المعرفة نَعت إلهي،لا عين لها في الأسماء الإلهية من لَفظها. وهي أحديّة المكانة،لا تطلُب إلا الواحد. والمعرفة عند القوم مَحَجّة،فكل علم لا يحصُل إلا عن “عَمل وتقوى وسُلوك” فهو معرفة،لأنه عن كَشف مُحقّق لا تدخُله الشُّبَه. بخلاف العلم الحاصل عن النّظر الفكري،لا يَسلم أبداً من دخول الشُبه عليه والحَيْرة فيه والقَدْح في الأمر الموصِل إليه. واعلم أنه لا يصحّ العلم لأحد إلا لمن عَرف الأشياء بذاته،وكل من عرف شيئاً بأمر زائد عن ذاته فهو “مُقلّد” لذلك الزّائد فيما أعطاه.. وإذا ثبت أنه لا يصحّ فيما سوى الله العلم بشيء إلا عن تقليد،فلْنُقلّد الله،ولا سيما في العلم به.. فينبغي للعاقل،إذا أراد أن يعرف الله،فليُقلّده فيما أخبر به عن نفسه: في كُتبه وعلى ألسنة رُسله. وإذا أراد أن يعرف الأشياء فلا يعرفها بما تُعطيه قِواه،وليَسْع بكثرة الطاعات حتى يكون الحق سَمعه وبصره وجميع قواه،فيعرف الأمور كلها بالله ويعرف الله بالله.. فقد نبّهتُك على أمر ما طَرق سَمعك. فإن العُقلاء،من أهل النظر،يتخيّلون أنهم علماء بما أعطاهم النظر والحسّ والعقل،وهم في مقام التقليد لهم ــ وما من قوّة إلا ولها غَلط ــ قد عَلموه،ومع هذا غالطوا أنفسهم.. ولا مُزيل لهذا الدّاء العُضال إلا مَن يكون عِلمه،بكلمعلوم،بالله لا بغيره.. فإذا تقرّر هذا،فاشتغل بإمتثال ما أمرك الله به،من العمل بطاعته،ومراقبتة قلبك فيما يخطُر فيه،والحياء من الله،والوقوف عند حدوده،والإنفرادبه،وإيثار جَنابه ــ حتى يكون الحق جميع قواك،فتكون على بصيرة من أمرك.. ذكر المحاسبي أن “المعرفة” هي العلم بأربعة أشياء: “الله،والنفس،والدنيا،والشيطان”. والذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن المعرفة بالله ما لها طريق إلا “المعرفة بالنفس”،فقال: (من عرف نفسه عرف ربه)،وقال: (أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه). فجعلك دَليلاً،أي جعل معرفتك بكَ دليلاً على معرفتك به: فإما بطريقة ما وَصفك بما وَصف به نفسه،من ذات وصفات،وجعْله إيّاك خليفة ونائباً عنه في أرضه،وإما بما أنت عليه من الإفتقار إليه في وجودك،وإما الأمران معاً،لا بد من ذلك.. فالرسول صلى الله عليه وسلم ما أحالَك إلا على نفسك،لمّا علِم أنه سيكون الحق قُواك،فتعلمه به،لا بغيره.. المعرفة في طريقنا،عندنا،مُنحصرة في العلم بسبعة أشياء،وهو الطريق التي سلكت عليه الخاصة من عباد الله: الأول “علم الحقائق”،وهو العلم بالأسماء الإلهية. الثاني “العلم بتجلّي الحق في الأشياء”. الثالث “العلم بخطاب الحق عبادَه المُكَلّفين بألسنة الشرائع”. الرابع “علم الكمال والنّقص في الوجود”. الخامس “علم الإنسان نفسَه من جهة حقائقه”. السادس “علم الخيال”،وعالَمِه المُتّصل والمُنفصل. السابع “علم الأدوية والعِلَل”. فمن عرف هذه السبع المسائل فقد حصّل المُسمّى “معرفة”،ويندرج في هذا ما قاله المحاسبي وغيره في المعرفة. [فصّل الشيخ الأكبر القول في كل علم من هذه العلوم السبعة،نقتطف منها بعض الأساسيات..].. (العلم الأول: العلم بالحقائق،وهوالعلم بالأسماء الإلهية): وهي على أربعة أقسام: قسم يدلّ على “الذات”،وهوالإسم العَلَم الذي لا يُفهَم منه سوى ذات المُسمّى،لا يدلّ على مدح ولا ذمّ. وهذا قسم لا نجده في الأسماء الواردة علينا في كتابه ولا على لسان الشارع،إلاالإسم “الله”،وهوإسم مُختلف فيه. وقسم ثانٍ يدلّ على “الصفات”،وهو على قسمين: قسم يدلّ على “أعيان صفات معقولة” يُمكن وجودها،وقسم يدلّ على “صفات إضافية” لا وجود لها في الأعيان. وقسم ثالث يدلّ على “صفات أفعال”،وهو على قسمين: صريح ومُضمّن. وقسم رابع “مُشترك” يدلّ بوجه على صفة فعل مثلاً،وبوجه على صفة تنزيه. أما “علم الأسماء الإلهية”،فهو: العلم بما تدلّ عليه ممّا جاءت له،والعلم أيضاً بخواصها. والكلام فيه محجور على أهل الله العارفين بذلك،لما في ذلك من كشف أسرار وهَتْك أستار،وتأبى الغيرة الإلهية إظهار ذلك. بل أهل الله،مع معرفتهم بذلك،لا يستعملونها مع الله.. فلو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بالإسم الخاص ويستعمله،لأجابه الله في عين ما سأل،فعَلمنا أن دُعاءه لم يكن بخاصّ الإسم،وتأدّب.. ومعلوم عند الخاص والعام أن ثَمّ إسماً عاماً يُسمّى “الإسم الأعظم”،وهو في آية الكرسي وأول سورة آل عمران. ومع علم النبي صلى الله عليه وسلم به،ما دعا به في ما ذكرناه.. ومن الأسماء ما هي حروف مركّبة،مثل “الرحمن” وحده. ومنها ما هي كلمات مركّبة،مثل “الرحمن الرحيم”. واعلم أن الحروف كالطبائع وكالعقاقير،بل الأشياء كلها: لها خواص بانفرادها،ولها خواص بتركيبها. وليس خواصّها بالتركيب لأعيانها،ولكنالخاصية لأحدية الجمعية. فافهم ذلك،حتى لا يكون الفاعل في العالَم إلا الواحد،لأنه دليل على توحيد الإله.. وكل جزء منها،علىإنفراده،له خاصية تُناقض خاصية المجموع.. وهكذا تركيب الكلمات كتركيب الحروف.. وأما “كُنْ” فهو من فعل الكلمة الواحدة لا من فعل الحروف،وخاصيّته في الإيجاد،وله شروط. ومع هذا يتأدّب أهل الله مع الله،فجعلوا بَدله في الفعل “بسم الله”. وقد إستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك،وما سُمع منه قبل ذلك ولا بعده،وإنما أراد إعلام الناس،من علماء الصحابة،بمثل هذه الأسرار بذلك. وردت الأسماء الحسنى الإلهية،في القرآن،بطريق “الثناء”،نَعَت بها كلها ذاته عز وجل من طريق المعنى،وكلمة “الله” من طريق الوضع اللفظي. فالظاهر أن الإسم “الله” للذات كالعَلَم،ما أريد به الإشتقاق،وإن كانت فيه رائحة الإشتقاق.. وأما “أسماء الضمائر” فإنها تدلّ على الذات بلا شكّ،وما هي مشتقّة،مثل: “هو” و”ذا” و”أنا” و”أنت” و”نحن”.. فهذه كلها أسماء ضمائر وإشارات وكنايات تعُمّ كلّ مُضمَر ومُخاطَب ومُشار إليه ومُكنّى عنه وأمثال هذه. ومع هذا فليست أعلاماً،ولكنها أقوى في الدلالة من الأعلام،لأن الأعلام قد تفتقر إلى النّعوت،وهذه لا إفتقارلها،وما من كلمة منها إلا ولها في الذّكر بها نتيجة. وما من أحد من أهل الله،أهلالأذواق،رأيناه نَبّه على ذلك في طريق الله للسالكين بالأذكار،إلا على لفظ “هو” خاصة،وجعلوها من ذكر خصوص الخصوص،لأنها أعْرَف من الإسم “الله” عندهم في أصل الوضع،لأنها لا تدلّ إلا على العين خاصة،المُضمرة من غير إشتقاق.. وما عَلمت الطائفة أنّ غير لفظة “هو” في الذّكر أكمل في المرتبة،مثل: “الياء” من “إنّي”،و”النّون” من “نزّلنا”،ولفظة “نحن”. فهؤلاء أعلى مرتبة في الذكر من “هو” في حقّ السّالك،لا في حق العارف،فلا أرفع من ذكر “هو” عند العارفين في حقّهم.. ومع هذا فما أحد من أهل الله سَنّ الذّكر بها،كما فعلوا بلفظة “هو”. فلا أدري هَل مَنعهم من ذلك عدم الذّوق لهذا المعنى؟ وهو الأقرب،فإنهم ما جعلوها ذِكراً.. ونحن نقول بالذّكر بذلك كلّه،معالحضور على طريق خاصّ. فلا بدّ من “الطهارة والحضوروالأدب والعلم” بهذه الأمور،حتى تعرف من تذكُر وكيف تذكُر ومن يذكُر وبمن تذكُر.. الذي يعتمد عليه أهل الله في أسمائه تعالى هي ما سَمّى به نفسه في كُتبه أو على ألسنة رسله. وأما إذا أخذناها من الإشتقاق أو على جهة المدح،فإنها لا تُحصى كَثرة،والله يقول (ولله الأسماء الحسنى)،وورد في الحديث (إن لله تسعة وتسعين إسماً) الحديث. وما قدرنا على تعيينها من وجه صحيح،فإن الأحاديث الواردة فيها كلّها مضطربة،لا يصحّ منها شيء. وكل إسم إلهيّ يحصُل لنا من طريق الكشف،أو لمَن حصل،فلا نورده في كتاب وإن كُنّا ندعو به في نفوسنا،لما يُؤدّي إليه ذلك من الفساد في المُدّعين الذين يفترون على الله الكذب،وفي زماننا منهم كثير.. ومن أراد أن يَقف على أسماء الله تعالى على الحقيقة،فلينظُر في قوله تعالى (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله). وعلى الحقيقة ف”ما في الوجود إلا أسماؤه”،ولكن حَجَبت عيون البصائر عن العلم بها أعيان الأكوان.. (العلم الثاني: علم التجلّي): التجلّي الإلهي دائم لا حجاب عليه،ولكن لا يُعرَف أنه هو. وذلك أن الله لما خلق العالَم أسمعه كلامه في حال عدمه،وهو قوله (كن)،وكان مشهوداً له سبحانه ولم يكن الحق مشهوداً له. وكان على أعين الممكنات حجاب العدم،لم يكن غيره،فلا تُدرِك الموجود وهي معدومة. كالنور يُنفّر الظلمة،فإنهلا بقاء للظلمة مع وجود النور،كذلك العدم والوجود. فلما أمرها بالتكوين،لإمكانهاوإستعدادقبولها،سارعت لترى ما ثَمّ: لأن في قوتها الرؤية،كما في قوتها السمع،من حيث الثبوت لا من حيث الوجود. فعندما وُجد الممكن إنصبغ بالنور فزالَ العدم،وفتح عينيه فرأى الوجودَ هو الخير المحض،فلم يعلم ما هو ولا عَلم أنه الذي أمره بالتكوين. ف”أفاده التجلّي علماً بما رآه”،لا علماً بأنه هو الذي أعطاه الوجود. فلما إنصبغ بالنور،إلْتَفت على اليسار فرأى “العدم” فتحقّقه،فإذا هو ينبعث منه كالظلّ المُنبعث من الشخص إذا قابله النور. فقال: ما هذا؟ فقال له النور من الجانب الأيمن: هذا هو أنت.. نورُك الذي أنت عليه إنما هو من حيث ما يُواجهني من ذاتك،ذلك لتعلم أنك لست أنا،فأناالنور بلا ظلّ،وأنتالنور الممتزج لإمكانك.. فأنت بين الوجود والعدم،وأنت بين الخير والشرّ. فإن أعرضت عن ظلّك فقد أعرضت عن إمكانك،وإذا أعرضت عن إمكانك جَهلتني ولم تعرفني،فإنه لا دليل لك على أنّي إلهك وربك وموجِدك إلا إمكانك وهو “شُهود ظِلّك”.. فلا تنظُر إليّ نَظراً يُفنيك عن ظلّك،فتدّعي أنك أنا،فتقع في الجهل. ولا تنظُر إلى ظلّك نَظراً يُفنيك عنّي،فإنه يورثك الصّمَم،فتجهل ما خلقتك له.. وقد قلت لك في معرض الإمتنان: (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) أي: بيّنا له الطريقين: طريق النور والظلّ،(إما شاكراً وإما كفوراً) فإن العدم المُحال ظُلمة،وعدم المُمكن ظِلّ لا ظُلمة،ولهذافي الظلّ راحة الوجود. واعلم أن “التجلّي الأول” الذي حصل للمُمكن،عندماإتّصف بالوجود وإنصبغبالنور،هو “التجلّي للأرواح النورية” التي ليست لها هذه الهياكل المظلمة،ولكن لها “ظِلّ إمكانها” الذي لا يبرح فيها.. وأما “التجلّي للأشياء” فهو تجلّي يُفني أحوالاً ويُعطي أحوالاً في المُتجلّى له. ومن هذا التجلي توجد “الأعراض والأحوال” في كل ما سوى الله. ثمّ له تجلّي في مجموع الأسماء،فيعطي هذا التجلي في العالَم “المقادير والأوزان والأمكنة والأزمان والشرائع”،وما يَليق بعالَم الأجسام،وعالمالأرواح،والحروف اللفظية والرقمية،وعالم الخيال. ثمّ له تعالى تجلّ آخر في أسماء الإضافة خاصة،ك”الخالق” وما أشبهه من الأسماء،فيُظهر في العالَم “التوالُد والإنفعالات والإستحالات والأنساب”. وهذه كلّها حُجُب،على أعيان الذّوات الحاملات لهذه الحُجب،عن إدراك ذلك التجلي الذي لهذه الحُجب الموجِد أعيانها في أعيان الذوات. وبهذا القدر تُنسب الأفعال للأسباب،ولولاها لكان الكشف فلا يُجهَل. ولكن كما قال تعالى (ما يُبدّل القول لديّ)،ووُقوع خلاف المعلوم مُحال. فبالتجلّي تغيّر الحال على الأعيان الثابتة: من الثبوت إلى الوجود،وبه ظهر الإنتقال من حال إلى حال في الموجودات،وهوخشوع تحت سُلطان التجلّي. فله النقيضان: يمحو ويُثبِت،ويوجِد ويُعدِم.. قال صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله على كل حال) فأثنى عليه على كل حال،لأنهالمُعطي بتجلّيه كل حال. وأوضَح من هذا ما يكون، مع إقامة الحدود وإنكار ما ينبغي أن يُنكَر. فإن المُنكِر بالتّغيير أنْكَر (يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن)..”أحوال إلهيّة في أعيان كِيّانيّة،بأسماءنِسبيّة،عَيّنتها تغييرات كونية”. فتجلّى أحديّ العين في أعيان مختلفة الكون،فرأت صُورها فيه،فشَهد العالَم بعضه بعضاً في تلك العين: فمنه المناسب وهو المُوافق،ومنه غير المناسب وهو المخالف. فظهرت الموافقة والخلاف في أعيان العالَم،دنيا وآخرة. فالمُؤثّر روحانيّ،والذي تأثّر طبيعيّ. وما من شيء تكون له صورة طبيعية في العالم إلا ولها روح قدسيّ،وتلك العين لا تَنحجب أبداً. فالعالَم في حال شهود أبداً،والتغيير كائن أبداً،لكن بالمُلائم وغير المُلائم،وهو المُعبّر عنه ب”النّفع والضرّ”.. (العلم الثالث: العلم بخطاب الحق عبادَه بألسنة الشرائع): ما عدا الثّقلين،من كل ما سوى الله،على معرفة بالله ووَحي من الله،وعِلم تجلّى له،مفطور على ذلك،سعيد كلّه.. ف”ألسنة الشرائع دَلائل التجلّيات،والتجليات دلائل الأسماء الإلهية”،فإرتبطت أبواب المعرفة بعضها ببعض.. (العلم الرابع: العلم بالكمال والنقص في الوجود): من كمال الوجود،وجود النقص فيه. إذ لو لم يكن،لكان كمال الوجود ناقصاً بعدم النقص فيه. قال تعالى في كمال كل ما سوى الله: (أعطى كل شيء خَلقه)،فما نَقصه شيء أصلاً،حتىالنقص أعطاه خلقه. فهذا كمال العالَم الذي هو كل ما سوى الله،إلا الله ثمّ الإنسان. فللّه كمال يليق به،وللإنسان كمال يقبله،ومَن نقص من الأناسي عن هذا الكمال فذلك النقص الذي في العالَم،لأن الإنسان من جملة العالم. وما كل إنسان قَبل الكمال،وما عداه ف”كامل في مرتبته”،لا ينقُصه شيء بنصّ القرآن.. فما ظهر في العالم نقص إلا في هذا الإنسان،وذلك لأنه مجموع حقائق العالم،وهو المختصر الوجيز،والعالم هو المُطوّل البسيط. إنفرد سبحانه بالحيرة في الكمال،فلم يَعلمه سواه ولا شاهده غيره،فلم يُحيطوا به علماً ولا رأوا له عيناً. فآثارُ تُشْهَد وجَناب يُقصَد ورُتبة تُحمد،وإله مُنزّه ومُشبّه يُعبَد. هذا هو الكمال الإلهي،وبَقي الإنسان متوسّط الحال بين كمال الحيرة والحدّ،وهو كمال العالَم. فبالإنسان كمُل العالم،وما كمُل الإنسان بالعالم. فتَلحق الأولياء الأنبياء بالخلافة خاصة،ولا يلحقونهم في الرسالة والنبوة،فإن بابهما مسدود. فللرسول الحُكم،فإن استُخلف فله التحكّم،فإن كان رسولاً فتحكّمه بما شرع،وإن لم يكن رسولاً فتحكّمه عن أمر الله بحُكم وَقته،الذي هو شرع زمانه،فإنه بالحُكم يُنسب إلى العدل والجَوْر. (العلم الخامس: علم الإنسان بنفسه من جهة حقائقه): الإنسان ما أعطي التحكّم في العالم بما هو إنسان،وإنما أعطي ذلك بقوة إلهية ربانية،إذلا تتحكّم في العالَم إلا صفة حقّ،لا غير. وهي في الإنسان “إبتلاء”،لا تشريف. ولو كانت تشريفاً بَقيت معه في الآخرة،في دار السعداء. ولو كانت تشريفاً ما قيل له (ولا تتّبع الهَوى) فحجّرت عليه: والتحجير إبتلاء،والتشريف إطلاق.. إذا وقف الإنسان على معرفة نَفسه،وإشتغل بالعلم بحقائقه من حيث ما هو إنسان،فلم يَرَ فرقاً بينه وبين العالَم،ورأى أن العالم،الذي هو ما عدا الثقلين،ساجد لله: فهو مُطيع،قائم بما تعيّن عليه من عبادة خالقه ومُنشئه. طَلب الحقيقة التي يجتمع فيها مع العالَم،فلم يجد إلا “الإمكانوالإفتقار والذلّة والخضوع والحاجة والمَسكنة”.. فإذا عَلم الإنسان أمر سيّده ونَهيه،ووفّى حق سيّده تعالى وحقّ عبوديته،فقد عرف نفسه. وكل (من عرف نفسه عرف ربه)،ومن عرف ربّه عَبده بأمره. فما جمع بين العبادتين: عبادة “الأمر” وعبادة “النّهي” إلا الثّقلان،فإن الأرواح الملائكية لا نَهي عندها.. ولمّا كان الإنسان مجموع حقائق العالم،وعرف نفسه من جهة حقائقه،تعيّن عليه أن يقوم وَحدَه،من حيث هو،بعبادة جميع العالم.. وصورة معرفته بذلك أن يُشاهد جميع حقائقه كلّها في عبادتها كَشفاً،كما هي عليه في نفسها،سواء كوشف بذلك أو لم يُكاشف. فهذا الذي أريده بالعلم بحقائقه،أي عن “الكشف”.. لو قدّرنا العالم كلّه ــ ما سوى الإنسان ــ غَفل عن عبادة الله طرفة عين،وكان هذا الإنسان ذاكراً لله،قائماً بحقّه في تلك اللحظة،نابَ مَناب العالم وسدّ مسدّه،فجوزيَ بجزاء العالم كله،وإن كان لا يُتصوّر من العالم غفلة،فإنهليس من أهل الغفلة إلا الثقلان خاصة. فانظر ما أعطاك العلم بنفسك،وبما أنت عليه من حقائق الكون. (العلم السادس: علم الخيال،وعالمهالمتّصل والمنفصل): هذا ركن عظيم من أركان المعرفة،وهذاعلم البرزخ،و”علم عالَم الأجساد التي تَظهر فيها الروحانيات”،وهو “علم سوق الجنّة”،وهو “علم التجلّي الإلهي في القيامة في صُور التبدّل”. وهو “علم ظهور المعاني” التي لا تقوم بنفسها مجسّدة،مثل الموت في صورة كبش. وهو “علم ما يراه الناس في النوم”. وعلم الموطن الذي يكون فيه الخَلق بعد الموت وقبل البعث. وهو “علم الصُور”،وفيه تَظهر الصور المَرئية في الأجسام الصّقيلة كالمرآة. وليس بعد العلم بالأسماء الإلهية،ولا التجلّي وعمومه،أتَمّ من هذا الرّكن،فإنهواسطة العِقد: إليه تَعرُج الحواسّ وإليه تنزلالمعاني،وهو لا يبرح من موطنه،تُجبى إليه ثمرات كل شيء. وهو صاحب الإكسير الذي تحمله على المعنى فيُجسّده في أيّ صورة شاء،لا يتوقّف له النفوذ في التصرّف والحُكم. تُعضّده الشرائع،وتُثبته الطبائع. فهو المشهود له بالتصرّف التامّ،ولهإلتحام المعاني بالأجسام،يُحيّر الأدلّة والعقول.. ما من “معلوم”،كان ما كان،إلا وله نِسبة إلى الوجود.. والمراتب الأربعة التي للوجود هي: المرتبة الأولى: “الوجود العينيّ”،وهو الوجود في نفسه.. فيكون مع كونه موجوداً في عينه،لا داخل العالم ولا خارج،لعدم شرط الدخول والخروج،وهو التحيّز. وليس ذلك إلا لله خاصة. وأما ما هو من العالَم قائم بنفسه غير مُتحيّز: كالنفوس الناطقة والعقل الأول والنفس والأرواح المهيّمة والطبيعة والهباء،وأعني بهذه كلها أرواحها. فكل ذلك داخل في العالَم،إلا إنه لا داخل أجسام العالَم ولا خارج عنها،فإنها غير متحيّزات. المرتبة الثانية: “الوجود الذّهني”،وهو كون المعلوم مُتصوّراً في النفس على ما هو عليه في حقيقته،فإن لم يكن التصوّر مُطابقاً للحقيقة فليس ذلك بوجود له في الذّهن. المرتبة الثالثة: “الوجود اللفظيّ”،وهوالكلام،وللمعلومات وجود في الألفاظ. ويدخل في هذا الوجود كل معلوم،حتى المُحال والعدم،فإن له الوجود اللفظي: فالمُحال يوجد في اللفظ،ولا يَقبل الوجود العينيّ أبداً. وأما العدم،فإن كان العدم الذي يوصَف به الممكن فيَقبل الوجود العينيّ،وإن كان العدم الذي هو المُحال فلا يقبل الوجود العينيّ. المرتبة الرابعة: “الوجود الكتابي”،وهو الوجود الرّقميّ،وهو نسبته إلى الوجود في الخَطّ أو الرّقم أو الكتابة. ونسبة المعلومات كلها،من المُحال وغير المحال،نِسبة واحدة. فهذا المحال،وإن كان لا يوجد له عين،فله نسبة وجود في اللفظ والخطّ. فما ثَمّ معلوم لا يتّصف بالوجود بوجه،وسبب ذلك قوّة الوجود الذي هو أصل الأصل،وهو الله تعالى،إذ به ظهرت هذه المراتب وتَعيّنت هذه الحقائق،وبوجوده عُرف من يَقبل مراتب الوجود كلها ممّن لا يقبلها. ف”الأسماء”،مُتكلّم بها كانت أو مرقومة،يَنسحب وجودها على كل معلوم،فيتّصف ذلك المعلوم بضرب من ضروب الوجود. ف”ما في العلم معدوم مطلق العدم”،ليس له نسبة إلى الوجود بوجه ما،هذا ما لا يُعقل. فافهم هذا الأصل وتحقّقه. حقيقة “الخيال المطلق” هو المُسمّى ب”العماء”،وهوأوّل ظَرف قَبِلَ كينونة الحقّ. ورد في الصحيح أنه: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أين كان ربّنا قبل أن يخلق خَلقه؟ قال: (كان في عماء،ما فوقه هواء وما تحته هواء). وإنما قال هذا من أجل أن العماء عند العرب هو “السحاب الرقيق” الذي تحته هواء وفوقه هواء،فلمّا سمّاه بالعماء أزالَ ما يَسبق إلى فَهم العرب من ذلك،فنَفى عنه الهواء حتى يُعلَم أنه لا يُشبهه من كل وجه،فهو أول موصوف بكينونة الحق فيه. فإن للحقّ،على ما أخبر،خمس كينونات: كينونة في “العماء”.. وكينونة في “العرش”،وهو قوله تعالى (الرحمن على العرش إستوى). وكينونة في “السماء”،في قوله صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا) الحديث. وكينونة في “الأرض”،وهو قوله تعالى (وهو الله في السماوات وفي الأرض). وكينونة “عامة”،وهو مع الموجودات على مراتبها حيثما كانت (وهو معكم أينما كنتم). وكل هذه النّسب بحسب ما يليق بجلاله،من غير تكييف ولا تشبيه ولا تصوّر،بل كما تُعطيه ذاته وما ينبغي أن يُنسب إليها من ذلك.. فتح الله تعالى في ذلك “العماء” صُوَر كل ما سواه من العالَم،إلا أن ذلك العماء هو الخيال المحقّق. ألا تراه يقبل صوَر الكائنات كلها،ويُصوّر ما ليس بكائن،هذالإتّساعه،فهو عين العماء لا غيره.. ثمّ جاء الشرع،في أماكن،يُقرّر ما ضبطه “الخيال المتّصل”: من كينونة الحق في قِبلة المُصلّي،فقَبله الخيال المتّصل،وهو من بعض وجوه الخيال المطلق الذي هو الحضرة الجامعة والمرتبة الشاملة. وإنتشاء هذا العماء من نَفَس الرحمن،من كونه إلهاً لا من كونه رحماناً فقط. فجميع الموجودات ظهرت في العماء ب”كُنْ” أو باليد الإلهية أو باليدين،إلا العماء: فظهوره بالنَفس خاصة.. جاء في الحديث (كنت كنزاً لم أعرف فأحببت أن أعرف)،فبهذا الحبّ وقع التنفّس،فظهرالنَفَس،فكان العماء.. فلمّا عمَر هذا العماء “الخلاء” كلّه،الذي هو مكان العالَم أو ظرفه،فلوإنعدم العالَم لتبيّن الخلاء،وهوإمتداد مُتوهّم في غير جسم. فهذا العماء هو “الحق المخلوق به كل شيء”،وسُمّي “الحق” لأنه عين النفَس،والنفَس مبطون في المُتنفّس.. ثمّ ظهر في عين هذا العماء: “أرواح الملائكة المهيّمة”.. ثمّ ما زال يظهر فيه صور أجناس العالم،شيئاً بعد شيء،وطوراً بعد طور،إلى أن كمُل من حيث أجناسه. فلما كمُل بَقيت الأشخاص من هذه الأجناس تتكوّن دائماً “تكوين إستحالة”،من وجود إلى وجود،لا من عدم إلى وجود. فخلق آدم من تراب،وخُلق بني آدم من نطفة.. فلهذا قُلنا في الأشخاص إنها “مخلوقة من وجود،لا من عدم”،فإن الأصل عىل هذا كان،وهو “العماء من النَفَس”،وهووجود،وهو عين الحق المخلوق به،وأجناس العالم مخلوقون من العماء.. فما خُلق شيء من عدم لا يُمكن وجوده،بل ظهر في “أعيان ثابتة”.. ولولا قوّة الخيال ما ظهر من هذا الذي أظهرناه لكم شيء،فإنه “أوسع الكائنات،وأكمل الموجودات”،ويقبل الصور الروحانيات،وهو التشكّل في الصور المختلفة من الإستحالات الكائنة.. إذا فَهمت هذا الأصل علمتَ أن الحقّ هو الناطق والمُحرّك والمُسكّن والموجِد والمُذهِب. فتَعلم أن جميع الصُوَر،بما يُنسَب إليها مما هو له،خيال منصوب،وأن حقيقة الوجود له تعالى. ألا تَرى واضع “خيال السّتارة”،ما وضعه إلا ليتحقّق الناظر فيه عِلْم ما هو أمر الوجود عليه،فيرى صوراً متعدّدة: حركاتها وتصرّفاتها،وأحكامها لعين واحدة،ليس لها من ذلك شيء،والموجِد لها ومُحرّكها ومُسكّنها بيننا وبينه الستارة المضروبة،وهو الحدّ الفاصل بيننا وبينه،به يقع التميّز.. ثمّ إن هذا العماء هو عين “البرزخ” بين المعاني التي لا أعيان لها في الوجود،وبين الأجسام النورية والطبيعية،كالعِلم والحركة: هذا في النفوس،وهذه في الأجسام. فتتجسّد في حضرة الخيال: كالعلم في صورة اللّبن.. والفُرقان بين الخيال المتّصل والخيال المنفصل: أن “المتّصل” يَذهب بذَهاب المُتخيّل،و”المُنفصل” حضرة ذاتية قابلة دائماً للمعاني والأرواح،فتُجسّدهابخاصيّتها،لا يكون غير ذلك. ومن هذا الخيال المنفصل يكون الخيال المتّصل.. ومن هذا الباب “التجلّي الإلهي في صور الإعتقادات”،كما ورد في الحديث الصحيح،يوم القيامة: (فيأتيهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها) الحديث. فانظُر نَظر المُنصِف في هذا الخبر،من تحوّل الحق في الصُور،وهو تعالى لا غيره. فأنكر في صورة وأقرّ به في صورة،والعين واحدة والصور مختلفة.. فالصور،بما هي صور،هي “المُتخيّلات”. والعماء،الظاهرةفيه،هو الخيال. وفي هذا الحديث شفاء لكل صاحب علّة،إذاإستعمله بالنظر السديد على الإنصاف وطلب الحق. وهكذا تَجلّيه على القلوب وفي أعيان الممكنات. فهو الظاهر،وهو الصور بما تُعطيه أعيان الممكنات باستعداداتها فيمن ظهر فيه. ف”الممكنات هو العماء،والظاهرفيه هو الحق،والعماء هو الحق المخلوق به”.. فمن لا يعرف “مرتبة الخيال” فلا معرفة له جملة واحدة،وهذا الركن من المعرفة إذا لم يحصُل للعارفين فما عندهم من المعرفة رائحة..ف”كل ما سوى ذات الحق خيال حائل وظلّ زائل”. فلا يبقى كون في الدنيا والآخرة وما بينهما،ولا روح ولا نفس،ولا شيء ممّا سوى الله (ذات الحق)،على حالة واحدة،بل تتبدّل من صورة إلى صورة،دائماً أبداً. وليس الخيال إلا هذا،فهذا هو عين معقولية الخيال. __(العلم السابع: علم العِلَل والأدوية): يحتاج إليه من يُربّي من الشيوخ،ولا تنفع هذه الأدوية إلا فيمن يقبل إستعمالها،فإن لم يستعملها العليل فلا يظهر لها أثر.. “العلَل”،في هذه الطريقة،ليس لها محلّ إلا “النفوس” خاصة،لا حظّ للعقول فيها ألبتّة،ولا للأبدان. فإن علل العقول معروفة،وعلل الأجسام معروفة. وأدوية علل الأجسام موقوفة على الأطباء. وأدوية علل العقول إتّخاذ الخلوات بالميزان الطبيعي،وإزالة التفكّر فيها،ومُداومةالذّكر،ليس غير ذلك. وعلل النفوس هي ثلاثة أمراض: مرض في “الأقوال”،ومرض في “الأفعال”،ومرض في “الأحوال”. وأما مرض “الإعتقادات” فهو مرض العقول.. [فصّل الشيخ الأكبر القول في هذه العلل،وذلك بإعطاء أمثلة عن كل مرض..]. تفاريع “الأقوال” كثيرة،وحَصْر علَلها وأدويتها في أمرين: الأول أن تتكلّم إذا إشتهيت أن تسكُت،وتسكُت إذا إشتهيت أن تتكلّم. والثاني أن لا تتكلّم إلا فيما إن سَكتّ عنه كنت عاصياً،وإن لم فلا. وإياك والكلام عندما تستحسن كلامك وتستحليه،فإن الكلام في ذلك الوقت من أكبر الأمراض،وما له دواء إلا الصّمت لا غير،إلا أن تَشهد على رفع السّتر،هذا هو الضابط.. الإنسان لا يخلو أن يُقام في “قول” أو “فعل” أو “حال”،وما ثَمّ رابع.. وتفاريع الأقوال والأفعال والأحوال كثيرة. فليحذر من “الكذب” في ذلك،وليَلزم “الصدق”،ولا يظهر للناس إلا بما يظهر لله في الموطن الذي ينبغي. فإن العلم بحُكم الله في تفاصيل هذه الأمور،شرط في أهل الله،لا بد من ذلك. فما عَبَد الله مَن لم يعلم حُكمه،فإن الله ما إتّخذ وَليّاً جاهلاً.. فإن زاد على هذا العلم بالله،وما يجب له،وما يجوز عليه،ومايستحيل،ويُفرّق بين علمه بذاته وبين علمه بكونه إلهاً: فهذا مقام “العلماء بالله”،لا مقام “العارفين”. فإن المعرفة “مَحجّةوطريق”،والعلم “حُجّة”. والعلم نَعت إلهي،والمعرفةنعت كيّاني نفسي رباني.. غير أن أصحابنا،من أهل الله،قد أطلقوا على العلماء بالله إسمالعارفين،وعلى العلم بالله من طريق الذّوق معرفة،وحَدّو هذا المقام بنتائجه ولوازمه التي تظهر عن هذه الصفة في أهلها.. [أورد الشيخ الأكبر وصف العارف بطريقة فريدة عجيبة..]. ونُعوت “العارف” أكثر من أن تُحصى،فهذه بعض إشارات الطائفة في حقيقة “العارفوالمعرفة”،جئنا بها لتعلم مقاصدهم في ذلك،حتى لا يقول أحد عنّا إنّا قد إنفردنا بطريق لم يسلكوا عليها،بل الطريق واحدة،وإن كان لكل شخص طريق تخُصّه،فإن الطرق إلى الله على عدد أنفاس الخلائق،يعني أن كل نَفَس طريق إلى الله،وهو صحيح. ف”على قدر ما يفوتك من العلم بالأنفاس ومُراعاتها يَفوتك من العلم بالطُرق،وبقدر ما يفوتك من العلم بالطرق يفوتك من غاياتها”،وغاية كل طريق هو الله (إليه يُرجع الأمر كله). وأما “صفة العارف” عندنا من الموطن الإلهي الذي يَشهده العارفون من الحق في وجودهم،وهوشُهود عزيز،وذلك أن يكون العارف،إذا حصلت له المعرفة: [ذكر الشيخ الأكبر صفة العارف الجليلة..]. فهذه صفة العارف عندي،فتحقّق،فإن موطن هذا المأخذ عزيز.. ==إختلف أصحابنا في “مقام المعرفة والعارف”،و”مقام العلم والعالِم”. فطائفة قالت: مقام المعرفة رباني،ومقام العلم إلهيّ. وبه أقول،وبه قال المحققون: كسهل التستري وأبي يزيد وإبن العريف وأبي مدين. وطائفة قالت: مقام المعرفة إلهيّ،ومقام العلم دونَه. وبه أقول أيضاً،فإنهم أرادوا بالعلم ما أردناه بالمعرفة،وأرادوا بالمعرفة ما أردناه بالعلم. ف”الخلاف فيه لفظيّ”. وعُمدتنا: قول الله تعالى (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق) فسمّاهم “عارفين”،وما سمّاهم “علماء”. ثم ذكَر ذِكرهم فقال: (يقولون ربنا) ولم يقولوا “إلهنا”. (آمنا) ولم يقولوا “عَلمنا” ولا “شاهدنا”. فأقرّوا بالإتّباع (فاكتبنا مع الشاهدين) وما قالوا “نحن من الشاهدين”. وقالوا (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع) ولم يقولوا “ونقطع”،(أن يُدخلنا ربنا) ولم يقولوا “إلهنا”،(مع القوم) ولم يقولوا “مع عبادك”،(الصالحين) كما قالت الأنبياء. فقال الله لهؤلاء الطائفة التي صفتهم هذه (فأثابهم الله بما قالوا جنات) محلّ شهوات النفوس،فأنزلناهم حيث أنزلهم الله. وقد إستوفينا القول في “الفرق بين المعرفة والعلم” في كتاب (مواقع النجوم)،وبيّنا أن القائل ب”مقام المعرفة” إذا سألته عنه أجاب بما يُجيب به المُخالف في “مقام العلم”. ف”وقع الخلاف في التّسمية،لا في المعنى”. ثمّ حدث لهم في هذا المقام خلاف آخر: هل الموصوف به مالِك جميع المقامات أو لا؟. والصحيح أنه ليس من شرطه التحكّم،وإن مَلِكَ جميع المقامات،بما يُعطيه من الأحوال والتصرّف في العالَم،وإنما شرطه “العلم”. فإذا أراد التحكّم نَزل إلى الحال،لأن “التحكّم للأحوال”،إذا عَلم أن نزوله غير مؤثّر في مقامه. ولهذا لا ينزلون إلى الحال إلا عن أمر إلهي. فإذا سُمع من شيخ محقّق في هذا الطريق أن صاحب هذا المقام مالِك جميع المقامات،فإنه يُريد بالعلم،لا بالحال. وقد يُعطى الحال،ولكن ما هو بشرط.. ف”الكامل كُلّما عَلا في المقام،نقص في الحال”،أعني في الدنيا،وأما في الآخرة فلا. كما أن المشاهدة تَفنى عن رؤية الأغيار،كذلك المقام يذهب بالأحوال،لأن الثّبوت يُقابل الزّوال. الشيخ الاكبر ابن عربي
حصل المقال على : 183 مشاهدة