زاوية تمجروت والمخزن

 زاوية تمجروت والمخزن / (1642_1914) في وسط إحدى الواحات الخصبة،المُحاذية لضفاف وادي درعة،وهي واحة فزواطة،الواقعة جنوب الأطلس الكبير،أسّس أبو حفص عمر الأنصاري،في العام (983هـ/1575م)، زاوية تمجروت(تقرأ بجيم مصرية)،بهدف نشر مبادئ الطريقة الشاذلية وتعليم الناس أمور دينهم.

وإختيار هذا الموضع لبناء الزاوية لم يتمّ مصادفة أو بشكل إعتباطي،وإنما لأهمية الموقع الذي يحتله  القصر ــ محلّ الزاوية ــ وسط ما يزيد عن ثلاثمائة قصر من قصور  وادي درعة ،موقع كان يشكل،في مرحلة أولى،مُلتقى للقوافل التجارية المتّجهة من  سوس  إلى  تافيلالت أو العكس.ثمّ،في مرحلة ثانية،ملتقى للقوافل المتجهة من المناطق الشمالية إلى السودان أوالعكس أيضاً،بعد أن أصبحت الزاوية تقوم بدورتأمين الحماية لأصحاب القوافل من هجوم قبائل الرحل المحيطة بمنطقة وادي درعة،خصوصاً منها قبائل أيت عطا البربرية التي كان من جملة مصادر عيشها شنّ الغارات على القوافل التجارية..وبتولّي  عبد الله بن الحسين الرقي الأنصاري  الملقب ب القباب ،مشيخة الزاوية،خلفاً لأبي حفص،عرفت الزاوية حدثاً أساسياً تمثّل في شراء  أحمد بن إبراهيم الأنصاري ــ وهو أحد تلاميذ الشيخ ــ لعدد من الأملاك وتَحْبيسها على الزاوية.وتلك كانت البداية الأولى لأحباس الزاوية التي ما فَتِئت تتنامى على مرّ السنين.

  ومع الشيخ الثالث (أحمد بن إبراهيم / 1635_1642)،الذي خلف عبد الله بن الحسين،عرفت الزاوية حدثاً آخر لايخلو من دلالة: لقد تَمّ  إغتياله سنة (1642) من طرف يحيى بن عمرأحد أعيان  قصر أكْني ..وقد ترافق تاريخ هذا الإغتيال مع حدث آخر،أكثر أهمية من الناحية السياسية،وهو تمكّن الأمير مولاي محمد الشريف العلوي من الإستيلاء على درعة وطرد السملاليين (أصحاب إمارة تازروالت) منها.. فآل أمر الزاوية ــ بعد فترة وجيزة من الفراغ ــ إلى محمد بن ناصر الدّرعي، أنْجَب تلميذ من تلاميذ الشيخين السابقين،وبالتالي إنتقلت الزاوية من مشيخة (أنصارية) إلى مشيخة (ناصرية) وراثية.وهذا الشيخ هو الذي قيل في حقّه: [ لولا ثلاثة لإنقطع العلم من المغرب في القرن الحادي عشر لكثرة الفتن فيه،وهم: سيدي محمد بن ناصر في درعة،وسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي في الدّلاء،وسيدي عبد القادر الفاسي ].  في عهد مشيخة (محمد بن ناصر)،الذي عاصر حكم المولى محمد الشريف (المتوفى سنة 1664) وحكم المولى الرشيد (1666_1672) والسنتين الأوليين من حكم المولى إسماعيل (1672_1727)،أصبحت (زاوية تمجروت)،بدون منازع، أهمّ زاوية في الجنوب،قبل أن تتوسّع فروعها في جلّ مناطق المغرب وكل مدنه،بل وخارج المغرب،لتصل إلى ما يُناهز (ثلاثمائة) فرع،مُشكّلة بذلك أهم زاوية في المغرب،وإلى جانبها،بعدذلك،الزاويتان: (الوزانية) في الشمال، و(الشرقاوية) في الأطلس المتوسط.

          أولاً_  المرحلة الأولى : زاوية تُمارس  النقد والتوجيه  وتُحافظ على  إستقلاليتها  ضمن دائرة الوَلاء (1645_1717):    

          1_ الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر من خلال  مسألة العدل : هناك قولة مأثورة حرص أصحاب التراجم على ذكرها بخصوص موقف محمد بن ناصر تجاه السلطة: [ كان شديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ولا يخاف في الله لومة لائم،ولا يُرى واقفاً بباب مَلك من الملوك،ولم يَخطُب لملك قط..].

وقد راسل المولى الرشيد لما آلت إليه أمور الدولة: [ وأوصيك إذا أمكنك الله في أرضه ووَلاّك أمر عباده،أن توقظ قلبك لنشر العدل في الأرض وإحياء ما إندرس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحو كل بدعة ضلالة أحدثها جور الأمراء قبلك..]. كما لم يفُته أن يؤكد موقفه الثابت هذا للمولى إسماعيل: [ ونوصيك بتقوى الله والقيام بالقسط وتعظيم ما عظّم الله وإقامة حدود الله].. 

 2_ الإمتناع عن الدعاء للسلاطين في خطبة الجمعة:   نميّز بخصوص هذا (الإمتناع) بين موقفين: موقف (المولى الرشيد) من جهة،وموقف أخيه (المولى إسماعيل) من جهة ثانية.

         أ_  موقف المولى الرشيد : أورد صاحب (الدّرر)،في هذا الصدد،روايتين شفويتين: نَصّت الأولى على أن المولى الرشيد لما بلغه خبر إمتناع الشيخ بن ناصر عن الدعاء له على المنبر،في صلاة الجمعة،كتب إليه كتاباً شديد اللهجة أمره فيه بالمُثول بين يديه،وهدّده  بأوخم العواقب إن تخلّف عن الحضور.فلما قرأ الشيخ الرسالة،كتب في أسفلها: [ إقْض ما أنت قاض،إنما تقضي هذه الحياة الدنيا].فلما وصل هذا الجواب إلى السلطان،جهّز حركة في الحال وأرسلها للإيقاع بالشيخ وزاويته،لكن بعد يومين،وقد زال غضبه،أمربرجوع الحركة وقال: [ هذا كلام لا يصدُر من قلوب فارغة،ولا من عقول من معرفة الله خالية،ولا حاجة لنا بكلامه.إن شاء خطب بنا وإن شاء لم يخطُب،ما لنا فيه ولا علينا].                 اما الرواية الثانية فتُفيد أن السلطان كان قد قرّ قراره على التّنكيل بالزاوية وشيخها،لكن في الوقت الذي كان يستعد فيه لمغادرة مراكش والتوجه إلى درعة ونواحيها،عالجته المَنيّة،وسَلِمَ الشيخ.

   ب_  موقف المولى إسماعيل : كان المولى إسماعيل سباقاً إلى إتخاذ المبادرة في ربط الجسور مع الشيخ،وذلك بتوجيه رسالة إليه أخبره فيها بأن [ مُراده ــ وقد قلّده الله أمور البلاد ــ هو السّعي في مصالح المسلمين ].كما أثار إنتباهه إلى إهتمامه الخاص بمنطقة وادي درعة،وأنه عازم على تأديب عُصاتها.ولم يفُته أن يُبلغه محبته له،مُلتمساً منه الدعاء له بالنصر والتوفيق.  بوفاة (محمد بن ناصر) سنة (1674)،بعد سنتين من حكم المولى إسماعيل،إنتقلت مشيخة الزاوية إلى ولده (أحمد)،بوصية منه،دون أن يترتّب على هذا الإنتقال أي مشاكل من قبل الإخوة..وقد كانت علاقة (أحمد) بالسلطة مشابهة تماماً لسلوك والده: [ لا يتعاطى شيئاً من الشبهات،ولا يأكل طعام الأمراء،ولا يقبل هديّتهم،ولا يُبالي بأمير ولا سلطان ولا وزير،ولا يلتفت إليهم في حاجة،ولا يصل إلى سلطان إلا لقضاء حوائج المسلمين،وما ذكر سلطاناً في خطبته قط،ولا تأخذه في الله لومة لائم]..  

 ونشير إلى أن (أحمد بن ناصر)،مثل والده،لم يحشر نفسه في الصراع الدائر حول السلطة بين أولاد السلطان،بل وجدناه يقوم من تلقائية ذاته بوظيفة الصّلح بين ولديه،حقناً لدماء المسلمينن وذلك لما حاصر (مولاي عبد المالك) أخاه (المولى أبا النصر) بقصبة (أغلان)،القريبة من عقر الزاوية..  

   ثانياً_  المرحلة الثانية : مشكلة المشيخة والتبعيّة التدريجية للمخزن (1717_1886م):  

   إذا كانت الخاصية الأساسية التي ميّزت (زاوية تمجروت) على إمتداد هذه الفترة (حوالي قرنين إلا ربع قرن)هي تجدّد النزاعات حول (المشيخة) بشكل دوري غداة وفاة كل شيخ،وإحتكامها إلى المخزن لحلّ تلك النزاعات،فقد كان من الطبيعي أن يكون لهذا التحكيم أثره في (فُقدان الزاوية إستقلالها)،وبالتالي (تبعيّتها التدريجية للمخزن).ولقد شكّلت ظاهرة (حصول الشيخ على تعيين من قِبَل السلطان) نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة.

       1_ مرحلة ما قبل  تعيين  الشيخ  من قبل  السلطان / (1717_1788): بوفاة (أحمد بن ناصر) ــ الذي لم يُخلف سوى البنات ــ إندلع النزاع بين الوَرثة حول من يتولّى أمر (مشيخة الزاوية).ولقد كان من بين هؤلاء الورثة أحد أصحاب الشيخ المُتوفى،الذي لم تكن له أي صلة بالأسرة الناصرية المنحدرة من محمد بن ناصر،وهو (الحسين بن شرحبيل البوسعيدي)،حيث بادر إلى فرض نفسه شيخاً على الزاوية،وذلك بتولّيه التدريس وتلقين الورد للطلبة والمريدين المقيمين في الزاوية. هكذا وجدت الأسرة الناصرية ــ ممثلة في حفدة الشيخ بن ناصر ــ نفسها مضطرة إلى الإستنجاد ب(المخزن) لإخراجها من هذه الورطة.ولقدإنتهت الحكاية باستدعاء (المولى الشريف بن المولى إسماعيل)،عامل السلطان على درعة،كلا الطرفية المتنازعين،وأجرى بينهما محاكمة،بحضور القاضي (سيدي عبد الكبير)، إنتهت بتنصيب أحد حفدة محمد بن ناصر،وهو (موسى بن محمد إبن محمد بن ناصر) ،شيخاً على الزاوية،وطردإبن شرحبيل من الزاوية،بعد أن تبين أنه لا يتوفر على أي وصية.. وبانتهاء أزمة الحكم،وتمكن السلطان (محمد بن عبد الله) (1757_1790) من الإمساك بزمام السلطة، وجدنا شيخ الزاوية (يوسف بن محمد الكبير) ــ عمّ الشيخ (جعفر بن موسى) ــ يُبادر إلى الحضور في حفلة تقديم البيعة للسلطان سنة (1761)،كما وجدناه حاضراً إلى جانبه في الحصار المضروب على الجديدة سنة (1769).. وفي سياق هذه العلاقة الوطيدة إستفادت الزاوية إبتداء من العام (1776) من إمتبازات جديدة: حصولها سنوياً على (عشرة قناطير)من معدن الحديد.. وإذا علمنا أن السلطان كان ناصرياً (أخذ الورد عن الشيخ يوسف)،فهمنا كيف أن الزاوية إستفادت من هذه العلاقة لتزيد من توسيع شبكة فروعها، وبالتالي من مَداخيلها..  

                                                            2_ مرحلة ما بعد تعيين الشيخ  من قبل  السلطان / (1788_1886): بوفاة الشيخ يوسف (1783) ــ الذي خلف خمسة وعشرين ولداً ــ إندلع النزاع، مرةأخرى،حول أمر المشيخة.. وقد إنتهج السلطان سياسة جديدة تمثّلت في إستغلال النزاعات الداخلية للأسرة لتنصيب الشيوخ المُوالين له..بدأ السلطان بإعلان إنسحابه من الزاوية،كأحد أتباعها.. وقام بتكليف أشياخ درعة وأعيان أخماسها بمسؤولية إختيار الشيخ الذي يرون أنه أهل للقيام بمصالح الزاوية وأحباسها،وتنصيبه،وتحرير عقد بذلك..إجتمع أشياخ درعة ــ إثر توصّلهم بجواب السلطان ــ ونصّبوا أحد أولاد الشيخ المتوفى على مشيخة الزاوية،وهو (علي بن يوسف) [1773_1819).إلا أن هذا التنصيب لم يُرض مُنافسه الأساسي ــ هوية المُنافس مجهولة ــ فأصرّ على البقاء في درعة بهدف التّشويش على الشيخ الجديد.فكان من الطبيعي إخبار السلطان بهذه النتيجة..فقام السلطان بالتدخّل لوضع حدّ لهذا النزاع،وفي هذا السياق قام بإجراءين: أحدهما (إصدار ظهير) يؤكّد فيه إقرار الشيخ المتولي أمر الزاوية، والآخر توجيه الأمر إلى منافسه بمغادرة درعة والإستقرار في مراكش. . تلك كانت بداية تعيين أول شيخ من شيوخ الزاوية بواسطة (ظهير سلطاني)،وهي الظاهرة التي تكرّرت ــ كمظهر جديد من مظاهر التبعيّة ــ مع كل الشيوخ الذين تعاقبوا على مشيخة الزاوية،سواء كانت هناك منافسة أو لم تكن.  نذكر بعض أسباب أو معاني تباطؤ السلطان في الحسم في هذا النزاع الذي إستمر حوالي خمس سنوات:

 أولاً: إشعار الزاوية، وشيخهاخصوصاً،بأن الذي بيده مفتاح حل مشاكل المشيخة هو السلطان،ما دامت عاجزة عن حل مشاكلها الداخلية بنفسها.. 

     ثانياً: ترك الشيخ يُرسل عدداً لا يُستهان به من رسائل الشكاوى،وفي كل رسالة يُبرهن على التبعيّة لشخص السلطان.. 

          ثالثاً: إقناع شيخ الزاوية،ومن يتولى أمورها مُستقبلاً،بأن تعيينهم بشكل رسمي يبقى رهيناً بتدخّل السلطان،وبالتالي عليهم أن يلتمسوا باستمرار ظهيراً يُزكي تنصيبهم لدَرْء منافسة أي منافس..  وقد تزامن هذا التنصيب (السلطاني) مع حدثين: توجيه ضربة إلى أحد فروع الزاوية الموجودة في قبيلة بني توزين، بالريف الشرقي،حيث تمّ تخريبها في العام (1202هـ/1788م)،ثمّ توجيه تهديد إلى الزاوية الأم في السنة المُوالية (1203هـ)،لكنه ظل مجرّد تهديد ولم ينفّذ،خلاف ما وقع مع (الزاوية الشرقاوية) التي تمّ تخريبها في العام (1200هـ/1786م)،ونقل شيخها المرابط (العربي المعطي) إلى مراكش،بسبب إيوائها العُصاة الهاربين من العدالة المخزنية  وفي عهد مشيخة المرابط (محمد بن أبي بكر بن علي بن يوسف) ظهر تقليد جديد،تمثّل في تقديم (هدايا للسلطان)،خصوصاً في عهد السلطان المولى الحسن (1873_1894)،وهي عبارة عن (التمر) المُنتقى،وإن بكميات محدودة.مُقابل هدايا رمزية من السلطان،وقفنا فيها على هدية واحدة،هي عبارة عن (ساعة)..  إلا أن هدايا الزاوية للمخزن أخذت أبعاداً جديدة إثر وفاة المرابط (محمد بن أبي بكر) [1886]،وتلك كانت بداية مرحلة جديدة في تاريخ النزاعات حول المشيخة،وفي كيفية تعامل المخزن مع هذا النزاع.

    ثالثاً_  المرحلة الثالثة : إنفجار مشكلة المشيخة والتبعيّة المطلقة (1887_1914):                                                         1_  المرحلة الأولى : من بداية يناير (1887) إلى منتصف (1888): بوفاة الشيخ (محمد بن أبي بكر) تمّ تنصيب أخاه (أحمد بن أبي بكر)،وأقرّه السلطان في منصبه..وقد تمكن الشيخ أحمد من إقصاء،ولومؤقتاً،أبناء أخيه محمد،وفي طليعتهم (الحنفي بن محمد)،وذلك بتلطيخ سمعتهم لدى السلطان بما يُفيد أنهم غير صالحين لمهمة المشيخة..  وإندلع النزاع بين الشيخ أحمد وأخيه (عبد الله)،والذي إستمر حوالي سنة ونصف،وقد سعى كل واحد منهما إلى كسب الأنصار عن طريق توزيع المال على بعض قبائل أيتعطا..ولقدإنتهت المواجهة،التي تمّت داخل الزاوية،بانهزام أنصار عبد الله،حيث خلالها تعرّضت داره إلى هجوم من قبل أخيه [أخذ ما بها من الأمتعة والدخائر،ولم يترك بها جليلاً ولا حقيراً،وأزال الحُليّ بيده من يد النساء ولم يُراع حرمة]..  وعندما إشتكى عبد الله إلى السلطان من هذه الفعلة التي فعلها أخوه،في آخر يونيو (1888)،أجابه: [بأن يترك ما كان على ما كان]،ووعده بأنه سينظُر في المسألة إلى حين تعيين شيخ آخر على الزاوية.. 

                                        2_  المرحلة الثانية : من منتصف (1888) إلى بداية (1891):

            أول ما يجب الإشارة إليه هو أن (الحنفي بن محمد) إستمرّ في مناوشة عمه الشيخ أحمد بعد فشل المحالة التي قام بها المرابط عبد الله،وذلك بالتحالف مع نفس شيخ فرقة أيتواحليم (الحسين بن علا)،الذي كان يُكنّ عداءً شديداً للشيخ أحمد.وهذا التحالف أسفر عن تحقيق نتيجتين: من جهة (توفير المال) اللازم للحنفي..ومن جهة ثانية تنظيم هجوم على الزاوية،أكثر عُنفاً من الهجوم السابق،وفيه وقع [هتك حرم أهلها وسكانها،ونهب بعض الديار بها،وقتل النفس وكسر قرمود قبّة الأشياخ الأجلّة]،لكن دون أن يتحقق (الإستيلاء على الزاوية،وطرد الشيخ أحمد)..  مباشرة بعد هذا الهجوم،وجدنا الحنفي يشدّ الرحال،صحبة وفد، لملاقاة السلطان، وبيده هدية.وقد كان من نتائج هذا اللقاء حُصوله على (ظهير) بالإضافة إلى (وعد).فأما الظهير فقد نصّ على تعيينه على مجموع فروع الزاوية الموجودة في سوس،وبموازاة ذلك توجيه الأمر إلى عمال سوس بشدّ عضُده.. لقد تمّ تنصيب الحنفي على زوايا سوس دون غيرها،ومعنى هذا أن الزاوية أصبحت،إبتداء من (1888)،مقسّمة بين شخصين،فضلاً عن وجود فروع غير تابعة لأيّ أحد،بحكم توجيه السلطان أوامر إلى كافة العمال الذين يوجد تحت إمرتهم فرع ما (بتثقيف مُستفاداتها على أيّ أحد)..[ قام السلطان بتوليّة النقيب الحنفي على مشيخة الزاوية، وأستُثنيّت ثلاثة فروع من فروع الزاوية الأم،وهي (زاوية أولوز،زاوية وَفْتُوت، زاويةأوتكامض)،وتقع كلها في سوس،وتمّ تفويتها للمرابط (أحمد بن أبي بكر..]. 

        3_  المرحلة الثالثة : (1981_1914):         عندما توفي المولى الحسن (1894)،دخلت منطقة درعة وسوس،إسوة بما وقع في مناطق كثيرة من أنحاء البلاد،في فتنة عارمة،إستغلّها المرابط أحمد لفكّ الحصار المضروب عليه من جهة،وإزعاجإبن أخيه لعدة سنوات من جهة ثانية.. بمجرد توصّل (الحنفي) بتجديد ظهير توليته (من السلطان المولى عبد العزيز)،أسرع إلى قراءته بمقر الزاوية على جمع من العلماء والمرابطين والطلبة،ثمّ وجّهه بعدئذ،صحبةعدلين،لقراءته على الجماعة التي تُقيم وسطها عمّه (أهل تازروت) ــ والتي سماها ب(جماعة الفساد والضلال) ــ حتى إذا وجهوه للعمّ وقرأوه عليه،أمرهم بالإستعداد للمنازلة،ووعدهم بأن يدفع لكل واحد منهم عشرة ريال إن هم أدخلوه للزاوية.فكان الهجوم ليلاً بالبارود،بحوالي مائة وخمسين نفراً،من عرب وبربر، وإستمرت المنازلة إلى وقت الضحى،لكن دون أن يتمكنوا من إحتلالالزاوية،بفعل دعم العساكر المخزنية التي كانت في عين المكان.. ولم يكن هذا الهجوم على الزاوية إلا بداية لنزاعات معقّدة،إختلط فيها الحابل بالنابل،وإنعكست آثارها على مجموع قبائل أهل درعة،سواء منها القبائل البربرية (قبائل أيت عطا) أوالقبائل العربية (أولاد يحيى،الروحة..)..  ترك العم (أحمد) سوس،وإتّجه للإقامة في مراكش من أجل لعبة التحالف مع أخي السلطان وخليفته بمراكش (مولاي الحفيظ)،الذي كان يمهّد الأجواء،في هذه الأثناء،للقيامبإنقلاب سياسي ضد أخيه،وذلك بتواطؤ مع القائد (المدني الكلاوي) وجملة من أعيان وعلماء مراكش.. ويبدو أن إعلان (البيعة الحفيظية) بمراكش،في (6 شعبان 1325هـ/14 شتنبر 1907م) ــ كان لها وقع عنيف على قلب النقيب (الحنفي)،فإن وفاته جاءت بعد حوالي شهرين ونصف من إعلان هذه البيعة،ليُعيّن إثرها خصمه العنيد، عمه أحمد،شيخاً على الزاوية وكل فروعها،بواسطة ظهير مؤرخ في (27 ذو القعدة 1325هـ/فاتح يناير 1908م)،مكافأة له على الدور الذي قام به في هذه البيعة،علماً بأن هذا التّعيين تمّ في وقت لم يكن فيه السلطان الجديد (1908_1912) قد حصل بعد على بيعة أهل فاس.  وقد حمل مشعل (المعارضة) أخو النقيب المتوفى (أحمد بن محمد بن أبي بكر)،الذي وجدناه يدخل في تحالف مكشوف مع الحكام الفرنسيين،المحتلين منطقة الشاوية وعاصمتها الدار البيضاء..فرح به الفرنسيون،ووجّهوا رسائل إلى عدد من قبائل الشاوية للإعتناء به والقيام بمئونته،إلى أن وصل لدائرة حاكم أمزاب الذي أمره بالذهاب إلى حال سبيله،حيث رجع إلى الدار البيضاء وإستقرّ فيها،بعد أن نصّب مقدّماً على الزاوية الناصرية بها..(من تبعية المخزن إلى تبعية سلطات الحماية)..  فما كان من منافسه (أحمد بن أبي بكر) إلا أن نهج نهجعدوّه،وبادر في (يونيو 1914) إلى توجيه رسالة إلى المُقيم العام (الجنرال ليوطي) يُهنّئه فيها بمناسبة إحتلال (تازة)،وتلك كانت نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة..  

 4_ (عواقب النّزاع):  

    مجمل القول: إن الزاوية،مُقابلإرتمائها الكلّي في أحضان المخزن،وتحولها إلى مجرد دولاب من دواليب أجهزته (التبعيّة المطلقة)،فَقدت قاعدتها والأساس الذي نشأت من أجله،وبالتالي كان طبيعياً أن ترتمي مرة أخرى،لحمايةمصالحها،في أحضان الحماية،إسوة بجُلّ الزوايا ذات المصالح..[إن بعض الزوايا كانت سبّاقة إلى طلب الحماية القنصلية قبل توقيع عقد الحماية بكثير، ونخُصّ بالذكر منها: (الزاوية الوزانية) التي أعلن شيخها (مولاي عبد السلام الوزاني) عن حمايته الفرنسية منذ العام (1884)،وكذا (زاوية تامصلوحت) وشيخها (محمد المصلوحي) الذي إختار الحماية البريطانية منذ (1894)..]. 

     __  خلاصات وإستنتاجات :  _  الخلاصة الأولى : هي أن الزاوية،في علاقتها بالمخزن،مرّت بثلاث مراحل أساسية.وكان الحد الفاصل بين المرحلة الأولى (1642_1717) والمرحلتين اللاحقتين هو ظهور(مشكلة المشيخة)،التي مرّت بمرحلتين: مرحلة ما قبل (1886)،ومرحلة ما بعد (1886).ولقد إتّضح أن السياسة التي نهجها المخزن، إبتداء من عهد (المولى الحسن)،كانت مخالفة تماماً لسياسة سابقيه،وبالتالي فهي تُشكّل منعطفاً جديداً في تاريخ العلاقة بين الطرفين.لقدإستغلّ هذا السلطان مشكلة المشيخة فقام بتوجيه ضربة إلى الزاوية،عبر إشغالها في نزاعات داخلية،ومن خلال ذلك تحويلها إلى مجرد أداة طيّعة من أدوات حُكمه.بيد أن النتيجة كانت عكسية،فكلاهما خرجا من التجربة خاسراً،وظلّت القبائل وحدها في الميدان،دون أن يتمكن أي أحد من الطرفين من تأطيرها أو بالأحرى كسب ودّها،بل إن الزاوية أصبحت بدورها عُرضة لهجومات القبائل. 

  _  الخلاصة الثانية : تكمُن في تصحيح عدد من الأخطاء، وهي من مستويين: أخطاء في المعلومات،وأخرى مرتبطة بأحكام القيمة.فإذا كانت الأخطاء الأولى تجد تفسيرها،بالأساس،فيإعتماد أصحابها على الرواية الشفوية،فإن النوع الثاني مردّه الرغبة في التنظير،من باب الإسقاطات،دون توفّر الحد الأدنى من المعطيات الضرورية والأساسية. 

 _  الخلاصة الثالثة : هي أن الوثائق المسماة ب(الوثائق المخزنية) ــ التي يُنظر إليها بشديد التحفّظ والتبرّم ــ مكّنتنا من تقديم صورة جديدة،كانت مجهولة إلى حد الآن،عن بعض جوانب تاريخ العلاقة بين الزاوية والمخزن،وكيفيةتطورها،إبتداء من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،فالإمتناع عن الدعاء للسلاطين في خطبة الجمعة،مروراً بمشكلة المشيخة،وإنتهاء بموقف الزاوية من الإصلاحين الجبائيين (ترتيب 1884،وترتيب 1901) وما ترتب على ذلك.

             الباحث عبد العزيز الخمليشي

حصل المقال على : 1٬120 مشاهدة
هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد