موضوع: التصوف والعرفان والكنان،للدكتور محمد شوقي الزين.
يقول المفكر فتغنشتاين: هناك بلا شك ما يتعذّر التعبير عنه،هذا الأخير يُشار إليه،إنه المكنون اهـ.
_ قراءة نحوية وإشارات تأويلية: كل مصطلح له بيئة وتاريخ،ويتمتّع بدلالة وثقافة. وراء كل مصطلح هناك شبكة مفهومية تحدّد طبيعته واستعمالاته في الأزمنة المتوالية.. ومنبت كل مصطلح ليس عينه في الثقافات المتنوعة،من هنا صعوبة الترجمة لمصطلحات: التصوف والعرفان.. هل نستطيع الحديث عن تصوف مسيحي أو يهودي؟ أليس التصوف مصطلح له بيئة خاصة هي الثقافة العربية الإسلامية،بناء على معقولية اللغة التي تُرجع المصدر صوف إلى مدلولات متنوعة تخصّ: أهل الصفّة أم الصفاء أم صوفيا؟ هل يمكن الحديث عن عرفان مسيحي أو يهودي،مع العلم أن العرفان هو مصطلح طبع أيضاً الثقافة الإسلامية في سياق لغات أخرى هي الفارسية والتركية،ونزوع مذهبي آخر هو التشيّع؟ هل الحديث عن التصوف والعرفان هو الولوج في ورطة إيديولوجية تنعت القاسم بين التسنّن والتشيّع؟. عندما نتأمل هذه المصطلحات: التصوف والعرفان والكِنان،فإن استعمالاتها تختلف مثلما تتباين دلالتها. يمكن دائماً أن نقول تصوف مسيحي أو يهودي،لكن استعمالات المنطوق تصوف له مجال،وينخرط في بيئة وعقلية هي الفضاء العربي الإسلامي،إلى درجة أن المصطلح يتعذر ترجمته،واحتفظت اللغات الأجنبية بالمنطوق في أصله العربي بالكلمة سوفيزم.. مصطلح التصوف: في كتاب اللمع خصّص السراج الطوسي فصلاً تحت عنوان: “باب الكشف عن اسم الصوفية”،يُناقش فيه خُلوّ الاسم صوفية من الرّسم المصاحب له،فقط لأن الصوفية لم ينفردوا بنوع من العلم دون نوع،ولم يترسّموا برسم من الأحوال والمقامات دون رسم،وذلك لأنهم معدن جميع العلوم،ومحل جميع الأحوال المحمودة والأخلاق الشريفة. نُدرك من هذا التحديد التوتّر الكائن في الاشتقاق بين: الصفاء روحياً وأخلاقياً،وهي الصفة الغالبة في هذا الفن وهذا السلوك،والتصوف مادياً،وهو لباس التنسّك. وصوفيا إيحاء للتقريب بين التصوف والحكمة بالمعنى اليوناني العريق. بين هذه الكلمات شبهاً في الاشتقاق،لكن انشقاقاً في المعنى.. وصاحب اللمع يُرجع الكلمة صوف إلى الصفاء نفسه،إلى كون الصوف هو عنوان الصّفاء من حيث نصاعته.. كذلك يُخصّص أبو بكر الكلاباذي الباب الأول من كتابه التعرف لمذهب أهل التصوف إلى مشكلة التّسمية،ويستحضر الكلاباذي المدلول الغالب وهو الصّفاء،ثم يعدّد بعض المدلولات مثل: الصف الأول وأهل الصفة ولباس الصوف،ويرى بأنها تصبّ كلها في الغاية نفسها التي تَسِم ماهية التصوف وجوهره.. نُدرك من المصطلحية التي أوردها الطوسي والكلاباذي،بناء على مجموعة من الأخبار المتواترة والأقوال المأثورة،أن التصوف استقرّ على دلالة الصّفاء،وأن الاستعمالات كانت تصبّ كلها في المجال الأخلاقي بتصفيّة السريرة،قبل أن تحدُث طفرات في التاريخ الصوفي بانتقاله إلى المجال اللاهوتي بفعل احتكاكه بالسجالات الكلامية،ثم إلى المجال الفلسفي بتأثره بالأدوات المنطقية والأنساق الميتافيزيقية الكبرى،ابن عربي مثلاً،في المرحلة المتأخرة من الثقافة العربية الإسلامية.. مصطلح العرفان: أول ما يُثير الانتباه في مصطلح العرفان هو أن النزوع الغالب فيه ليس المجال الأخلاقي عبر الصفاء الذي يُميّز جوهر التصوف،وإنما المجال المعرفي من أجل بلوغ معرفة عليا هي الحكمة الإلهية.. العرفان هو شكل من أشكال التّطهير بالمعرفة.. وليست المعرفة الحسية أو العقلية،وإنما المعرفة المباشرة،المعرفة الحدسية والكشفية،المعرفة العميقة والقصوى التي تفتح الوعي نحو التوصل بالحكمة الكونية والإلهية. ويمكن القول بأن العرفان يتخذ هنا دلالة التجرب لأنه يختبر نوع خاص من المعرفة مجالها القلب،وأداتها الذّوق.. غير أن التوصل بالمطلق عبر التجربة ليس مسألة بديهية وسهلة،بل يتطلّب المِراس والزهد والانضباط والتدرّب.. ويمكن القول بأن العرفان هو صيغة مبالغة لمعرفة يتمّ التهيّؤ لها،لأن العارف يذهب نحوها ويبحث عنها،تتطلب الجهد والزهد،وليست إلهاماً يحلّ عليه أو يُقذف في قلبه. انكشاف الحقائق مرهون بالكشف عنها واختراق الحُجُب التي تتوارى خلفها.. العرفان يبتغي الكشف،وهو أقرب إلى النور الذي يرى به العارف دون أن يراه في ذاته.. العرفان هو تجسيد المعرفة العليا في العارف بالمِراس والزهد،فالعرفان هو تجلّي الحقيقة في العالم،أن تتخذ من العالم جسداً تتمظهر فيه.. الفرق بين التّجسيد والتّجسيم يُحيلنا إلى الفرق بين الجسد والجسم: الجسد هو كل ما يظهر للرائي في صورة ما،يتّخذ شكل جسم وإن كان في ذاته روحاً أو شبحاً. لذا يسهُل أن نقول بأن الروح يتجسّد،ولا نقول عنه بأنه يتجسّم.. من شأن هذا المعنى أن يقينا من التأويل الخاطئ حول التجسيم بأن يتحوّل الروح إلى جسم فظ وخشن بالمعنى المادي والمبتذل للكلمة.. ليس التّجسيد مسألة أيدولة تنزع نحو الوثنية والصنمية،بل هو مسألة أيقونة تُحيل إلى حقيقة أخرى يتهيّأ لها العارف ويرتقي إليها بالجهد والزهد والرياضات الروحية.. العرفان هو السلوك من نور إلى نور،ونفس العارف الباحث متنوّرة وتُطارد العتمة والظل،لا تنفكّ عن إيجاد النور بالسلوك في النور.. مصطلح الكِنان: إذا كان العرفان ينزع نحو البُعد الكوني للتجربة،بمعزل عن الإطار المقنّن للسلوكيات الدينية،يذهب على العكس تماماً من الكِنان الذي ينخرط في هذا الإطار ويتقيّد بالسياق الديني،لكن بالاستعمال المغاير وباللجوء إلى الاستعارة والكناية والرمز.. فالكِنان هو خارج الداخل اللاّهوتي الذي يتبلور فيه،يتخذ ملامحه،يستخدم معجمه ومدونته،لكن ينشقّ عنه بطريقة خاصة في الاستعمال والتداول.. الكنان: جاء في القاموس: الكِنّ والكِنّة والكنان: وقاء كل شيء وستره.. هو نحت لغوي يكافئ نوعاً ما المنطوق ميستيك،باختزانه على مدلول السرّ واللّغز والتكتّم.. الكنان يميل نحو الستر والوقاية،لذا تأتي العبارات ملغزة والقصائد مفعمة بالرموز القابلة لتأويلات متعددة وأحياناً متناقضة.. الكِنان هو سياسة في التقيّة،لابساً قناع الرموز لدرأ تهمة المروق أو الإلحاد. وغالباً ما كان يلجأ الصوفية إلى هذه الإستراتيجية في تغليف قصائدهم ونصوصهم بحُجُب الرمز والاستعارة.. فمثلاً كان ابن عربي الحاتمي عرفانياً في ترجمان الأشواق،ثم أصبح كِنيّاً في ذخائر الأعلاق.. ويُصدّق ذلك قول القاضي تقي الدين ابن دقيق العيد: جلست مع ابن سبعين من ضحوة إلى قريب الظهر وهو يسرد كلاماً تُعقل مفرداته ولا تُعقل مركباته اهـ.. ولا يتعلق الأمر هنا بإلجام العوام عن علم الكلام إذا استعدنا عنوان الغزالي،وإنما بـ خرص الخواص عن مكنون لآلئ الغوّاص إذا اعتبرنا أن الخواص هنا هم الفقهاء وعلماء الكلام الذين يختصّون بمعرفة برهانية وجدلية،وينبغي التوقّي من بطشهم،وأن الغوّاص هو الصوفي الذي يلج في عمق العبارات والكائنات ليكتشف فيها عن أسرار يجلبها لكن يحفظها في وعاء الكِنّ والستر،بحيث تكون متعذرة الإحاطة والفقه.. الكِنّ: من خاصية الغوّاص الذي يُسفر في أعماق البحار عن المحار.. فالبحث عن المحار هو شكل من أشكال السّير في الحَيْرة.. الصوفي يُسافر في ذاته للإسفار عرفانياً عن معاني التجربة التي يُكابدها.. يقول ابن عربي: كل سَفَر أتكلّم فيه،إنما أتكلّم فيه في ذاتي اهـ،وقال أيضاً: فما كانت رحلتي إلا فِيّ ودلالتي إلا عليّ اهـ.. الكِنّ الذي نعنيه هو: جانب من الذات،غير معلوم المكان سوى كونه المَكْمن،على عاتقه الاحتفاظ بالأسرار في وعاء النفس.. _ محطات التصوف وانتقالاته: ليس التصوف مُدوّنة مُنسجمة أو تصوّراً متناسقاً،بل هو مجموعة مركّبة من الممارسات الخطابية والممارسات غير الخطابية،وخَضَع إلى مجموعة من التحوّلات عبر جدل التأثير والتأثّر،وتَطعّم بمباحث متقاطعة فقهية وكلامية وفلسفية وبوَتيرة متقطّعة.. يمكننا الإشارة إلى ثلاث محطات هي عَصَب التّمظهُر الصوفي في التاريخ الروحي والفكري للإسلام:
المحطة الأولى: هي تمظهر التصوف في البُعد التربوي والزهدي الذي طبع البدايات الأولى للإسلام الكلاسيكي،ويمكن حشر أسماء: بشر الحافي والحسن البصري والسّقطي والجنيد والبسطامي. ومجموع مُدوّني الآراء الصوفية مثل: الحارث المحاسبي والسُلمي والكلاباذي والقشيري وأبو طالب المكي.. المحطة الثانية: هي تمظهر التصوف في البُعد الأخلاقي والغزلي الذي يحتفي بالعشق والفناء،ويتغلّف برموز أنثوية من أجل نَعْت المحبة الإلهية.. ويمكن جمع طائفة من المتصوفة أمثال: ابن الفارض ورابعة العدوية والحلاج والعفيف التلمساني.. المحطة الثالثة: هي تمظهر التصوف في البُعد الفلسفي بتنسيقه في مدوّنة ميتافيزيقية وكلامية منسّقة،ويمكن استحضار أسماء: الغزالي وشهاب الدين يحيى السهروردي وابن عربي وابن سبعين.. بين هذه المحطات تقاطعات على مستوى المباحث،وتقطّعات على صعيد الاقتباس والتلقي. فهي ليست محطات منتظمة،وإنما عرفت تعديلات بمقدار الاصطدام بعنصر داخلي تحوّل وارتقى،كانتقال الزهد العملي إلى العشق الباطني،وانتقال المبادئ الأخلاقية والحدسية إلى الأبعاد الأنطولوجية والميتافيزيقية.. من التّواجد إلى الوُجود،من وحدة الشهود إلى وحدة الوجود.. أو عنصر خارجي وَلَج وعدّل،مثل مختلف الأفكار الشرقية،الهندوسية والطاوية التي وفدت إلى الإقليم الإسلامي..
بداهة الزهد: نجد في المحطة الأولى للتصوف اهتماماً بالحياة الروحية على مستوى الزهد عملياً،والتوحيد عقائدياً. البدايات الأولى للتصوف الإسلامي كانت زُهْدية في القرنين الأول والثاني الهجريين،قبل أن يتخذ التصوف تسمية له بتقنين القواعد وتدوين الرسائل في القرنين الثالث والرابع الهجريين.. جاء الزهد بوصفه ثابتة في خضم انزياحات تتأرجح بين: الثورة الروحية على الأوضاع الإجتماعية التي تتميّز بالفقر والعوز،والأوضاع السياسية التي كانت تحركها الفتن بعد الفتنة الكبرى.. ويأخذ التفتازاني برأي أبي العلا عفيفي الذي يُرجع ظاهرة الزهد إلى أربعة عوامل: الأول: تعاليم الإسلام نفسه،حيث أن النص القرآني يحُثّ على الورع والعزوف عن الحياة الدنيا. الثاني: الثورة الروحية في الإسلام ضد الأوضاع الاجتماعية والسياسية القائمة. الثالث: الرّهبنة المسيحية عبر التعايش الروحي المشترك بين المسلمين والمسيحيين. الرابع: هجران المسائل الفقهية والكلامية التي هي جدلية وبرهانية وعقلية،واكتفاء الصوفية بالزهد دليل العاطفة القلبية والحياة العملية البسيطة..
باده العشق: في المحطة الثانية،يمكن القول إن بداهة الزهد تحوّلت إلى باده العشق،إذا قصدنا بالبداهة ما هو جليّ للوعي الصوفي بأنه جوهر حياته وسلوكه وهو الزهد،وبالباده ما يطرأ فجأة ويهجُم على قلب الصوفي ويغيّر عليه عوائده بأن يُفنيه عن أحواله. لم يعد الزهد يعتمد على حياة سلوكية قوامها الصبر والرضا والتوكل ومجموع الأخلاق الروحية،وإنما تعزّز بالمواظبة على العبادة وتفاقم نحو الشعور العنيف بالوجد والحزن والخوف الذي يطرأ في العبادات والخلوات،ثم الشعور النّشوي بالحب والعشق. ولعل رابعة العدوية هي النموذج الأمثل في هذا التحول أو الانتقال من الزهد التربوي إلى الزهد العشقي.. لا شك أن القرنين الثالث والرابع الهجريين شهدا تقنين التصوف وتنظيمه في قواعد ورسائل ودواوين،فنكون هكذا انتقلنا من التجربة كما طرأت على المتصوف إلى الكتابة عن التجربة في سرد تاريخي،أي الانتقال من التاريخ الحدثي القائم على حدث التجربة إلى التاريخ السردي القائم على المعرفة العلمية والموضوعية إذا استعدنا التمييز الهايدغري. انتقل الأمر من الزهد إلى علم التصوف،أي: كتابة نسقية حول الأشكال النمطية لمجموع الأحوال والمقامات الصوفية. لكن في الفترة نفسها التي تشكل فيها علم التصوف،الذي هو تدوين تاريخي للأخلاق الزهدية مع القشيري والطوسي والكلاباذي والسلمي،تفاقم الزهد نحو تجربة معيشة في تجلياتها القصوى،فحصل أن شهد العصر صعود المواجد والأحوال العنيفة،مثلاً تجارب البسطامي والحلاج،لكنها تجارب تمرّغت في السّعر الذاتي واصطدمت بالزاجر السياسي.. شهد العصر إذن توجهين متوازيان: العلم الصوفي المطمئن والشارح والحال الصوفي الجائش والمضطرب. غير أن نقطة التوازن بينهما يمكن إيجادها في سلطة الرمز،كان اللجوء إلى الرمز استراتيجية في الإفلات من الرقابة الفقهية والزاجر السياسي.. ما شهده التصوف في هذه الفترة هو انتظامه في اسم هو العلم الذي يعتني بالأحوال والمقامات من حيث التراتب والأشكال النمطية،وانتظامه أيضاً في صفة هي ما يُجسّده الصوفي في ذاته من أحوال ومواجد..
بُدّ العاقل: كان استعمال الرمز أو الإشارة وقاية صوفية من التهمة البرّانية. ما كان الصوفي العاشق يختبره بلسان الحال أو التاريخ الحدثي،كان الصوفي الشارح يفسّره بلسان المقال أو التاريخ السردي. لذا نرى الرسائل الصوفية تشرح العشق والفناء والوجد بوصفها موضوعات الحال الصوفي.. ابتداءً من القرن الخامس الهجري،سنرى دخول التصوف في مرحلة جديدة من التبلور المذهبي،متأثراً بالجدالات الكلامية الحادة،وبالنظريات الفلسفية حول النفس البشرية. لم يتغير التصوف في البنية وإنما تعدّل في العلاقة بالمنظومات المعرفية الموازية أو المتداخلة. كذلك لم يتغير في الجوهر بقدر ما تبدّل في الهوامش والأطراف،أي في الكتابات الصوفية ذات النبرة الميتافيزيقية والكسمولوجية البارزة.. إذا كان الزوج: التصوف وعلم الكلام يعتمل بقوة في كتابات الغزالي،فهو في الوقت نفسه متكلم ومتصوف،فإن الزوج: تصوف وفلسفة كان قليل الحضور،إذا عرفنا موقف الغزالي من الأطروحات الفلسفية الكبرى التي ناقشها وهاجمها.. كانت ثنائية: تصوف وفلسفة تنتمي إلى مجال العرفان الذي انعطفت عليه النزعات الفارسية مع إخوان الصفا وابن سينا ورزبهان بقلي وحيدر آملي.. في الفترة المتأخرة من القرن الخامس الهجري وطيلة القرن السادس والسابع الهجريين،وجد التصوف نفسه في مجال مركب من المنظومات المعرفية المتكاملة أو المتعاركة. فما كان له من بدّ سوى الانخراط،خياراً أو عنوة،في هذا المركب بالاقتباس منه أو التأثير فيه. عندما نلتفت إلى الأنساق الميتافيزيقية والكسمولوجية الكبرى للمتصوفة،نجد أنها استفادت من النظريات الفلسفية المتداولة حول النفس البشرية والعقل الكلي،سليلة الأفلاطونية المحدثة. بدأ التصوف في تَطْعيم مباحثه بالأطر النظرية للفلسفة الأفلوطينية،بل يمكن القول بأن أخْلَقة الشرط الأنطولوجي للإنسان عبر الزهد وأحوال الفناء والعشق،قابلتها أنْطَلجة البُعد الأخلاقي للإنسان بالانتقال من الزهد إلى كينونة الزاهد،من الشهود إلى وجود الشاهد.. يضع التفتازاني التصوف الفلسفي في بَيْنيّة،بين التصوف الخالص والفلسفة البرهانية المركبة.. ونفهم من هذا أن التصوف الفلسفي تعرّض لشائبة أو زائدة برّانية كما يذهب معظم الدارسين للتصوف الإسلامي،وهي شائبة: النظريات الهرمسية والفلسفات الشرقية،الفارسية والهندية،الوافدة إلى الإقليم العربي الإسلامي بفعل الترجمة وعبر التبادل التجاري والعلمي.. ولعل النظرية الأكثر استحضاراً،الأكثر شرحاً وتعليقاً،وفي الغالب الأكثر نقداً وتشنيعاً،هي نظرية وحدة الوجود.. ويقدم لنا ابن عربي النموذج الأمثل لما سمّيته الأنْطَلجة بإقحام التصوف في هيكل ميتافيزيقي وكسمولوجي محكم العناصر والأوتار.. وفي الحقيقة الحضور الفلسفي في المنزل الصوفي أقدم من ذلك،ويعود في المغرب الإسلامي والأندلس إلى مدرسة ابن مسرّة الجبلي أي في فترة التصوف الزهدي. غير أن هذا الحضور عند ابن مسرة كان جنينياً ومنعزلاً ولم يكتمل سوى بين القرنين السادس والسابع الهجريين،مع ابن عربي ومدرسته.. أعتقد أن ابن عربي كان ينخرط في أيّون عابر للثقافات والمعتقدات وجامع بينها على غير وعي منها،شيء ينتمي إلى شقّ الوعي طريقه في العالم بمفهوم هيغل أو التاريخ الحدثي بمفهوم هايدغر..
_ محطات الكنان وتجلياته: الكِنان في المقاربة النفسية عبارة عن: اختلال في الوظائف الذهنية،رؤية يشوبها الخلل في الإدراك. وغالباً ما كان وثيق الصلة بالكآبة أو الميلانكوليا التي يضعها أرسطو رابطاً بين العبقرية والجنون،ويرى أن بنيامين أنها: تتجسّد في التكهّن والقدرة على الرؤية الحادة.. كان النزوع الكِناني موضع احتراس،لأنه موضع خيالات فاسدة وأمزجة متناقضة تؤدي في غالب الأحيان إلى الهذيان والشطح.. كان الحكم على الكِنان من وجهة نظر الاختلال المرضي والرؤيا الخارقة،بقدر ما هو علّة فهو يُبدي أيضاً الخارق.. يعترف بيير كيرسي في دراسته حول إوالية الرؤى الكِنانية: أن الكِنان لا يكتسي دائماً دلالة الرؤية النبوية،بحكم أن بعض الرؤى عبارة عن هذيان واختلال في الوظائف الخيالية،لكن لا يمكن أن ننزع عنه الرؤية التأمليّة في استحضار صور خالصة.. يقول: كل المجانين من أهل الكِنان ليسوا أهل هلوسة وهذيان اهـ. وينبغي أخذ الكلمة جنون بالمعنى الذي يقترب فيه من العبقرية بمفهوم أرسطو،بين الجنون والعبقرية خيط رفيع،ولربما كان المجانين عباقرة منسيّين أو مهمّشين فقط لأن خطابهم لا يندرج ضمن التصنيف العقلي المهيمن.. ودراسة ستيفان غامبير التجربة الكنانية بين التحقيق الأقصى والجنون: دراسة إبستمولوجية وسيكومرضية تنخرط في بحث تاريخي ومعرفي لتبيان تمظهُر التجربة الكنانية والأوجه التي اتخذتها بين الاختلال والاكتمال،بين الرؤية السلبية لحالة مَرضية والرؤية الإيجابية لتحقيق باطني.. الصفة أقيانوسي تنعت حالة من الانفتاح على اللاّنهائي والمطلق يشعُر بها الشخص وهو يتأمّل في المحيط.. ويحدّد فرويد الشعور الأقيانوسي بأنه: الشعور بالأزل والأبد،يكتسي هذا الشعور دلالة التجربة،على اعتبار أن المُتأمّل يختبر هذا الشعور في أغوار ذاته ويُعانق به المطلق.. وهو ليس شعوراً متواصلاً،بل يأتي سريعاً وخاطفاً كالبرق،قصير في مداه لكنه عميق في معناه.. وترمز العديد من قصائد الصوفية والعرفانيين وأهل الكِنان إلى هذا الشعور الأقيانوسي أي الإحساس العميق بكلمات: البحر والموج والغطس والقاع والغوص.. إنه موسيقى الإحساس الباطني لمن يُحسن الإنصات إلى نوتات الكون في ذاته وذبذبات الكل في جزئيته. إنه مونادا الشعور بكلية الكون في جزئية الذات.. المقاربة الثالثة للكنان هي وضع هذا الأخير في سياق تراث تدويني تمخّضت عنه شعريات ونثريات تقول محتوى التجربة الروحية. غير أن العقل الكتابي الذي انكبّ على دراسة الكِنان،لم يكن همّه مضامين التجربة بقدر ما انصبّ اهتمامه على شكل العبارة التي تقول التجربة.. كانت البداية محتشمة مع هنري ديلاكروا في محاولته النزعة الكنانية النظرية في ألمانيا القرن الرابع عشر الميلادي متخذاً من المايستر إكهرت نموذجاً في قراءة اللغة الكنانية بما تُبديه من نظام في الممارسة الخطابية بمعزل عما تنطوي عليه خزائن الروح. بعد ذلك عمّق جون باروزي المسألة بمنعطف لغوي خاص بالتعبير الكناني في محاولته القديس يوحنا الصليبي ومشكل التجربة الكنانية.. أخيراً اكتملت المسألة مع ميشال دو سارتو في استثمار التراث الألسني في مقاربة العبارة الكنانية والوقوف فيها على نمط خاص من الممارسة الكنانية،ومحاولته حكاية المكنون في جزأين قراءة دقيقة وتاريخية في تشكّل العبارة الكنانية وانتقالها من مجرد الكلام عن شيء نحو الكلام عن الكلام نفسه بتقنينه ومعجمته.. واللغة المُلغزة: هي الإجراءات البلاغية التي قال عنها دو سارتو أنها حصان طروادة داخل القلاع المحصّنة للغة اللاّهوتية،وهي في الغالب إجراءات يؤمّها التناقض،من حيث أن التجربة التي يستحيل التعبير عنها هي أيضاً التجربة التي يستحيل السكوت عنها. بين تعذّر التعبير واستحالة الصمت،هناك فجوة يتسلّل منها الكلام المخروم والهشّ،لكنه ينظّم فضاء اللغة،مثله مثل الانفصال الذي يُنظّم حقل التاريخ والسلاسل الزمنية المتقطعة.. لا تدلّ اللغة في الكنان على حقيقة خارجية،بقدر ما تدل على حقيقتها بالذات وتُنظمها وفق قصديات ودلالات مبعثرة،ولأن لعبة الدوال هي التي يُعتدّ بها في اللغة الكنانية،لغة بلاغية ولغة التناقضات الحية والصارخة،تتمظهر إجراءاتها في المجاز.. _ النتائج المعرفية والتأويلية: كيف يمكن إنقاذ الظاهرة الروحية من العبث الأيديولوجي الذي انتظم تاريخياً بين تصوف مجاله الفضاء السنّي وعرفان انتمى إلى الفضاء الشيعي؟.. إذا لجأنا إلى فكرة تيري زاركون،فهو يضع الكِنان نظاماً تترتب فيه اللغات الأخرى،اللاّهوتية والفقهية والفلسفية،وينخرط في الظاهرة الدينية عموماً،مستعملاً معجمها وقواعدها،لكن بإزاحة يستقلّ فيها بأسلوب خاص،تماماً كما بيّن دو سارتو. بينما ينفصل العرفان عن الظاهرة الدينية ليُعانق الظاهرة الروحية بالمعنى الواسع لكلمة الروح التي لا تنحصر في قالب ديني خاص،مثل التجارب الروحية البوذية أو الطاوية أو التجارب الأقيانوسية.. التصوف والكِنان: يقتسمان فكرة أنهما ينتميان إلى المجال الديني بنصوصه الموضوعة أو المقنّنة،بينما ينفرد العرفان بتجربة خاصة،فردية في جوهرها،ولا يتقيّد بنص دون نص،ولا ينحصر في إطار ديني بعينه.. إذا فهمنا المسألة،فإننا نُدرك أن المشكلة الإيديولوجية بين التصوف والعرفان هي مشكلة طائفية بين توجهين دينيين وسياسيين ميّزا الإسلام التاريخي وهما السنة والشيعة،بينما المشكلة المعرفية المراد صوغها هي مشكلة تأويلية تخصّ طريقة فهم البنيان الديني أي الموقف وطريقة الانخراط فيه أم لا أي الموقع. يتكلم التصوف والكنان من داخل هذا البنيان باستعارة خطابه والبناء عليه أو إزاحته وأحياناً اختراقه والإضافة إليه.. العرفان من جهة أخرى هو تجربة في الكينونة،في ما وراء كل بنيان ديني أو أخلاقي،يجد تعبيره في الصمت،أي أنه يُفكّك اللغة ذاتها بأن يجعل التجربة تتماهى مع العارف،فهو لا يُعبّر عن تجربة،لأنه التجربة ذاتها.. غير أن المشكلة التي نُصادفها في مجالنا التداولي هي أن العرفان أصبح هوية دينية خاصة بطائفة من الإسلام،فانتقلت التجربة من الأنطولوجيا إلى الإيديولوجيا. كذلك التصوف الذي يستخدم العبارة الدينية من أجل إشارة باطنية،سقط هو الآخر في هوية دينية خاصة بطائفة أخرى من الإسلام. ونجد أنفسنا أمام تعارك إيديولوجي لا يخدم الحياد الذي يتميز به المصطلحان،كونهما ينتميان إلى الفضاء الأنطولوجي للتجربة..
إذا عمدت إلى نحت المصطلح كِنان لأستدلّ به على الظاهرة الروحية المتمحورة حول السرّ،وأجد بذلك مكافئ للفظ ميستيك اسماً أو صفة،فلأن التجاوز الذاتي للصراع الإيديولوجي بين التصوف والعرفان أصبح ضرورة ومسؤولية.. الكنان مسألة نظر،وليس أي نظر،إنه النظر المجرّد من ألبسة الحس والمنفعة،إنه النظر الذي ينتقل من البصر إلى البصيرة،إنه النظر الفينومينولوجي الذي يُرجع إلى الشيء نفسه،يُجرّد الشيء من الألبسة الحسية والحُكمية والظنية ليجعله ينبري بذاته،ينكشف بنفسه.. أعتقد أن الكِنان من شأنه أن يُنقذ التصوف والعرفان من الصراع الإيديولوجي المحتدم،ليُرجع إليهما الاستحقاق العلمي بربطهما بالتربة الأصلية وهي الإشارة في تجاوز ذاتي للعبارة،هي السرّ في بطون الكلمة واستبطان العالم.. يأتي العرفان لتجاوز القواسم والقواصم بإرجاع المنطوقات من الاغتراب الإيديولوجي إلى الاستعمال المعرفي،من الالتباس الطائفي إلى التجرّد الروحي. يشغل الكِنان منطقة وسطى بين بحر العرفان الغائر في أعماق الحقيقة،وبرّ التصوف الصلب القائم على أرض الشريعة. الكنان هو الساحل الفاصل / الواصل بين البحر العرفاني والبرّ الصوفي،بين المعنى الغائر والمبنى الموزون.. تتطلب هذه القراءة الجديدة للظاهرة الروحية نحويات وتأويلات،وهي النظر في الأشكال اللغوية والشروط الفَهْمية للظاهرة الروحية. وحده الكِنان،بما هو شرط كياسمي،يضمن التوازن ويدرأ الإسراف الكائن في العرفان والتصوف،ويُعيد إليهما الاعتدال المفهومي،بأن يُفكر فيهما من خارج السجن الإيديولوجي والاشتراط السياسي والاجتماعي.. بهذا الاستصلاح نأمل صياغة معرفة جديدة هي الكِنان،تتجاوز الإطار الحصري للتمذهب الديني نحو التمرّس الأنطولوجي،بأن تُعيد قراءة العرفان والتصوف بعيداً عن تغليفاتهما الطائفية في الإسلام،وتتسلّح في ذلك بالصرامة العلمية كما تُنمّ عنها النحويات بمفهوم فتغنشتاين أو الفينومينولوجيا مثلاً،بعيداً عن الوعظيات الأخلاقية التي أضرّت بالمنطوقين وحجبت عنا مفعولهما التجريبي بالمعنى الروحي لكلمة تجربة،وبالمعنى التجريبي لكلمة الروح،الروح التي لا تُختصر في المجال الديني،وإنما تفتتح الروح على تجربة الفن والموسيقى والإحساس والجسد.. رشيد موعشي
حصل المقال على : 145 مشاهدة