… إعلم أن الأوصاف الشريفة لاتكون إلا لمن صَفت أوصافه،وصَفت أحواله وخلُصت أعماله وصدُقت أقواله وقصُرت آمالُه،وقام بما عليه وترك ما له،ولا يتشوّق إلى ذلك ولا يستدعيه ولايتعاطاه ولايَدّعيه ولايُظهر من الخير ماليس فيه،ولا يكتُم من حاله ما الله مُبديه،فإن المعاني لا تثبُت بالدّعاوى والأماني لاتُنال بالتّواني،وإنما المعاني تحصُل بالتقوى والصبر على البلوى والتوكل على الله في السرّ والنّجوى،فمن إتّقى إرتقى وإلاهَبط في مهاوي الشّقاء.
وأما من ظهر من جُهّال الطريق،وبَرز بالعدول عن التحقيق،وتقشّف بقَشْف أهل التجريد والتمزيق،حتى أوقعوا عقول العامة في الحرج والضّيق،وهَوَوا بأهوائهم في مكان سحيق فأولئك هم،والله، الأسوؤون حالاً،الأخسرون أعمالاً: (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً). أيها المُرائي باللباس،المُساوي بين الحق والباطل بالإلتباس:أتعتقد أن من أسّس بُنيانه على تقوى من الله ورضوان،كمن بُني بلا أساس.تَباً لقوم رضوا من الفقر بحَلق الرؤوس وترقيع الملبوس،واقتصروا من العبادة على حَمل السجادة،ومن الزَهادة على تثخين الوسادة. أقرّوا بالتوبة وأصرّوا على الحوبة،وحملوا السّبحة للمدحة،ولبسوا الطاقية المُتقبة،واعتمدوا على العكازليُقال أنه فاز،وسبّحوا ليُمدحوا، وذكروا ليُذكروا، وصَلّوا ليوصَلوا،وصاموا ليُصانو.اجتمعوا للبدعة،واستمعوا للسّمعة، وخشعوا للرّفعة.فتَطوّعهم للطّمع لا للورع، وتخشّعهم للرئاسة لا للسياسة.إن صَحبوا مَلّوا،وإن وَهبوا غلوا،وإن حوقِقوا قَلّوا،وإن نوقشوا ذَلّوا. إن أعْطوا كَتموا،وإن مُنعوا شَتموا،وإن أخذوا المال لحق حقه قالوا تَمتّعنا برزقه،وإن صالوا على أحد من خلقه قالوا صَولة بحقّه.
إن جادلوا بغيرعلم قالوا فَتحاً،وإن خرجوا عن الشريعة قالوا شَطحاً.فوالذي أذلّ الملوك وأعزّ العبد المملوك،وهَيّأ السالك للسُلوك:لا يُقبل فَقرُك إلا،إن لم تكُن تَركنُ إليه،ولا يُرفع قدرك إن لم تتّواضع لديه،ولاتُفيد دُلوقك حتى تَلوح في أفُق التوفيق بُروقك،ولا تُسمَع دعواك حتى تقوم بيّنة مَعناك،ولاتُقبل طواقيك مع وجود بَواقيك،ولا يُنتفع بتسبيحك مع وجود تقبيحك،ولا يقوم تجريدك بتبديدك ولاتزهيدك بتقييدك ولاتمزيقُك بتزويقك. وعارعليك أن تُمزّق الخَرق قبل تَمزّق الحرق،لكن ظُلمة نفسك تَحجُب شمس قُدسك، ومألوف حسّك يوحشُك من حضرة أنسك،ودُخان خَيالك يُسوّد وجه جلالك،وعواصف فخرك تَنسف جبال فقرك.
تأكُل أكل البهائم وتشرب شُرب الهيم، وتتخلّق بالخُلق الذّميم،وليس هذا هو الأمرالقويم ولاالطريق المستقيم. وإنما المُراد من “المُريد”: صدق الطلب،وحُسن الأدب،وحسن التربية ولو لَبس الأقبية، والقيام بالأوامر ولوأنه أميرأمَر،وتمزيق النفوس قبل تمزيق الملبوس،وتصفية القلوب قبل تنقية الجيوب،والشُروع في الشريعة قبل الشروع في الشيعة، والتحقيق في الحقيقة قبل الجواز في الطريقة.
فإنه لايُنال الثواب بترقيع الأثواب،ولا يرتفع الحجاب لمن يخطُر في ثياب الإعجاب،ولايجلس على موائد الأحباب من لم يدُقّ باب أولي الألباب،ولايسلُك طريق الأنجاب إلا لمن أجاب،ولا يثبُت المقام إلا لمن إستقام،ولا يصحّ الحال لمُدّعي المُحال،ولا يرتقى إلى ذلك الفناء إلا لمن قد بقي في الفناء،
ولا تصحّ الإرادة إلا بترك العادة،ولايُعرف المعروف إلابترك المألوف،ولايَعرف التفرقة والجمع إلامن عَلم حقيقة الشرع،ولاتُنال الكرامة إلامن قال للكَرىمُهْ،ولاتظهرالكشوف لمن أعماله زُيوف،ولا تصدُق الفراسة لمن طلب الرياسة،ولايختص بالحضور من ارتكب المحظور،ولا يصح الوجد والموجود إلا لمن جاء بالموجود.
كيف ينسخ الضباء بالضياء؟ كيف يُغني السّراب عن الشراب؟ كيف يعرف ذوق الشراب من قلبه خراب؟ كيف يصل إلى الأعتاب من هو إلى الآن ما تاب؟ كيف تُقبل توبة الكذاب وهو من خوف العذاب ما ذاب؟ كيف يفتح لمن هو غائب ما آب؟ كيف يسمع الخطاب من هو من الخُبث ما طاب؟ كيف يُشاهد الأحباب من هو محسوب في الغياب؟. انتهى.
الإمام العزّ بن عبد السلام.
زُبَد خُلاصة التصوف:حَلّ الرّموز ومفاتيح الكنوز
جمعه الفقير الى عفو ربه رشيد موعشي