إشاراتٌ في الرّسم القُرآني (الحلقة السابعة)
التعريف و التنكير في كلمتي (نهار) و (النهار)
(سَاعَة مِّنَ ٱلنَّهَارِ.. … سَاعَة مِّنَ نَّهَارِ)
﴿بِسْم اللّه الرّحْمَن الرّحيم﴾﴿الحَمْدُ للّه ربّ العٰلمين ﴾حَمْدَ العارفين و﴿لا إله إلا الله﴾ توحيد المُقرّبين والصّلاةُ والسّلامُ على نَبيّ الله صلاة الأحاديين. ونبرأ إليه تعالى من الحول والقوة فلا علم إلا ما علّمَنا ولا عطاء إلا ما أعطانا ونسأله تعالى أن يجعلنا ممن هَمُّه الصدق وبُغيته الحقّ وغرضه الصواب ممن لايلتفِت إلى نفسه ولايبحث عن الثناء ولا عن التّطاول والإطراء فإن أصاب فمن اللّه وإن أخطأ فمِن نفسه ورحِم اللهُ امرؤا عرف قدره فوقف عنده﴿ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب﴾.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد مدينة العلوم الإلهية وعلى آله وصحبه أبواب الأسرار الربانية وعلى العارفين ذوي الهمم العالية والمعارف اللدنية والفتوحات الكشفية صلاة نَلِجُ بها دوائر الأولياء وننال بها المقامات القعساء.
سنقفُ في هذه الحلقة عند كلمتين متشابهتين وردتا في القرآن (سَاعَة مِّنَ ٱلنَّهَارِ.. … سَاعَة مِّنَ نَّهَارِ)،استفتاحا للإشارات المرتبطة بكل منهما:
الآية الأولى – قال الحق سبحٰنه :(إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَیۡـٔا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ وَیَوۡمَ یَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ یَلۡبَثُوۤا۟ إِلَّا سَاعَة مِّنَ ٱلنَّهَارِ یَتَعَارَفُونَ بَیۡنَهُمۡۚ قَدۡ خَسِرَ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِلِقَاۤءِ ٱللَّهِ وَمَا كَانُوا۟ مُهۡتَدِینَ. …)
-1- إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَظۡلِمُ ٱلنَّاسَ شَیۡـٔا وَلَـٰكِنَّ ٱلنَّاسَ أَنفُسَهُمۡ یَظۡلِمُونَ): الناس هنا تشمل كل المُكلّفين صالحهم وطالحهم،فالسياق جاء بيانا لعدل الله تعالى وتنزيهه عن أي ظلم ،فهُم اشتركوا جميعا في كونهم أوعية يظهر فيها مقتضى العدل الإلهي..
-2- اشتركوا أيضا في الحشر وفي التعارف بينهم فيه، فهي قرائن توضح أن ظرف الزمان “النهار” ناسب أن يأتي بصيغة التعريف “ساعة من النهار” : فالحشر محدد وقته وهو حيز للتعارف ..
(كَأَن لَّمۡ یَلۡبَثُوۤا۟):كَأَن للتشبيه..(سَاعَة مِّنَ ٱلنَّهَارِیَتَعَارَفُونَ بَیۡنَهُمۡۚ)….النهار جاءت بال التعريفية : (سَاعَة مِّنَ ٱلنَّهَارِ) …ساعة نكرة و النهار معرفة .. ،فالتعريف تخصيص و تعيين و تحديد : اليوم الذي يتم فيه الحشرشُبّه بساعة كحيز زمني يكون فيه حصول التعارف بين هؤلاء..فهي ساعة ليست كغيرها من الساعات ،في نهار ليس كغيره من الأنهُر..و لُبْثُهم في الدنيا و البرزخ وما قضوه فيهما من زمن كأنه ساعة يوم الحشر… فالتعارف التام بين عموم الناس لم يتحقق لهؤلاء فيما مضى من حياتهم الدنيا ولا في قبورهم..لكن في يوم الحشر يتحقق هذا التعارف، فجاء تشبيه اليوم بساعة (كَأَن لَّمۡ یَلۡبَثُوۤا۟ إِلَّا سَاعَة ).. ومن لطائف المعاني أن تُجَاوِرَ كلمة (ٱلنَّهَارِ) المُعرَّفة فعل (یَتَعَارَفُونَ) : فالتعريف و التعارف يحملان جذرا لغويا واحدا (عرف)..
3- زمن الحشر سيكون نهاره طويلا مقارنة مع ما نعرف من أيام الدنيا فجاء هذا النهار الأخروي بالتعريف تمييزا له ( وَیَوۡمَ یَحۡشُرُهُمۡ كَأَن لَّمۡ یَلۡبَثُوۤا۟ إِلَّا سَاعَة مِّنَ ٱلنَّهَارِ) قال تعالى( وَإِنَّ یَوۡمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلۡفِ سَنَةࣲ مِّمَّا تَعُدُّونَ)..
الآية الثانية -(وَیَوۡمَ یُعۡرَضُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ عَلَى ٱلنَّارِ أَلَیۡسَ هَـٰذَا بِٱلۡحَقِّۖ قَالُوا۟ بَلَىٰ وَرَبِّنَاۚ قَالَ فَذُوقُوا۟ ٱلۡعَذَابَ بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ فَٱصۡبِرۡ كَمَا صَبَرَ أُو۟لُوا۟ ٱلۡعَزۡمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ كَأَنَّهُمۡ یَوۡمَ یَرَوۡنَ مَا یُوعَدُونَ لَمۡ یَلۡبَثُوۤا۟ إِلَّا سَاعَة مِّن نَّهَارِۭۚ بَلَـٰغ فَهَلۡ یُهۡلَكُ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ..)..
-1- ( سَاعَة مِّن نَّهَارِۭۚ) : ..نهار نكرة : فهو ليس نهارا محددا ،بل له صفة العموم، أي أنهم يظنون أنَّ لُبْثهم كان كأنّه مجردَ ساعةٍ مِنْ أيِّ نهارٍ دنيوي عاشوه سابقا ..وهي إشارة قرآنية بليغة أنَّ ظنَّهم أرداهم لدرجة اختلطت عليهم الأنهُر فانصرف الظن ليشمل كل نهار عاشوه..هذا معنى أول.
-2- (یَوۡمَ یَرَوۡنَ مَا یُوعَدُونَ) ..”ما یُوعَدُونَ” فِعْلٌ جامع للكثير من مراحل اليوم الآخر وهو يومٌ مشهودٌ ،فيه الكثير من الأحوال و الأهوال، (یُوعَدُونَ) فعل مبني للمجهول فهو إمعان في التخويف ،بعدها جاءت كلمات نكرة مترابطة ( سَاعَة مِّن نَّهَارِۭۚ)، فرَبْطُ الفعل المبني للمجهول بكلمات نكرة جعل التخويف كأنه رأي عين ،وعليه :فوُرُود كلمة (نَّهَارِۭۚ) نكرة هو مناسب للقصد..
-3(كانهم يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ﴾ من الأهوال فكأنهم ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾ في الدُّنْيا ﴿إلا ساعَةً مِن نَهارٍ﴾ …جاء التشبيه أنّ ما مَرَّ بهم في دنياهم و برزخهم كأنها مجرد ساعة عابرة ،لكن ما ينتظرهم اخطر و أشد من صُنوف الوعيد و العذاب في الآخرة، فجاءت كلمة “نهار” نكرة إشارة أنها حيِّزٌ زمنى عابر لا ثبات له فهو نكرةٌ عارضٌ..و في هذا المعنى قال الحق تعالى (وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡو وَلَعِب وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ)..
-4- (یَوۡمَ یَرَوۡنَ مَا یُوعَدُونَ) : هذا المقطع جرى مجرى وعيدٍ و زجرٍ للكافرين و الفاسقين ،لانّ الضمائر(هُم) عائدةٌ على مَنْ هاته صفتُهُم في سياق الآيات (بِمَا كُنتُمۡ تَكۡفُرُونَ..وَلَا تَسۡتَعۡجِل لَّهُمۡۚ..یَوۡمَ یَرَوۡنَ مَا یُوعَدُونَ..ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ) ومن بلاغة اللغة العربية أن يَرِدَ التنكير(النكرة) مورد التبخيس أو التنقيص مِنْ قَدْرِ مَنْ وُصِفوا بكلمة نكرة ،فناسَبَتْ كلمة” نهار” (ساعة من نهار) وهي نكرة، سياق الزجر و التبخيس الذي توجَّهَ للكافرين و الفاسقين : فكأنّ ظرف الزمن “نهار” الذي كانوا فيه هو نكرةٌ استنكارا لما أُقيموا فيه من كفر و فسق..ومن أمثلة توجيه الخطاب بصيغةٍ او كلمةٍ نكرةٍ من باب الردع و الترهيب و التربية ،ما أُثر في عديد أحاديث نبوية شريفة قول سيدنا و مولانا محمد صلى الله عليه و سلم(ما بالُ أقوامٍ يفعلون كذا و كذا؟)..فكما يكون الخطاب بالتنكير للتقريع و الزجر كذلك يكون للتربية و التقويم بحسب حال من يتوجه لهم هذا الخطاب ..
هذا و الله و رسوله صلى الله عليه و سلم أعلم بمراده من كتابه المجيد و الحمد لله رب العٰلمين..
الفقير الى عفو ربه أبو ملك