رسالة في مشروعيّة الحضرة وإجماع الطّرق الصوفية على ذلك
المؤلف: الإمام عبد الحيّ بن عبد الكبير الكتاني (ت 1382هـ).
_ الاجتماع للذّكر بصوت واحد،على صيَغ مختلفة،على طريق مزج الإنشاد بالجلالة،ثمّ الذكر من قيام،مع الاهتزاز والتمايُل،بل والرقص المعلوم على الطريق المألوفة بين أتقياء الصوفية وأهل السنة والدين منهم ــ قد أجمع على إباحته واستحسانه،بل واستحبابه: أئمّة الطرائق،أهل الشرائع والحقائق،على اختلاف المشارب والأذواق. بحيث لا توجد طريقة من الطرق الموجودة في المغرب،لم تَبْن أمرها عليه،ولم تتّخذه شعارها وعلامتها. بل وغير الطرق المتفرعة عن الشاذلي في المغرب،كالخلوتية وفروعها،إلا ما يفهمه بعض الناس من حذف ذلك في الطريقة الناصرية والمُختارية القادرية. مع أن أئمة الناصرية والمختارية على إباحة ذلك واستحسانه أيضاً. _ استحسان أئمة الطريقة الناصرية للحضرة
فأما الناصرية،فناهيك بما جاء عن شيخ إمامها أبي عبد الله ابن ناصر، وهو الإمام شيخ الإسلام سراج الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد المرغيتي السوسي. ففي “الدّرَر المُرصّعة في صلحاء درعة” للعلامة المؤرخ أبي عبد الله محمد المكي بن موسى بن محمد بن محمد بن ناصر الدرعي،في ترجمة الأمام المذكور ما نصّه: [ وعن الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد بن ناصر،أن صاحب الترجمة كانت تُعجبه الحضرة ويدخلها ولا ينفكّ عنها،حتى إنه كان ذات يوم في أشدّ المرض،فلما سمع الحضرة خرج إليها ودخلها،ولما خرج منها رجع لمرضه ]. وقد وقع في كلام مفخرة الطريقة الناصرية،أبي علي اليوسي في “المحاضرات”،بعد إنشاده: فنحن إذا طِبْنا وطابَت نفوسنا /// وخامرَنا خمر الغرام تَهتّكنا. فلا تلُم السّكران في حال سُكره /// فقد رُفع التكليف في سُكرنا عنّا. [ غير أن هذه الغلبة لا يتحقّقها الجهال ولا ينظرونها. نعم،استدعاء حال يُرجى عنه رقّة القلب وانشراح الصدر،وذهاب جَسارة النفس ورعونتها، مع صحة القصد،لا ينبغي أن يُنكر،بل يلتحق بما أذن فيه شرعاً ] اهـ. فهل بعد هذا بَقي أن يُفتأ على الطريقة الناصرية: اشتراك الغلبة في الوجد،أو نفي استدعاء التواجد والحال،أو إنكار عقد حلقة الذكر على الطريق المعروفة؟.
_ استحسان شيوخ الطريقة المختارية القادرية للحضرة _
وأما الطريقة المختارية القادرية،فقال إمامها الشيخ سيدي المختار بن أحمد بن أبي بكر الكنتي الوافي في كتابه “الأجوبة المهمة لمن له بأمر دينه مهمة” وفي كتابه “نزهة الأسماع بأنواع السماع”،بعد ذكره أن كثيراً من المتعمقين والمتقشفين قد كرهوه وأنكروه،ما نصّه: [ وهذا كله غلط منهم،لأن ما ذهبوا إليه يُفضي إلى تخطئة كثير من أولياء الله وتفسيق كثير من العلماء العاملين،إذ لا خلاف أنهم سمعوا الغناء وتواجدوا حتى أفضى بهم ذلك إلى الصراخ والغشي والصعق.. ]. ثمّ قال بعد كلام: [ واعلم أنه قد حضر السماعَ،وسمع وما قنع حتى كُشف القناع،وتواجد وتحرّك: كثير من الأكابر ومشايخ التابعين ] اهـ. فعلى هذا،فقد تمّ انعقاد الإجماع.. ولا طريقة إلا واشتملت على عدّة من علماء الدين وأئمته المهتدين،وكلّهم كانوا يحضرون حِلَق الذّكر للرقص والاهتزاز عند مشايخهم،فصار إجماع تِلْوَ إجماع.
_ أئمة المغرب كانوا يستحسنون الحضرة ويعملونها _
وقد احتجّ أبو العباس ابن عجيبة على جواز الحضرة بكونه: [ كان يُفعل بالزاوية الصقليّة بفاس ]. وإنه لكذلك،إذ كان محلّ اجتماع فقراء الطريقة الخلوتيةالصقلية على عهد مؤسسها الأكبر الشيخ أبي العباس مولانا أحمد بن محمد الصقلي،يأوي إليه النوابغ والفحول. ولما ترجمه صاحب “سلوك الطريق الوارية في الشيخ والمريد والزاوية”،قال ما نصه: [ وكان لمولانا أحمد أتباع كثيرة من الأشراف والعلماء وعامة الناس،يقيلون معه ويبيتون،ويحضرون مجالسه للذكر وغيره.. ]. ثمّ سَمّى جماعة،فمنهم: شيخ الجماعة أبو عبد الله محمد التاودي ابن سودة،والفقيه الصالح الحاج بوشعيب المطيري،وعالم فاس أبو عبد الله محمد بن الحسن بناني المحشي،وعالم فاس أبو حفص الفاسي،والعلامة المفتي أبو محمد عبد الكريم بن علي اليازغيالفاسي،والعلامة الصالح أبو عبد الله الجنوي،والولي الصالح أبو العباس أحمد بن يونس صاحب القبّة خارج باب الفتوح،والأستاذ العارف أبو محمد عبد الوهاب التازي صاحب القبة هناك،وشيخ الفرد أبي العباس أحمد بن إدريس العرائشي دفين اليمن صاحب الطريقة الإدريسية.. وغيرهم من فحول ذلك العصر. وناهيك بالأعلام الذين كانوا متمسكين بالطريقة الدرقاوية بالمشرق والمغرب،كشيخ المشايخ محدّث فاس أبي محمد عبد القادر الكوهن صاحب “الفهرسة”،وتلميذيه عالِمي عصرهما الأخوين: أبي حفص عمر وأبي عيسى المهدي ابن الطالب ابن سودة،وشيخهما أيضاً الإمام مفتي المذهبين أبي عبد الله محمد الحراق دفين تطوان،وغيرهم من الأئمة الذين لا يحصيهم ديوان. ومن اللطائف: ما كان مُجيزنا محدّث فقهاء المغرب أبو محمد الفضيل بن الفاطمي الإدريسي الزرهوني،شارحالبخاري،يقول: [ إن ذكروا الفقيه جَنّون من مُنكري الرقص،حاججناهم بأن شيخ الجماعة أبا العباس أحمد بناني الفاسي رأيته بعيني يُرتّب صفوف الراقصين بالزاوية التجانية بفاس ].
،حتى في جبل عرفة وعَشيّة موقفها الذي يُتقرّب فيه إلى الله بأشرف الطاعات.
_ جواب شيخ الإسلام أحمد زيني دحلان في النازلة _
وقد ظفرت بسؤال قَدم لعالِم الحجاز وشيخ الإسلام بمكة،أبي العباس أحمد بن زيني دحلان ــ الشافعي المذهب،الباعلوي الطريقة ــ يتضمّن استكشافه عن قول الأئمة الأربعة وفقهاء مذاهبهم،في شيخ من شيوخ الطريقة النقشبندية،ألّف رسالة ونَشرها اشتملت على مصائب،من جملتها: إطالة لسانه في أهل الطرق،وكفّر كل من حصل له جذب وتواجد وتمايُل وصيحة.. فهل يسوغ نشر الرسالة المذكورة؟ فكان من جوابه: [ أما مسألة التواجُد،المُسمّى بالرقص،الذي يفعله كثير من الصوفية حالة الذّكر،فهيمسألة اختلف فيها العلماء: فمنهم من حرم ذلك أشدّ التحريم، ومنهم من حكم بكفر فاعله.. لكن جماهير العلماء المحققين جوّزوا ذلك،بشرط أن لا يكون بالتكبر والتثنّي الذي يفعله أهل الفسق. وسأذكر لك شيئاً من نصوص العلماء القائلة بالجواز: فمنهم: العلامة الرملي الحنفي خير الدين،كما في “فتاويه”. وأستدلّ بحديث جعفر وقصة الحبشة،ثمّ قال العلامة الرملي: “ولا يجوز الاعتراض على السادات الصوفية ولا الإنكار عليهم.. “. ونُقل عن العز بن عبد السلامالجواز،وقال: “سماع ما يُحرّك الأحوال السنيّة،المُذكّرةللآخرة،مندوب إليه. وحقيقة ما عليه الصوفية لا يُنكرها إلا كل نفس جاهلة غبيّة”. وسُئل العارف بالله الشيخ عبد الغني النابلسي عن هذه المسألة فأجاب بالجواز،وألّف في ذلك رسالة نفيسة. ونُقل الجواز عن كثير من علماء المذاهب،منهم: الحافظ ابن حجر العسقلاني،وذكر أن رقص الحبشة بالوَثْبة والوجْد. وللعلامة نوح رسالة في جواز ذلك. وكذا العلامة ابن كمال باشا رسالة في جواز ذلك،قال فيها: “لا يُنكر الوجد إلا من سُلب حلاوة الإيمان”. ونظم في ذلك بيتين: ما في التواجد إن حققتَ من حَرج /// ولا التمايُل،إنأخلصت،من باسِ. فقُمتَ تَسعى على رِجْلٍ،وحُقّ لمن //دعاه مولاه أن يسعى على الراس. وقال أيضاً: إن السادات تأمُر بالتواجد تَكلّفاً بضرب من الاختيار،اقتفاءً لتواجُد جعفر بن أبي طالب بحضور النبي صلى الله عليه وسلم،ولحديث: “إن لم تبكوا فتباكوا”.. اهـ. وسُئل العلامة الشيخ عبد الحي الشرنبلالي الحنفي عن ذلك فأجاب بالجواز،وقال: “إن لذلك أصلاً ثابتاً في السنة،من فِعل سيدنا عليّ وجعفر وزيد بن حارثة”. وذكر المناوي في “طبقات الأولياء” في ترجمة الإمام أحمد بن حنبل،أنه قيل له: إن قوماً إذا سمعوا الذّكر يقومون فيرقصون،فقال: “دعهُم يفرحون بربهم”. فيؤخذ منه أن الإمام أحمد قائل بجواز ذلك. وغيره خلائق كثيرة من أرباب المذاهب، سُئلوا فأجابوا بالجواز. وسئل الشيخ أبو العزّ الوفائي الشافعي فأجاب بالجواز،قال: “إن ذلك فعله أعلام مشايخ الإسلام،كالعلامة المقدسي والعلامة الشرنبلالي،وحضر مجالسهم جهابذ حفّاظ”.وسئل الشيخ سليمان الشبرخيتي المالكي عن ذلك،فأجاب بالجواز.. فعلى من كفّرهم بلا تأويل أن يرجع إلى إسلامه،وعلى وليّ الأمر أن يدفع عن هؤلاء السادة ويكُفّ عنهم ألسنة الجهلة المتكلمين فيهم بغير ما يجوز في حقّهم.. ويجب تحسين الظن بفاعله في مجلس الذكر،ولا يجوز أن يُقال: إنهم شبّهوا أنفسهم بعبدة العجل،بل يجب أن تحسن الظن بهم. فمن كفر مسلماً بلا عذر ولا تأويل يكون كافراً،ويجب عليه تجديد إسلامه. وإن كان له تأويل أو عذر،يُستتاب ويعزّر التعزير اللاّئق به،ويُزجَر على ذلك وعلى تأليفه الرسالة وطبعها. فعلى وُلاة الأمر أن يمنعوا ظهورها بأيدي الناس بأيّ طريق أمكنهم.. ] اهـ جواب الشيخ دحلان باختصار كثير. ثمّ وافقه على صحّة جوابه المذكور: جميع من يُشار إليه برئاسة العلم بمكة،منهم: مفتي الحنابلة الشيخ خلف ابن إبراهيم،وشيخ الخطباء بمكة السيد حسن جمال الليل الباعلوي،ومفتي المالكية الشيخ محمد بن حسين،وشيخ الإسلام بمكة أيضاً مُجيزنا الشيخ محمد سعيد بابصيل،ومفتي الحنفية بمكة الشيخ عباس بن جعفر ابن الصديق، والمدرس بالمسجد الحرام علي بن صديق كمال. وبقيّة المدرسين بالمسجد الحرام (ذكر المؤلف أسماءهم)،وغيرهم من أعلام مكة.. فحين قَرّ رأي العلماء الذين ذُكروا وغيرهم،على محو أثر الرسالة المسؤول عنها من الوجود،حيث إنها أوجبت إلقاء الفتن بين المسلمين.صدَر الأمر من طرف حكومة مكة بجمع النسخ من أيدي الناس وتمزيقها،وسجن مؤلفها وهو الشيخ سليمان الخالدي شيخ الطريقة النقشبندية،حتى أصدر التوبة والإقلاع.. فهذا إجماع تلو إجماع بعد إجماع. فاستُفيد ممّا انعقد عليه إجماع علماء مكة فيما نُقل: أن الإنكار على الراقصين بغير تبيّن لا يجوز،وأنالمشتغل بهم وبمساويهم يُزجر ويؤدّب..
رؤيا نبوية للإمام أبي المكارم الكتاني في الموضوع
وممّا يُناسب هنا أن يُذكر ويُشهر: ما حدّثنا به الأستاذ الوالد،المرة بعد المرة،عند تعرّضه لقول الإمام الجنيد: لمّا سُئل عن السماع، فقال: “كل ما جمع القلبَ على الله فهو مباح جائز”. أن الشيخ الوالد رأى النبي صلى الله عليه وسلم نوماً،قال الوالد: فألهمني الله وشرح صدري لسؤاله صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألة،فقلت: يا رسول الله،ما تقول في السماع والرقص؟ فأجابني صلى الله عليه وسلم بقوله مراراً: “الطُرق كلها مَبنية على شيء واحد وهو طمأنينة القلب بالله تعالى” هذا لفظه صلى الله عليه وسلم. ففَهمت من الرؤيا: أن السماع والرقص إنما هما وسيلة للطمأنينة، قال تعالى: (الذين ءامنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب). اهـ.
_ حال الرقص في هذا الزمان _ ممّا يجب أن لا يخفى: أنه ليس كل رقص في هذا العصر ممّا تشمله هذه الدلائل المشهودة،بلرقص صَحبه شرطُه من زمان ومكان وإخوان.. أما ما يتعاطاه كثير من الناس،فحالة يؤسَف عليها ويُستحى منها،فهي ممّا ليس الكلام فيه ولا نراه خيراً. وبالجملة: فمن حرم الرقص والسماع على الناس كافة،فقد أخطأ. ومن أباحه أو استحبّه في كل الأحوال،فما ترك من الجهل شيئاً. ومن جعل الناس سَوا،فليس لحُمقه دوا.
_ لا يُنتقض الوضوء بالغيبة في الذكر _
يرد سؤال: “إن كانوا يرقصون بغيبة، فالغيبة تنقض الوضوء. فما لنا نراهُم يُصلّون إثر رقصهم ولا يجدّدون وضوءاً؟ وإن كان من غير غيبة فهو حرام”.ذكر المؤلف أدلة ترجيح الجواز من كلام الشيوخ والفقهاء، والردود الواردة على من قال بغيره.. ثمّ قال: وقد كان رُفع في هذه المسألة سؤال لشقيقنا وشيخنا أبي الفيض،فأجاب بعدم النقض،مؤيّداً ما للزرقاني. وقد ذكر واستظهر على ذلك بنصوص المتأخرين من أئمة المذهب.. وجوابه المذكور في نحو ثلاث كراريس،بالوقوف عليه يتّضح الأمر وينجلي لمُريد التطويل. جمعه ولخصه الاستاذ رشيد موعشي