النبوة والرسالة والولاية

ابن عربي

النبوة والرسالة والولاية:

ثَبَت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الرسالة والنبوة قد انقطعت،فلا رسول بَعدي ولا نَبيّ اهـ. فهذا الحديث من أشَدّ ما جُرّعَت الأولياء مَرارته،فإنه قاطع للوُصْلة بين الإنسان وبين عبوديته.. فإن العبد على قدر ما يَخرُج به عن عبوديته،ينقُصه من تَقريبه من سيّده،لأنه يُزاحمه في أسمائه.وأقَلّ المُزاحَمة: الاسميّة.فأبْقى علينا اسم الوَليّ،وهو من أسمائه تعالى.وكان هذا الاسم قد نَزعه من رسوله،وخَلع عليه وسَمّاه بالعبد والرسول.ولا يَليق بالله أن يُسمّى بالرسول،فهذا الإسم هو من خصائص العبودية التي لايصح أن تكون للربّ..ولمّا عَلم رسول الله صلى الله عليه وسلم،أن من أمّته من تَجرّع مثل هذا الكأس،وعَلم ما يَطرأ عليه في نفوسهم من الألَم ــ لذلك رَحمهم،فجعل لهم نَصيباً ليكونوا،بذلك،عَبيد العبيد.فقال للصحابة: ليُبلّغ الشّاهد الغائباهـ، فأمرهم بالتّبليغ كما أمره الله بالتبليغ،ليَنطلق عليهم أسماء الرّسُل التي هي مخصوصة للعَبيد.وقال صلى الله عليه وسلم: رَحِم الله امْرَءاً سمع مقالتي فوَعاها فأدّاها كما سَمعها اهـ، يعني حرفاً، حرفاً.وهذا لايكون إلالمن بلّغ الوحي،من قرآن أو سنة،بلفظه الذي جاء به.وهذا لا يكون إلا لنَقَلة الوحي، من المُقرئين والمحدثين.ليس للفقهاء،ولا لمَن نقل الحديث على المعنى (كما يَراه سُفيان الثّوري وغيره ) نَصيب ولا حَظّ فيه.فإن الناقل على المعنى إنما نقل إلينا فَهْمه في ذلك الحديث النبوي،ومن نقل إلينا فهمه فإنما هو رسول نفسه،ولا يُحشر يوم القيامة فيمن بلّغ الوحي كما سمعه،وأدّى الرسالة،كما يُحشر المُقرئ والمحدّث الناقل لفظ الرسول بعينه في صفّ الرسل عليهم السلام..فهذا القَدر بَقِيَ لهم من العبودية، وهو خير عظيم،امْتَنّ الله به عليهم.ومهما لم ينقله الشخص بسَنَده مُتّصلاً غير منقطع، فليس له هذا المقام، ولا شمّ له رائحة،وكان من الأولياء المُزاحمين الحق في الاسم الوليّ،فنقصه من عبوديته بقدر هذا الاسم. فلهذا اسم المُحَدَّث (بفَتح الدّال)أوْلى به من اسم الوليّ. فإن مقام الرسالة لا يناله أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بقدر ما بيّناه،فهو الذي أبقاه الحق تعالى علينا.ومن هنا تعرف مقام شَرَف العبودية، وشرف المُحَدِّثين نَقَلة الوحي بالرواية. ولهذا اشتدّ علينا غَلْق هذا الباب،وعلمنا أن الله قد طَردنا من حال العبودية الاختصاصية التي كان ينبغي لنا أن نكون عليها..فما أشرف مقام أهل الرواية، من المقرئين والمُحَدّثين.. وقد حَصَل لنا منه صلى الله عليه وسلم شَعْرَة،وهذا كثير لمَن عَرَف،فما عند الخَلق منه إلا ظِلّه.ولمّا أطْلَعني الله عليه،لم يكن عن سُؤال وإنما كان عناية من الله.ثمّ إنه أيّدَني فيه بالأدب،رزقاً من لَدُنه.فلَم يَصدُر منّي،هناك،ما صَدَر من أبي يزيد البسطامي،بل اطّلعت عليه.وجاء الأمر بالرّقيّ في سُلّمه،فعَلمت أن ذلك خطاب ابتلاء وأمر ابتلاء،لا خطاب تشريف،على أنه قد يكون بعض الابتلاء تَشريفاً، فتَوقّفت وسألت الحِجاب. فعُلم ما أردت،فوُضعَ الحجاب بيني وبين المقام. وشُكِر لي ذلك،فمَنحني منه الشّعْرَة،اختصاصاً إلهياً.فشَكرت الله على الاختصاص بتلك الشّعرة،غير طالب بالشكر الزيادة.وكيف أطلُب الزيادة من ذلك، وأنا أسأل الحجاب الذي هو كمال العبودية؟ فسَرَت فِيَّ العُبودَة،وظهرسُلطانها،وحيل بيني وبين السيّادة. لله الحمد على ذلك،وكم طُلبت إليها وما أجَبت.وهكذا(إن شاء الله)أكون في الآخرة عَبداً،مَحضاً،خالصاً.ولو مَلّكني الله جميع العالَم،لما مَلَكت منه إلاعبوديته خاصّة،حتى تَقوم بذاتي جميع عبودية العالَم.وللناس،في هذامَراتب. فالذي ينبغي للعبد أن لايزيد على هذا الاسم الوَليّ غيره.فإن أطْلَق الله ألْسنَة الخلق عليه بأنه وَليّا لله،ورأى أن الله قد أطلق عليه اسماً أطلقه تعالى على نفسه،فلايَسْمَعنّه،ممّن يُسمّيه به، إلا على أنه بمعنى المَفعول لا بمعنى الفاعل.حتى يَشَمّ فيه رائحة العبودية..وإنما قُلنا هذا،من أجل ما أُمرنا أن نتّخذه سبحانه وَكيلاً فيما هو له،ممّا نحن مُستَخلفون فيه.فإن في مثل هذا،مَكراًخَفيّاً،فتَحفّظ منه..فاحْفَظ نَفسك في التخلّق بأسماء الله الحسنى،فإن العلماء ما اختلفوا في التخلّق بها. فإذا وُفّقت للتخلٌّق بها،فلاتَغِب،في ذلك،عن شُهود آثارها فيك. ولتكن،فيها ومعها،بحُكم النيابة عنها: فتكون مثل إسم الرسول،لا تُشارك الحق في إطلاق اسم عليك من أسمائه،بذلك المعنى. والْزَم الأدب:(وقل رب زدني عِلماً)..

الرسالة والولاية والوراثَة الكاملة:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العلماء وَرثة الأنبياء اهـ.. ولمّا كانت حالَته صلى الله عليه وسلم،في ابتداء أمره،أن الله تعالى وَفّقه لعبادته بملّة إبراهيم الخليل. فكان يَخلو بغار حراء يَتحنّث فيه،إلى أن فَجِئه الحق،فجاءه المَلَك فسَلّم عليه بالرسالة،وعَرّفه بنبوته.فلما تَقرّرت عنده، أرْسِل إلى الناس كافة،فبَلّغ الرسالة وأدّى الأمانة،ودَعا إلى الله على بَصيرة.فالوارث الكامل من الأولياء مِنّا، من انقطع إلى الله بشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم،إلى أن فَتح الله له،فيقلبه،في فهم ما أنزل الله تعالى على نبيه ورسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم،بتَجلّ إلهي في باطنه.فرَزقه الفَهْم في كتابه تعالى وجعله من المُحَدَّثين في هذه الأمة.فقامَ له هذا مقام المَلَك،الذي جاء إلى رسول الله.ثمّ رَدّه الله إلى الخلق، يُرشدهم إلى صَلاح قلوبهم مع الله،ويُفرّق لهم بين الخواطر المحمودة والمذمومة. ويُبيّن لهم مقاصد الشرع،وما ثَبت من الأحكام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لم يَثبُت،بإعلام من الله:”آتاه رحمة من عنده وعلّمه من لدنه علماً”غير أن الوارث لا يُحدث شَريعة،ولا ينسخ حُكماً مُقرّراً،لكن يُبيّن،فإنه على بيّنة من ربه وبَصيرة في علمه،ويتلوه شاهد منه بصِدْق اتّباعه.وهو الذي أشْرَكه الله تعالى مع رسوله صلى الله عليه وسلم ،في الصّفة التي يدعوبها إلى الله،فأخبر تعالى وقال(أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتّبعني)وهم الوَرَثة.وكذلك شَرّكهم مع الأنبياء في المِحْنة وما ابتُلوا به،فقال(إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس)وهم الوَرَثة. فشَرّك بينهم في البَلاء،كما شَرّك بينهم في الدّعوة إلى الله.

كان شيخنا أبو مدين كثيراً ما يقول: من عَلامات صِدق المُريد في إرادَته فِرارُه عن الخلق،ومن علامات صدق فراره عن الخلق وجوده للحقّ،ومن علامات صدق وجوده للحق رُجوعه إلى الخلقاهـ،فأراد الشيخ بهذا صفة الكمال في الوُرْث النبوي.فإن لله عباداً إذا فَجِئَهم الحق،أخذهم إليه،ولم يَرُدّهم إلى العالَم،وشَغلهم به. وقد وَقع هذا كثيراً. ولكن كمال الورث النبوي الرّسالي هو في الرجوع إلى الخلق.فإذا اعترضَك، هنا،قول أبي سليمان الداراني: لو وَصلوا ما رَجعوا اهـ .                                              إنما ذلك فيمن رَجَع إلى شَهواته الطبيعية ولَذّاته،وما تابَ منه إلى الله.وأما الرّجوع إلى الله تعالى بالإرشاد، فلا غُبارعليه. يقول:لو لاحَ لهم بارقة من الحقيقة،ما رَجعوا إلى ما تابوا إلى الله منه.ولو رأوا وَجه الحق فيه،فإن مَوطن التّكليف والأدب يَمنعهم من ذلك اهـ. وأما قول الجنيد لمّا قيل له: فُلان يَزعُم أنه وَصَل، فقال: إلى سَقَر.فإنه يُريد بهذا أنه من زَعم أن الله مَحدود،يوصَل إليه،وهو القائل(وهومعكم أينما كنتم)أو ثَمّ أمر إذا وَصَل إليه سَقَطت عنه الأعمال المشروعة،وأنه غير مُخاطَب بها مع وجود عقل التكليف عنده، وأن ذلك الوصول أعطاه ذلك.فهو هذا الذي قال فيه الشيخ: إلى سَقَر،أي هذا لا يَصحّ.بل الوصول إلى الله يَقطع كل ما دونه،حتى يكون الإنسان يأخذ عن ربّه. فهذا لا تَمنعه الطائفة،بلا خلاف.وكان شيخنا أبو يعقوب، يوسف بن يَخْلُف الكومي،يقول: بيننا وبين الحق المطلوب،عَقَبة كَؤودْ اهـ.

ونحن في أسفل العقبة،من جهة الطبيعة،فلا نزال نصعد في تلك العقبة حتى نَصل إلى أعلاها.فإذا اسْتَشرفنا على ما وراءها،منهناك،لَم نَرجع:فإن وراءها ما لا يُمكن الرجوع عنه.وهو قول الدّاراني:لو وصَلوا ما رَجعوا اهـ، يُريد إلى العقبة.فمن رجع من الناس،إنما رجع من قبل الوصول إلى رأس العقبة، والإشراف على ما وراءها.فالسّبب الموجب للرجوع ،مع هذا،إنما هو طلب الكمال. لكن لا ينزل،بل يدعوهم من مقامه ذلك،وهو قوله تعالى:(على بصيرة)فيَشْهَد،فيُعَرِّف المَدْعُوّ،على شهود مُحَقّق.والذي لَم يُرَدّ،ما له وجه إلى العالَم،فيبقى هناك واقفاً.وهو أيضاً المُسمّى بالواقف،فإنه ما وراء تلك العقبة تكليف،ولاينحدرمنها إلا من مات.إلا أن من الواقفين من يكون مُستهلكاً فيما يُشاهده هنالك،وقد وُجد منهم جماعة،وقد دامت هذه الحالة على أبي يزيد البسطامي،وهذا كان حال أبي عِقال المغربي وغيره.. فالواصلون: منهم من يَعود،ومنهم من لا يَعود..ثمّ إن الراجعين على قسمين: منهم من يرجع اختياراً،كأبي مَدين.ومنهم من يَرجع اضطراراً، مَجبوراً، كأبي يزيد لمّا خَلَع عليه الحق الصفات التي بها ينبغي أن يكون وارثاً وِراثَة إرشاد وهداية،خَطا خطوة من عنده،فغُشِيَ عليه،فإذا النداء:رُدّوا عليّ حبيبي،فلا صبر له عنّي اهـ.فمثل هذا الواصل لا يَرغب في الخروج إلى الناس،وهوصاحب حال.وأما العالي من الرجال،وهم الأكابر،وهم الذين وَرثو من رسول الله صلى الله عليه وسلم عبوديته.فإن أمروا بالتبليغ فيَحتالون في سَتْر مقامهم عن أعيُن الناس،ليظهروا عند الناس بما لايُعلَمون، في العادة، أنهم من أهل الاختصاص الإلهي.فيجمعون بين الدّعوة إلى الله وبين سَتْر المقام. فيَدعونهم بقراءة الحديث وكُتب الرّقائق وحكايات كلام المشايخ،حتى لاتَعرفهم العامة إلا أنهم نَقَلة، لاأنهم يتكلّمون عن أحوالهم من مقام القُرب. هذا،إذا كانوا مأمورين ولا بدّ.وإن لم يكونوا مأمورين بذلك، فهُم مع العامّة التي لا تزال مَستورة الحال،لا يُعتَقد فيهم خير ولا شرّ.النبوات كلها علوم وَهْبيّة لا مُكتَسبة: فالنبوّات،كلّها،علوم وَهبية،لأن النبوة ليست مكتسبة.فالشرائع،كلها،من علوم الوَهب عند أهل الإسلام،الذين هم أهله.وأريد بالاكتساب في العلوم هو:ما يكون للعبد فيه تَعمّل،كما أن الوَهْب ما ليس للعبد فيه تَعمّل.. وممّن حصّل علوم الوَهْب،ممّا ليس بشَرع،جماعة قليلة من الأولياء، منهمالخضر على التّعيين،فإنه قال: (من لدُنه).وما نُقِلَ إلينا أنه حَصَل لأحد (أي: علمه بما لا يتناهى)في الدنيا،وما أدري في الآخرة ما يكون؟ فإنا قد علمنا أن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد:علم علم الأولين والآخرين،وقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه:إنه يَحمد الله،غذاً يوم القيامة، بمَحامداهـ، عندما يطلب من الله تعالى فَتح باب الشفاعة. أخبر أن الله تعالى يُعلّمه إيّاها في ذلك الوقت،لايعلمها الآن..فحصل من هذا،أن أحداً لم يتعلّق علمه بما لا يتناهى. ولهذا ما تكلّم الناس إلا في إمكانه:هل يُمكن أم لا؟وما كل ممكن واقع..والممكنات وإن كانت لا تتناهى(وهي معدومة)فإنها عندنا مَشهودة للحق عز وجل من كونه يَرى. فإنا لا نُعلّل الرّؤية بالوجود،وإنما نعلّل الرؤية للأشياء،لكون المَرئي مُستعدّاً لقبول تعلّق الرؤية به،سواء كان معدوماً أو موجوداً..

ابن عربي.

هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد