قال تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا ٱلْأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلْإِنسَٰنُ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا).
(انا عرضنا )هذا عرض وليس امرا.كأن تعرض علي بضاعة للبيع،فأنا بين اختيارين، شرائها أم لا.ليس هناك جبر أو أمر.ومن هنا جاءت كلمة العَرْضُ والطَّلَبُ اي ما يُعْرَض من بضائع للبيع وما يُطلَب شراؤه بحرية.والعرض في اللغة هو طلب الفعل بلين وتأدّب،فنقول مثلا: قدَّم له عرضًا بالضِّيافة قائلاً: أَلاَ تنزل عندنا
(فأبين أن يحملنها واشفقن منها)،خوفا وخشية،وتعظيما لله تعالى ،فالعرض عليهم كان تخييرا لا إلزاما .بينما قوله تعالى(ائتيا طوعا او كرها قالتا اتينا طائعين)كان أمرا. هذه الامانة تحمل في طيها مجموعة من التكاليف والاوامر والنواهي ،بها الشريعة والحقيقة ،هو نوع من التكليف لا تعرفه السموات والارض والجبال ،ولا الملائكة لأن تسبيحهم ذاتي لهم كالتنفس لنا،ولا ضرر من جهتهن فليس اباءهن كإباء ابليس ، فالسجود كان امرا له، والأمانة كانت عرضا عليهن ،واشفقن منها استصغارا لأنفسهن. لو اعطاك شخص مجوهرات ثمينة قابلة للكسر، امانة عندك لاشفقت منها وامتنعت عن اخذها خوفا عليها من الكسر،أو من السرقة،ولو اعطاك صندوقامن حديد، امانة لوضعته في ركن من بيتك ونسيته حتى ياتي ليأخذه.
قال تعالى (فأبين ان يحملنها) ولم يقل تعالى فلم يقبلنها، فالحمل يفيد الثقل والمشقة وعرضت عليهم هذه الامانة لمعرفته سبحانه وتعالى انها ليست من حقهم ،ولا يستطيعون معرفتها ،لأنها من نصيب من خلق على القالب المحمدي،واستقر فيه الامر والنهي ،وظهر فيهم انبياء ورسل وأولياء، وكتبت بالألف الثابتة اشارة الى ان لها معنى واحد : الخلافة المحمدية على الكون الالهي،ظاهره وباطنه ،ملكه وملكوته.(وحملها الانسان) الانسان الكامل،أي غوث زمانه ، كما نعته بهذا الوصف العارفون،فكان جهولا بها اذ هي مجهولة عند كل العوالم وما عرفها حقيقة غير خالقها ،وحتى الملائكة جهلوها واقروا بجهلهم (لو أن عندنا ذكرا من الاولين لكنا عباد الله المخلصين) والاولون هم مراتب الحقيقة المحمدية ،كالعقل الاول والقلم الاعلى .ورد في الحديث”اول ما خلق الله العقل”.” اول ما خلق الله القلم”فلم يميزهذا الموصوف بالكمال بين مراتبها وحضراتها ،إذ الامر مستحيل ، لها حضرات على عدد التجليات.”ما عرفني حقيقة غير ربي” والربوبية هنا كما تشير الى بساط الاصطحاب،تشير كذلك الى القرءان،ففيه كل شيء (مافرطنا في الكتاب من شيء)فيه كل مراتب وحضرات النبوة تنتظر من يكشف النقاب عنها. فلو كانت الامانة تعني الخلافة (اني جاعل في الارض خليفة)كما ذهب اليه بعض العارفين،لكتبت بالمحذوف اذ بهذا الجعل،يدخل ءادم ومن تبعه من الانبياء والرسل ،ثم بعد ذلك الاغواث في هذه الخلافة مما يجعل كلمة (الامانة) ترد محذوفة، لاختلاف مقامات الانبياء بينهم ،ولاختلاف مقامات الاولياء بينهم.
عرضت هذه الامانة على هؤلاء المخلوقات العظيمة والتي خلقهن اكبر من خلق الانسان فأبين حملها ،وحملها الانسان فظهرت قوته عليهن ،وسيادته في الكون الالهي.وخلافته الكونية.وهذا العرض يعم كل من برع في علم من العلوم سواء دينية أو دنيوية.قال تعالى(يادوود انا جعلناك خليفة في الارض)فهو أول من ظهرت على يديه صناعة الحديد.
(إنه كان ظلوما جهولا)صفتان في ظاهرهما ذم، وفي حقيقة الأمر هما مدح ،كهبوط ءادم الى الارض هبوط تشريف وتكليف،وهبوط ابليس هبوط عار وخزي.فحملها الانسان لأنه هو المكلف بالخلافة الالهية،وبعض الصفات المذكورة هي في حقيقة الامر في فطرت الانسان على العموم .قال تعالى:(وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ كَفُورًا)،(وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا)،(إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا)(وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا)،(ولَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ(إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(وَكَانَ ٱلْإِنسَٰنُ عَجُولًا)(وَخُلِقَ ٱلْإِنسَٰنُ ضَعِيفًا).
(إنه كان ظلوما جهولا)إذ لم يؤته الله من العلم الا القليل ،ومن العلم بهذه الامانة الا على حسب تجليات عصرة ،فهو مقيد بها،فما ميز بين مراتبها وحضراتها ،فمن الرفاق ،من رآى الوجهة الحقية لمولانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فظن أنها الله ،فقال خاطبني الحق ،وقال لي الحق،ورأيت الحق.
وظلمها بنسيان وساطتها.ومعرفة انها تحلت بجميع الاسماء الالهية، والامثلة كثيرة…لهذا ورد التنزيه في قوله تعالى(قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِى وَسُبْحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ)فهو صلى الله عليه وسلم يدعوا الى الله على بصيرة ،والعارفون الذين اتبعوا اثره يدعون الى الله على بصيرة ،ومن زلت قدمه منهم،فالحق تعالى منزه عن كل شيء، وكل ما خطر ببالك فالحق خلاف ذلك.
(إنه كان ظلوما جهولا)جملة اسمية ثابتة لا تتغير،وظلوما مذكر مفرد و نكرة ،وكذلك جهولا.فربما تعني شخص معين في زمان معين أو اشخاص اختلفت صفة (ظلوما جهولا) بينهم.اي مشاربهم مختلفة.فعندما يصل العارف الى مقام الختمية تغادره كل صفات الذم المتعلقة بإنسانيته،كالجهل ،والضعف،والهلع والعجلة.حتى (ظلوما جهولا )يصير مدحا لأنه مقيد بتجليات عصره،فجهله وظلمه لا يطلع عليه الا أهل الزمان الذي يليه،حين تتغير التجليات وتظهر فتوحات واسرار حديدة.
والتوحيد الخالص ،والتنزيه الخالص، بل تنزيه الله عن التنزيه ،لم يرد مفصلا مبسطا،ظاهرا،واضحا، الا في مشربنا.وصلى الله على سيدنا محمد نبي الله وعلى الزهراء بضعة رسول الله.
موضوع انجز عند طلب بعض الاخوان.