== (أبو العباس السّبتي ومجال مراكش): (ملاحظات وتساؤلات) ==
أولاً_ (إبن الزيات والتأريخ لأبي العباس السّبتي):
يبدأ المجال الزمني المؤطر لهذا الموضوع سنة (541هـ/1147م)،وهي السنة التي حلّ فيها الشيخ أبو العباس السبتي ب(جبل كليز)،وينتهي بوفاته سنة (601هـ/1205م)..يقول إبن الزيات التادلي في ثنايا الملحق الذي خصّصه لأخبار أبي العباس السبتي: [ وأخباره كثيرة عجيبة،وقد جمعها أصحابه وكتبوا من كلامه كثيراً]..ومما يُستشفّ من إشارات إبن الزيات،أن هذا الإنتاج قد أنجز من طرف بعض أتباع الشيخ،وتضمّن جمع وتدوين عدد من كرامات ومناقب الرجل..
مُقابل الغياب الكلّي للمصادر ذات الصلة المباشرة بالشيخ،يبقى التأليف الذي خصّه به معاصره إبن الزيات ــ رغم ضيق حجم محتواه كمّاً ونوعاً ــ أصلاً لمُعظم المعلومات المتداولة عن الرجل في مراكش،ومرجعاً لما جاء بعده من كتابات في الموضوع..
يحمل هذا التأليف عنوان (أخبار أبي العباس السبتي)،وتبلُغ عدد صفحاته (ستاً وعشرين) صفحة من الحجم المتوسط،صدر كمُلحق لكتاب (التشوف إلى رجال التصوف) ضمن مؤلف واحد،بدايته الصفحة (451) ونهايته الصفحة (577)،بتحقيق الأستاذ أحمد توفيق.يتضمّن حوالي (45) خبراً،أصولها هم رُوّاتها،(30) خبراً منها وردت عن رُواة ذكر المؤلف أسماءهم وعددهم تسعة يأتي في طليعتهم (أبو بكر إبن مُساعد) بأربعة عشر خبراً،وهو من الأتباع المقربين لأبي العباس، وسبعة أخبار أصلها مُعاينة المؤلف،أما الباقي فأخذه عن رواة لم يذكر أسماءهم..
وما يقرُب من تسعين في المائة من هذه الأخبار يُغطّي فقط جزءاً من أعمال وتحرّكات أبي العباس إبّان إقامته داخل أسوار مراكش بعدما دخلها سنة (580هـ/1184م)..
وما أورده نص إبن الزيات يتميّز ب(الإختصار والإنتقاء)،ففي ثناياه ما يُقوّي الإنطباع بوفرة المعلومات التي ترصُد وتتتبّع أحوال الشيخ..وهذا الإختصار مثار مُساءلة: فمن خلال مقارنة كميّة فقط لحجم الأخبار التي خصّصها المؤلف لكل من (أبي يعزى) [ت 572هـ/1176م] و(أبي مَدين) [ت 594هـ/1198م]،يلاحظ أن الأول حَظيَ ب(54) خبراً،(22) منها شكّلت نص الترجمة،و(32) موزّعة بين عدّة ترجمات لرجالات (التشوف).وبلغت أخبار الثاني ما مجموعه (33) خبراً،(13) منها إحتوتها الترجمة الخاصة به،و(21) موزعة في ثنايا ترجمات بعض متصوفة (التشوف) أيضاً..إلى جانب ذلك يُلاحظ أن صياغة (التشوف) لا تُخفي التعاطف مع متصوفة موضوعها،بينما يُستشمّ من قراء نص (أخبار أبي العباس السبتي) وجود مؤشرات صمت في هذا الجانب..ويبدو أن طبيعة (العلاقة مع المخزن) لها وجاهتها في هذا الجانب،فالإشارات المتعلقة بالحُكام في (التشوف) تترُك في مجملها إنطباع عدم الإطمئنان إلى مخزن الوقت،ولعل أثر هذا الإنطباع إمتدّ ليشمل من المتصوفة من كان يحظى برعاية مخزنية،وهي ملاحظة تجد ما يدعّمها في عدم إدراج المؤلف لترجمة كل من (القاضي عياض) و(الإمام السهيلي) [الأول عُرف بعمله للمرابطين،والثاني عُرف بقُربه من الموحدين]،مع أنهما من شرطه أيضاً [يقول إبن الزيات في شرطه: (ولما خَفيَ عن كثير علم من كان بحضرة مراكش من الصالحين ومن قَدمها من أكابر الفُضلاء،رأيت أن أفْرِغ لذلك وقتاً أجمع فيه طائفة أدَوّن أخبارهم..وربما ذكرت من قَدم مراكش وما إتّصل بها وإن كان من غيرها،إذا كان مماتُه بها،وذكرت من هو من أهل هذه العُدوة وإن كان مماته بغيرها..ولم أتعرّض فيه لأحد من الأحياء)].
وقد تعرّض إبن الزيات إلى مسألة (إختلاف الآراء) حول أبي العباس السبتي،حيث قدّم ما لا يقلّ عن خمسة أخبار تتعلّق بهذه القضية.ولم يُخف صعوبة الحسم في الترجيح بينها،ومع أنه كان يُقدّم هذه الآراء في صيغة أحكام قيمة،فإنه تغافل عن إيراد وسائل الإثبات،في وقت يعترف فيه بوجود مادة لم يُقلّل هو نفسه من قيمتها الكمية على الأقلّ..
ثانياً_ (أبو العباس السبتي وإختيار مراكش):
في سنة (541هـ/1147م) خرج أبو العباس السبتي من (سبتة)،وهي نفس السنة التي حلّ فيها ب(جبل كليز)،وبه إستقرّ..
ونسجّل بداية أن محطتي خط الإنتقال شكّلتا خلال نفس الإطار الزمني نقطتين ساخنتين في خريطة المغرب السياسية،والقاسم المشترك لمصدر هذه السخونة هو (مُقاومة الحركة الموحدية) الفتيّة،حيث بلغت ذروتها في (سبتة) بقتل والي الحكم الجديد على المدينة (ومن كان معه)،وفي (مراكش) كان (الحصار الطويل)..
بخصوص مسألة الإنتقال،دون ربطها مع الأحداث السياسية المعاصرة لها،فالمعلومات المتوفرة عنها تتضمنها روايتان، وردت الأولى عند إبن الزيات باختصار شديد: [ فقرأت القرآن إلى أن حفظته،ثم قرأت الأحكام إلى أن بلغ سنّي عشرين عاماً فأتيتُ إلى جبل إيكليز].أما الثانية فقد أوردها القاضي العباس بن إبراهيم في كتابه (الأعلام) نقلاً عن مؤلف يحمل عنوان (فضائل أبي العباس السبتي)،تشتمل على: الغرض من الإنتقال،وسبب إختيار مراكش،ومُوافقته شيخه أبي عبد الله الفخار على ذلك: [ وقَويت عزيمته على السفر برسم طلب العلم ولقاء المشايخ،فقام إلى الشيخ وقال له: يا سيدي إني عزمت على المسير إلى مراكش أطلُب العلم فيها فإنها (مدينة العلم والخير والصلاح).فقال له: يا بُني والله إنه ليعزّ عليّ فراقك،ولكن في طلب العلم يهون عليّ سفرك].
من خلال الرواية الأخيرة،نقف على الملاحظات التالية:
_ من الثابت أن (سبتة) خلال هذا التاريخ كانت تمثّل (مركزاً ثقافياً) بارزاً ضمن خريطة المحطات الثقافية للغرب الإسلامي،ويكفي أن الزمن كان هو زمن (القاضي عياض)..
_ مما لا شكّ فيه أن (مراكش) كانت في حالة حصار،ومما تميزت به فترة الحصار هو إعادة التعمير وتصفية العناصر المُناوئة وبناء هياكل المخزن الجديد.وحسبما يبدو ففي سياق هذا البناء يندرج إنشاء مدرسة بكل متطلباتها التربوية والتنظيمية،لعلها أصل (مدرسة إبن يوسف) الحالية،من المرجح أنها كانت إطاراً لتوجيه وتمرير إختيارات العلم والثقافة عند (الحكم الموحدي)،أما العلم والثقافة بمراكش خارج هذا الإطار فلا شيء يُذكر عنه في المصادر المتداولة.
_ تسمح المعلومات القليلة المتوفرة بإستنتاج خلاصة محتواها: عدم إستبعاد ضيق مجال التصوف ومحدوديته بمراكش خلال هذه الفترة،وتبدو بعض مؤشرات ذلك على (مستوى الكمّ) حيث [ بلغ عدد أعلام التصوف الذين لهم صلة بمراكش،إما بالإنتماء الجغرافي لها أو زيارتها أو الإستقرار فيها،والذين ترجم لهم إبن الزيات في (التشوف)،حوالي (70) عَلماً من (277)،ويتبين من خلال تواريخ الوفيات أن (68) من أصل (70) وفياتهم إلى النصف الثاني من القرن السادس الهجري..].
أما على (مستوى الكَيْف) فهناك روايتان متقاربتان من حيث المحتوى والزمن لعَلمين بارزين في تصوف (المدرسة البومدينية)،هما: (أبو مدين) و(أبو محمد صالح)،يُستفاد منهما: (تواضع حالة التصوف بمراكش،وغياب هذه الأخيرة من خريطة مراكز التصوف المفضّلة بمغرب بداية حكم الموحدين)..
الرواية الأولى جاءت في سياق حديث أبي مدين عن بدء أمره،يقول: [..ثمّ ذهبت إلى مراكش،فدخلتها وأدخلني الأندلس معهم في جملة الأجناد،فكانوا يأكلون عطائي ولا يُعطونني منه إلا اليسير،فقيل لي: إن رأيت أن تتفرّغ لدينك فعليك بمدينة فاس..].
والرواية الثانية وردت ضمن ترجمة الصوفي (زكرياء يحيى بن أبي بكر الزناتي) نزيل مراكش (ت 614هـ/1214م)،وفي سياق لقائه بأبي محمد صالح يقول: [..فإجتمع بأبي محمد صالح وخلا به من شدة إنقباضه عن الناس،فلما إنصرف عنه قال: ما ظننت أن بمراكش مثل هذا الرجل..].
كل هذه العناصر توحي بأن (مراكش) لم تكن في بداية حكم (الموحدين) مجالاً مفضّلاً لأهل التصوف..فالحُكْم الفتيّ كان حريصاً على معرفة وضبط دقائق وجزئيات المجتمع الذي يُدير شؤونه،والمخاوف على مقاليد السلطة كانت حاضرة باستمرار في إعتباراته،بما فيها تلك التي كان مصدرها أشخاص لهم وزن وإعتبار خاص عند السكان،وخاصة العناصر التي طغى المنحى الصوفي على سلوكها ونشاطها..جاء عند إبن عبد الملك [ في كتاب (الذيل والتكملة)] ضمن ترجمته ل(أبي موسى الكزولي): [ كبير النحاة..وافر الحظ في الفقه،بارعاً في أصوله..مع الورع والزهد والصلاح والإنقباض عن مخالطة الناس ومداخلة أبناء الدنيا..ولما شاع ذكر أبي موسى وإشتهر أمره وعُرف قدره،تكاثر طلبة العلم عليه وإنتالوا من كل حدب إليه،حتى ضاق عنهم ذلك المسجد الذي كان يدرُس فيه..ولما نمى إلى (المنصور) من (بني عبد المومن) خبره،وقرّر عنده ما هو عليه من الزهد والورع والتقشف والإعراض عن الدنيا ــ وكان دأب عبد المومن وبَنيه التّنقير عمّن هذه حاله والكشف عن باطن أمره،مُتخوّفين ثورته وخروجه عليهم ــ فأمر كبير وُزرائه ونقيب طلبة العلم بالتوجّه إليه وإحضاره بين يديه،وأوْعَز إلى وزيره أنه إن وافقه على الوصول معه إستصحبه مُكرماً مبروراً،وإن بدا منه تأبّ أو تلكّؤ ضرب عُنقه في مجلسه وجاء برأسه]..
ثالثاً_ (أبو العباس السبتي ومجال مراكش):
1_ (أبو العباس السبتي وصخور كليز):
شكّل مجال العاصمة الموحدية (المدينة وبعض الجهات المُحاذية لها) الإطار الجغرافي الذي تحرّك فيه (أبو العباس السبتي) بعد وصوله إلى مراكش،حيث غطّت هذه الإقامة على الأقل الأرباع الثلاثة الأخيرة من عمره،وما لا يقلّ عن ثلثي هذه المدة كانت إقامة في (جبل كليز)،بينما قضى الباقي (داخل المدينة).
إمتدّت إقامة أبي العباس في (جبل كليز) على مدى زمني لا يقل عن أربعين سنة،إبتدأ منذ سنة (541هـ/1147م) وإنتهى زمن حكم المنصور (580هـ/1184م ــ 595هـ/1199م)..
لا تقدم المصادر المتداولة معلومات خاصة بهذا الموقع (جبل كليز) قبل تاريخ إفتتاح مراكش من طرف الموحدين،ولا وجود له أيضاً في خريطة التصوف ب(الحوز) إلى حدود هذا التاريخ..غير أن خبراً وحيداً ورد ضمن ترجمة الصوفي (أبي عبد الله محمد إبن تميم الزناتي) [توفي بمراكش سنة (607هـ/1210م)]،لا يُستبعد معه فيما يبدو وجود لمؤشرات (نشاط صوفي محدود)،بعد منتصف القرن السادس الهجري،يقول إبن الزيات: [ سمعت أبا العباس أحمد بن إبراهيم بن محمد الأزدي يقول: أخبرني المريسي عن ثقات من المريدين قالوا: كنا مع إبن تميم بجبل كليز]..
من المؤكد أن المدة التي قضاها أبو العباس السبتي بنفس المكان،صادفت في بعض الأوقات منها وجود متصوفة،على الأقل إرتبط بعضهم بأبي عبد الله،لكون هذا الأخير كان من أصحاب أحد مشاهير المتصوفة القاطنين بخارج المدينة من جهة الشمال،وهو (أبو لقمان يزركان إبن يعقوب الأسود)،ووفاة هذا الصوفي كانت عام (570هـ/1174م) ،الشيء الذي يؤكد حلول أبي عبد الله بكليز وأبي العباس لم يُغادره بعد،وهي ملاحظة مثيرة للتساؤل حول وجود أو عدم وجود لقاءات تمّت بين أبي العباس وهؤلاء المريدين وشيخهم في نفس المكان،علماً بأن الرجل كان يُعد من المشايخ: [وكان عبداً صالحاً،مُجاب الدعوة،وصَحب أبا إبراهيم السفاح وأبا لقمان وأضرابهما]..
من الملاحظ أن النصف الغربي ل(سهل الحوز) عرف خلال نفس الفترة،وجود خريطة صوفية تتكون فيما يبدو من إحدى عشرة محطة على الأقل،موزّعة على أربع مجموعات متّخذة من (مراكش) مركز دائرتها: في الشمال هناك (تاووتي، تاقايطت)،وفي الجنوب (نفيس،أغمات)،وفي الغرب (مليجة، تالغت،رباط شاكر،رباط أوجدام)،وفي الشرق (تامنصورت، تاسماطت،تكتينت).ولعل ما يعتبر قاسماً مشتركاً بينها هو: (تراكم النشاط الصوفي،ووجود علاقات وزيارات بين متصوفيها)،ولا يبدو أن (جبل كليز) كانت له نفس هذه الخصوصيات..
تميّزت مرحلة إقامة أبي العباس السبتي بجبل كليز بأنها (زمن مخاض وشفوف):
أورد المؤرخ العباس بن إبراهيم في (الأعلام) ما يلي: [ وإنقطع بأحواز مراكش بالجبل المعروف بكليز للعبادة وإنتظار الإذن من الله في الدخول على عادة الأكابر ألا يدخلوا في أمر إلا بإذن الله تعالى]: يقدّم محتوى هذا النص جبل كليز كمحطة (تعبّد وإنتظار الإذن)،وما تفرضه من عزلة بمتطلباتها المكانية والبشرية من خلوة وخديم،وهذه المرحلة متقدّمة بالنسبة لسابقتها وتمثّل تراكماً نوعياً في الممارسة الصوفية للرجل والخطوة المتوّجة لشفوفه.
وفي شهادة لشيخه أبي عبد الله الفخار ما يعكس في الغالب بروز مؤشرات تعكس صلاح أبي العباس ولم يصل بعد سن العشرين:[ فرُوي أن الشيخ أحسّ ببركة زادت عليه من ساعته،فقال له: يا بنيّ بارك الله فيك،إن عشت سيكون لك شأن عظيم.قال له: يا سيدي ذلك بيد الله يفعل في مُلكه ما يشاء..وزادت من بركاته الخيرات وفاض الإحسان]،كما تميّز خط رحلته بظهور كرامات لها صلة بهذا العنصر..وحسب الأخبار المتداولة،لا نجد في الفترة التي قضاها أبو العباس السبتي بجبل كليز،سوى كرامة واحدة تعود من حيث الزمن إلى نهاية فترة الإقامة بجبل كليز،وتقدّمها المصادر كنقلة نوعية في التاريخ الخاص بالرجل،أدّت من جهة إلى ذيوع شهرة صلاحه وولايته بمراكش عند السكان والمخزن الموحدي،وشكلت من جهة ثانية السبب الرئيسي في إنتقاله إلى داخل أسوارها..
2_ (أبو العباس السبتي ومحور المدينة):
ما هو موجود من مادة بخصوص هذه المرحلة لا يتعدّى روايتين،وردت الأولى في كتاب (فضائل أبي العباس)،والثانية في كتاب (روض الرياحين في حكايات الصالحين).تجمع بينهما قواسم مشتركة من أبرزها: تقديم زمن الإنتقال دون تدقيق،لكن في إطار زمني معروف يُغطي فترة (حكم المنصور)،ثمّ ربط الإنتقال ب(رغبة مخزنية) وليس باختيار حرّ لأبي العباس.
نتساءل: هل كانت (المدينة) في هذه الفترة تفتقر إلى عناصر من (أهل الولاية والصلاح) من عيار الشيخ أبي العباس؟
دون شك أن المدينة ومجالها عرفا منذ منتصف القرن السادس الهجري حركة تصوف هامة،من مظاهرها: إرتفاع عدد الأسماء التي كان لها إشعاع من (القوم)،سواء داخل المدينة أو على مدى محيطها،وتزايد حجم المريدين والأتباع مع كثافة نشاطهم،وإتساع خريطة محطات التصوف بالمجال..هذا الحضور المتميّز لأهل الولاية والصلاح داخل العاصمة الموحدية،كان مُحاطاً بحزام صوفي شكّلته شبكة مراكز تصوف خارج المدينة لم تكن بأقل أهمية من سابقتها.
غير أن (العلاقة بين المخزن الموحدي وأهل التصوف) بالعاصمة تميّز،في هذه الفترة،ب(غياب التقارُب والرضا). ولعل مؤشرات عدم إرتياح وإطمئنان المتصوفة إلى هذا المخزن تبدو بعض عناصرها في: مُجانبة متصوفة المدينة لكُبراء المدينة،ورفضهم تقلّد مناصب وخُطط مخزنية كالقضاء والحسبة،وإمتناع عدد من متصوفة المجال من دخول المدينة رغم قرب موضع إستقرارهم منها،في وقت تميّزت فيه إقامة البعض منهم في المدينة بالعزلة،مع تشبّث (القوم) بالمذهب المالكي وحرصهم على ترسيخه،في وقت إختار المخزن الموحدي في عهد المنصور بشكل خاص [محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة،وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث،وهذا المقصد بعينه كان مقصد أبيه وجدّه،إلا أنهما لم يُظهراه وأظهره يعقوب هذا] (المُعجب في تلخيص أخبار المغرب)..
أما عدم إرتياح المخزن فتميّز،حسبما يبدو،بالجفاء والقطيعة،ويظهر هذا السلوك كأسلوب مُمنهج تمّ إختياره والعمل به بهدف تطويق ومحاصرة ما يمكن أن يصدُر من مَخاطر عن هذا العنصر المتمتّع بوزن إجتماعي مُعتبر تُهدّد مصالح الحكم الموحدي.من مظاهر ذلك: مراقبة تحركات القوم،والضغط على البعض منهم لإجباره على المجيء إلى العاصمة بالإستقدام والإشخاص،ومعاملة آخرين بأساليب لا تخلو من إستفزاز وعنف.
في ضوء هذا الواقع المتوتّر بين المخزن والمتصوفة،يحقّ لنا أن نتساءل عن الدوافع الحقيقية وراء إستقدام الشيخ أبي العباس السبتي؟..كما أن هذا الواقع يُستشفّ منه أسلوب تعامل مخزني جديد مع أهل الولاية والصلاح،إختار الحكم الموحدي نهجه كمواجهة أخرى للحدّ من تنامي نفوذ وثقل متصوفة المجال.
تمثّل فترة حكم الخليفة المنصور (أوْج التجربة الموحدية): مجال سيادة واسع،وهياكل تنظيم فعالة،وإقتصاد مُنتج..كل ذلك ساهم في إعطاء (مخزن موحدي قويّ).وعلى الرغم مما منحته هذه الوضعية من إمتيازات لهذا الحكم،فإنها لم تكن قادرة على إخفاء أو طمس الحساسيات ذات الرّأي المُخالف،أو تمنع تكوين ونمو وإنفجار أشكال معارضة خاصة في المغرب الأقصى وداخل عمق نقط النفوذ (الجنوب ومراكش)،أو لتكبح جماح المتطلعين إلى الحكم من داخل العائلة الحاكمة..في هذا السياق فإن قراءة المعلومات المتداولة عن الحقبة في ضوء هذه المشاغل،توحي بعدم إستبعاد المخزن لهذه المشوّشات المُقلقة من حساباته،ويمكن رصد ردود الأفعال الصادرة عنه في واجهتين:
أ_ (واجهة السكان): تميّزت هذه الواجهة بمحاولة كسب عطف الناس والتقرّب منهم،وتحييدهم في علاقات التوتر القائمة بين المخزن والأطراف المعارضة له..ويمكن أن نسجّل في هذا الإطار حرص المنصور على: [الظهور بمظهر الخليفة الحازم في القيام بواجباته تبعاً لقواعد الشريعة،الحريص على تحقيق العدل،الساعي في الإحسان وتوفير خدمات النفع العام،المرتبط بأهل الخير والصلاح،القائم بواجب الجهاد] (المعجب في تلخيص أخبار المغرب)..
ب_ (واجهة المعارضة): عرفت فترة حكم المنصور حركات مُعادية للمخزن من داخل الأسرة ومن خارجها،ويشكل (أهل التصوف) طرفاً من هذه الأخيرة،وحسبما يلاحظ فقد تميّز التعامل المخزني إتجاهها بردود أفعال تباينت أساليبها بين (الردّ الدموي) السريع وبين (أسلوب المراقبة والتتبّع والبحث) عن نقط ضعف الآخر وإستثمارها لهدف مشترك هو (الحدّ من مخاطرها وتهديداتها)..
في هذا الإطار يبدو أن مواجهة المتصوفة تميّزت من جهة بإعتماد مبدأ (الإنفتاح والتقرّب من عالمهم)،كمسلك للتسرّب إلى هذا المجال،رغبة في الوقوف على آليات عمل ونشاط القوم،في أُفُق ضبطها والتحكم فيها..ومن جهة ثانية (خَلْق إطار صوفي مُساند للمخزن)،تُدعّمه أسماء صوفية ذات وزن وإشعاع،وتنتمي إليه عناصر من أفراد السلطة العليا في البلاد.
في هذا الإطار الواسع تبدو بعض الجزئيات التي تُسهم في فهم جوانب من حيثيات إنتقال أبي العباس السبتي من جبل كليز إلى داخل مراكش.
لم تتجاوز المدة الزمنية التي غطّت هذه الفترة عشرين سنة (أي تواجد أبو العباس بمراكش)،ورغم قصرها فإنها تمثل الحقبة التي كانت لها قوة التحكم في تحديد الهوية الصوفية للرجل،فأبو العباس دخل مراكش ــ حسبما يبدو ــ بدون لون صوفي مميّز،وإنما كصوفي ينتمي إلى أهل الولاية والصلاح..
يمكن إجمال محتوى مذهبه بشكل عام في (الصدقة)،يقول إبن الزيات: [ حضرت مجلسه مرّات فرأيت مذهبه يدور على (الصدقة)،وكان يرُدّ سائر أصول الشرع إليها..وكان إذا أتاه أحد بأيّ أمر،يأمره بالصدقة ويقول له: (تصدّق ويتّفق لك كل ما تريد)].
وعلى هذه القاعدة وضع خطاً تصاعدياً لمراتبها التي حدّدها في ثلاث محطات: أولها (المشاطرة) [تُساوي التصدّق بالنصف من الرزق]وثانيها (الإحسان) [تُساوي الثلثين]، وثالثها (شكر النعمة) [تُعادل خمسة أسباع منه].وهو ترتيب ضبطت معاييره بالدرجة الأولى (قيمة البذل والعطاء)..
من الواضح أن (الصدقة) كجزء من أعمال البر والإحسان كانت حاضرة أيضاً ضمن الخدمات ذات الطابع الإجتماعي التي قام بها أهل التصوف بالمجال،إلا أنها عند أبي العباس شكّلت قاعدة إختيار صوفي بعينه..فهل لهذا التميّز ما يبرّر نشأته بالعاصمة الموحدية وفي زمن المنصور بالذات؟..
من غير المُستبعد حضور رغبة مخزنية في إعطاء هذه الخدمة واجهة دينية إجتماعية،كواجب ديني يتمّ إحترامه والعمل به،ومصلحة عامة يتمّ الإهتمام برعايتها،جلباً للعطف وإبعاداً للعداء..وقد إختفت هذه التجربة الصوفية الخاصة (الصدقة) بوفاة كل من الخليفة وأبي العباس)،فلم تنتقل المشيخة إلى أحد من أبنائه أو أتباعه المقربين..
وتبقى معالجة هذا الموضوع ــ الذي تتقاطع عنده مشاغل المخزن وحركية المجتمع ــ محتاجة إلى مقاربات وآليات وأدوات علوم أخرى..
الباحث: (محمد رابطة الدين)