الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية

كتب الشعراني

يقول الإمام الشعراني في سبب كتابة هذا الكتاب : [وبعد: فلمّا كان يوم الاثنين المبارك،سابع عشر رجب الفرد سنة أحد وثلاثين وتسعمائة،تحرّك عندي خاطر قويّ بطلَب مقامات الأولياء رضي الله عنهم، وازدريت جميع ما أنا فيه،وتكدّر لذلك عيشي بأن في ذلك عدم الرّضى بما قسّمه الله تعالى،حتى خِفت سوء الخاتمة والمَقت والغضب فخرجت على وجهي، فبينما أنا بالفسطاط مُقابل الروضة بمصر أخذتني حالة بين النائم واليقظان،فسمعت هاتفاً أسمع صوته ولا أرى شخصه،يقول على لسان الحقّ سبحانه وتعالى: “عبدي لو اطّلعت على جميع الكائنات وعدد الرمال واسم كل ذرّة منه،والنبات وأسمائها وأعمارها،والحيوانات وأعمارها وأنسابها، إلى أصولها من الوحش والطيور والحشرات وسائر الدواب،وكشف لك عن ملكوت السماوات والأرض والجنة والنار وما فيهن،ظاهراًوباطناً،وأنزلت المطر بدعائك وأحييت الميّت على يدك،وأجريت على يدك جميع ما أكرمت به عبادي المؤمنين ــ لست من عبوديتي في شيء” انتهى ما ألقاه الهاتف.

فما استتمّ هذا الكلام وبَقي عندي شهوة نفس لمقامٍ من مقامات الأولياء،لا في الدنيا ولا في الآخرة،فحمدت الله تعالى شكراً على ما أولى.

وقد أحببت أن أتكلّم على المُراد بالهاتف وما ألقاه،وأبسُط الكلام في ذلك مُرصّعاً بكلام بعض العارفين من مشايخي،خوفاً أن يتوهم أحد من القاصرين الذين لا معرفة عندهم بمراتب الوحي أن ذلك وحي كوحي الأنبياء، فأقول: اعلم أن الهاتف المذكور لا يخلو: إما أن يكون ملَكاً أو وليّاً أومن صالحي الجنّ أوهو الخضر أو غيره، ذلك أن الخضر حيّ باقٍ لم يمُت،وقد اجتمعنا بمن اجتمع به وبالمهدي،وأخذ عنهما طريق القوم،وهو شيخنا العارف بالله تعالى الشيخ حسن العراقي..

وأما ما ألقاه الهاتف فنقول: اعلم أن الوحي على ضروب،منه ما يكون مُتلقيّاً بالخيال كالمبشرات في عالم الخيال،وهو الوحي في النوم،فالمُلقى خيال والنازل خيال كذلك والوحي كذلك. ومنه ما يكون خيالاً في حسّ على ذي حسّ. ومنه ما يكون معنى يجده الموحى إليه في نفسه، من غير تعلّق حسٍّ ولا خيال من نزل به، وهو المسمّى بالإلهام،وقد يكون كتاباً،ويقع ذلك كثيراً للأولياء كقضيب البان ونحوه.. إذا تقرّر ذلك فعلوم الغيب تنزل بها الأرواح على قلوب العباد،فمن عرفهم تلقّاهم بالأدب، ومن لم يعرفهم أخذ علم الغيب ولا يدري عن من كان، كالكهنة وأهل الزجر،فلهذا كان أهل الله تعالى يرون تنزّل الأرواح على قلوبهم ولا يرون الملَك النازل،إلا أن يكون المُنزَل عليه نبياً أو رسولاً.فعُلم أن أهل الله يشهدون الملائكة، ولكن لا يشهدونها مُلقيّة عليهم،أو يَشهدون الإلقاء ويعلمون أنها من الملَك من غير شهودٍ،فلا يجمع بين رؤية الملَك والإلقاء منه إليه إلا نبيّ أو رسول. ولهذا يُفرّق بين النبيّ صاحب الشرع المُنزَل،وبين الوليّ التابع. واعلم أن ما ألقي على الأنبياء يُعبّر عنه بالوحي وبالشرع،فإن كان منسوباً إلى الله تعالى بحُكم الصّفة سُمّي قرآناً وفُرقاناً وتوراة وإنجيلاً وزبوراً وصُحفاً،وإن كان منسوباً إلى الله تعالى بحُكم الفعل ــ لا بحُكم الصّفة ــ يُسمّى حَديثاً وخَبراً وسُنّة. وقد أغلق الله باب التنزيل بالأحكام المشروعة،وما أغلق باب التنزيل بالعلم بها على قلوب أوليائه،فالتنزّل الروحاني بالعلم باقٍ لهم ليكونوا على بصيرة من دعائهم إلى الله تعالى بها.. إذا علمت ما ذكرناه فليس في إلقاء الهاتف المذكور ما يُتوهّم منه رائحة دعوى النبوّة،بل ولا دعوى مرتبة العارفين أصحاب القلوب..

وقد سألني بعض الفقراء من الإخوان: أن أملي على هذا الإلقاء المذكور جُملة ممّا فَهمته منه من آداب العبودية، وجُملة من آداب طلب العلم النّافع،وجملة من آداب الفقراء عموماً وخصوصاً،وما يدخُل على كل طائفة من الدّسائس في مقاصدهم.. وختمت الأبواب بجملة من مقامات السالكين التي سقطت بمقام العبودية لله تعالى،وأنها أخصّ مراتب الأنبياء والصدّيقين. وسمّيتها “رسالة الأنوار القدسية في بيان آداب العبودية”.. وأرجو من الله الكريم أن كلّ من نظر في هذه الرسالة من الفقراء أحاطَ علماً بالأدب مع الله تعالى،لِما فيها من خرق نظام المشيخة والناموس،وما فيهما من الرياء والكِبر الذي يترقّى عند التلامذة في الغالب.

فيا ليت الشيخ تَمّ على حالة التلامذة، ولم يَصر شيخاً،وكان كآحاد الناس الذين لا يُشار إليهم بالأصابع،لأن خير الناس من كان مستوراً في الدنيا،إلا أن يكون مأموراً بعد السّتر كالأنبياء وورثتهم من كمّل الأولياء،على أن المتميّزين الآن إنما تميّزهم بالدّعوى فقط..وغالب فقراء هذا الزمان المدّعين لا يَسلمُ منهم من الرّياء والتصنّع إلا القليل لضعفهم،ولا يتصدّق أحد منهم بالفلس الواحد،بل يلُفّون كلما يجدونه ويرون بذلك الفخر،لا سيما إن كان أرباب الدولة يذكرونه بالثّناء الحسن..

واعلم أن هذه الطريقة لا يحتاج سالكها إلى مراجعة شيخ في الغالب،لأنه لا يقف مع كشف ولا منام ولا خاطرٍ وغيرها ممّا يحتاج إليه فقهاء الصوفية. وقد بالغت في إيضاحها،وأحلت ما لا يُدرك من الأخلاق إلا ذوقاً على الذوق،إذ العبارة لا تضبطه،على أنّي حذفت غالب ما لا يُدرك إلا بالذّوق خوفاً من ردّه إذا رآه من لم يذُق..

واعلم أن جميع ما أضعه بإرادة الله تعالى في هذه الرسالة ابن وقته،ليس بفكر ولا نظر،وإنما هو أمر يسألني عنه بعض الإخوان فأزنه بميزاني القاصر،وكل وقت له كلام جديد غير الآخر لأنه ليس بنقل حتّى يُرجَع إليه. فرحم الله امرأً رأى فيها شيئاً يُخالف ظاهر الكتاب والسنّة وأصلحه ،لكن بشرط أن يكون على يقين معرفة..

ورتّبتها على ثلاثة أبواب وخاتمة: الباب الأول: في آداب العبودية على الإطلاق. الباب الثاني: في آداب طلب العلم النافع. الباب الثالث: في آداب الفقراء والمُسَلّكين. وخامتة: في بيان جملة من المقامات السّاقطة عند العبيد الخُلّص،وهي عُمدة الرسالة وسبب وضعها.. ].

هل أعجبك الموضوع؟ يمكنك مشاركته على منصتك المفضلة

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اترك تعليقا

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد