سِرّ إقتران البُرهان بالصّدقة والضّيّاء بالصّبر

ابن عربي

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :“الطهور شطرالإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن ما بين السماوات والأرض،والصلاة نور،والصدقة برهان،والصبر ضياء،والقرآن حجة لك أو عليك،كل الناس يغدو،فبائع نفسه،فمعتقها أو موبقها(رواه مسلم).

وأما إقتران البُرهان بالصّدقة فهو أن الله تعالى جَبَل الإنسان على الشّحّ،وقال(إن الإنسان خُلق هَلوعاً)يعني في أصل نَشأته،(إذا مَسّه الشرّ جَزوعاً وإذا مَسّه الخير مَنوعاً)وقال(ومن يوقَ شُحّ نفسه) فنَسب الشحّ لنفس الإنسان.وأصل ذلك أنه إستفاد وجوده من الله، ففُطِرَ على الإستفادة لا على الإفادة.فما تُعطي حقيقته أن يتصدّق،فإذا تَصدّق كانت صَدقته(بُرهاناً)على أنه قد وُقِيَ شُحّ نفسه،الذي جَبله الله عليه. فلذلك قال (الصّدقة بٌرهان).ولمّا كانت الشمس ضيّاء يُكْشَف به كل ما تنبسط عليه،لمن كان له بَصَر. فإن الكشف إنما يكون بضيّاء النور،لابالنور.فإن النور ما له سوى تَنفير الظّلمة،وبالضيّاء يقع الكشف .وإن النور حجاب،كما هي الظلمة حجاب.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقّ ربه تعالى(حِجابه النور)،وقال(إن لله سبعين حجاباً من نور وظلمة)أو(سبعين ألفاً). وقيل لرسول الله(أرأيت ربّك؟) فقال (نورأنّى أراه).فجعل صلى الله عليه وسلم الصبر،الذي هو الصوم والحج، ضِيّاءاً أي يُكشف به(إذا كنت مُتلبّساً به)ما تُعطيه حقيقة الضّوء من إدراك الأشياء.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم(عن ربه)إنه قال:“كل عَمل إبن آدم له إلا الصوم : فإنه لي وأنا أجزي به“.فالصوم”صفة صَمدانية”،وهو التنزّه عن التغذّي، وحقيقة المخلوق تقتضي التغذّي. فلمّا أراد العبد أن يتّصف بما ليس من حقيقته أن يتّصف به،وكان إتّصافه بالصوم شرعاً،قال الله له”الصوم لي”لا لَكَ.أي “أناهو الذي لاينبغي لي أن أطْعَم وأشْرَب”.وإذا كان الصوم بهذه المَثابة،وكان سبب دُخولك فيه كَوني شَرعته لك،”فأنا أجزي به”.كأنه تعالى يقول:”وأنا جَزاؤه،لأن صفة التنزّه عن الطعام والشراب تَطلُبني.وأنت مُتّصف بها في حال صَومك،فهي تُدخلك عَلَيّ”.فإن الصبر حَبْس النفس،وقد حَبستها،بأمري،عمّا تُعطيه حقيقتها من الطعام والشراب.فلهذا قال تعالى(للصائم فَرحتان:فرحة عند فِطْره(وتلك الفرحة لروحه الحيواني لاغير) وفرحة عند لقاء ربّه(وتلك الفرحة لنفسه الناطقة،لَطيفته الربّانية) فأوْرَثه الصوم لقاء الله وهو المُشاهدة.فكان الصوم أتَمّ من الصلاة ،لأنه أنتج لقاء الله ومُشاهدته. والصلاة مُناجاة لا مُشاهدة،والحجاب يَصحبُها،فإن الله يقول(وما كان لبشر أن يُكلّمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب).فقَرن الكلام بالحجاب، والمُناجاة مُكالمة.

يقول الله(قسمت الصلاة بيني وبين عبدي)والصوم لايَنقسم، فهولله،لا للعبد،بل للعبد أجره من حيث ما هو لله.وهنا سِرّ شريف،فقُلنا: إن المُشاهدة والمُناجاة لا يجتمعان.فإن المُشاهدة للبَهْت، والكلام للفَهْم .فأنت،في حال الكلام،مع ما يُتَكَلَّم به،لا مع المُتكلِّم.. فافهم القرآن، تَفهَم الفُرقان.وأما الحَجّ فلِما فيه من الصّبر،وهو حَبْس الإنسان نفسه عن النكاح ولَبْس المَخيط والصُّفْرة.كما حَبس الإنسان نفسه عن الطعام،في الصوم،والشراب والنكاح. ولمّا لم يَعُمّ الحج مَسْك الإنسان نفسه عن الطعام والشراب ، إلا عن النكاح والغيبَة،لذلك تأخّر في القواعد التي بُنيَ الإسلام عليها. فكان حُكمه حُكم الصائم والمُصلّي،حال صَومه وصَلاته،في التنزّه عن مُباشرة السّكن.ولمّا كان النكاح سَبباً لظهور المُولَّدات، مِن ذلك أعطاه الله،إذ تَركه من أجله، بَدَله(كُنْ في الآخرة. ولأوليائه في الدنيا:(بسم الله)لمَن أراد الله أن يُظهر على يَده أثراً.فيقول العبد في الآخرة،للشيء يُريده:(كن)، فيكون ذلك الشيء.وليس قوله هذا إلا من كَونه(حاجّاً)أو صائماً. ولهذا شَرّك النبي بين الحجّ والصوم في لفظ الصّبر،فقال والصّبر ضِيّاء..

هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد