(أرض الحقيقة) / مَظْهر لتجلّي صفة القُدرة
لقد أفرد الشيخ الأكبر كتاباً خاصاً للكلام على هذه الأرض،كما أفرد لها باباً في الفتوحات (الباب الثامن)،ننقل منه نصاً طويلاً يبين ماهية هذه الأرض وما تحويه من الغرائب ، ومن معطيات النص نستطيع أن نستخلص تحديداً لأرض الحقيقة عند الشيخ الأكبر ، يقول: _ إعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام الذي هو أول جسم إنساني تكّون، وجعله أصلاً لوجود الأجسام والإنسانية ،وفضلة من خميرة طينته خلق منها (النخلة) فهي أخت لآدم عليه السلام وهي لنا عَمّة،وفضل من الطينة بعد خلق النخلة (قدر السمسمة في الخفاء) ، فمدّ الله في تلك الفضلة (أرضاً واسعة الفضاء) ، إذ جعل العرش وما حواه ،والكرسي والسماوات والأرضون وما تحت الثرى والجنات كلها والنار في هذه الأرض،كان الجميع فيها كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض،وفيها(فضلة طينة آدم ) من العجائب والغرائب ما لا يقدر قدره ـوفي هذه الأرض ظهرت عظمة الله ، وعَظُمت عند المشاهد لها قدرته تعالى وكثير من المحالات العقلية ، التي قام الدليل الصحيح العقلي على إحالتها ، هي موجودة في هذه الأرض . وهي (مَسْرح عيون العارفين).. وإذا دخلها العارفون إنما (يدخُلونها بأرواحهم) لا بأجسامهم فيتركون هياكلهم في هذه الأرض الدنيا ويتجرّدون .. وتعطي هذه الأرض بالخاصية لكل من دخلها (الفهم) بجميع ما فيها من الألسنة … ودخلت في هذه الأرض أرضاً من (الذهب الأحمر) الليّن ، فيها أشجار كلها ذهب … ودخلت فيها أرضاً من (فضة بيضاء) في الصورة ذات شجر وأنهار وثمر شَهيّ، كل ذلك فضة … ودخلت فيها أرضاً من (الكافور الأبيض) … وكل أرض من هذه الأرضين التي هي أماكن في هذه الأرض الكبيرة لو جعلت السماء فيها لكانت حلقة في فلاة بالنسبة إليها …وخَلْقُهَا ( أي سكان أرض الحقيقة ) ينبُتون فيها كسائر النبات من غير تناسل بل يتكونون من أرضها …وسرعة مشيهم في البر والبحر أسرع من إدراك البصر للمبصر … ورأيت في هذه الأرض (بحراً من تراب) يجري مثلما يجري الماء . ورأيت أحجاراً صغاراً وكباراً يجري بعضها إلى بعض كما يجري الحديد إلى المغناطيس فتتألف هذه الحجارة … فإذا إلْتَأمت السفينة من تلك الحجارة رَموا (أي سكان أرض الحقيقة) بها في بحر التراب وركبوا فيها وسافروا حيث يشتهون … ومدائنها ( مدائن أرض الحقيقة ) لا تحصى كثرة …وجميع من يملكها من الملوك ثمانية عشر سلطاناً … وأهل هذه الأرض أعرف الناس بالله ، وكل ما أحاله العقل بدليله عندنا وجدناه في هذه الأرض ممكناً قد وقع … فعلمنا أن (العقول قاصرة) وأن الله قادر على جمع الضدّين ، ووجود الجسم في مكانين وقيام العرض بنفسه وانتقاله …وكل جسم يتشكّل فيه الروحاني من ملك وجن وكل صورة يرى فيه الإنسان نفسه في النوم فمن أجساد هذه الأرض..).
نستخلص من النص السابق ما يلي: إن هذه الأرض (فضلة من طينة آدم) عليه السلام ، وهذا يجعلها مغايرة لكل المخلوقات ، لأنها أكسبت الصفات التي منحها الله جسم آدم الجامع لحقائق العالم ،ومعلوم أن نشأة جسم آدم من طين سوّاه الحق عز وجل بيديه ، فتكون هذه الأرض بتلك الصفة اكتسبت كل (الأسرار والغموض والعجائب) التي يتفنّن في وصفها وإيرادها الشيخ الأكبر.. إن هذه الأرض (تجمع الأضداد) حتى المحالات العقلية في واقعها ، فهي من ناحية قدر السّمسمة في الخفاء،ومن ناحية ثانية العرش وما حواه والكرسي والسماوات والأرضون كلها فيها كحلقة في فلاة ، كما أن الداخل إليها يرى الكثير من المحالات العقلية ممكناً قد وقع كوجود جسم في مكانين ..وهذا الجمع للأضداد هو من مظاهر قدرة الله وعظمته.. إن هذه الأرض بإيجاز : هي (عالم الخيال) الذي ندخله بالروح ، عالم الخيال كما يفهمه ابن عربي.. بعد هذه الملاحظات نستطيع أن نحدد (أرض الحقيقة) بأنها : (أرض بقدر السّمسمة تتّسع لكل العوالم،بقيت من طينة آدم ،كل المحالات العقلية واقعة فيها ممكنة ،لأنها مظهر لتجلّي صفة القدرة ،وهي من عالم الخيال ،مسرح لعيون العارفين يدخلونها بأرواحهم ..) ذ سُعاد الحكيم
حصل المقال على : 299 مشاهدة