،ووَصف نفسه بأوصاف ما هو لنا.. فلما ظهر تداخل هذه الأوصاف بيننا وبينه،سَمّينا ذلك: إتحاداً،لظُهورنا به وظهوره بما..]..
_ الوَحْي _
_ الوحي الإلهي: هو الخطاب الإلهي العام الشامل،المُوجّه لكل موجود. وعين الخطاب هو عين فَهم الفاهم له،دون فَصل أو تعبير.. ويُسمي إبن عربي هذا الوحي العام ب”الوحي الذاتي”،في مقابل “الوحي العَرضي” الذي يكون للإنسان في وقت دون وقت. يقول إبن عربي: [.. كل مَن عَلم ما لَم يَعلم فهو: مُلْهَم. فالوحي شامل،يَنزل على الناقص والكامل.]،[ولأهل الإختصاص الوحي الإلهي من الوجه الخاص،وهو الوحي في العموم،لكن لا تَبلُغه الفُهوم. فما من شخص إلا والحق يُخاطبه به (بالوحي) منه (الوجه الخاص)..]،[.. الوحي: ما تَقع به الإشارة،القائمة مَقام العبارة،من غير عبارة. فإن العبارة تَجوز (تَعْبُر) منها إلى المعنى المقصود بها،ولهذا سُميت عبارة. بخلاف الإشارة التي هي الوحي،فإنها ذات المُشار إليه. والوحي هو المفهوم الأول والإفهام الأول،ولا أعْجَل من أن يكون: عين الفهم،عين الإفهام،عين المفهوم منه. فإن لم تحصُل لك هذه النكتة فلست صاحب وَحي..]. يُبيّن هذا النص الأخير: أن الوحي تلقائي،يحصُل للموحى إليه من ذاته دون واسطة،حتى واسطة الكلام والتعبير نفسه إنْتَفت.. ويقول: [.. فما من شيء فيه (في الإنسان): من شعر وجلد ولحم وعَصب ودَم وروح ونفس وظفر وناب،إلا هو عالِم بالله تعالى بالفطرة،بالوحي الذي تجلّى له فيه. فالإنسان من حيث تَفصيله: صاحب وحي (الوحي الذاتي)،ومن حيث جُملته لا يكون في كل وقت صاحب وحي (الوحي العرضي).]،[.. فإن الوحي الذاتي الذي تَقتضيه ذَواتهم: هو أنهم يُسبحون بحمد الله،لا يحتاجون في ذلك إلى تكليف،بل هو لهم مثل النفس للمُتنفّس،وذلك لكل عين على الإنفراد. والوحي العَرضي: هو لعَيْن المجموع،وهو الذي يَجب تارة ولا يَجب تارة،ويكون لعَين دون عَين،وهو على نوعين: نوع يكون بدليل أنه من الله وهو شرع الأنبياء،ومنه ما لا دليل عليه وهو الناموس الوضعي الذي تقتضيه الحكمة..].. _ الوحي الإلهي: هو خطاب إلهي خاص لبعض أفراد الجنس البشري،وهذا الخطاب الإلهي مَوضعه القلب. وهذا الوحي إسم لمُسميات كثيرة تُشكّل أنواعه ودَرجاته: ك”المُبشّرات والإلقاء والإنزال والإلهام”..
يتميّز الوحي الإلهي عن بَقية الواردات الإلهية بصفتين:
الأولى: السّرعة،إذ زمن الإلقاء للوحي هو زمن الفهم وعين المفهوم منه..
الثانية: السلطان،فللوحي سُلطان قويّ لا يُقاوَم،يغلب في الإنسان كل شيء حتى الطبع..
يقول إبن عربي: [فإذا عَمد الإنسان إلى مرآة قَلبه وجَلاّها بالذكر وتلاوة القرآن،فحَصل له من ذلك نور،ولله نور مُنبسط على جميع الموجودات يُسمى نور الوجود. فإذا إجتمع النوران فكشف المُغيّبات على ما هي عليه.. إن النور الذي ينبسط من حضرة الجود على عالَم الغيب،في الحضرات الوجودية،لا يَعُمّها كلها ولا ينبسط منه عليها،في حق هذا المُكاشَف،إلا على قدر ما يُريد الله تعالى،وذلك هو مقام الوحي.]،[.. فإذا أراد الحق أن يوحي إلى وَليّ من أوليائه بأمر ما،تَجلّى الحق في صورة ذلك الأمر،لهذه العَين التي هي حقيقة ذلك الوليّ الخاص،فيَفهم من ذلك التجلي،مُجرّد المشاهدة،ما يُريد الحق أن يُعلمه به،فيَجد الوليّ في نفسه علم ما لم يكن يعلم..]،[.. إنه تعالى أعطاه (سيدنا محمد) أنواع ضُروب الوحي كلها،فأوحى إليه بجميع ما سُمي وَحياً: كالمبشرات،والإنزال على القلوب،والآذان،وبحالة العروج،وعدم العروج،وغير ذلك..]،[.. لا يتصوّر المُخالف إذا كان الكلام وَحياً،فإن سلطانه أقوى من أن يُقاوَم..]..
_ يَرى إبن عربي أن الوحي يتدرّج،بدليل قول عائشة: “أول ما بُدئ به رسول الله من الوحي: الرؤيا”. فالإشارة إلى بَدء الوحي تتضمّن تَراتبية موصلة لكمال فيه،وهو لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك يجد إبن عربي أن الوحي بشقّيه: الوحي الذاتي والوحي العَرَضي الرّسالي،له بَدْء. أما الوحي الذاتي ــ الوحي في حق كل صنف ممّا يوحي إليه،كالملائكة وغير البشر من جنس الحيوان ــ فهو: الإلهام.. وبَدء الوحي العَرضي الرسالي ــ وحي رسالة التّشريع ــ فهو: الرؤيا.. يقول إبن عربي: [إن سيدنا محمد خَصّه الله بالكمال في كل فضيلة،فمن ذلك أن خَصّه ب”كمال الوحي”،وهو إستيفاء أنواعه وضُروبه..]،[بَدْء الوحي: إنزال المعاني المجرّدة العقلية في القوالب الحسية المُقيّدة في حضرة الخيال: في نوم كان أو يقظة. وهو من مُدركات الحسّ في حضرة المحسوس،مثل قوله: (فتمثّل لها بشراً سوياً)،وفي حضرة الخيال كما أدرك رسول الله العلم في صورة اللبن،وكذا أول رؤياه..].. _ أما الوحي الخاص بالرسالة البشرية: فهو وَحيه تعالى لرُسله،لا يُشاركهم في هذا الوحي أحد. وهو الوحي المُنقطع بعد رسول الله. ويتميّز عن أنواع الوحي الأخرى ب”جبريل،رسول الحق إلى رُسُله”..
يقول إبن عربي: [ولما كانت الأنبياء لا تأخذ علومها إلا من الوحي الخاص الإلهي،فقلوبهم ساذجة من النظر العقلي..]،[.. مع علمنا أن مرتبتهم دون مرتبة الرّسل الموحى إليهم من عند الله. فالنبوة والرسالة،من حيث عَينها وحُكمها،ما نُسخَت،وإنما إنقطع الوحي الخاص بالرسول.]،[واعلم أن لنا من الله الإلهام لا الوحي،فإن سبيل الوحي قد إنقطع بمَوت رسول الله.]،[.. الحقيقة الجبريلية: فإنها مخصوصة بالرّسل على القلوب،لا يُشاركهم فيها من ليس من جنسهم. وما عدا جبريل فإنه يتنزّل على قلوب العباد..]..
__ نَطرح في ختام بحث الوحي هذا السؤال: ما دور الوحي في فكر يَرى الحقيقة المحمدية أول مخلوق،ومنه تَدرّج الوجود؟ وكيف يتنزّل جبريل عليه بالرسالة،ووجوده صلى الله عليه وسلم سابق لوجوده،وعلمه فَيض من علمه صلى الله عليه وسلم؟.
ويدفعنا إلى هذه الإشارة: أن معظم الدارسين لإبن عربي يُعرّفون الوحي،عنده،إنطلاقاً من هذه النقطة،ويَنفون وجود الوحي بالتالي.. فهل ينفي إبن عربي وجود الوحي على مستوى الواقع؟ أم أن وحي الرسالة المحمدية،فقط،هو موضوع الجدال؟.
الواقع أن التعريفات التي تجعل الوحي عند إبن عربي: تَنزل من مقام الجمع إلى مقام التّفصيل.. هو الوحي المحمدي فقط..
يقول إبن عربي: [.. وهو المخصوص بالإسم الجبرائيلي،لأنه الخيال المطلق. ولذلك إختصّ سيدنا محمد من الملائكة بجبريل. فإن الوحي على ما بَيّنت لك في كل موجود نصفين: نصفه سيدنا محمد،ونصفه جبريل.. إن الوجود كله هو الحقيقة المحمدية،وأن النزول منها إليها،وبها عليها. وأن الحقيقة المحمدية،في كل شيء،لها وجهان: وجه محمدي ووَجه أحمدي. فالمحمدي علمي جبرائيلي،والأحمدي إيماني روحي أمّي. وأن التّنزيل للوجه المحمدي،والتجلّي للوجه الأحمدي..]..
_ الإرْث ــ الوارث _
_ جعل إبن عربي “الوارث” من الأسماء المشتركة،التي تُطلق على الله وعلى الإنسان.. يقول إبن عربي: [فهو تعالى يَرثنا بالموت،ونحن نَرثه بالتنزيه.]،[.. وقَدر ميراث الحق من عباده،وهو قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نَعلم) فاستخدمهم بما إبتلاهم،حتى يَعلم المجاهدين من عباده والصابرين،ويَبلُو أخبارهم. وما عدا هذا النوع في حق الحق،فهو: علم،لا علم وراثة.].. _ جعل الصوفية،وإبن عربي معهم،طريقين للعلم الصوفي:
الأول: الأخذ عن الله: طريق الكَسب الإنساني بالمجاهدة والتّصفية والتفكّر والتّفريغ،الموصل إلى كَشف ومُشاهدات وتجليات..
الثاني: الأخذ عن الأنبياء: طريق الوراثة الإنسانية للعلم الإلهي،وذلك لا يكون إلا بالإتّباع. وهو في الواقع أخذ عن الله للعلم النبوي المَوروث..
_ إن عملية الإرث تفترض ثلاثة حدود: المُوَرّث،الإرْث،الوارث. المُوَرّث: هو النبي،ولكن ليس مباشرة منه للوارث،بل يَرث الحق من النبي العلم موضوع الإرث،ليُورّثه للوارث التابع. موضوع الإرث: العلم هو ما يَرثه الوارثون من الأنبياء: “العلماء وَرثة الأنبياء”.. ولا يَصحّ الإرث إلا بانتقال المُورّث من الحياة الدنيا. وحيث أنه إرث مخصوص معنوي،فلا ينتقص من علم الموروث ما يورثه الوارث.. الوارث: هو التابع للنبي،المُتتبّع له في أقواله وأعماله وأحواله،إلا ما خُصّ به النبي ممّا لا يجوز مُشاركته به.. يقول إبن عربي: [.. وإن كنت وَليّاً،فأنت وارث نبيّ..]،[.. ويُقال في الوليّ: وارث. وإرثه: نَعت إلهي،فإنه قال عن نفسه أنه: (خير الوارثين). فالوليّ لا يأخذ النبوة من النبي،إلا بعد أن يَرثها الحق منهم..]،[.. فلم يبق الميراث إلا في: العلم والحال،والعبارة عما وجدوه من الله في كَشفهم..]،[.. فإنه لا يَرث أحد نبياً على الكمال،إذ لو وَرثه على الكمال لكان: رسولاً مثله أو نبيّ شريعة تخُصّه]،[وأبقى لهم (الأولياء): الوراثة في التشريع،وما ثَمّ ميراث في ذلك إلا فيما إجتهدوا فيه من الأحكام فشَرّعوه (سَنّ سُنّة حَسنة).]،[.. غير أنهم (الأنبياء) ليست لهم قَدم محسوسة في السماء،وبهذا زاد على الجماعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسراء الجسم،وإختراق السماوات والأفلاك حِسّاً،وقطع مسافات حقيقية محسوسة. وذلك كله لوَرثته: معنى لا حِسّاً..]،[وفي زمان إنقطاع الرسالة يكون الكامل وارثاً،ولا ظهور للوارث مع وجود الرسول. إذ الوارث،لا يكون وارثاً،إلا بعد موت من يَرثه.]،[.. فالوارث: مُستخدَم بالمعنى من ورث منه ما جَمعه. غير أن الموروث في مثل هذا الورث،ما نَقصه شيء من علمه،بوراثة الوارث منه. ففارَق ميراث الدينار والدرهم بهذه الحقيقة..]،[.. فهذا من الورث الإلهي النبوي،فإنه ما حَصل لنا هذا الشهود إلا بالإقتداء والإتباع النبوي.].. _ كيفية الإرث: تَطرح صعوبة كبرى أمام الباحث،لأنها تُعاش وتُمارس،ولا تُقال. وحتى لو قيلت فهي شروحات ووَصف لطريق إكتسابها،وليس للكيفية. لأن الوارث نفسه،غائب عن هذه الكيفية بتَحصيلها ومُمارسة طُرق الوصول إليها..
التابع يُقلّد النبي في “الأقوال والأفعال والأحوال”،فهو يَعمل على إكتساب مَظهر صفة النبي،وباكتسابه مظهر الصّفة يَحصُل عليها (الصفة).. فالإرث عن الأنبياء “إرث صفاتي”..
وحيث أن كل نبيّ له صفة مخصوصة،كذلك الوارث لهذا النبي يَرث هذه الصفة المخصوصة بكل أبعادها العرفانية..
ويتميّز الوارث المحمدي عن بقيّة وَرثة الأنبياء بتحصيله صفة خاتم الأنبياء،وكل ما تتمتّع به هذه الصفة من جَمعية لصفات الأنبياء جميعاً،فقد أوتي صلى الله عليه وسلم “جوامع الكلم”..
يقول إبن عربي: [.. فاعلم أن الورث على نوعين: معنوي ومحسوس. فالمحسوس منه ما يتعلّق ب: الألفاظ والأفعال وما يظهر من الأحوال.. وأما الورث المعنوي: فما يتعلّق بباطن الأحوال..]،[.. وما ثَمّ أمر آخر لنبي أو رسول يَقع فيه ميراث،إنما هو: قول أو فعل أو حال. فالوارث الكامل من جَمع،والوارث الناقص من إقتصر على بعض هذه المراتب..]،[.. وسيدنا محمد مَظهر إسم الله،الذي هو الله ذاتاً وصفاتاً،فهو الرحمة للعالمين ذاتاً وصفاتاً. وتمام مُلكه موقوف على ظهور المهدي..]،[.. وكلما إزداد المحمدي علماً بربه،إزداد قُرباً،فهم المُقربون. وأحوالهم الظاهرة تَجري بحُكم العوائد: فيَعرفون ولا يُعرَفون،ويأتون بما أعطاهم الله من العلم به.. وَرثة الأنبياء يُعرَفون في العموم بما يَظهر عليهم من خَرق العوائد]،[.. ووارث سيدنا محمد مجهول في العموم (الأخفياء)،معلوم في الخصوص. لأن خَرق عادَته إنما هو “حال وعلم في قلبه”،فهو في كل نَفَس..]،[.. ثم إعلم أنك وإن وَرثت علماً موسوياً أو عيسوياً أو غيرهما،فما وَرثت علماً محمدياً،ساوَيت فيه ذلك النبي،لعموم رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.]..
_ وارِد _
_ الوارد: هو ما يَرد على قلب العبد من كل إسم إلهي،ثُمّ يَنصرف بعد أن يُعطي المَحلّ علماً.. 1 تعريف الوارد: يقول إبن عربي: [الوارد عند القوم،وعندنا: ما يَرد على القلب من كل إسم إلهي،فالكلام عليه بما هو وارد لا بما وَرد. فقد يَرد بصَحو وبسُكر وبقَبض،وبأمور لا تُحصى،وكلها واردات. وكل وارد إلهي لا يأتي إلا بفائدة،والفائدة ما يحصُل عند الوارد عليه من العلم من ذلك الوُرود.. ويَرحل الوارد بعد أداء ما وَرد به..]..
2_ أحوال الوارد في الإتيان: يقول إبن عربي: [.. والوارد قد تختلف أحواله في الإتيان. فقد يَرد فَجْأة: كالهُجوم والبَواده. وقد يَرد غير فجأة،على شعور من الوارد عليه بعلامات وقرائن أحوال،تدُلّ على ورود أمر معيّن يَطلبه إستعداد المَحلّ.]..
3_ مضمون الوارد: يقول إبن عربي: [.. فقد يَرد الوارد بصَحو وبسكر وبقبض وببسط وبهيبة وبأنس،وبأمور لا تحصى،كلها واردات.].. فالوارد لا يتحدّد بمضمون،إلا أنه يتحدّد بحُكم العلم،فمن شرط الوارد أن يُعطي العلم..
4_ قوة الوارد: يقول إبن عربي: [فاعلم أن الناس،في هذا المقام (قبول الواردات الإلهية)،على إحدى ثلاث مراتب: منهم من يكون وارده أعظم من القوة التي يكون في نفسه عليها،فيحكم الوارد عليه،فيغلب عليه الحال،فيكون بحُكمه.. ومنهم من يكون وارده وتَجلّيه مُساوياً لقوته،فلا يُرى عليه أثر من ذلك الحاكم. لكن يُشعَر،عندما يُبصَر،أن ثَمّ أمراُ طرأ عليه.. ومنهم من تكون قوته أقوى من الوارد.. وما ثَمّ أمر رابع في واردات الحق على قلوب أهل هذه الطريقة..]..
__ يرتبط الوارد في الفكر الصوفي بمفهومين مُتواليين،هما: السكر والصّحو. وذلك لأن السكر هو: غَيْبة بوارد قويّ،ولكنه يتميز عن كل أنواع غَيبات السلوك الصوفي [غيبة وفناء وصحو..] بنقطتين:
الأولى: أن السكر ليس غَيبة عن الإحساس،وإنما غيبة عن كل ما يتعارض والطّرب. فهو يورث في الإنسان: الطرب والبسط والإدلال وإفشاء الأسرار الإلهية. وكل غَيبة يَغيب فيها الإنسان عن إحساسه فليست بسُكر،وإنما فناء أو محق..
الثانية: أن السكر يَتبعه الصحو،وكل صَحو لا يكون إلا عن سكر مُتقدّم. ولا نرى هذا التوالي في: الغيبة والحضور أو الفناء والبقاء..
والسكر مراتب: فأول مرتبة: السكر الطبيعي،وهو سكر المؤمنين،وسُلطانه الخيال. وثاني مرتبة: السكر العقلي،وهو سكر العارفين،وسلطانه في العقل. وثالث مرتبة: السكر الإلهي،وهو سكر الكُمّل من الرجال،ويَظهر في الحَيرة..
يقول إبن عربي: [وأما حَدّهم (الصوفية) للسكر بأنه: “غَيبة بوارد قويّ”،فما هو غيبة إلا عن كل ما يُناقض السّرور والطرب والفرح.]،[فمن أسْكَره الشهود فلا صحو له البتّة،وكل حال لا يورث طَرباً وبَسطاً وإدلالاً وإفشاء أسرار إلهية فليس بسُكر،وإنما هو غَيبة أو فناء أو مَحق..]،[السكر على مراتب: فسكر طبيعي: وهو ما تجده النفوس من الطرب والإلتذاذ والسّرور والإبتهاج بوارد الأماني،فإن له أثَراً قوياً في القوة المُتخيّلة،فالواقفون من أهل الله مع الخيال لهم هذا السكر الطبيعي.. وأما السكر العقلي: فهو شبيه بالسكر الطبيعي في رَدّ الأمور إلى ما تقتضيه حقيقته،لا إلى ما يقتضيه الأمر بنفسه،ويأتي الخبر الإلهي عن الله لصاحب هذا المقام بنُعوت المُحدَثات،إنها نَعت لله فيأبى قبولها على هذا الوجه،لأنه في سَكرة دَليله وبُرهانه،فيرُدّ ذلك الخبر لما يقتضيه نظره مع جَهله بذات الحق. فإذا صَحا هذا العاقل عن سُكره بالإيمان،لم يَرُدّ الخبر الصّدق.. فالسكر الطبيعي: سكر المؤمنين. والسكر العقلي: سكر العارفين. وبَقي سُكر الكُمّل من الرجال،وهو السكر الإلهي الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اللهم زدني فيك تحيّراً”،والسّكران حَيران،فالسكر الإلهي إبتهاج وسرور بالكمال..]،[الصّحْو عند القوم: رجوع إلى الإحساس بعد الغيبة بوارد قويّ. واعلم أنه لا يكون صَحو في هذا الطريق إلا بعد سُكر،وأما قبل السكر فليس الإنسان بصاح ولا هو صاحب صحو. وإنما يُقال فيه ليس بصاحب سكر،بل يكون صاحب حضور أو بقاء وغير ذلك..]..
_ الوَرْقاء _
الورقاء: هي أحد الطيور الأربعة،وهي إشارة إلى المرتبة الوجودية الثانية (أي النفس الكلية)،في مقابل العُقاب الذي يُشير إلى المرتبة الوجودية الأولى (أي القلم الأعلى)..
يقول إبن عربي: [الورقاء: النفس الكلية،وهو اللوح المحفوظ.]،[والورقاء: النفس التي بين الطبيعة والعقل الأول.]..
_ الصّفَة _
_ لفظصفة: إن إبن عربي يبتعد قدر الإمكان عن إطلاق لفظ الصفة على الله،فيَجنح في تعبيره عن الصفة إلى لفظ: النّسبة والإسم،ثمّ يُرجّح الإسم على النّسبة لأن القرآن وَرد بالأسماء. يقول إبن عربي: [فما من إسم إلا وله معنى ليس للآخر،وذلك المعنى منسوب إلى ذات الحق. وهو المُسمى: صفة عند أهل الكلام من النظار،وهو المُسمى: نسبة عند المحققين.. فإسم العليم يُعطي ما لا يُعطيه القدير،والحكيم يُعطي ما لا يُعطي غيره من الأسماء. فاجعل ذلك كله: نِسَباً أو إسماً أو صفات. والأولى أن تكون إسماً،ولا بُدّ،لأن الشرع الإلهي ما ورد في حق الحق بالصفات ولا بالنّسب،وإنما ورد بالأسماء،فقال: (ولله الأسماء الحسنى).]. _ علاقة الصفة بالموصوف: إن الصفات الإلهية إرتبطت في تاريخ الفكر الإسلامي بمشكلتين: التوحيد والتنزيه..
إبن عربي يُنزّه الحق تعالى عنالصفة أدباً.. يقول: [فهو السميع لنفسه،البصير لنفسه،العالِم لنفسه. وهكذا كل ما تُسميه به أو تَصفه أو تَنعَته،إن كنت ممّن يُسيء الأدب مع الله حيث يُطلق لفظ صفة على ما نُسب إليه أو لفظ نَعْت. فإنه (الله) ما أطلق على ذلك إلا لفظ إسم،فقال: (سبح إسم ربّك)،(تبارك إسم ربك)،وقال في حق المشركين: (قُل سَموهم) وما قال: صِفوهم ولا إنعَتوهم،بل قال: (سبحان ربك رب العزة عما يصفون)،فنَزّه الله نفسه عن الوَصف،لفظاً ومعنى..]،[فإن الأصل التَعرّي والتنزيه عن الصفات،ولا سيما في الله. إذا كان أبو يزيد يقول: “لا صفة لي”،فالحق أولى أن يُطلَق عن التّقييد بالصفات لغِناه عن العالَم،لأن الصفات إنما تَطلُب الأكوان..].
وهكذا يُبعد إبن عربي لفظ صفة،ويُفضّل في تعابيره لفظ الإسم،وتُضحي الصفات عنده: أسماء صفات.. وكون الصفة معنى الإسم: مفهوم يَسبق إبن عربي،يقول أبو طالب المكي: [فإذا دَعا العبد الله سبحانه،فليَدعُه ب”معاني أسمائه” فإنها صفاته..]..
والسّبب في عَدم مقدرة إبن عربي على تجاوز الأوصاف،يرجع إلى أن الحق تعالى سَمّى نفسه بأسماء تَطلب مَعانيها أن تقوم به: فإسمه “العالِم”يتضمّن معنى هو العلم،يطلب القيام بالمُسمى.. [ومن كَونه سَمّى نفسه لنا بأسماء تَطلُب معانيها تَقوم به،ما هي عين ذاته من حيث ما يُفهم منها مع إختلافها ــ وَصفناه.].
وهكذا يجد إبن عربي نفسه أمام أسماء صفات تُشير إلى وجود صفات لا يُمكن تَخطّيها. ولكن: ما علاقة هذه الأسماء الصفات بالذات؟.
لإبن عربي موقف من الصفات في علاقتها بالذات مُغاير،منطقياً ومضموناً،لموقف من سَبقه من المفكرين في التاريخ الإسلامي. فهو يُخالف المعتزلة التي تَجعل “الصفات عَين الذات”. كما يُخالف الأشعرية في جَعلها “الصفات لا هي الذات ولا هي غيرها”. ويظهر إختلاف مُنطلقه عمّن تَقدّمه،أن إبن عربي ينتقل في بحثه: من علاقة بين موجودين “ذات،صفات”،إلى العلاقة نفسها وماهيتها. وهنا يبرز مفهوم “النّسبة” عنده،وأنها: أمر عقلي،لا وجود عَيني له. وبالتالي الصفة ليست موجودة،لأنها نسبة..
ولكن لا يقف إبن عربي عند حدّ جَعل الصفة أمراً عقلياً،بل يقوده ذلك إلى إثبات علاقة بين الذات والصفات.. يقول: [إن الصفات عين الذات إذا نُظر إليها من الوجه الذي يَلي الذات،وهي غير الذات إذا نُظر إليها من الوجه الذي يلي إنقسام الوجود إلى الأقسام المتعددة..]. ويقول القيصري في شرحه هذه الجملة: [إن صفاته تعالى ليست بزايدة على ذاته،بل هي عين الذات،لا فرق إلا باعتبار العقل.. وقد عَنى من قال: صفاته تعالى لا هو ولا غيره،أي: “لا هو” باعتبار العقل،و”لا غيره” باعتبار الحقيقة..]..
هذا النوع من العلاقات بين الذات والصفات،تَقود إلى تضارُب في نظرية المعرفة عند الشيخ الأكبر. فمن ناحية أن “الذات عين الصفات”: تَتنزّه الصفات عن المعرفة،وبالتالي إستحالة وصول الممكن إلى معرفة الصفات الإلهية. ومن ناحية ثانية أن “الصفات غير الذات”،فمعرفة الصفات هي أوسع الأبواب للوصول إلى الذات..
يقول إبن عربي: [لما كانت ذاته تعالى لا تُمَثّل ولا تُعلم،وصفاته من لوازم ذاته،لَزمَ أن صفاته أيضاً لا تُمثل. ونحن لا نَعرف ما نعرف إلا بالأمثال،ولا مثل لصفة من صفاته. ولا شكّ أن لنا قدرة وعلماً وسمعاً وبصراً،وصفاتنا كلها مخلوقة مثلنا،فنظنّ بمشاركة الإسمية أنا فَهمنا أنه سميع وبصير وعليم،وعلمنا ذلك. وليس كذلك،إنما عَلمنا صفاتنا،وهو العليّ العظيم..]،[فما عَرفت قط صفة على الحقيقة من مَعبودك،وإنما عَرفت ما تَحَصّل من الأوصاف في أركان وجودك. وإلتحقت صفاته بذاته فتَنزّهت عن تعلّق علمي بماهيتها. فقد تنزّهت الصفات عن تعلّق العلم الحادث بها كما تنزهت الذات..]..
نورد نصاً لعبد الكريم الجيلي يُبيّن فيه ما يُخالف أكثر المفكريم،فهو يرى أن معرفة الذات أقرب في إدراكها من معرفة الصفات،يقول: [إن الصفة عند المحقق هي التي لا تُدرك وليس لها غاية،بخلاف الذات فإنه يُدركها ويعلم أنها ذات الله تعالى،ولكن لا يُدرك ما لصفاتها من مقتضيات الكمال. فهو على بيّنة من ذات الله،ولكن على غير بينة من الصفات. فالذات مُدركة معلومة محققة،والصفات مجهولة غير متناهية.. حتى في المخلوق: الصفات جميعها مُنطوية فيك (المخلوق)،غير مُدركة ولا مشهودة..]..
_ تعريف الصفة: [الصفة: حقيقة عقلية،معدومة العين موجودة الحُكم،كلية لا تَقبل التّجزئة.].. الصفات كلها واحدة فيما بينها ومُتّحدة بالذات،وهي لا تتميّز إلا في الممكنات. فالعلم عين القدرة عين الإرادة،لا تختلف إلا بآثارها وفي المعلومات والمقدورات،وهي نفسها عين الذات.. الصفة: هي إسم يُعطي الإشتقاق ويدُلّ على معنى يقوم بالمُسمى.. [كل إسم يُعطي الإشتقاق ويدل على معنى يقوم بالمسمى،فهو: وصف في الحقيقة. والمُراد: الصفة،والعين من حيث تلك الصفة لا من حيث ذاتها..]،[الصفة: ما طلب المعنى الوجودي،كالعالِم والعلم.].. ومن حيث أن الصفة تدل على معنى في الموصوف،فهي لا تُعطي ماهية الموصوف،ولا يمكن الوصول إلى ماهيته من خلالها.. يُعرّف الجيلي الصفة كما يلي: [الصفة: ما تُبلّغك حالة الموصوف،أي ما توصل إلى فَهمك معرفة حاله،وتُكَيّفه عندك وتَجمعه في وَهمك وتُوضّحه في فكرك وتُقرّبه في عقلك،فتذوق حالة الموصوف بصفته..]،[فالذات مَرئية والأوصاف مجهولة،ولا تَرى من الوصف إلا الأثر،أما الوصف نفسه فهو الذي لا يُرى أبداً البتّة. مثاله: ما ترى من الشجاع،عند المحاربة،إلا إقدامه،وذلك أثر الشجاعة لا الشجاعة. لأن الصفة كامنة في الذات،لا سبيل إلى بروزها،فلو جاز عليها البروز لجازَ عليها الإنفصال عن الذات،وهذا غير ممكن.].. _ الصفات الإلهي هي المؤثّرة في الكون،بل الكون مَظهراً ومَجلى لها.. فالعالَم بأسره هو: صفاته العليا..
يقول إبن عربي: [المُتوجّه على إيجاد كل ما سوى الله تعالى،إنما هو الألوهية وأحكامها ونِسَبها وإضافاتها،المُعبّر عنها ب”الأسماء والصفات”،وهي التي إستدعت الآثار..]،[فالعالَم كله: أسماؤه الحسنى وصفاته العليا. فلا يزال الحق مُتجلياً ظاهراً على الدّوام لأبصار عباده في صور مختلفة،عند إفتقار كل إنسان إلى كل صورة منها،فإذا إستغنى عن تلك الصورة فهي عند ذلك المُستَغنى “خَلق”،فإذا عاد إفتقاره إليه فهي “حق”،وإسمها هو إسم الحق..]..
يميّز الشيخ الأكبر: الصفة عن مَظهرها.. فمثلاً صفة “القدرة”: مظهرها هو كل المقدورات (الممكنات) في العالَم،ولكن من ناحية ثانية: هذا المظهر يتّحد بالظاهر فيه ويوصل إليه..
يقول إبن عربي: [الإنسان مُنْطَو على جميع أسرار العالَم،قابل لجميع الصفات والمراتب..]،[ووَصف الله خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعَظمة،كما وصف القرآن في قوله: (والقرآن العظيم)،فكان القرآن خُلقه صلى الله عليه وسلم. فمن أراد أن يرى رسول الله،ممّن لم يُدركه من أمّته،فلينظُر إلى القرآن،فإذا نَظر إليه فلا فرق بين النظر إليه وبين النظر إلى رسول الله. فكأن القرآن إنتَشأ صورة جسدية يُقال لها: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. والقرآن كلام الله،وهو صفته،فكان سيدنا محمد صفة الحق تعالى..]..
بعد أن إتّضح أن العالَم بأسره صفات الحق العُليا،يجب أن ننتبه إلى أن المخلوق هو صفة الخالق،وليس صفة المخلوق هي صفة الخالق. فصفات الحق هي صفات الممكن. وهذه من الأفكار الرئيسية عند إبن عربي،وهي ما يُسميها ب”أحدية الوَصف”،فبَصر كل مُبصر من الممكنات هو في الحقيقة بَصر الحق.. [ولما كانت هويته (الحق): أحدية الوصف،لم يكن فيها كَثْرة،وهي بَصره في كل مُبصر. فهو وإن تعدّدت ذَوات المُبصرين،فالبَصر واحد في الجميع،إذ كان البصر هوية الحق..]،[فصفات الحق صفات العبد،فلا تَعكس فتَنتكس.].
فالعبد يتجلّى بصفات الحق،ولكن لا نستطيع أن نعكس تلك المعادلة فتُصبح صفات العبد هي صفات الحق،لأن صفات العبد هي صفات نقص،يتنزّه الخالق عن الإتّصاف بها. وفي الواقع أن صفات الحق تظهر في العبد،وليست له بالأصالة.. فالممكن يُقيمه الله،مثلاً،في صفة العلم،وهو ليس في ذاته عالِماً..
يقول إبن عربي: [.. فإذا غَفا الإنسان أو سَها عن عبوديته،ورأى له فضلاً على عبد آخر مثله.. فيَرى لنفسه مَزيّة على غيره،ما يرى تلك المزيّة للمرتبة التي أقيمَ فيها،إن كان من أولي الأمر،ولا للصفة القائمة به من حيث الإختصاص الإلهي له بها،كالعلم وكرم الأخلاق. فلم يُفرّق بين نفسه والمرتبة،ولا بين الصفة والموصوف بها. بخلاف من ليس بغافل عن نفسه: فإنه يجعل الفضل للصّفة والمرتبة لا لنفسه،فإنه لم يَنلها بإستحقاق،وإنما نالَها بإمتنان إلهي..].
يقول سيد حُسين نَصر: [ونظرة إبن عربي إلى العلاقة بين الصفات والذات: وَسط بين التنزيه والتشبيه،إذ يُثبت في الوقت نفسه: التّعالي لله،وإتّصافه بصفات ليست جميع صفات الكون إلا إنعكاسات وصُوراً لها.].
__ إن الصفات الإلهية على تعدّدها،يُمكن إرجاعها إلى أصلين،من حيث آثار تجلياتها على قلوب المخلوقات: صفات الجلال وصفات الجمال..
_ الواعظ الناطق ــ الواعظ الصامت _
_ الواعظ الناطق: هو القرآن،بما فيه من آيات الوَعظ الناطقة بالترغيب والترهيب.. _ الواعظ الصامت: هو الموت،بما فيه من قُدرة على وضع الإنسان في مُواجهة مَصيره وإنتشاله من حال غفلة الكون: (ألهاكم التكاثر حتى زُرتم المقابر)..
يقول إبن عربي: [.. ومِتْنا على ما كُنا عليه،وحُشرنا على ما عليه مِتنا،كما نُصبح على ما عليه بِتْنا. تركت فيكم واعظين: صامت وناطق. فالصامت الموت،والناطق القرآن. هكذا قال صاحب الحق التُرجمان.]..
_ الوَقْفَة _
الوقفة: هي توقّف السّالك بين مقامين،وذلك لخُروجه من حُكمهما. فقد إستوفى حقوق المقام الذي ترقّى عنه،ولم يدخُل في آداب المقام الذي يَليه.. [فإن الإنسان السالك إذا إنتقل من مقام قد أحكمه،وحَصّله تَخلّقاً وذَوقاً وخُلُقاً،إلى مقام آخر يُريد تحصيله أيضاً ــ يوقَف بين مقامين وَقْفة يَخرُج حُكم تلك الوقفة عن حكم المقامين،يُعرّف السالك في تلك الوقفة بين المقامين آداب المقام الذي ينتقل إليه وما ينبغي أن يُعامل به الحق..]..
_ وَليّ ــ الولاية _
إن صورة الولاية وَصلت إلى إبن عربي مُكتملة المَلامح. فقد نشأت في محيط المجتمع الإسلامي الأول،متمثّلة في الأحاديث الشريفة التي وَصلتنا والمُتضمّنة: مَظاهر القُرب الإلهي لبعض الصحابة،من نُصرة ورِضى وخَرق عادة. ولم يهتم الأوائل في صدر الإسلام برَبط هذه المظاهر بمفهوم الولاية،بل كانت تَظهر تلقائياً دون طَلب منهم،وينحصر دورهم في: التنبّه إليها وتَناقُلها.
وبدايات التنظير لمرتبة الولاية ظهرت مع الفكر الشيعي في شخص الإمام،فالإمامة أبرزت أنماط خاصة من الأشخاص وَجدت لها صَدى مع تفتّح الفكر الصوفي. ممّا دعا الكثير من المفكرين إلى الإهتمام بأوجُه الشّبه والعلاقة بين التصوف والتشيّع في “الولاية والإمامة”.
وبدأت فكرة الولاية مع متصوفة القرنين الثاني والثالث الهجريين،تتلمّس طريقها إلى الظهور مع: [الفضيل بن عياض (ت187)،معروف الكرخي (ت200)،البسطامي (ت261).]. ولم تتأكّد إلا في جُرأة حكيم ترمذ الذي جعلها محور فلسفة الصوفية وقُطب مُعظم إنتاجه،وكان ذلك ظاهراً حتى في أسماء كتبه أمثال: [علم الأولياء،ختم الأولياء،سيرة الأولياء.]. وهذا الإهتمام من الترمذي بالولاية أدّى به في النهاية إلى أن تصوفه بكامله ليس سوى: نظرية مُتكاملة في الولاية.
ومع ظهور السّلوك الصوفي والتّسليك بعد القرن الثالث الهجري،أخذت الولاية أهمية خاصة من حيث أنها أضحت الهدف المُعلن،وغير المُعلن،لسلوك السالكين.
وهكذا وَصلت الولاية إلى إبن عربي مُثقلة بتأثير: [القرآن والحديث،والإمامة الشيعية،والتصوف النظري والسلوكي،وطُرق علم الكلام.]،والأهمّ من هذا كله [نظرية الترمذي في الولاية.].
لقد تتبّع شيخنا الأكبر خُطى الترمذي في الولاية،فلم يُقدّم إضافات تُذكَر،سوى إضاءات وَسّخت ملامح الصورة وأكدتها في رؤية شمولية إسلامية. وليس أدَلّ على تتبّع إبن عربي هذا الخطّ،من إجابته على أسئلة الترمذي[155 سؤالاً]في فتوحاته المكية،مُبرهناً بذلك على عِظَم علمه الصوفي وتجربته. يقول بهذا الشأن: [اعلم أن الدّعاوى لمّا إستطال لسانها في هذا الطريق من غير المحققين،قديماً وحديثاً،جَرّد الإمام صاحب الذّوق التام محمد بن علي الترمذي الحكيم،مسائل تمحيص وإختبار،وعددها مائة وخمسة وخمسون سؤالاً،لا يعرف الجواب عنها إلا من علمها ذوقاً وشُرباً،فإنها لا تُنال بالنظر الفكري ولا بضرورات العقول،فلم يبق إلا أن يكون حصولها عن تَجلّ إلهي في حضرة غيبية بمظهر من المظاهر. فجعلت هذا الباب (من الفتوحات) مَجلاها إن شاء الله..].
_ الولاية: هي مرتبة من مراتب القُرب الإلهي يتولّى فيها الحق،من حيث أسمائه الحسنى التي هي أرباب العبد. هذا القُرب الإلهي هو في الواقع: قُرب نسبة خاصة،فالوليّ يخُصّ الحق هنا ويَنتسب إليه،إنه للحق وليس لذاته،لذلك الحق يتولاّه. وهذه النّسبة الخاصة للحق لا تُكتَسب مطلقاً،وإنما هي تَعيين إلهي.. فالحق تعالى،من باب المِنّة،يُعيّن أولياءه وخاصّته. أما الجُهد الإنساني فما هو إلا تَعرّض لهذه المنّة الإلهية،ومُحاولة إستعداد وإنتظار لصُدورها من الحق. وهذا ما يُميّزها عن ثَمرات السلوك الصوفي وأنواع القُرب الأخرى. إذ المجاهدة بأعماله تُنتج: علماً وحالاً ومقاماً،يُخيّل للباحث أنها مظاهر الولاية،وهي في الواقع مظاهر الصّلاح والسّلوك ليس إلا. أما الولاية فهي ــ إن أمكن التعبير بلغة الدولة ــ أشبَه بمَراسيم تَعيين إسميّة: فلان،فلان،أوليائي. بعد التّعيين يتولاّهم إسم إلهي خاص أو صفة إلهية تقوم بهم،إنهم للحق. يقول إبن عربي: [إشارة (الوليّ) في لفظ (لي)،ومن كان (لهُ) فقد بَلغ أمَله. فما حَكم به الوليّ في الخَلق،أمْضاه الحق..]،[وقال صلى الله عليه وسلم (إن أولياء الله هم الذين إذا رأوا ذُكر الله)،وسُمّوا أولياء الله: لقيام هذه الصفة،التي تولاّهم الله بها،بهم..].. _ يجعل إبن عربي الولاية،مُتأثّراً في ذلك بالترمذي،هي “الفلك المُحيط العام”،ويُسميها “النبوة العامة التي لا تَشريع فيها”،في مقابل “النبوة الخاصة / نبوة التشريع”. وهذه النبوة العامة أو الولاية أرْفَع من نبوة التشريع في الشخص نفسه،أي في شخص النبيّ. فالوليّ لا يفضُل النبي أبداً،ونبوته العامة هي إرْث لنبوة النبي. وكل ما يناله ليس من جهة نبوة نفسه،بل من جهة نبوة نَبيّه. لذلك لا مَجال لبحث التفاضل بين الوليّ والنبيّ،ولكن بين: نبوة النبي ووَلاية النبي نفسه.
يقول إبن عربي: [.. ثمّ إن أهل الولاية على أقسام كثيرة،فإنها أعَمّ فلك إحاطي..]،[فمن الأولياء: الأنبياء،تولاهم بالنبوة.. فالولاية: نبوة عامة. والنبوة التي بها التشريع: نبوة خاصة..]،[كل ولاية لا تكون نبوة،لا يُعوّل عليها.]،[فالوليّ لا يأخذ النبوة (العامة) من النبيّ،إلا بعد أن يَرثها الحق منهم،ثمّ يُلقيها إلى الوليّ. وبعض الأولياء يأخذونها وراثة عن النبي.]..
__ إحتفظ إبن عربي بإشارات القرآن للولاية على أنها: النّصرة من الخلق للحق ومن الحق للخلق،وهي خاصة للمؤمن وليس للموحد.
يقول إبن عربي: [.. فالولاية مشتركة بين الله وبين المؤمنين..]،[فولاية العبد ربه ووَلاية الرب عبده،في قوله: (إن تنصروا الله ينصركم). وبين الولايتين فرق دقيق،فجعل تعالى نَصره: جزاء. وجعل مرتبة الإنشاء: إليك. كما قدّمك في العلم بك على العلم به،وذلك لتَعلم من أين علّمك فتَعلم علمه بك..]،[الولاية: نصر الوليّ.]،[.. ولما كان نَعتاً إلهياً هذا النّصر المُعبّر عنه بالولاية،وتَسمّى سبحانه به “الوليّ”،وأكثر ما يأتي مُقيّداً كقوله: (الله وليّ الذين آمنوا).. فإذا أوفى المُشرك بما يجب لتلك النّسبة من الحق والحُرمة،وكان أشدّ إحتراماً له (نسبة الألوهية) من المُوحّد،وتَراءى الجَمعان،كانت الغَلبة للمشرك على الموحّد.. فأيّ شخص صَدق في إحترام الألوهية وإستحضرها،وإن أخطأ في نسبتها ولكن هي مشهودة،كان النصر الإلهي معه،غَيْرة إلهية على المقام الإلهي.. فما جعل نَصره واجباً عليه للموحد،وإنما جعله للمؤمن. فما نَصر الله العدُوّ،وإنما خَذَل المؤمن لذلك الخَلل الذي داخَله..]..
_ الوَهْم _
لم يغفل إبن عربي أهميّة الوَهْم في السلوك النفسي الصوفي،وسلطانه على الخيال الذي يُحكّمه في النفس فلا يستطيع فَكاكاً. لذلك يَرفع قُبالته العلم،لأن في طاقته قهر سلطانه بالحقائق.
يقول إبن عربي: [ويتسلّط عليهم (أهل النار) الوَهْم بسُلطانه،فيتوهّمون عذاباً أشدّ مما كانوا فيه. فيكون عذابهم بذلك التوهّم في نفوسهم أشدّ من حلول العذاب المقرون بتسلّط النار المحسوسة على أجسامهم..]،[فإن الوهم لا ينبغي أن يَقضي على العلم.]..
== حرف الياء ==
_ يَدُ الله ــ اليَدان _
_ يد الله: إشارة إلى القوة.. فما وصف الحق به نفسه من الصفات الجسدية،إن هي إلا إشارات صفاتية من ناحية،وتلميح لتعريف الإنسان بأحدية الوصف من ناحية ثانية. أ إشارات صفاتية: بمعنى أن اليد هي صفة القوة مثلاً في حق الجناب الإلهي.
ب_ أحدية الوصف: أن ما وصف الحق به نفسه من الصفات الجسدية ليدُلّ أنه الفاعل الحقيقي من خَلف حُجُب الأشخاص،مثل قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).. فهي أحدية وصف،وليس أحدية عين..
يقول إبن عربي: [.. فيد الله،وهو القوة،مع الجماعة.]،[وأما قوله: (وما رميت إذ رميت).. فيد الله: أيدي الأكوان،وإن إختلفت الأعيان..]..
__ أثبت الحق في القرآن لجنابه تعالى يداً: (يد الهم فوق أيديهم)،ويَدين: (ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي).
يربط إبن عربي بين اليدين وخَلق الإنسان. فالإنسان وحده،عند إبن عربي،هو المخلوق باليدين،إذن صفتين هما في الواقع: الأسماء المتقابلة في الحضرة الأسمائية. فالحق تعالى خلق الإنسان بيديه،أي أظهر فيه كمالات أسمائه وصفاته المتقابلة “جلال ــ جمال”.. [ووَصف نفسه تعالىبأنه جميل وذو جلال،فأوجدنا على هَيبة وأنس،وهكذا جميع ما ينسب إليه تعالى ويُسمى به. فعبّر عن هاتين الصفتين باليدين اللتين توجهتا منه على خلق الإنسان الكامل،لكونه الجامع لحقائق العالَم ومُفرداته. فما جمع الله لآدم بين يديه إلا تشريفاً،وما هو إلا عين جَمعه بين الصورتين: صورة العالَم وصورة الحق،وهما يَدا الحق..]..
يقول الجرجاني في شرح اليدين: [اليدان: هما أسماء الله تعالى المتقابلة،كالفاعلية والقابلية. ولما كانت الحضرة الأسمائية مَجمع الحضرتين: الوجوه والإمكان،قال بعضهم: إن اليدين هما حضرة الوجوب والإمكان. والحق أن التّقابُل أعمّ من ذلك..].
_ اليوم _
إن الزمان عند الصوفية يتبع الحال،لذلك لا يُقاس بالساعات والثواني،ولكن بتبدّل الحال أو ثبوته. فالزمن يتحرّك مع حركة الأعماق في تأثيرها بالتجليات الإلهية..
ويتبع اليوم مفهوم الزمن الصوفي،فيقصُر ويطول،مُشكلاً وحدة وَقتية،أي وحدة حال..
يقول إبن عربي: [واليوم عندنا (البشر) أربع وعشرون ساعة،وإذا كان اليوم قد أخبر الله تعالى أنه فيه “في شأن”،ولم يقل في شؤون،عَلمنا أن ساعاته تحت حُكم واحد. فيومنا الصحيح إنما هو: ما تكون ساعاته كلها سواء،فإن إختلفت فليس بيوم واحد.]،[فقد يكون اليوم: ولا ليل ولا نهار.]،[قال أبو يزيد الأكبر: ليس الزهد عندي بمقام،إني كنت زاهداً ثلاثة أيام: أول يوم زَهدت في الدنيا،واليوم الثاني زهدت في الآخرة،واليوم الثالث زهدت في كل ما سوى الله..]،[.. وأما إختياره تعالى من الإنسان القلب،وهو الذي وَسعه،لأنه كل يوم هو في شأن. واليوم: قَدر نَفَس المُتنفّس في الزمان الفرد،وبه سُمي قلباً لتَقلّبه..]
ذ رشيد موعشي..